22‏/11‏/2015

لارس فون تريير .. التشكيك فى الصورة

 
مقالة: تونى مكيبن
ترجمة: ممدوح شلبى
هل يمكن لمخرج سينمائى أن يطلب أن يُؤخذ على محمل الجد إذا كانت معظم أفلامه تتميز بالهزل، وإذا كانت أصالة الرؤية الفنية يتم التضحية بها لصالح رؤية تأتى عرضاً؟
لارس فون تريير مخرج دنماركى يصنع الأفلام التى تُصر دائماً على خطورة أمر الموضوع المتضمن بشكل هزلى يعكس رؤيته الذاتية، وهو المخرج الذى تحول من الأفلام التى تُشير إلى أهمية الإنخراط فى المدرسة الشكلية فى إتجاه سينما أخرى وهى السينما الواقعية.
الكثير من مخرجى الألفية الآخرين مثل مايكل هانيكه وبيلا تار والاخوين داردن وهو هسياو هسين يقدمون مجموعة من الأفلام التى تنسجم مع بعضها فنياً فى وحدة واحدة على الرغم من الإهتراءات التى تكشف أحياناً عن تهافت أفق سينما المؤلف، فمايكل هانيكه بدأ عمله فى التليفزيون قبل أن ينتقد هذا الوسيط بصورة مستمرة من خلال السينما: وأفلام بيلا تار الأولى بدت كما لو أنها تتلاعب بالشكل قبل إكتشاف شكل فنى أصيل فى فيلمه "إدانة" عام 1988.
ورفض الأخوان داردن أول فيلمين روائيين لهما بإعتبار أنهما لا ينتميا إليهما تماماً وبدءا بداية جديدة فى فيلمهما "الوعد"، بينما أول أفلام هو هسياوهسين كانت تتوافق مع السينما التايوانية كمحاولة تستهدف السينما التجارية نوعاً ما، أما أفلامه من منتصف الثمانينات إلى نهاية الثمانينات وما بعدها فأظهرته كمخرج صاحب أسلوب فنى معين.
على أيه حال، إنتقل لارس فون تريير من الإهتمام بالنظرية الشكلية فى فيلمه "عنصر الجريمة" وفيلمه "أوروبا" حيث وضع الممثلين بطريقة متشددة داخل اللقطة، إلى الفضاء المسرحى فى فيلميه "البلهاء" و"الراقصة فى الظلام" حيث ضحى بعنصر الضوء والظل فى التصوير للإمساك بالحركة داخل اللقطة. 
بعدئذ أخرج فيلميه "دوجفيل" و"ماندرلاى"، والفيلمان كلاهما يبدوان واقعيين فى خلوهما من لقطات وجهة النظر للممثل، لكنهما كانا شكليين جداً من جانب الجمهور، فكلا الفيلمين إعتمدا على المسرحة فى الديكورات، وأظهرا الولايات المتحدة التى جسداهما عن طريق رسم علامات على الأرضية وإستخدام إطارات رمزية مثل باب أو ستائر.   
فهذا التقشف هو ما كان عليه تصميم الديكور حتى أن لارس فون تريير قال فى أحد الحوارات عن أحد ممثلى الأدوار الرئيسية فى فيلم "دوجفيل" وهو بول بيتانى، أنه جن جنونه عندما لم يحترم الناس عنصر "تعطيل االشك" فيما يشاهدوه، ولم يقتصر الأمر على الجمهور فقط ، ولكن الممثلين أيضاً فعلوا نفس الأمر: فالممثل بول بيتانى أخبر الشخص بغضب أنهم كانوا يخترقون حائطاً.
وقال لارس فون تريير إنه نفسه توجب عليه أن يكون أكثر تسامحاً مع مثل هذه التجاوزات، لكن الأمر بدا كما لو أن الفكرة التى تملكت من لارس فون تريير وركز عليها شكلياً كانت التركيز على الممثلين فقط.
ما يهم بالنسبة للارس فون تريير هو التمادى فى التصور الفنى وفى طريقة تنفيذه: ففيلمه السابق "أوروبا" بدا غالباً أنه يريد أن يُضمن إمكانية الخطأ، وفى فيلم "البلهاء" عندما يبدأ إثنان من الممثلين فى ممارسة الجنس، فالقميص الذى خُلع كان لقطة أو إثنتين تكررتا لاحقاً.
هذه الطريقة فى الإستمرارية "الراكور" ليست إستثنائية كما نظن، ففى حوار أُجرى مؤخراً مع ثيلما شونميكر- مونتيرة أفلام مارتن سكورسيزى- تحدثت عن إهتمام سكورسيزى  بالعفوية، وقالت "الأشياء لا تتوافق مع بعضها بالضرورة، ولكننا لا نهتم بهذا الأمر" – من مجلة سايت أند ساوند-. وعلى الرغم من ذلك يريد لارس فون تريير غالباً أن يعمل مع الهواه بطريقة إحترافية، فى فيلم "البلهاء" يصل الأمر إلى حد أننا نرى "مايكات" الصوت والكاميرات وهى تنعكس فى زجاج السيارة، وفى فيلم "الراقصة فى الظلام" نجد أن ملابس بيورك - كعاملة – تبدو مكوية وغير مثنية كما لو أنها تعمل لأول مرة.
هذا تأثير برتولد بريخت، ولكن ليس على مستوى توجيه الوعى ولكن على مستوى حضور اللاوعى، "تعرفت على دراما بريخت فى سنواتى المبكرة ولم أعد إليه مطلقاً ولا أعماله، فجميعها باقية فى ذاكرتى كأحاسيس وأجواء" من كتاب (تريير أون فون تريير)، وعلى أيه حال، عندما أراد بريخت من الجمهور أن يكون على مسافة مما يشاهده، فهذا هو الأفضل لكى يعى المشاهدون وضعهم الإجتماعى ضمن الدراما، أما لارس فون تريير فيبدو أنه أكثر إهتماماً بالتلاعب على فكرة عجزنا عن تحديد الرسالة والمعنى فى السينما.
يحق لبرتولد بريخت أن يصر على أن "أسوأ أمية هى الأمية السياسية" وإستشهاداً بمارتن إيسلين فى " خيار الشياطين" عندما عمل بريخت فى هوليوود، كان يعتقد أن مسرحيته "أوبرا البنسات الثلاثة" فشلت كأسلوب دعائى لليسار، وإتجه إلى إنتاج فيلم "كوله فامبه" بمساعدة من منظمات شيوعية متعددة.
ولكن هل يحق للارس فون تريير أن يدعى ان أسوأ أمية هى الأمية السينمائية، وهل هو الشخص الذى يتناول كلاشيهات الشكل والمشاعر كأمر من المسلمات؟ عندما قال "لم يكن طموحى مطلقاً ان أتجه إلى التحليل السياسى أو تحليل مفهوم وتأويلات السلطة – مطلقاً" من كتاب (تريير أون فون تريير) ونستطيع أن نضع هذا القول فى مقابل قول آخر له " دعونا نقول أننى أستعمل الكلاشيهات وأتلاعب بها ضد كل الآخرين، إننى أضفر الكلاشيهات، وهذا كل ما يتعلق بفيلم ماندرلاى" من مجلة (فيلم كومنت).
فى نهاية تترات فيلم "دوجفيل"، يوفر لارس فون تريير صوراً فوتوغرافية عديدة للولايات المتحدة الامريكية، معظمها عن الفقر والعوز، بينما نسمع شريط الصوت من "الأمريكيون الصغار" لديفيد بوى.
من نحن لكى نتعاطى هذه الصور القاسية التى لا لبس فيها عن بلد لم يزره لارس فون تريير مطلقاً، وكيف تتوافق هذه الصور مع الفيلم الذى يتصادف أننا نشاهده لأول مرة؟
قد يرى البعض ان لارس فون تريير يقدم خطاباً سياسياً ويتحدث عن بنية السلطة فى الولايات المتحدة الامريكية، فالفيلم دراسة لما يحدث عندما يكون الحق والرغبة فى الإنتقام مركزاً لضمير دولة.
إذا صُورت أمريكا كبلدة صغيرة فهى ليست مكاناً للكرم، فكيف يكون حالها فى العالم الحقيقى مع الصور الختامية للفيلم؟ لا يجب على المرء أن يقلل من العنصر السياسى والإجتماعى لما يقوله المخرج الإسكندنافى فيما يتعلق بقيم البلدة الصغيرة التى ينتج عنها هذا القدر الهائل من الفقر (أليست مبادئ الرفاهية الإسكندنافية أكثر حماية على المستوى الشخصى من إعتماد أمريكا الهائل على سخاء الغرباء؟).
ولكن أياً ما كان الخطاب السياسى الذى يطرحه الفيلم فهو يحتوى على أطروحة جمالية فيما يتعلق بطبيعة الصورة. عندما إعترف لارس فون تريير بأنه لم يزر الولايات المتحدة الأمريكية مطلقاً وربما لن يزورها أبداً، فإنه أضاف "قد تكون الأشياء أكثر وضوحاً عندما تكون بعيداً عنها" من مجلة (فيلم كومنت)، يستطيع لارس فون تريير ان يتعامل مع الصور التى نعرفها جميعاً عن الولايات المتحدة الأمريكية دون الخوف كثيراً فيما يتعلق بعلاقتهم بتصوره الواقعى عن البلد وخاصة لإنه يرى الحقيقة والخيال كشيئين مختلفين، ولا يهم إذا كان يستخدم الصور الفوتوغرافية فى نهاية عناوين فيلم "دوجفيل" وفيلم "ماندرلاى".
عندما سُئل عن الواقعية فى السينما قال "لا، للمرة الثانية أقول أن هذا خيال، لكننى أؤمن بالحياة الحقيقية" – من مجلة (فيلم كومنت).
فيلم "الراقصة فى الظلام" وفيلم "دوجفيل" وفيلم "ماندرلاى" هم ثلاثة أفلام تدور أحداثهم فى أمريكا، لكنه صورهم فى أوروبا وإهتم ببناء صورة أمريكا أكثر من الحقيقة التسجيلية.
لكى نفهم شيئاً عن هذه الطريقة فى الصورة، يمكن لنا ان ننظر إلى أفلام لارس فون تريير مع الأخذ فى الإعتبار المصطلح الذى إستخدمه ميلان كونديرا فى (الستارة): وهو مصطلح " agelast " وهى لفظة جديدة من الألفاظ التى إستخدمها رابيليه، حيث يصفها كونديرا على هذا النحو "المصطلح إبتدعه الشعب اليونانى لوصف الناس الغير قادرين على الضحك، الذين لا يفهمون النكتة... هناك اناس أذكياء أنا أقدرهم، هؤلاء المحتشمون الذين أحترمهم، لكنى أشعر بالإعياء تجاههم... إنهم لا يعيشون فى سلام مع الكوميديا" ويضيف كونديرا "الناس الذين صبوا لعناتهم الإيديولوجية – الدينية- على رابيليه فى زمنه، قد أقدموا على ذلك بسبب شئ أعمق من مجرد الولاء لعقيدة بحتة.
والذى جعلهم يفعلون ذلك، كان نوعاً من عدم الألفة الجمالية: عدم ألفة مصحوب بعدم الجدية، الغضب من ان يكون الضحك فى غير محله".
 ولكى نتناول الثلاثة أفلام التى تم تصويرها عن أمريكا بجدية، فهذا يُبعدنا عن الموضوع. وعلى أية حال، إذا رفضنا أن نتناول بجدية ما تواجهه الشخصيات على إنه أمر جلل، فهذا قد يُبعدنا عن الموضوع أيضاً. فلكى تكون طريفاً عليك أن تتناول الموضوع بخفة ظل، لكننا إذا قسنا الأمور على أنها ثقيلة فهذا لا يترتب عليه شيئ ذى بال، عندئذ فمن الإجحاف ان نتناولهم بتبسيط، فهذا يبعدنا عن الموضوع، فموضوعات لارس فون تريير ليست كلها بسيطة، فهو يتحدث عن الإعدام والإنتقام والعبودية.   
فموضوعاته تتطلب أن نأخذها على محمل الجد (مثل "الحياة الحقيقية"، كما يحب لارس فون تريير أن يصفها) لكنها ربما لا تكون كصور سينمائية، وعندما نقول أننا لا يجب أن نتناول الموضوعات بجدية، فهذا ليس نفس الشيئ.
يشعر المرء كما لو أن أفلام لارس فون تريير تقبع فى إزدواجية كلاشيهات معينة، أو كما يقول، خلال تناول موضوع جاد، فهذا يتطلب إنعكاساً ذاتياً، وغالباً ما يتطلب طريقة فكاهية فى أسلوب تقديم الصورة التى تحتوى على الموضوع، وعندئذ نكتشف موضوع الجدية التى تبدو كما لو أنها تولدت لكنها فى الواقع كانت مُتضمنة إلى حد ما، كم عدد الأفلام التى تجعلنا نحس بالصواب السياسى والحق الإجتماعى دون أن تجعلنا نتحدى مفاهيمنا الثابتة؟ وعلى نفس النحو، فالكوميديا والجدية يلعبان عكس بعضهما فى العديد من أفلام لارس فون تريير لخلق إحساس معين بالتناقض الجمالى.
وخير مثال على هذا التحدى نجده فى فيلم "البلهاء" والذى وُصف من جانب أ.أو. سكوت فى جريدة النيويورك تايمز بإعتباره فيلم "تم تصويره بفجاجة بكاميرا فيديو محمولة، والتى لا تحقق شيئاً سوى إرباك وإزعاج الجمهور، الإنجاز لمثل هذا الأسلوب يخفق فى توصيفه كإنجاز سياسى" وحيث تحوم فى الهوامش شكوك فى الاخلاق، لكن ثمة إمتنان للمجتمع المحافظ الذى يقدمه فيلم "البلهاء"، هل كارن (بوديل يورجنسن) والتى تُشيع إحساس الإساءة، هى المصدر الذى يتم التصريح به فى المشهد الأخير فقط عندما يهوى الفيلم إلى أحقر المشاعر وحشية.     
الفقرة التى كتبها سكوت هى مثال للنقد السلبى واقل تعقيداً فى تحليلها العاطفى والأخلاقى مما يحدث فى الفيلم نفسه، يتناول سكوت رد فعله الشخصى ويحمل الفيلم به، وهى مغالطة عاطفية كما أنها تعظيم للذات الأخلاقية، لكننا إذا قبلنا أن لارس فون تريير قلق من عدم الفكاهة، فلديه توجسات أيضاً فيما يتعلق بتبسيط الصورة.
عندما سُئل لارس فون تريير من محاوره فى مجلة "فيلم كومنت" فيما يتعلق بأكثر القضايا الخاصة به فيما يتعلق بأين يضع الكاميرا، فكان رده "نعم بالتأكيد، وضع الكاميرا دائماً فى ذهنى، والإجابات مثل- يجب عليك أن ترى وجه بطل الفيلم أقرب فى ذلك المشهد لترى ردود أفعاله- هذا ليس جيداً جداً، هل يجب على الكاميرا أن تنوب عن المُشاهد؟ هذا لا يروق لى، لماذا لا تستطيع الكاميرا أن تتحرك حركة معينة؟ لإنك ستمتعض من رؤيتها؟ وماذا بعد؟ هذه الأسباب ببساطة غير كافية".
هذه النوعية من الصور تجعل الأمر واضحاً وهو ان المخرج لا يستطيع الإعتماد على الكاميرا كثيراً ويجب عليه أن يجد طريقة لتغيير مكان الكاميرا أو إلغاءها..
فيلم البلهاء
وفى هذا السياق، فالتجريب والفكاهة حالتان من التشكيك، ويوفر فيلم "البهاء" كل منهما بينما يظل الفيلم رافضاً السماح للفكاهة أن تتجسد فى مجموعة من التأويلات، وبالنسبة لتقنية التجريب فهى مغالاة فى كلاشيهات الحقيقة الخاصة بها، فى الحالة السابقة، فإن نصف الأجزاء الكوميدية تعتمد على تركنا نتعامل بغرابة مع أولائك الذين يبدون ضحايا لفعاليات الشخصيات القادرة جسدياً، والنصف الثانى من الأجزاء الكوميدية التى قد نحس به فهى تستحق تعاطفنا أكثر.
فى بداية الفيلم عندما يعلق النادل فى المقهى الوهمى على طلب "كارن"، فنحن لا نعرف بوجود البلهاء حتى هذه اللحظة، ونخمن أن مجموعة من الناس فى المطعم لديهم صعوبات فى التعلم وهذا يقود إلى أفعال شتى من السلوك المضطرب.
وعلى أية حال، فطبيعة الرفاهية فى المطعم والحدة فى مزاج النادل ("هذا لن يجدى" يقول هذا بينما البلهاء يُسيؤون التصرف) يعنى أننا وحتى إذا لم تكن لدينا فكرة أن هؤلاء ناس أسوياء جسدياً وأنهم يتظاهرون بأن لديهم مشاكل صحية وذهنية، فسوف يمتعض أى واحد من تزمت النادل بينما صمت الزبائن سيستحق الثناء.
عندما، وفى لحظات تالية، وبينما يتكدسون فى سيارة تاكسى (مع الوافدة الجديد كارن) ويناقشون سلوكهم الغريب، لا يتطلب منا هذا على وجه الخصوص أن نقرأ الموقف الذى نشهده بطريقة مختلفة تماماً، فالنادل والزبائن يظلون ضحايا حيلة ربما نرى أنهم يستحقونها.
وعلى أية حال، ماذا عن المدير فى مصنع المواد العازلة: هل هو ضحيتهم التالية؟ ألا يبدو غير مستحق للنكتة الملعوبة عليه بينما هو يكشف العصابة حوله، وحيث يسخرون من محاولته البدائية فى التعلم قبل أن يترك المصنع مع واحد ويتجه إلى عدد قليل من صناديق العزل؟ وعلى أية حال، هذا ليس معناه أننا لابد لنا أن نراعى أنفسنا مع هؤلاء الذين يستحقون او لا يستحقون حيلهم: فالأهم من ذلك، ما نوع ردود الأفعال التى يمكن لنا أن نرصدها مع هؤلاء الذين هم ضحاياهم.
هذه المواقف المحدودة مُصممة ليس للكشف عن الضحايا ولكن أيضا للكشف عن أنواع معينة من الأبطال، أبطال مختلفون تماماً عما دعاه لارس فون تريير فى الإستشهاد الذى سبق لنا إيراده من مجلة "فيلم كومنت".
وبالتأكيد سيكون الأمر ذى فائدة أكثر إذا نحن خرجنا من المشهد فى المصنع معتقدين ليس أن المدير كان ضحية لنكتة معينة، ولكن أنه كان "بطلاً"، إنه يتصرف بإحترام وتقدير دون تنازل أو نفاق، واللقطات له وهو مهتم عندما يرى البلهاء يسوقون، هى واحدة من الأمور التى قد نراها مُبهجة ولكنها ليست جميعها محسوبة على المدير الذى لا يشارك بتعبيراته المضطربة بينما الشاحنة تترنح على جانبيها وتنعطف بطرقة خرقاء.
 
فى المثال الأول لدينا مشهداً حيث البلهاء يفشلون فى الوصول إلى الفعل البطولى البسيط فى التعامل مع الآخر بوصفه نداً لهم خلال المشكلة المُقدمة، بينما فى المثال الأخير لدينا رجل يتصرف بإنسانية فى مواجهة التجربة ولا يعى تماماً كيف يتعامل معها، هذا هو مفهوم الإنسانية المُتضمنة أو نقيضها وهو ما بدا لارس فون تريير معنياً به، وخاصة خلال شخصية كارن.
ولم يحدث إلا فى نهاية الفيلم حيث نكتشف أن كارن أصبحت جزءاً من المجموعة هروباً من مأساة شخصية: إنها فقدت لتوها إبنتها الوليدة. وفى المحصلة النهائية، فإنها تعود إلى عائلتها مع عضو آخر من البلهاء ونفهم نحن أنها إختفت فى اليوم الذى سبق جنازة الطفلة. وبينما العائلة تجلس للطعام، تُثبت كارن أنها يمكن أن تفعل مالا يستطيع فعله أى واحد من البلهاء الأخرين وهذا يحدث أمام عائلتها.
الزميل الأبله ينظر إلى ما يحدث، ويبدو مرتعباً بالطريقة التى يمارسها البلهاء فيما لو إمرأة تعانى من إضطراب عقلى: وربما فخوراً بصورة لا تًصدق من أن كارن وصلت إلى الحالة المثالية للبلهاء، كارن تفصح عن مشاعرها ولا تخفيها فليس من العادى التصريح بهذه المشاعر.
أنا أقدم هذا المثال الأخير بروية وبشكل إستفزازى: فحتى إذا كان الهدف الذى يسعى إليه البلهاء هو أن يجدوا إنسانية يمكن أن تتضمن كل المواقف الإجتماعية، عندئذ فهذا بالتأكيد يتعلق بالإنسان الذى يتصادف أنه يقدم هذه الإنسانية أحياناً، يمكن لنا أن نميل للنظر إلى الوراء فى الفيلم ونستقرأ البلهاء بأثر رجعى خلال الألم الذى تشعر به كارن والذى ربما نتناوله أساساً كنوع من التعاطف مع الآخرين، ونرى بداخله إهتماماً مخيفاً يخص إنهيارها الشخصى، والأمثلة عديدة حيث يولد البلهاء تلك الحيل.
 كم مرة ظهرت وطأة متابعة الإنسانية فى جوهرها، وكم مرة بدت كإستفزاز بورجوازى وليس لها إلا القليل فيما تفعله مع الإنسان والكثير لتفعله بالتلاعب ضد التقاليد؟ لأى درجة يمكن لنا أن نقول أن فيلم لارس فون تريير هو فى حد ذاته جزءاً من هذا الإستفزاز؟ وكأثر رجعى، نضع فى حسباننا مأساة كارن فى فقد رضيعتها، الكثير من المشاهد يمكن أن تبدو تافهة: مضحكة جداً ولكن لا يترتب عليها شئ، بينما مشاهد اخرى تعكس حالة الفقد التى تعانى منها كارن، وأين، وبأثر رجعى مرة أخرى، سنتعاطى هذه المشاعر على أنها النقطة المحورية للفيلم.
ربما يكون ستوفر (جينز ألبينوس) هو الشخص الهام ضمن الحدث، كما أنه إبن الأخ الذى يبحث عن مكان عمه حيث تقيم المجموعة، إنه أيضاً الأكثر فاعلية عندما يتعلق الأمر بتوليد الحيل، والأكثر غضباً عندما يتعلق الأمر بمواجهة النفاق البرجوازى. وأيضاً فالفيلم تتخلله حوارات مع المجموعة بعد ان تنهار العصابة، والإسم الذى يظل مذكوراً هو إسم كارن، يستطيع المرء أن يشعر بالتوجس خلال الحوارات الخالية من الغرابة، ولكنها تبدو برغم ذلك كما لو أنها تُلقى بظلالها على الأحداث دون سبب واضح.
قواعد حركة الدوجما 95
وبالطبع أيضاً، فيلم البلهاء نوع من الحيل فى حد ذاته: فالفيلم تم إخراجه ضمن حركة الدوجما 95، بقواعدها العشرة الموجهة نحو الحد من النهج الإفتعالى فى إخراج الأفلام، أو ربما كان الفيلم وسيلة يمكن بمقتداها أن تُدشن الدوجما 95 قواعدها الإبداعية الخاصة.
فى واحد من أكثر مشاهد الفيلم جدية، نرى والد أحد الفتيات ينهض، عاقداً العزم على إبعادها ويرتعب لأنها لم تتناول دواءها: إنه يعتقد بأن مرضها خطيراً، ولا يبدو على أى واحد من البلهاء أنه يعرف تماماً تاريخ مرضها.
هذا الشخص يضع جريدة "بوليتيكن" فى جيبه، ويعتقد بعض النقاد أن لارس فون تريير سمح لنا أن نحكم على هذا الشخص من خلال الجريدة، لكن لارس فون تريير قال أن الممثل "اندرس هوف" حصل على هذه الجريدة أثناء التصوير "لم تكن جزءاً من الشخصية، ولكنه كان يقرأها وهو يستعد للتصوير" (من كتاب تريير أون فون تريير)، وإعتقد المخرج أنه سيخالف قواعد الدوجما إذا طلب من الممثل أن يترك الصحيفة أثناء التصوير.
أحد قواعد الدوجما 95 تنص على عدم إحضار أشياء فى مكان التصوير، ولكن وبنفس القدر هل سيكون من العار أن تطلب من الممثل أن يترك الصحيفة التى كانت معه؟ فهى ضمن الفكرة التى يركز عليها لارس فون تريير، على الرغم من أن المخرج لا يستطيع الإدعاء أن الجريدة الليبرالية التى تشير إلى نفسها كجريدة الدنمارك الدولية لا يمكن تجاهلها كلية.
كما لو أن قواعد الدوجما وُضعت لتوليد الحرية فى مكان آخر، ولذلك فمن المنطقى أن لارس فون تريير قد يدير ظهره للأخطاء فى فيلمه وللحرية السيميائية فى الصور المُبتدعة، كيف نتناول حقاً هذا الرجل الذى يحمل الصحيفة فى جيبه، والذى يرتدى تى شيرت رياضى ويحمل جاكت رياضى، ويرتدى نظارة شمسية توحى فى نفس الوقت عن مزاج يميل إلى العزلة، وسلوك عدوانى بعض الشئ؟ هل هو صوت العقل أم أنه يُمثل السلطة الأبوية البغيضة: المكروهة فى الموقف، أم يتعامل بأفضل ما يمكنه من خلال سيناريو بغيض؟
هدف لارس فون تريير بالتأكيد هو أن يجعل الصورة مُركبة، وأن يتناول الكلاشيهات ويتلاعب بها بما يكفى حتى تفقد هذه الصور بعدها المُعبر عن الدوجما ويستبدل ذلك برؤية جديدة. وفى سبيل كل الصدق الديجيتال الذى قد يجده فى الصورة، يرفض لارس فون تريير أن يتعامل مع التقنية كشئ أكثر أصالة على حساب الرؤية الإبداعية المُختلقة للفيلم.
لارس فون تريير وستيف ماكوين
يمكن للمرء أن يرى كيف أن هذه الطريقة فى الكلاشية مناسبة لفيلم "ماندرلاى"، ويمكن لنا أن نضع مقولة لارس فون تريير حول السؤال عن الشكل التى قالها فى حواره مع مجلة "فيلم كومنت" بجانب ما قاله المخرج ستيف ماكوين عن فيلم آخر يتناول نفس موضوع العبودية، وهو فيلم "12 عاماً من العبودية" حيث يُصر ستيف ماكوين - طبقاً للمقالة النقدية التى كتبها كالوم مارش عن الفيلم فى مجلة "سايت أند ساوند" – على أن الشكل لابد أن يكون له دور.
مشكلة أن يكون الشكل له دور هى على أية حال لأن الصورة تمتلأ غالباً بشوائب حتى أن المخرج لا يستطيع أن يرى أو يتصرف كثيراً بها لأن هذه الصور يتم تصويرها بناءاً على متطلبات بناء الصورة. عندما قال ستيف ماكوين ما سبق فالأمر بدا كما لو أنه غير واع بالفرق بين "الصيغة التقليدية للتمثيل" " Institutional Mode of Representation"– ذلك التعبير الذى صاغه نويل بورش- وبين الكفاح للهروب منها لأنها هامة بالنسبة للعديد من المخرجين الذين يرفضون التسليم بأن الصورة أمر مفروغ منه.
قد يكون فيلم ستيف ماكوين حريصاً على إظهار بناء السلطة للرجل الأبيض فى إستبداده بالرجل الأسود، لكن الفيلم يقع فى سطوة البناء السينمائى نفسه، فشريط الصوت الذى قدمه هانز زيمر، ولقطات رد الفعل للضمير الممزق، ولقطات الكلوس أب الرمزية والشجية للصابون وآثار الضرب، واللقطة العلوية ذات المفارقة التى تكشف عن "كابيتول هيل" عن قرب حيث الشخصية الرئيسية مسجون قبل أن يباع كعبد، كل هذا يتلائم بدقة مع بديهية صورة لا تقبل التأويل.
وبدلاً من ذلك يهتم لارس فون تريير(بالتشكيك فى الصورة) بتوليد بناء صورة تظل تثير اسئلة ضمن أسئلة عن طريق فرض تصور معاكس لستيف مكوين، والأمر لا يمكن إعتباره أن لارس فون تريير مهتم بالشكل من أجل خاطر الشكل، لكنه واعى تماماً بأن المحتوى يوجد خلال الشكل، وأنه إذا تناول الشكل كأمر مفروغ منه، عندئذ فإنه يقول "الأمر يستغرق منى غالباً مدة من الوقت لكى أدخل فى فيلم جديد، لكى أجد الأسلوب الصحيح والشكل المناسب له" ( من كتاب "تريير أون فون تريير") وهذا لأنه لا يريد الفيلم أن يكون أمراً مفروغاً منه، ويسمح للمشاهد أن يتعاطى بنفسه مع الفيلم كأمر مفروغ منه أيضاً.
فيلم ماندرلاى وفيلم دوجفيل
فى فيلم "ماندرلاى" نجد أن الشكل والمضمون متعارضان على طول الخط وفى نفس الوقت يخلق لارس فون تريير حلقة مفرغة داخل السرد لإحتواء القضية، وهنا لدينا مرة أخرى نوع من المسرحة فى الديكور (الذى يمثل مزرعة)، كذلك فى فيلم "دوجفيل" حيث جماليات الكاميرا المحمولة تجعل المخرج يقترب من ممثليه كما لو كان الأمر نوعاً من التصرف المسرحى الدقيق لتصوير الشخصية التى تؤدى الدور بسهولة.
ربما يقول لارس فون تريير أنه يرى طريقته فى فيلم "دوجفيل" وفيلم "ماندرلاى" تتشابه مع طفل، "الفكرة كانت أن الممثلين عليهم أن يمثلوا بطريقة واقعية تماماً رغم أن الديكور والمنظر الخارجى بعيدان تماماً عن الواقعية. فهما حقيقيان بنفس طريقة الطفل فى رسمه للواقع، فإذا أعطينا طفلاً صغيراً بعض الأقلام وطلبنا منه أو منها أن يرسم منزلاً، فسوف نحصل على منزل مصنوع من القليل من الخطوط البسيطة، هكذا كان الحال مع الديكور" (من كتاب "تريير أون فون تريير") لكننا قد نكون أكثر ميلاً لفهم أن تعطيل لارس فون تريير للشك مطلب شديد الغموض، حتى ان الفيلم يوازن دائماً بين إصطناعية الشكل وبين حاجة المُشاهد إلى الولوج فى القصة، وأن طريقته مع الممثلين شئ محورى فى هذه الطريقة.
فى (إنسان الفيلم) تحدث ديفيد تومسون عن الممثل بطريقة مثيرة، " إذا وظف فيلم وجود شخص ومظهره وصوته ولفتاته وحركاته فى إتجاه تبيان الشخصية أو ظروف الحياة، فما هى حقوق الممثل الذى يجب عليه أن يقدم مساهمته فى الأحداث التى تُستخدم لعمل تبيان ختامى عنه؟ وبتعبير آخر، تستحضر السينما الحالة المعرفية للممثل فى إتجاه الوعى العام"
والآن، إذا أعطى شخص للممثل عناصراً عديدة من المصداقيات بقدر الإمكان، عندئذ يمكن أن يختفى التمثيل خلف دعائم متاحة لا حصر لها فى الدور، لكنك إذا ألغيت معظم الدعائم فالأمر يبدو كما لو أنك لديك ممثل يقوم بعمل بروفة، ولعلنا نفكر فى كل تلك الإختبارات التى تُجرى أمام الكاميرا التى نفترض أن تكشف كثيراً عن شخصية الممثل من التمثيل الذى يحدث فى الفيلم نفسه.
ما نحصل عليه عندئذ فى فيلم مثل "دوجفيل" او "ماندرلاى" هو أن الممثل فى نفس الوقت يعبر عن نفسه بشكل لا خفاء فيه خلال الشخصية، وأن الجمهور يستعيض عن نقص شئ محتمل بالتزيد فى "تعطيل الشك"، وفى هذا السياق فالأمر يبدو كما لو أن كل من الممثل والمُشاهد يبدوان مثل الطفل الذى يحول سلسلة من الكراسى إلى عربات قطار، أو يحول مجموعة عصى وحجارة إلى محل بقالة.
لكننا نتحدث أيضاً عن الدائرة المُفرغة فى فيلم "ماندرلاى" عبر القصة التى يقدمها لارس فون تريير عن الشابة جريس (بريس دالاس هوارد) التى تصل إلى المزرعة وتُحرر العبيد، لكنها قرب نهاية الفيلم تلاحظ أن أحد العبيد كان متواطئ مع صاحب المزرعة للإبقاء على الزنوج فى حالة العبودية، كان هذا لأن الخيار الأفضل بالنسبة لهذا الزنجى على ضوء الظروف، أنه وبفرض حصولهم على حريتهم فإنهم لن يعرفوا ماذا يفعلوا بهذه الحرية  وسوف ينتهى بهم الأمر إلى حال أسوء مما لو كانوا عبيداً.
وهذا شبيه تماماً للحظة وصول جريس إلى البلدة حيث تًوقف العقاب بالجلد عن أحد الأشخاص، بينما فى نهاية الفيلم فإنها هى الشخصية التى تجد نفسها فى حالة يجب عليها فيها أن تجلد نفس الشخص الذى أنقذته من العقاب فى بداية الفيلم.
هل يمكن أن نأخذ الجانب الإيديولوجى للفيلم على محمل الجد، بصرف النظر عن المنطق المقلوب الذى يقدمه لارس فون تريير؟ تدور أحداث الفيلم فى عام 1930، بعد سبعين عاماً على إلغاء العبودية، ربما يبدو فيلم لارس فون تريير غير منطقى لإنتفاءه مع المنطق: كما لو كان يعمل من خلال فكرة مسبقة بدلاً من العمل على أساس دراما واقعية.
وعلى حين يقول ستيف ماكوين عن إستخدامه لمكان التصوير" كانت درجات الحرارة المرتفعة لا تُطاق، ففى اليوم الأول كانت درجة الحرارة 108 فهرنهايت" – من مجلة (سايت أند ساوند)- بينما لارس فون تريير كان يستطيع ضبط درجات الحرارة إعتماداً على ترموستات مكيفات الإستوديو.
وعلى حين أن المخرج ستيف ماكوين زنجى أظهر فظائع العبودية وقدم فيلماً عن المطلب الدائم والواضح بتحرير الزنوج، فإن لارس فون تريير يصنع فيلماً يتسائل فى ظل ظروف معينة إن كان من الأفضل إذا ظل الزنجى عبداً بدلاً من تحرره ويخلق سلسلة محكماً من الأسباب لتبرير هراء مزعمه، من الواضح أن فيلم لارس فون تريير فيلماً إستفزازياً على نحو ما، لكننا لا نستطيع أن نتعايش فيه درامياً أو أخلاقياً.
وبالنسبة لكل صور ستيف ماكوين المتطرفة (يطلق عليها أرموند وايت الإباحية التعذيبية فى سيتى أرتس) فإن الفيلم يُتعبنا قليلاً فى رسالته أو طريقته، وفيلم لارس فون تريير يفعل هذا بلا أدنى شك.
وكذلك فلارس فون تريير ليس هو المخرج الذى يطلب مسافية جمالية بصرف النظر عن الطرق الكثيرة التى لا تُحصى فيما يستخدمه لتوليد المسافية، عدد من هذه الطرق قد تحدثنا عنها من قبل، لكن ثمة وسائل أخرى تستحق أن ننوه عنها، معظم أفلامه على سبيل المثال توظف ما يمكن أن نسميه حرفية قطع التواصل: مثل المقابلة الحوارية فى فيلم "البلهاء"، وعناوين فيلمى "دوجفيل" و"ماندرلاى" اللتين تبدوان كفصول فى كتاب، والعناوين التى تصاحب الفواصل الموسيقية فى فيلم "إنكسار الأمواج"، والفصلان فى فيلم "مناخوليا"، والمشاهد الإفتتاحية التى تستدعى النهاية.
وكذلك هناك أخطاء فى الإستمرارية "الراكور" فى فيلم "البهاء" كما أشرت من قبل، لكن أكثر هذه الطرق إستخدمها فى فيلم "رئيس لكل شئ" حيث نجد أن الساعات الموجودة فى الخلفية لا تخبرنا عن الوقت الحقيقى مطلقاً، وحيث أماكن المواعيد السرية تصبح عبثية وللإضحاك أكثر من أى شئ آخر، وكذلك الألوان المُشبعة فى فيلم "إنكسار الأمواج" وفيلم "الراقصة فى الظلام"، ففيلم "إنكسار الأمواج" تتخلله فواصل مشبعة، وفيلم "الراقصة فى الظلام" مُشبع بعدد من الموسيقى، لكن لارس فون تريير وبرغم كل هذا لا يريد أن يلغى التأثير حتى وإن كان يحاول أن يقوض البساطة والتى يسعى إليها معظم المخرجين.
ما يحتاج ان يقوم به على أية حال، هو أن يفصل الكلاشيهات والتصورات الإيديولوجية التى ترتبط بها وأن يرى ما الذى سيبقى، مدركاً ان كل ما يبرق ليس ذهباً، وكيف يمكن للفرد أن يجد أكثر من مجرد معدن رخيص؟ فالأمر يبدو كما لو أنه نجح فى جعل المُشاهد يبكى فى نهاية فيلم "إنكسار الأمواج" وفيلم "البلهاء" وفيلم "الراقصة فى الظلام"، وأن يجعل المُشاهد يستجيب بفزع فى نهاية فيلمى "دوجفيل" و"مناخوليا"، عندئذ فإنه يصل إلى الإحساس الصادق لإنه يُضفر الكلاشيه بإتقان تام حتى انه يجازف بتدمير الإحساس تماماً.
فيلم إنكسار الأمواج
فى فيلم "إنكسار الأمواج" يعتمد السرد على شئ سخيف: فالشخصية المحورية بيس "إميلى واتسون" لا تأمل فى شئ سوى أن الحادث الجديد لزوجها على منصة النفط سوف يُجبره على المكوث فى المنزل فى "سكى". وعندما يحدث هذا ويبدو جان "ستيلان ستارسجارد" إنه سيفقد تحريك أقدامه وربما حياته، فإنها تمارس الجنس مع رجال آخرين وهى تعتقد أن هذا سينقذ حياته.
وقرب نهاية الفيلم يقول الطبيب المشكوك فيه للمحكمة أن أى إضطراب عقلى يُقال عن "بيس" سيكون غير دقيق فى وصف حالتها فهى فى حالة جيدة، وفى آخر الفيلم عندما تموت "بيس" بعد مواجهة حادة مع الرجال الذين مارست معهم الجنس، فإن زوجها "جان" الذى تحسنت حالته الصحية – يتطلع مع زملاءه إلى السماء ويرون جرسى كنيسة معلقين، بينما كبار السن فى الكنيسة التى تنتمى إلى مجتمع دينى متشدد يُلمحون إلى ان "بيس" ستُحرق فى الجحيم بسبب خطيئتها، بينما المخرج لارس فون تريير - وعلى العكس من ذلك- يلمح إلى انها فى الجنة تدق الأجراس.
ربما لا توجد حاجة للأجراس فى الكنيسة كما سبق إخبارنا بذلك، الفيلم ميلودراما عبثية بالطبع، حيث يُعلن الطبيب فى أحد اللحظات حبه لمريضته "بيس" والحادث الذى كاد أن يقتل "جان" فى منصة النفط يحدث بعد لحظات من إنقاذه لحياه صديقه، وكذلك البلطجية فى المركب قرب النهاية يوحون بالشر صراحة.
لكن المنطوق هنا عبثى، ولا يحمل هذا معناً سيئاً، فثمة عبث أكثر فى أطروحة الفيلسوف الدنماركى سورن كيركيجارد وإستقراءه لقصة إبراهيم فى "الخوف والرجفة" لماذا يذبح إبراهيم إبنه إسحاق، يتساءل كيركيجارد "من أجل الله، ومن أجل خاطر نفسه أيضاً، إنه يفتدى ولده من أجل الله لأن الله يطلب إثباتاً على إيمانه، إنه يُضحى بإبنه من أجل خاطره الشخصى لكى يكون قادراً على إثبات البرهان على إيمانه".
وبالطبع ففى فيلم لارس فون تريير فإن "بيس" تفعل ما فعلت من أجل خاطر جان، تماماً مثلما من أجل خاطر الله، لكن وبينما كبار السن فى الكنيسة يمكن أن يروا فقط أن المرأة إرتكبت خطية، فإن بيس ترى أن الله يعمل بوسائل على غاية من الغموض وأنه كلما كانت الخيانات كبيرة كلما كانت الفرصة سانحة لعودة جان إلى حياته العادية.
"لا أحد منكم يمتلك الحق فى إدخال بيس إلى الجحيم" هكذا يقول صديقها بينما كبار السن فى الكنيسة يدفنون ما يعتقدون أنها جثتها، لكنها لم تكن جثتها بل كانت تابوتاً مُعبأً بالرمال.(جان وصديقه سيدفنون بيس فى البحر).
إذا تأثر الكثيرون من دفن بيس فى البحر، عندئذ فإن الفيلم يحقق التأثير المطلوب بدون التظاهر بذلك، وبدلاً من ذلك فإنه يحقق العكس: إنه يخلق سرداً عبثياً ليختبر قدرتنا على تحمل أحاسيس جديدة.
وبناءاً عليه، يستكشف لارس فون تريير إشكالية التعاطف من خلال الإيمان "بالله"، ورغم ذلك فإننا نضع كلمة "الله" بين قوسين، يمكن لنا أن نتعاطى مع موت بيس بجدية بدون أن نحمل الأمر على الله الذى تؤمن به بيس بجدية أيضاً، عندما تحدث لارس فون تريير عن تحوله إلى الكاثوليكية، فقد قال "بالطبع كنت بحاجة إلى ذلك، فانا كنت تواقاً دائماً للإلتحاق بعقيدة خارجية، لكن وفى هذه الأثناء، فإن الأمر كان صعباً لأن تربيتى كانت قائمة على فكرة عدم الثقة فى هذه الكيانات الدينية، أشكر تربيتى على ذلك، فانا أقدر أهمية الحرية الدينية" (من كتاب تريير أون فون تريير).
لكنه ناقش هذا الأمر أيضاً فى فيلم "إنكسار الأمواج" كقضية عقيدة: العبثية فى إختيار العقيدة التى إقترحها مفكر دينى مثل كيركيجارد تتماثل بالتأكيد مع عبثية الخيار الجمالى المتاح للارس فون تريير، كيف يتسنى لأحد ان يؤمن بالسينما بدون الإيمان "بالصيغة التقليدية للتمثيل" التى تطبع العديد من الإنتاج السينمائى؟
الإجابة قد تكون أن هذه الطريقة ليست متناقضة بل تقريرية: كيف يتأتى لشخص أن يصادق على السينما كما هى وبدلاً من ذلك يبحث بإستمرار عن أساليب يمكن أن تُجدد وتُحدث الشكل؟ وكما قال لارس فون تريير وزميله توماس فينتربرج فى "بيان الدوجما 95" " فى عام 1960 بلغت السينما نهايتها، فالسينما تجملت لمماتها، طبقاً لكلامهما: ومنذئذ شاع إستخدام تعبير التجمل.
فمهمة المخرج فى السينما التقليدية هى أن يخدع الجمهور، هل هذا ما نفتخر به؟ هل هذا ما وضعتنا فيه السينما ذات المائة عام؟ الخداع من خلال  تلك العواطف التى يمكن أن تكون محل تواصل؟ إختيار العبث السينمائى أفضل من ألا نختار شيئاً: فمن الأفضل أن نجاذف بنوع من التبسيط والعبث بدلاً من التلاعب بالجمهور بأسلوب جاهز ومعروف مُسبقاً.
وبينما نلمح مبدئياً بأن لارس فون تريير يمكن أن يُرى بوصفه مخرجاً أقل أهمية من مخرجين آخرين فى جيل الألفية من خلال عجزه أو رفضه أن يصل إلى شكل جمالى مُحدد فى أفلامه، فقد يكون الأمر مُبرراً أكثر أن نرى فى لارس فون تريير مخرجاً تكمن أهمية جمالياته فى التجديد المتواصل لنفسه عبر طرح الأسئلة عن الشكل، والإنشغال بالقضايا التى تشغله سواء على المستوى النظرى أو السيكولوجى أو الأخلاقى، هذه الإنشغالات الثلاثة متداخلة فى أحيان كثيرة، لكن أحدها يطغى غالباً على البقية.
" شخصية بيس هى أيضاً تعبير عن هذه العقيدة" هكذا قال لارس فون تريير عن فيلم "إنكسار الأمواج" " العقيدة هى الأساس بالنسبة لها، وهى تتقبل الوضع بدون مناقشة" ( من كتاب تريير أون فون تريير) وعن فيلم "دوجفيل" قال لارس فون تريير أنه كان سياسياً أكثر "هل تعرف لعبة الطفل حيث يتوجب عليك أن تتبنى وجهة نظر وتتجادل ببراءة من هذا االمنطلق؟ إنها كانت لعبة جيدة، وكانت أفضل عندما يتوجب عليك أن تتجادل بدعم من وجهة نظر مخالفة تماماً لما تعتقده فى قرارة نفسك، الجدال من أجل وجهة نظر متهافتة وخاطئة" ( من كتاب تريير أو فون تريير).
فى أثناء توزيع فيلم "المسيح الدجال" عام 2009، تحدث لارس فون تريير عن كيف أنه أخرج الفيلم أثناء معاناته من الإكتئاب. "الفكرة كانت أنك إستسلمت، فترقد هناك وتواجه الحائط وتبكى، وكانوا يسألون عما أكرهه، وعندئذ قلت إنها لعبة كومبيوتر كنت قد لعبتها منذ أعوام. "أوكى" هكذا كان ردهم. " وعلى هذا النحو يكون علاجك، ألعب هذه اللعبة ثلاث مرات يومياً وكل مرة لمدة خمس دقائق" تلك كانت بداية الحالة المرضية، بعد ذلك تناولت علاجاً طبيعاً بالطبع،الأمر يشبه كما لو أنك تعود بحياتك إلى الوراء.
(الوقت نفذ) عندما أصر لارس فون تريير أن عمله الحالى يعتمد على هذا الأمر، فقد نميل إلى الإعتقاد أن الأمر مجرد هم شخصى، وأن عالم لارس فون تريير لا يحتوى على فصل واضح بين الدافع الشخصى والغريزة الجمالية. وكما أشار "شون أوهاجا" أثناء حواره مع لارس فون تريير "وبينما كان لارس فون تريير يتكلم، فإنه كان يحرك حذاءه، ويستلقى على الأريكة ويُغلق عينيه، فجلست بهدوء ودونت ملاحظاتى، كان الأمر برمته غريباً جداً: حيث بدا الحوار الصحفى معه كما لو كان جلسه للعلاج النفسى" ( من صحيفة الأوبسرفر)
ربما قال لارس فون تريير عن فيلم "الراقصة فى الظلام": كنت أحاول أن أمنح الفيلم نفس الطزاجة التى أعتقد أن أفلام الدوجما تتميز بها، أو فيلم "إنكسار الأمواج"، لكننى فضلت ألا أبادر بشكل أو أسلوب بعد ذلك، وبدلاً من ذلك فضلت أن أبادر بمحتوى القصة" ( من كتاب تريير أون فون تريير) , على أية حال، قد يكون الشكل والمحتوى مصطلحان غير مترابطين يسبقان رغبة المخرج فى التعبير، فالحاجة إلى إخراج فيلم لا يمكن فصلها عن القواعد التى يلتزمها والتى تسبق الحاجة إلى الإبداع.
يمكن أن يُرى لارس فون تريير كواحد من أكثر المخرجين المؤلفين إضطراباً فى بداية القرن الواحد والعشرين، لأنه يفتقد إلى القناعات المسبقة والواضحة فى الشكل أو المحتوى كما هو الحال مع مايكل هانيكه وسوكوروف وبيلا تار، لكن هذه الرؤية عنه قد تكون قاصرة جداً فى وصفه، لارس فون تريير واحد من المخرجين المعاصرين الأكثر بحثاً، ولديه إلحاح مستمر إلى طرح الأسئلة، لدرجة إنه يقوض تلك الفاعلية البحثية دون أن يقوض حس التساؤل الدائم.
"وبناءاً عليه، ما الذى يمكننا أن نقوله عن التضحية بالنفس؟ انا لا أستطيع أن أُوقف نفسى عن التفكير عشرة مرات فى اليوم على الأقل فيما يتعلق بعبثية الحياة، أنت تخلق المدخل الذى يخصك، بعدئذ ينحنى ويختفى مرة أخرى، وانا أعتقد كذلك أن لديك الوقت لكى تنال بعض الطعام لداخلك بينما تكون هنا، لكن شخصاً ما ذلك الذى يُضحى بنفسه أو نفسها فإنه يمنح لوجوده نوعاً من المعنى على الأقل" ( من كتاب تريير أون فون تريير)
تكشف نبرة أفلام لارس فون تريير بدقة عن هذا المزج بين الجدية التامة والفكاهة العارضة، وتكشف عن اللاجدوى المحتملة للوجود والتى تتطلب أن نتناول بعض الطعام بداخلنا.