16‏/06‏/2013

عناصر الواقعية السينمائية


محاضرة: تونى مكيبن
ترجمة: ممدوح شلبى

فيلم امبرتو دى
الواقعية واحدة من نقاط الخلاف فى تحليل الافلام، فماذا نقصد عندما نقول ان فيلما ما واقعيا؟ وهل واقعية شخص ما لها نفس الاهمية بالنسبة لشخص آخر؟ وكما يقول كريستوفر ويليامز فى مقدمته لكتاب "الواقعية والسينما" "Realism and the Cinema" "مناقشة الواقعية سواء فى السينما او الفنون الاخرى تتجه الى منحى متعرج او دائرى"، والآن عندما ننظر الى افلام عظيمة من الماضى كانت بمثابة روائع فى الواقعية، فهل نرى مقدمات لحبكات درامية مصنوعة باتقان او نرى مناظر منمقة او تمثيل مسرحى؟  انه من المفيد ان نفكر في الافلام التى كانت مُصنفة على انها واقعية فى زمنها لنرى هل هذه الواقعية تتفق مع واقعنا الحالى. ولكى نناقش الواقعية فنحن لسنا فى حاجة الى تعريف لهذا المصطلح: فاشكال سينمائية عديدة تصلح كصيغ واقعية عبر تاريخ السينما.

وعلى الرغم من ان مصطلح واقعية كان مستخدما من قبل (فعديد من الافلام الفرنسية فى الثلاثينات وُصفت بانها واقعية شعرية على سبيل المثال) الا ان الواقعية اصبحت نمطا سينمائيا مع حركة الواقعية الجديدة التى خرجت من ايطاليا اثناء الحرب العالمية الثانية، ومع كتابات نقدية مثل كتابات اندريه بازن - والذى دافع فى المجلد الاول من كتابه "ما هى السينما؟" "What is Cinema? Vol 1" عن فيلم من افلام الواقعية الجديدة، انه فيلم "امبرتو دى" "Umberto D" لفيتوريو دى سيكا، قائلا ومًشيدا "ان وحدة السرد لم تكن مكتملة، والحدث، والتحول المفاجئ للاحداث، وكذلك الشخص فلم يكن يتميز بالبطولة: ان الفيلم عبارة عن عرض متتابع لثوابت راسخة فى الحياه، ولا يوجد شخص في الفيلم يمكن ان يقال عنه انه اكثر اهمية من الآخرين، فمن اجل تحقيق المساواة بينهم كذوات ذات وجود فالدراما تتحطم من اساسها"، ودعونا نشاهد الفيلم اليوم، وسوف نرى ان مقولة بازن لا تجعلنا نفهم شئيا ذى بال: فزوايا الكاميرا دقيقة من اجل التوكيد، كما ان الفيلم يتركز على محورية الشخصية الرئيسية التى يحمل الفيلم اسمها والازمات التى يتعرض لها، كل هذه العناصر تم تكريسها لخلق قصة وشخصية قوية، وايضا كان لبازن مقولة يرى فيها ان اهمية السينما لا تتمحور حول الحدث لكن حول التمعن فيه،  فالاهتمام بالحياة المعاشة اكثر اهمية من الحبكة المتصاعدة، والشخصيات ما هى الا نماذج من هذه الحياة.

ما يتعين علينا القيام به هو العمل من خلال عدد من العناصر التي تعبر عادة عن الواقعية، ومن ضمن هذه العناصر: عدم استخدام الموسيقى الا اذا كان فى المشهد مصدرا لها، واستخدام ممثلين غير محترفين، وعدم استخدام الصوت من خارج الشاشة، والبساطة، واستخدام الحوار العامى - واحيانا لا نسمع الا نصفه - وعدم استخدام الاضاءة الصناعية التى تتميز بها الافلام المُصورة فى الاستوديوهات، والتخلى عن التصوير الذى يُبرز الجمال، والمقصود من ذلك ان نحس ان حبكة الفيلم تنطلق من مفردات الحياه الحقيقية، وهذا يؤدى الى اظهار القضايا الاجتماعية بدلا من الهروب منها.

وسوف نرى فى الافلام التى اخترناها نوعا من استخدام او دمج لهذه العناصر، والافلام التى اخترناها هى "العام صفر فى ألمانيا" "Germany Year Zero" وفيلم "غرفة على السطح" "Room at the Top" وفيلم "التفاصيل الاخيرة" "The Last Detail".


فيلم العام صفر فى ألمانيا
فى الفقرة الافتتاحية لفيلم "العام صفر فى ألمانيا" للمخرج روبرتو روسللينى - احد مخرجى الواقعية الجديدة- يبدو ان الموسيقى الكلاسيكية التى تصاحب عناوين الفيلم  تقودنا الى فيلم تراجيدى وليس دراما واقعية، لكن فى الواقع ، فان ما سنلاحظه فى نهاية الفيلم، انه خليط من التراجيديا والدراما الواقعية، فروسللينى اراد تراجيديا تخرج عن حدود الواقعية، تلك الحدود التى ركزت على تجاوز مرحلة الحرب العالمية الثانية على المستوى النفسى والاقتصادى والاجتماعى.

ففى اثناء هذه الفقرة الخاصة بعناوين الفيلم لا يقدم روسللينى مشهدا روائيا، لكنه ينحو الى التسجيلية ليصف تدمير ألمانيا بعد الحرب، حيث تتحرك الكاميرا جانبيا لتستعرض مدينة مدمرة، ويبدو ان روسللينى اراد ان يقول ان هذا التدمير هو القصة التى يتناولها الفيلم، فهذا التقديم لا يؤسس لمشهد ولكنه يؤسس لقصة وكأنها تخرج من هذا الفضاء.

وبينما نستمع الى الناس يتحدثون عن الجوع والانتحار، ونرى صبياً صغيراً يساعد فى حفر المقابر، فيبدو لنا ان روسللينى لا يريد منا ان نهتم بالقصة - التى لا نعرفها حتى الآن-  لكن ان نفكر فى هذه البيئة، ان حركة الكاميرا الاستعراضية للمكان لا يمكن اعتبارها مجرد لقطة تأسيسية، فالواضح ان السرد الروائى ليس مهما بمقدار اهمية الوقائع التى يقدمها روسللينى بعبارات حوارية ذات صلة، ونفس هذا الكلام نستطيع ان نصف به فيلم "سارقو الدراجات" لفيتوريو دى سيكا، فمن الواضح ان قصة تتطور سريعا فى كل من الفيلمين وان كل قصة منهما تتناول الفقر الذى تعيشه الشخصيات، لكن الفيلمين يقدمان اولا البيئة التى تتعايش فيها الشخوص.  

ويعتبر فيلم "غرفة على السطح" من الامثلة الاولى لما اصطلح على تسميته (مطبخ الواقعية) مثل افلام "مساء السبت وصباح الاحد" "Saturday Night and Sunday Morning" وفيلم "عُزلة عداء المسافات الطويلة" "The Loneliness of The Long Distance Runner" وفيلم "تلك الحياة الرياضية" "This Sporting Life" وفيلم "نوع من الحب" "A Kind of Loving"، وكانت توجد افلام تتشابه جدا مع ما تم تقديمه فى المسرح والادب ضمن ما عُرف باسم حركة "الشباب الغاضب"، فمعظم ابطال هذه الاعمال كانوا رجالا يقررون ان يصمدوا وان يستمروا بعبثية فى الحفاظ على روحهم المعنوية فى مواجهة اعمال وضيعة وعقول بليدة.

ففى مشهد من فيلم "غرفة على السطح" عندما يعود جو لامتون الى مسقط رأسه ويزور عمته وعمه، فالفيلم يتعاطى مع بعض عناصرالواقعية - فهو يبرزالطبقة العاملة المحترمة والتقليدية للجيل الاكبر : ولكن جو لامتون يقرر ان يكون مصيره ارفع شأنا - فبدا انه اختار ان يكون فى جانب الطبقة الارستقراطية.

وعلى الرغم من ان المشهد السابق عليه مباشرة يصور بلدة تنتقل من مرحلة الى مرحلة اخرى، فبمجرد ان يدخل جو الى المنزل فان التغييرات تبدو مُفتعلة ومتكلفة، فالحوار عامى لكنه بليغ وواضح، فثمة استخدام للغة رصينة و تصوير سينمائى جميل، واذا اصررنا على ان الواقعية تحاول ان تلتقط تفاصيل الحياه، فهل كانت عناصر السرد الواقعية غير مناسبة فى فيلم "غرفة فوق السطح" وان الفيلم لم يول اهمية للعناصر التى ذكرتها سابقا؟

ويعتبر فيلم "التفاصيل الأخيرة" واحدا من افلام السبعينات الامريكية التى بدت انها تضع نهاية لفكرة ان هوليوود سينما خلابة، ذلك ان المخرج هال اشبى استخدم ألوانا باهتة وقدم صورة بعيدا عن الابهار، كما استخدم الحوار العامى العفوى بديلا عن الحوار المنمق، وهذه العناصر اظهرت اهتماما بالحياه الحقيقية وخشونتها - بصرف النظر عن استخدامه للموسيقى والتى بدت انها تتعارض مع تلك الواقعية.

وايضا كانت قصة الفيلم عادية، انها عن زوجين من البحارة المتقاعدين يأخذان مُجندا صغيرا عبر الولايات الامريكية حتى يدخلان السجن بعد ان سرقت المرأة صندوق اموال. (هناك ايضا معلومات تافهة كان الهدف منها التمهيد لمزحة: شاهدوا اللحظة التى تسرق فيها شخصية راندى كويد بعض الحلوى ثم تبدأ فى اكلها فى الاتوبيس).

واذا كان مخرجو السينما الهوليودية فى الستينات اخذوا الكاميرا بعيدا عن الاستوديوهات وصوروا فى الشارع، فان مخرجى السبعينات فى هوليود ذهبوا ابعد من ذلك حيث صوروا افلامهم عبر الولايات.
كان فيلم "التفاصيل الاخيرة" واحدا من افلام امريكية عديدة ظهرت فى السبعينات ووضعت على عاتقها استكشاف الامة الامريكية، فقد تميزت سينما السبعينات الامريكية بتقديمها لافلام الطرق مثل "خمس قطع سهلة" "Five Easy Pieces" وفيلم "الاراضى الوعرة" "Badlands" وفيلم "الصاعقة" "Thunderbolt and Lightfoot" وفيلم "Two Lane Blacktop"  وفيلم "إيزى رايدر" "Easy Rider" وفيلم "واندا" "Wanda"، فالمخرجون كانوا يبحثون فى المساحات الشاسعة للولايات المتحدة الامريكية.

وفيما له صلة بالواقعية فمن المهم ان نفكر فى اى من افلام الطرق تميز بحبكة جيدة مثل فيلم "الصاعقة"، واى الافلام احتوت على قصة عادية مثل الفيلم الرائع "واندا" الذى لم ينل التقدير الواجب له، لقد منحت الواقعية فى السبعينات الفرصة للمخرجين ليخترقوا الطرق ويستكشفوا الامة.

والمخرجان البلجيكيان لوك وجان بيير داردن لم يكونا من مخرجى الافلام الاستكشافية عبر الامكنة، فافلامهما بشكل علم تم تصويرها فى - أو- حول مدينة "ليج" الصناعية فى بلجيكا، لكنهما كانا يقدمان افلامهما باتباع نظرية جمالية تميل كثيرا جدا الى الواقعية، بينما وفى نفس الوقت يبرزان اهتمامهما بالسرد الانفعالى ضمن الواقعية.

ومن النقاط التى تبرز وتحتل اهمية، ان تخرج الحبكة من دقائق الحياه، لا ان تكون الحبكة مصطنعة، وفى فيلم "روزيتا" "Rosetta" فثمة لحظة لالتقاط النفس حيث لاشئ يقدمه الفيلم للحدث لكنه يقدم الكثير فيما يخص الشابة الواقعة فى ظروف محبطة فتتعامل بنوع من التوسل، وكذلك عندما تخون شخصية اخرى فى المشهد، فهذه التصرفات مفهومة على المستوى الاجتماعى ومفهوم دوافعها وهى من الامور المقنعة، ان الفيلم يحتوى على حبكة قوية ولكنها تنبع من محيط اجتماعى فقير ذلك الذى تتصارع فيه الشخصية المحورية.

وفى فيلم "الطفل" "The Child" حيث نرى الشخصية المحورية والذى باع طفله يعود ويشتريه مرة اخرى، ففى هذا المشهد قدر كبير من التشويق، لكن هذا التشويق لم يكن نتيجة لمونتاج متوازى لفقرة مطاردة، فهذا التشويق حدث فى غياب المونتاج الموازى.
 
فيلم روزيتا

فالمخرجان البلجيكيان داردن يراعيان الجمهور فى المشهد الذى تُناول فيه الشخصية المحورية المال من خلال فجوة فى حائط الجراج المقابل، ونحن كجمهور نظل - مثلنا مثل الشخصية المحورية - منتظرين دقيقة او اكثر حتى نكتشف اذا ما كان الطفل سيظهر على باب الجراج المقابل، ام ان المال دُفع ولكن الطفل لن يظهر، هذه الفقرة شبيهة بكلام هيتشكوك عندما قال ان الجمهور سيتنمر اذا اعطيته معلومة لا تعرفها الشخصية فى الفيلم، لكن المخرجين داردن يقدمان هذه المراعاة للجمهور مع تركيزهما على العناصر الاجتماعية، فهذا شبية بافلام هيتشكوك التى تعتمد على الاثارة.

هذا المثال يدحض مقولة ان الواقعية لا تهتم بالحبكة، فاكثر ما يهم فى هذه القضية هى كيفية خلق قصة من عناصر ليس فيها مبالغة ولكن من الضرورى احتواءها على نوع من التشويق ولكن بقدر محدود حتى لا تنتفى صفة الواقعية على الفيلم.

وكان لاندريه بازن منطقه عندما امتدح فيلم "امبرتو دى" فالفيلم من وجهة نظره يحطم الدراما عبر المساواة بين الذوات، لكن المخرجين من امثال المخرجين داردن ارادا ان يبنيا انماطا مختلفة للسرد بدون تسطيح الدراما.

عندما ننظر الى مخرجين واقعيين مثل الفرنسى موريس بيالا والبريطانى كين لوش ومخرجى الدوجما فى الدنمارك ، فاننا نتساءل كيف انهم حافظوا على عناصر الواقعية وفى نفس الوقت لم يهمشوا تماما ضرورات السرد؟، وهذه الاسئلة تظل الاكثر الحاحا فى السينما.

محاضرة: تونى مكيبن