29‏/10‏/2015

سينما جيم جارماش المستقلة

مقالة:- براين تيللى
ترجمة:- ممدوح شلبى
معظم المخرجين يخافون من اللحظات التى تفصل بين مشهدين ولا يمنحوها سوى أقل من دقيقتين، أما جيم جارماش فإنه جعل من هذه اللحظات شُغله الشاغل، ولهذا السبب فهو لم يهتم مطلقاً بعمل أفلام درامية أو أفلام إثارة أو أى نوع من السينما النوعية، ومن ثم فإنه إبتدع سينما نوعية خاصة به، إنها الكوميديا السوداء الجادة.
جيم جارماش مخرج من نوعية نادرة، وهو الأخير من نوعه، فهو هاو يكافح من أجل إيجاد تمويلاً لأفلامه، كما أن الأمر أصبح أكثر صعوبة كونه يريد صناعة سينما غير تجارية بمثل ما يفعل فى سينماه التى تتميز بهذه الرؤية الممتعة.
جيم جارماش عادة يحصل على تمويل  أفلامه من الخارج، ومعظم أفلامه الروائية تم أنتاجها بشراكة مع دول أوروبية، وهذا منحه الحرية التى يستحقها فى عمل أفلام فنية، لكن أفلامه لم تكن يوماً رائجة فى شباك التذاكر، إنها دائماً أفلاماً فنية عميقة الرؤية، ولكن من وجهة نظرعُشاق السينما، فهذه السينما رائعة.
شعر رأسه شاب فى مرحلة المراهقة، وهذه الصدمة التى حدثت له فى سن المراهقة قد تكون متصلة بما يحس به كما لو كان أجنبياً ولكن فى بلده.
 بعد عودته من باريس التى أمضى فيها فترة قصيرة حيث إنخرط فى عالم السينما الفنية، بدأ ولعه بالأدب يظهر مصحوباً بحب أصيل للسينما بما يتيحهما المجالان من إمكانيات.
جيم جارماش بدا دائماً كشاعر رغم أنه لم ينشر الشعر، فهو يرسم على الشاشة الفضية كلمات وعبارات شعرية.
ولكن وعلى الرغم من أنه متحمس إلى الأدب بشكل كبير، فإن أفلامه تمتلأ بالنبرة واللون والتعبير الرقيق من شخص يعشق الموسيقى، وشريط الصوت فى أفلام جيم جارماش – سواء فى إستخدام فواصل إيقاعية أو فى الصمت المطبق – هو شريط صوت شديد الأهمية مثله مثل المؤلفات الموسيقية، كما إنه دائماً يعمل أفلامه بمصورين رائعين يتمتعون بحرية الإبداع، وكذلك فمن ملامح أسلوب جارماش أنه يحافظ دائما على أسلوب مرئى متميز.
فى عام 1997 عرض جارماش قطعة فنية فى مديح نيل يونج وفرقته الموسيقية "كريزى هورس"، وهو فيلم تسجيلى موسيقى يحمل عنوان "عام الحصان" وتم تصوير معظم الفيلم بكاميرا 8 ميللى وكاميرا 16 ميللى، وكان الفيلم مختلفاً عن عالم جارماش المعتاد، لكنه يحافظ على جماليات جاراماش "التى تتأسس على السينما السرية، أو سينما تحت الأرض" وهو الفيلم الوحيد الطويل من أفلامه التى لم يكن نيجاتيف الفيلم ملكه " فإمتلاكه لنيجاتيف أفلامه يحقق له الحد الأدنى من الحرية " (كان الفيلم تحية لنيل يونج).
واحد من أهم ملامح جارماش فى السرد المرئى هو الكاميرا الثابتة دائماً والميزانسين الثابت، وشخصياته دائماً يتوجب عليها أن تدخل وتخرج من الكادر: فثمة مقاطع كاملة من الحدث تتم خارج الكادر وتُسمع فقط، فالكاميرا ليست مُثبتة على عربة "دوللى" ورغم ذلك فالحركة داخل القطة دائماً مُبهرة – أو على الأقل – يجب الإشادة بها لعبقريتها.
يقال عادة أن الأجنبى أو أى شخص مختلف عن الطريقة التقليدية فى تصوير الناس وأساليبهم، سيُنتج أفضل الأفلام عن بلد أو ثقافة نتيجة للرؤية الفضولية والتصوير الخلاق الغير معتاد.
جيم جارماش هو الغريب فى أرض غريبة، وهذا غريب لأن الأمر يتعلق بوطنه نفسه، ومن ثم فهو يلتقط صوراً ثابتة إستكشافية تجد نفسك تُصنفها على أنها تصدر عن سائح، وعندما يصور فيلماً فى بلد أجنبى، فإنه ينقل ملامح الشخصية الأمريكية إلى شخصياته على عكس أى مخرج آخر.
مشاهدة الإبداع المتعمق داخل سينما جارماش شئ يتصف به أصحاب الذوق الفنى المتطور، هناك الكثيرون الذين لا يجدون فى أسلوبه ما يجعلهم يتواصلون معه، أو ربما إنهم ببساطة لا يُقدرون ولعة بالسخرية، وبأسلوبه التجريبى ومعاناته. 
ولكن وبعدئذ، وكما يصف جارماش الموقف " شئ عظيم أن الجمهور لديه إختلافاتهم الشخصية التى يُسقطونها على ما يشاهدوه لتوهم وهم لا يعرفون كل الإجابات، أنا بدورى غالباً لا أعرف كل الإجابات" وبهذه الطريقة يشترك جارماش مع أساتذة أمريكيين فى الولع المماثل بالسخرية، والولع بالمعنى المتضمن وليس المعنى الظاهر مثله مثل ديفيد لينش. "جمال الحياة يظهر فى التفاصيل الصغيرة وليس من خلال أحداث كبيرة".
جيمس جارماش وجودى صارم، ومفكر عبثى، وحالم بموسيقى الجاز والروك، إنه الفنان صاحب الشعر الأبيض وصاحب البريق الصارم فى عينيه، إنه عاشق الأدب الذى يصنع كتباً مُصورة للمراهقين الذين ضلوا طريقهم.
 
1- أكثر غربة من الجنة (1984)
 
ويللى (جون لورى) من سكان نيويورك الغرباء، وإيفا (إستر بالينت) إبنه عمه المجرية، التى تاتى للزيارة، لكنه لا يستطيع ان يلعب دور المُضيف، إنها تبقى لعشرة أيام، حيث كانت تنتظر عمتها أن تخرج من المستشفى، وبعد عام يقرر ويللى وصديقه إيدى (ريتشارد إدسون) أن يزورا إيفا فى كليفلاند حيث كانت تمكث مع عمتها لوتى (سيسيليا ستارك)، وبعد أن يغادر كل من ويللى وإيدى، فإنهما يقرران أن يعيدا إيفا إلى نيويورك.
هذا أول أفلام جارماش الروائية الطويلة، الفيلم الذى دشن الحس الإسلوبى الصارم الذى أصبح بمثابة توقيعه (أول أفلامه كان قطعة فنية مدته ساعة عنوانه "أجازة أبدية" أرسى فيه حرفيته السينمائية الخاصة، لكنه لم يحتوى على أى أسلوب متميز).
وحصل هذا الفيلم على جوائز عديدة، أكثرها أهمية جائزة "الكاميرا دور" من مهرجان كان السينمائى، وفى عام 2002 تم إختيار هذا الفيلم للحفظ فى أرشيف الفيلم الوطنى الأمريكى، وهذا الفيلم هو الأول فى ثلاثة أفلام روائية صورها بالأبيض والأسود، وهو الفيلم الثانى من أفلام جارماش الذى يمثلها جون لورى – الذى جمع بين التمثيل والتأليف الموسيقى السينمائى فى أفلام جارماش-.
من اللحظات الجارماشية فى هذا الفيلم: نرى إيدى وويللى وإيفا يتمشون على طول الشاطئ، ويتوقف إيدى وإيفا بينما ويللى يتجاوزهما، ثم يتوقف ويبحلق فيهما كما لو أنه يقول لهما "ماذا؟" فيبحلقان فيه كما لو كانا يقولان "ماذا بعد"، ويتقدم ويللى، فيبتسم إيدى لإيفا ويتبعان ويللى الذى خرج من الكادر.
 
2- السقوط بإسم القانون (1986)
يتم القبض على زاك (توم ويتس) وجاك (جون لورى) بسبب جريمة اُتهما بها، وينضم إليهما فى الزنزانة  روبرتو (روبرتو بنجينى) الإيطالى الغريب الذى يتم القبض عليه لأنه قاتل، والثلاثة يختلفون فى الطباع والشخصية، ثم يصبحون مطاردين فى برارى لويزيانا.
فى هذا الفيلم يحظى جارماش بميزانية مليون دولار للإنتاج، ويستعين بمدير التصوير روبى موللر (مصور أفلام باريس، و تكساس، و أن تعيش وتموت فى لوس أنجلوس)، بينما الممثل جون لورى هو الذى صاغ موسيقى الفيلم، بينما الممثل وايتس هو الذى كتب عدد من الأغنيات للفيلم، ويبدو الفيلم مريحاً جداً وجذاباً وخاصة أفتتاحية إيلين باركن المتوترة... عندئذ يدخل روبرتو "هذا العالم الحزين والجميل" وتبدأ عاصفة قوية.
ومن اللحظات الجارماشية فى هذا الفيلم: فى زنزانة السجن وبينما يلعب ثلاثتهم البوكر يطلب روبرتو من جاك وزاك أن يكررا الأغنية وراءه "أنا أصرخ، انت تصرخ، كلنا نصرخ طلباً لأيس كريم".
 
3- قطار غامض (1989)
فى نفس الليلة فى ممفيس، يقضى مجموعة من الناس ليلتهم فى فندق أركاد، وهم ، زوج زوجة يابانيان يزوران الولايات المتحدة الأمريكية لحضور عروض أغانى البلوز، وكذلك إمرأة إيطالية فى حالة حداد، ورجل إنجليزى من مُثيرى الشغب وبصحبته رفاقه.
حيث نجد ثلاثة قصص مختلفة تتضفر، وكل منها يحدث فى نفس الوقت (طلقة نارية من مسدس تُسمع فى قصتين، ونرى الطلقة فى القصة الثالثة، حيث الطلقة هى العنصر الرابط بين القصص الثلاثة، ( والشخصيات جميعها تُعتبر أجنبية، فى هذا الفيلم نجد تقدير جارماش للإيقاع ولموسيقى البلوز ولأتموسفير الليل، وللمكان الغامض الذى يشعر فيه أى إنسان بالألفة.
اللوحات البديعة والجميلة والخلاقة لمدير التصوير روبى موللر، وكذلك الممثلون، يمنحون جارماش واحداً من أكثر كوميدياته الحالمة المؤثرة.
ومن اللحظات الجارماشية فى هذا الفيلم: بينما الموظف الليلى المُسمى جاى هوكينز يفحص حجوزات الفندق، نجد صبى الفندق (سينك لى) يلبس زوجى نظارات شمسية وينتظر الموظف الليلى أن يقوم بجولة ويعود، ولكنه لا يفعل.
 
4- الليل فى الأرض (1991)
 
خمسة من ساثقى التاكسى، وخمس مدن، وخمس قصص، ليلة واحدة فى كل مدينة على حدة، وهذه المدن هى مدينة الملائكة، و بيج أبل، ومدينة النور، وروما، وهلسنكى، حكايات عن الخطيئة والشجن والفرص والإضطراب والتواصل، تجيش بها نفوس الشخصيات وتقود لكوميديا سوداء، نجد فى هذا الفيلم شخصيات مثل وكيل لهوليوود، وطفل شوارع، وشقراء جميلة، وقسيس، وبعض عمال المصانع المخمورين... وفريق متنافر من سائقى التاكسى.
جارماش مُغرم بالفنانين الذين عملوا معه قبل ذلك، وهو على ما يبدو قام بتجميع هذا الفيلم فى أسبوع واحد بممثلين معينين كان يفكر فيهم كطاقم تمثيل.
توم وايتس كان مع جارماش مرة أخرى ليقدم الموسيقى، وإستعان جارماش بمدير التصوير فريدريك إيلمس المُفضل من المخرج ديفيد لينش.
ويمثل هذا الفيلم أحد أهم المحطات الفنية لوينونا رايدر، والفيلم أيضاً يشار إليه بسبب القصة الأخيرة، إنه ينوه عن واحد من المخرجين الأسلوبيين المعاصرين والذى تجمعه بجارماش صداقة، إنه المخرج الفنلندى آكى كوريسماكى.
ومن اللحظات الجارماشية فى هذا الفيلم: الفقرة المونتاجية الإفتتاحية للقصة الأولى، فى لوس أنجلوس، تصور الضباب الكثيف الخالى من المعنى واللاشئ وتنتهى الفقرة المونتاجية على وجه كوركى (وينونا رايدر) التى تسوق وتدخن وتُفرقع العلكة.
 
5- رجل ميت أصلى (1995)
يصل ويليام بلاك (جونى ديب) الذى يعمل محاسباً إلى مشارف بلدة فى ميتشن ليكتشف أن الوظيفة التى كان يحلم بها ذهبت إلى شخص آخر، وتُعيده العاهرة السابقة ثل (ميلى أفيتال) إلى غرفتها، لكن حبيبها شارلى (جابرييل بيران) يتفاجأ بهما، ويجد بلاك الذى أُصيب بجروح دامية، يجد نفسه مسافراً عبر البرية فى رحلة غريبة لا تنتهى.
ويُوصف هذا الفيلم بانه واحداً من أفلام "الغرب الأمريكى الملونة" التى أخرجها جارماش، وتصادف أن هذا الفيلم من الأفلام القليلة التى تُصور سكان أمريكا الأصليين على حقيقتهم بطريقة أمينة ومحترمة، ويُعتبر من وجهة نظر الكثيرين واحداً من أكثر أفلامه جنسية، وأكثر أفلامه سيريالية، وأكثرها روحانية، وأكثر أفلامه التى تُعبر عنه.
لحظة جارماشية فى هذا الفيلم: القتلة الثلاثة على الحدود (لانس هنريكسون ومايكل وينكوت ويوجين بيرد) ينتظرون السيد ديكنسون (روبرت ميتشام فى ظهوره الأخير على الشاشة) لكى يعطوه وظيفتهم النادرة، يدخل ديكنسون إلى مكتبه ويتجه إلى دب كبير مُحنط فى زاوية الغرفة، ويصف الموقف وهو يتحدث إلى الحيوان الميت.
 
6- الشبح: أسلوب الساموراى (1999)
مواطن أمريكى ناجح من أصل إفريقى يُعرف فقط تحت إسم الشبح (فورست وايتاكر) يعيش بمفرده ويدرس كتاب "هاجاكور": أسلوب الساموراى، أصدقاءه الوحيدين هم الطيور المنزلية، وكذلك بائع الأيس كريم رايموند (إيزاك دى بانكولى) وكذلك الفتاة الصغيرة بيرلاين (كاميللا ويمبوش)، ويجد الشبح نفسه فى مكان يمتلأ بالناس، ومن بينهم رجل العصابة لوى (جون تورناى) الذى أنقذ حياته فى أحد المرات، فهل نظام الساموراى القديم سيغير حياته؟  
صور جارماش الفيلم فى مدينة جيرسى، لكنه تجب الإشارة إلى مكان تصوير فيلمه، صفائح ترخيص السيارات  مكتوب عليها "الولاية الصناعية" و"ولاية الطريق السريع"، ولا يلاحظ مشاهدو الفيلم أى شئ محدد، ويمتلأ الفيلم بالرمزية، وخاصة إستخدام الكرتون الذى يُعرض فى خلفية المشاهد كرموز بصرية.
الفيلم كله يبدو كما لو كان يكرر الفيلم الفرنسى الشهير "الساموراى" الذى أُنتج عام 1967، فيلم "الشبح" يُعتبر أكثر أفلام جارماش التى يمكن مشاهدته فى أى وقت بسبب معاصرته.
ومن الحظات الجارماشية فى هذا الفيلم: تدخين سيجارة وراء مبنى حيث لوى يواجه الشبح الذي، وبينما يصوب بندقية إلى رأسه، يطلب أن يعرف ما الذى يحدث، ويصل شقي آخر لاغتيال لوي، ولكن يتم اطلاق النار عليه عدة مرات من قبل الشبح، ويُبلغ لوي الشبح بخطورة الموقف، ويريد الشبح أن يعرف إذا ما كان القاتل الآخر قد مات، "حسنا، أنا لا أعتقد أن عمره سيطول أكثر من هذا" يقول لوي هذا بعد أن يركل الجثة بقدمه.
 
7- قهوة وسجائر (2003)
هذا الفيلم تجميع لأفلام جيم جارماش القصيرة التى أخرجها على مدى عشرين عاماً، وأكثر هذه الأفلام شهرة هو الفيلم القصير "مكان ما فى كاليفورنيا" والذى مثله توم وايتس وإيجى بوب وهما يفكران فى مكان للغداء، بينما الأفلام الأخرى من بينها فيلم "أولاد العم" حيث كاتى بلانشيت تمثل دورين مع ألفريد مولينا وستيف كوجان، وفيلم "التوأم" عن أخت وأخ مثلهما جوى وسينك لى مع ستيف بوشيرنى فى دور النادل، وكذلك الفيلم القصير "غريب أن أقابلك" وهو أقدم أفلام جارماش الذى أخرجه فى عام 1986 وكان عنوانه الأصلى "قهوة وسجائر" من بطولة روبرتو بنجينى وستيف رايت وهو الأسم الذى تم تعديله إلى تدخين وشرب الكافايين.
هذه الأفلام العشرة القصيرة تضم شخصيات غريبة وإنطوائية وأنانية تتناقش وتختلف فيما بينها كثيراً فيما يتعلق بالمفارقات التى تنطوى عليها الحياة، ويختلفون فى خياراتهم عن الصواب وعن الخطأ اللذان تتشكل منهما الحياة، وهذه الأفلام تحتوى على أكثر أراء جارماش الذكية كما أنهم يعبرون عن عفويته البريئة، إلى أى مدى يمكن لخطايا الحياة وفضائلها، وكيف يمكن لمُتعها ورذائلها أن يكونا محل إهتمامنا.
ومن اللحظات الجارماشية فى هذا الفيلم: ذلك المنطق العبثى الذى يتفوه به توم وايتس عن الإقلاع عن التدخين، حيث يقول "روعة الإقلاع عن التدخين بالنسبة لى بصفتى مٌقلعاً عن التدخين الآن، هى أننى أستطيع أن أدخن سيجارة واحدة لأننى أقلعت عن التدخين".
 
8- زهور مُحطمة (2005)
يصل خطاب إلى دون جونسون (الذى يمثله بل موراى) مكتوب فيه أن له إبن فى سن المراهقة، وهذا الخطاب مُرسل من حبيبة سابقة، حيث كانت له عدة حبيبات على مدى عمره، إنه "دون جوان" حقيقى، ويساعده جاره وينستون (جيفرى رايت) بإمداده بأسماء خمسة أمهات محتملين قد تكون إحداهن صاحبة هذا الخطاب، ويجهز دون نفسه لمقابلة النسوة الخمسة التى تمثلهن شارون ستون وفرانسيس كونورى وجيسيكا لانج وتيلدا سوينتون، وكل واحدة منهن تسبب له الألم بشكل أو آخر.
يعتمد هذا الفيلم بشكل كبير على ميثولوجيا "دون جوان"، الإسم الأصلى للفيلم هو "أزهار ميتة" – وقد أهداه جارماش إلى المخرجة الفرنسية جين أوستاش (التى توفيت عام 1981) وهى مخرجة مستقلة أيضاً كنت سعادتها أن تُخرج الأفلام القصيرة.
كتب جارماش شخصية دون جونستون بشكل شخصى للمثل بل موراى، وهذا الفيلم يرتبط بفيلم جيم جارماش الذى تلاه، وكل من الفيلمين يصور شخصية نسائية لا تتحدث كثيراً فى الفيلم بمقدار ما تقضى وقتها على الشاشة وهى عارية تماماً.
ومن اللحظات الجارماشية فى هذا الفيلم : يصل دون إلى عتبة بيت الجميلة بينى (تيلدا سوينتون) التى تبحلق فيه وتصرخ قائلة "دونى" "ما الذى تريده يا دونى؟" "أوه، فكرت أن أحضر لمجرد أن ألقى نظرة" هكذا كان رده فى حقيقة الأمر.
 
9- محدودية السيطرة (2009)
رجل وحيد بدون إسم (تمثيل إيزاك دى بانكولى) وكل الشخصيات فى الفيلم بدون أسماء أيضاً، ويشرع بطل الفيلم فى وظيفة خفية بعد تسلمه تعليمات من (الشخصية التى يمثلها ألكس ديسكاس)، ويسافر بطل الفيلم إلى مدريد، ومن ثم إلى سيفيل وأخيراً يصل إلى ألميرا فى الصحراء حيث ستكتمل مهمته، وعلى طول الطريق يواجه شخصيات لا حصر لها كانوا فى وجهاتهم الخاصة، وهم يكرسون أنفسهم لنظرية ان الكون ليس له مركز وليس له حدود، وأن الواقع متعسف، وبعدئذ نجد تمثال إمرأة ترتدى معطفاً شفافاً واقياً من الأمطار.
يعود جارماش إلى فلسفته التى تتأسس على البرية والتى أصطبغت بها أفلامه الأولى، حيث نجد الإندفاع والمشى على الأقدام والترحال والتحول من مكان إلى مكان، وهذا يستثير الجيل الصغير الذى لا يستطيع تفهم أسلوبيته العفوية وحساسيته الصارمة (دعم المخرج ونج كار وى هذا الفيلم، كما ان مدير التصوير هو كريستوفر دويل صاحب الأسلوب المتميز)، هذا الفيلم قطعة فنية تتميز بالمود والبساطة.
إستخدم خيالك لأن التأثرات أحياناً تكون شديدة البعد عن التجسد، وبعيدة عما يبدو عليه الشئ فى الحقيقة.  
ومن اللحظات الجارماشية فى هذا الفيلم: يتطلع الرجل الوحيد من البلكونة إلى فضاء المدينة ليلاً، ويُدير نظره ليرى المرأة العارية الموجودة على حافة حمام السباحة بالفندق، حيث نراها تواجه بصدرها الرجل الوحيد، ثم تسند ذقنها على حافة حمام السباحة وتتطلع لوهلة إليه من خلال نظارتها السوداء، فينظر إليها بدوره، فتستدير المرأة وتسبح بعيداً، ثم تستدير وتترك الرجل الوحيد يتطلع إلى جسمها العارى فى الماء.
 
 
10- العشاق فقط يُتركون أحياءاً (2013)
فى خرائب منطقة براش ديترويت، يعيش الموسيقى المكتئب آدم وحيداً فى مبنى متهدم يُسجل موسيقاه على جهاز متهالك ويفكر فى الإنتحار، إنه مصاص دماء، وتحس زوجته إيفا (تيلدا سوينتون) التى تعيش بعيداُ عنه بيأسه فتسافر من مدينة طنجة لكى تكون معه ولكى تحافظ على سنداتهم التى تعود إلى قرون ماضية، فهى أيضاً مصاصة دماء، بعدئذ تصل أخت إيفا البغيضة آفا (مايا واسيكوسكا) وتعطل كل شئ وتُجبر الزوجين العاشقين على الهروب إلى طنجة.
هل هذا فيلم رعب لجيم جارماش؟ ليس تماماً، إنه مجرد تصور ساخر عن المجتمع المعاصر، حيث شخصيات الفيلم الرئيسية مصاصى دماء، الفيلم يتندر على الدراما الرومانسية ويثور على كوميديا الرعب، إنه يطعن فى التاريخ والخلق، كل هذه العناصر كانت جزءاً لا يتجزأ من طفولة جارماش، ومن الغريب أن هذا واحداً من أكثر أفلام جارماش الذى يحتوى على متعة سردية.   
ومن اللحظات الجارماشية فى هذا الفيلم: يجد آدم وإيفا نفسهما مجبرين على التخلص من جثة أيان (أنتون يلشين) فى مصنع مهجور، حيث يلقونه فى حفرة للنفايات السامة، وعلى الفور تبدأ الجثة فى التحلل، فتعلق إيفا قائلة "حسناً، بالتأكيد كان هذا منظراً رائعاً"


24‏/10‏/2015

ما بعد أطروحة موت السينما


مقالة: ممدوح شلبى
ما نسميه "المًشاهدة الجماعية للدراما" كظاهرة إنسانية، والتى سبق للمجتمعات إختبارها فى مناسبات كثيرة، حيث تمتلأ صالات السينما والمسارح بجمهور محتشد يتنافس للحصول على تذاكر الدخول، أوشكت على الإنتهاء مُعلنة عن عصر جديد فى تقاليد مشاهدة الدراما يتميز بالإنفرادية حيث تتجمع الأسرة أو أحد أفراد الأسرة لمشاهدة الفيلم أو المسرحية فى غرفته فى المنزل واضعاً فى إعتباره أن أناساً آخرين لا يراهم يُشاهدون هذا الفيلم أيضاً عبر شاشاتهم المنزلية.
 
هذا التغير فى تقاليد المشاهدة أشبة بالتغير الذى حدث للظاهرة نفسها، اقصد "المشاهدة الجماعية للدراما"، فاليونانيون إكتشفوا هذه الظاهرة منذ القرن السابع قبل الميلاد عندما كان الناس يتحلقون حول الديثورامبوس، وهم مجموعة مؤلفة من خمسين من المُنشدين الذين يقودهم رئيس الجوقة حيث يُغنون فقرات أشعار الإلياذة والأوديسيا المُكرسة للإله ديونوسوس- إله الخصب والنماء- والذى يتصادف الإحتفال به مرتين كل عام، ولم يمض وقت طويل حتى تحول الديثورامبوس إلى مسرحيات مكتملة الحرفية مازلنا نشاهدها او نقرأها حتى الآن مثل "أوديب ملكاً" كتراجيديا و "برلمان النساء" ككوميدا.
 
 ومنذ ذلك الحين أصبحت ظاهرة المُشاهدة الجماعية للدراما، ظاهرة إنسانية وأحد الإكتشافات الهامة فى النشاطات الإجتماعية للإنسان، لإنها تحقق دوراً إجتماعياً ودوراً نفسياً، فالإنسان الذى يُشارك فى هذه الظاهرة يتوحد مع باقى المُشاهدين، ويحس بنبضهم وبنوع الإستجابات الفيزيائية لما يُشاهدوه، كأن يضحكوا معاً، أو أن يسود بينهم صمت مُطبق ووجوم تأثرا بما يُشاهدوه.
 
وإذا كانت ظاهرة "المشاهدة الجماعية للدراما" منشأها دينياً، فإنها تجاوزت هذا الأصل الدينى وأصبحت مجرد ظاهرة إجتماعية وثقافية، والآن يحدث تغير فى الظاهرة وإنصراف عنها لصالح ظاهرة جديدة يمكن تسميتها "المشاهدة الجماعية الإفتراضة للدراما" من خلال شاشات التليفزيون وأجهزة الكومبيوتر، حيث يتحقق للإنسان الإستمتاع بالدراما كفن دون التنازل عن ظاهرة "المُشاهدة الجماعية للدراما" لأنها مُتضمنة بشكل غير مباشر.
لكن جماليات الدراما نفسها فيما يتعلق بتوحد المُشاهدين بأبطال الدراما لابد أن تتبدل، وسبق لجان لوك جودار أن أوضح أن مشاهدة الفيلم فى شاشة التليفزيون الصغيرة يُحقق فى حد ذاته المسافية حتى وإن كان الفيلم تقليدياً، تلك المسافية أرسى جمالياتها برتولد بريخت فى نظريته عن المسرح الملحمى، الذى يتخذ تقنيات تستهدف إبعاد المُشاهدين عن التوحد بأبطال العمل الفنى، فى إتجاه مُشاهدين جدد عليهم ان يرقبوا ما يشاهدوه وان يتعاملوا معه بأذهانهم وليس بعواطفهم.
وعندما كتبت سوزان سونتاج مقالتها الشهيرة بعنوان "إضمحلال السينما" أو "موت السينما" فإنها فى الحقيقة كانت تتحدث عن موت ظاهرة "المشاهدة الجماعية للدراما" طبقاً للتغيرات التى طرأت على طقوس المشاهدة الجماعية وإنصراف الجمهور عن الذهاب إلى دور العرض السينما إلى حد ان بلدات كثيرة لم يعد بها دار عرض سينمائى واحد بسبب إنتشار التليفزيون الذى يستطيع أن يعرض الأفلام والمسرحيات على جمهوره فى منازلهم دون أن يتكبدوا مشقة الذهاب إلى دار العرض السينمائى.
فإذا كانت ظاهرة "المشاهدة الجماعية للدراما" قد إنتهت من الناحية العملية فإن الفن السينمائى نفسه لم ينتهى، وإقبال المشاهدين على مشاهدة الأفلام عبر شاشات النليفزيون والكومبيوتر يفوق بمراحل كثيرة ما كانت تطمح له شركات الإنتاج السينمائى، حيث من الممكن ان يشاهد ملايين الناس فيلماً واحداً فى وقت واحد ويتحقق لهم ما كانوا يحققوه إجتماعياً ونفسياً من ظاهرة "المشاهدة الجماعية للدراما" ولكن بصورة غير مباشرة.
ولكن يجب علينا أن نعى جماليات المسافية حتى نستفيد من الوسيط الجديد للظاهرة.


10‏/10‏/2015

موت السينما

 
مقالة: سوزان سونتاج
ترجمة: ممدوح شلبى
( كتبت سوزان سونتاج هذه المقالة فى 25 فبراير عام 1996 تحت عنوان "إضمحلال السينما" ويتم الإستشهاد بها كثيراً فى أدبيات التنظير السينمائى المعاصر ضمن ما يُسمى أطروحة موت السينما)
يبدو أن السينما خلال 100 عام قد إتخذت شكل الدورة الحياتية، من ميلاد حتمى ونمو متزايد للأمجاد ثم إنحسار حتمى بداية من عقد التسعينات، والأمر لا يتعلق بكونك لا تستطيع أن تتطلع بعد الآن لأفلام جديدة تُكن لها الإعجاب . لكن هذه الأفلام ليست فقط إستثنائية – مثلها مثل الإستثناءات العظيمة فى الفنون الأخرى – فهذه الأفلام يجب أن تتجاوز القواعد والممارسات التى تحكم صناعة السينما فى أى مكان فى العالم الرأسمالى، ولعل العالم الرأسمالى -كما يصح أن نقول- موجود فى كل مكان.
والأفلام العادية، تلك الأفلام التى صُنعت بهدف التسلية فقط (الأفلام تجارية) فهى فجة جداً: فالغالبية العظمى منها تفشل فى إرضاء جمهورها الذى إستهدفته. وبينما الهدف من السينما العظيمة الآن – أكثر من أى وقت آخر – أن تكون إنجازاً متميزاً، فالسينما التجارية مستقرة على شكل تفرضه سياسة صناعة السينما المغترة بنفسها والطُفيلية، فهى سينما تحاول أن تتوافق مع الفن أو تُعيد ما سبق تقديمه فى محاولة لإعادة إنتاج نجاحاتها السابقة. فالسينما وصفت فى أحد المرات بأنها فن القرن العشرين، وبينما يكاد القرن العشرين ينتهى – فالسينما تبدو كأحط الفنون.
ربما السينما لم تنتهى ولكن الذى إنتهى هو الشغف بالسينما – السينفيليا – وهى تسميه تعبر عن نوع محدد من الحب الذى تُشيعه السينما، كل فن لديه المتعصبين له، والحب الذى تُشيعه السينما كانت له خصوصية، فقد تولدت قناعة بأن السينما كانت فناً لا مثيل له: فهى جديدة فى جوهرها ومُتاحة وشاعرية ومفعمة بالأسرار ومثيرة وأخلاقية – كل هذه الصفات تتصف بها السينما إجمالاً- وللسينما أنبياءها ( فقد كانت مثل الديانة) وكانت للسينما غزوات مثل الحروب بإسم الصليب، وبالنسبة لعشاق السينما – السينفيليس- فالأفلام غطت كل شئ، فالسينما كانت كتاباً فنياً وكتاباً عن الحياة فى آن واحد.
وكما أشار العديد من الناس، فبداية صناعة السينما منذ 100 عام، كانت بداية مزدوجة، ففى عام 1895 قدمت السينما نوعيتين وحالتين مما ستستقر عليه السينما: أولهما السينما التى تستنسخ الحياة الحقيقية (أفلام الأخوان لوميير)، والسينما التى تًوصف بأنها إبتكارية وفنية وساحرة وخيالية (أفلام ميليه)، لكن هذه الإزدواجية لم تكن مُتعارضة فى حقيقة الأمر.
فأهم ما فى القضية أن جمهور السينما الأوائل، الذين شاهدوا إستنساخ الواقع بطريقة مباشرة ( كما فى فيلم الأخوين لوميير المعنون " وصول القطار إلى محطة سيوت") فقد كان هذا الفيلم تجربة عجيبة لهذا الجمهور، بدأت السينما بأحد العجائب، العجب من أن الواقع يمكن أن يُستنسخ بهذه الطريقة المباشرة، فكل ما هو سينمائى هو محاولة لتقديم وإعادة خلق هذا الإحساس بالتعجب.
كل شئ فى السينما بدأ فى تلك اللحظة، منذ 100 عام، عندما تقدم قطار إلى المحطة. والناس أسقطوا الأفلام على ذواتهم، تماماً مثل صراخ الجمهور من الإثارة، وفى الواقع فقد أخفضوا رؤوسهم بينما بدا القطار يتحرك نحوهم، وإلى أن تسبب التليفزيون فى إفراغ دور العرض السينمائى، فقد كان الناس يذهبون للسينما أسبوعياً كما أنها علمتك (او حاولت أن تعلمك) كيف تسير على قدميك، وعلمتك التدخين، وعلمتك التقبيل، وعلمتك العراك، وعلمتك الحزن.
كما تعطيك السينما نصائح حول كيف تكون جذاباً، فعلى سبيل المثال: إنه من الأجمل أن ترتدى معطفاً شتوياً حتى عندما لا يكون هناك مطر. لكن وأياً ما كان الذى تأخذه فهو جزء من تجربة أكبر عن دمج نفسك فى حياة ليست حياتك، الرغبة فى أن تنسى نفسك فى حيوات الآخرين وفى وجوههم، هذا شئ أكبر، وشكل أكثر شمولاً من الرغبة المتجسدة فى تجربة السينما، والشيء الأكبر حتى مما يتعلق بنفسك كان أن تُجرب الإستسلام أو الإنتقال لما كان على شاشة السينما. أنت أردت من الفيلم ان يختطفك- ولكى تكون مُختطفاً فهذا كان طغياناً للوجود الجسمانى للصورة.
تجربة "الذهاب إلى السينما" كانت جزءاً من هذا، ولكى ترى فيلماً عظيماً فى التليفزيون فقط لا يعنى أنك شاهدت هذا الفيلم، فالأمر ليس فقط مسألة البعد الثلاثى للصورة: التفاوت بين الصورة الكبيرة التى تجدها فى دار العرض وبين الصورة الصغيرة التى تجدها فى شاشة التليفزيون فى منزلك.
ومهما تباكينا، فبكائنا لا يمكن له أن يعيد سحر وإثارة طقوس مشاهدة الأفلام فى ظلمة دور العرض السينمائى. لقد تقزمت السينما فبدت كصور مؤذية، وكذلك يتم التلاعب بالصور ( كأن تكون سريعة فى القطعات المونتاجية)  بهدف جعل هذه الصور أكثر لفتاً للإنتباه، ولقد أنتج هذا سينما سطحية لا تتطلب كامل الإنتباه من أى أحد. 
تظهر الصور الآن فى أى حجم وعلى أسطح متنوعة: مثل شاشات العرض السينمائى وحوائط قاعات الديسكو والشاشات العملاقة فى الملاعب الرياضية، فهذا الحجم الكبير للصور المتحركة قوض بشكل كامل معايير الناس الذين كانوا ينظروا إلى السينما كفن وكمتعة جماهيرية.
فى سنوات السينما الأولى لم يكن هناك فارق أساسى بين هذين الشكلين، وكل الأفلام فى عصر السينما الصامتة – من روائع فيولاد وديفيد وارك جريفيث ودزيجا فيرتوف وبابست وموناو وكينج فيدور، وكذلك معظم السينما التى تتسم بالميلودراما والكوميديا – كانت كل هذه الأفلام تتمتع بمستوى فنى رفيع مقارنة بمعظم السينما التى جاءت بعد ذلك، ومع ظهور الصوت فى السينما، فقدت صناعة السينما الكثير من وهجها وشعريتها والمعايير التجارية المُتبعة، هذه الطريقة فى صناعة الأفلام – النظام الهوليوودى – سيطرت على صناعة السينما لمدة خمسة وعشرين عاماً ( من عام 1930 إلى عام 1955 تقريباً).
أعظم المخرجين الحقيقين مثل إريك فون ستروهايم وأورسون ويلز هُزموا من خلال النظام وفى نهاية المطاف ذهبوا إلى منفاهم الفنى فى أوروبا – حيث كان نفس نظام الجودة موجوداً منذئذ بشكل أو آخر، من خلال إتباع نظام الأفلام مُنخفضة الميزانية، وفرنسا فقط هى التى أنتجت عدداً كبيراً من الأفلام الرائعة فى تلك الحقبة، بعدئذ، وفى منتصف الخمسينات عادت الأفكار الطليعية مرة أخرى والتى إستمدت جذورها من فكرة أن السينما حرفة وكان ذلك من خلال السينما الإيطالية الرائدة والتى ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، حيث أنتجت عدداً كبيراً من الأفلام الشجية والأصيلة التى صُنعت بجدية تامة. 
فى هذه المرحلة بالذات من المائة عام فى تاريخ السينما، كان الذهاب لدور العرض السينمائى والتفكير فى الأفلام والحديث عن الأفلام قد أصبح شغفاً بالنسبة لطلاب الجامعات والشباب الآخرين، فأنت تقع فى غرام ليس فقط الممثلين ولكنك تقع فى غرام السينما نفسها، "السينفيلا" أصبحت شيئاً معروفاً لأول مرة فى عام 19950 فى فرنسا: وكانت مجلة "كراسات السينما" الأسطورية هى المنتدى (وتبعتها مجلات شبيهة فى ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا العظمى والسويد والولايات المتحدة الأمريكية وكندا). معابد السينما كانت تنتشر عبر أوروبا والأمريكيتين وتمثلت فى نوادى السينما المتخصصة سواء فى الأفلام القديمة أو أفلام المخرجين الذين إشتهروا.
كانت الستينات وبداية السبعينات سنوات مزدهرة فى الإقبال على السينما، حيث كان عاشق السينما يطمع دائماً أن يجد مقعداً قريباً قد الإمكان من الشاشة الكبيرة، فالمقعد المثالى هو الموجود فى منتصف الصف الثالث من صالة العرض.
"لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون روسللينى" هكذا قال أحد شخوص المخرج برتولوتشى فى فيلم "قبل الثورة" عام 1960 ، وكان هذا الشخص يعنى هذا.
ولنحو 15 عاماً كانت هناك روائع جديدة كل شهر، والآن يبدو الأمر مختلفاً تماماً عن هذه الحقبة، ولكى أؤكد على ذلك، كان هناك ثمة صراع بين السينما كصناعة وبين كونها فناً، بين السينما العادية والسينما التجريبية، لكن الصراع لم يجعل من المستحيل عمل الأفلام المُدهشة، فالأفلام المُدهشة كانت تُنتج أحياناً سواء ضمن تيار السينما السائدة أو خارجها، والآن فقد رجحت كفة الميزان لصالح السينما كصناعة.
إنتهت السينما العظيمة التى كانت موجودة فى الستينات والسبعينات، وفى السبعينات سرقت هوليوود وإستعارت الإبتكارات فى طريقة السرد وفى طريقة المونتاج للسينما الأوربية الجديدة والسينما المُستقلة الهامشية فى أمريكا. بعدئذ حلت الكارثة مُتمثلة فى تكاليف الإنتاج العالية جداً فى الثمانينات بحيث تضمن هوليوود السيطرة على معايير إنتاج وتوزيع الأفلام بالقوة القسرية، وكان ذلك على نطاق العالم أجمع هذه المرة.
الإرتفاع الكبير فى تكلفة الإنتاج كان المقصود منه أن يحقق الفيلم ربحاً كبيرا فى الشهور الأولى من عرضه، ويجب أن يكون النجاح ساحقاً على جميع الأفلام الأخرى – فكان ثمة ميل لنجاح الأفلام الكبيرة على حساب الأفلام منخفضة التكاليف، رغم أن معظم الأفلام التى حققت النجاح الساحق كانت رديئة وكانت هناك دائماً عدة أفلام "صغيرة" فاجأت الجميع بجاذبيتها (مثلما يحدث للكتب فى المكتبات): والعديد من الأفلام صُممت لكى تتحول مباشرة إلى أفلام فيديو.
وتواصلت عمليات إغلاق دور العرض السينمائى – فالعديد من البلدات لم يعد بها دار عرض سينمائى واحدة – كذلك فقد أصبحت الأفلام التى نشاهدها فى المنزل واحدة من العادات المستحدثة فى وسائل الترفية. 
فى هذا البلد – امريكا – فإن إنخفاض الطموحات الخاصة بالجودة، وتزايد الطموحات فى الربح جعل الأمر مستحيلاً وعصياً على المخرجين الأمريكيين الطموحين مثل فرانسيس فورد كوبولا وبول شرادر فى أن يقدموا أفضل ما لديهم، وعلى المستوى العالمى يمكن أن نرى تأثير ذلك المصير الأليم الذى آل إليه أعظم مخرجى السينما فى العقود الأخيرة.
ما الذى يتبقى اليوم لمخرج مُتجاوز مثل هانس جارجن سيبربرج الذى توقف عن إخراج الأفلام نهائياً، وماذا تبقى اليوم للمخرج العظيم جان لوك جودار الذى يُخرج الآن أفلاماً عن تاريخ السينما بنظام الفيديو؟ مع الوضع فى الإعتبار حالات أخرى لمخرجين عظام.
عولمة التمويل وتكاليف الإنتاج تسببتا فى كارثة لآخر فيلمين للمخرج أندريه تاركوفسكى صاحب التاريخ الفنى العظيم. وكيف سيجد ألكسندر سوكوروف المال ليستمر فى إخراج أفلامه العظيمة فى ظل الظروف القاسية للرأسمالية الروسية؟
وكأمر متوقع، فقد تقلص الشغف بالسينما، لكن الناس مازالوا يُفضلون الذهاب إلى الأفلام، ومازال بعض الناس يهتمون ويتمنون ان يروا شيئاً خاصاً وضرورياً من السينما، وكذلك فالأفلام المُدهشة مازالت تُنتج: مثل فيلم "العارى" لمايكل ليه، ومثل فيلم "لامريكا" للمخرج جيانى أرنيليو، ومثل فيلم "المصير" للمخرج فريد كيليمان، لكنك من الصعب ان تجد أفلاماً مُدهشة أكثر من ذلك، على الأقل بالنسبة للشباب.
الحب "السينفيلى" المتميز للسينما ليس حباً فى حد ذاته للسينما ولكنه نوع من التذوق السينمائى الخاص (ويتجلى هذا فى الإقبال الهائل على مشاهدة وإعادة مشاهدة أكبر قدر ممكن من الأفلام القديمة العظيمة).
"السينفيلا" نفسها أصبحت مُعرضة للهجوم بوصفها شئ شاذ وعفى عليها الزمن ونوع من التزيد، وبالنسبة للسينفيلا فإنهم ينظرون للأفلام كتجربة متفردة وغير قابلة للتكرار وساحرة.
تخبرنا السينفيلا أن هوليوود عندما أعادت عمل فيلم "اللاهث" لجودار فإنه لا يمكن ان يكون جيداً مثل الفيلم الأصلى، السينفيلا ليس لهم دور فى أفلام عصر الهيمنة، فالسينفيلا لا يمكنها أن تساعد نظراً لتنوع الرغبات، بداية من تبنى فكرة أن السينما فى المقام الأول هى موضوع شعرى: ولا يمكن للسينفيلا أن تساعد فى تشجيع إنتاج سينما خارج السينما السائدة، مثل الرسامين والكُتاب، فهم يريدون أن يصنعوا أفلاماً أيضاً، وهذه الفكرة لا تنتصر أبداً.
إذا ماتت السينفيلا، عندئذ فالسينما تموت أيضاً .. بصرف النظر عن كم الأفلام التى يستمر إنتاجها، بما فى ذلك الأفلام الجيدة منها.
إذا كان من الممكن بعث السينما فهذا سيكون من خلال ميلاد نوع جديد من عشق السينما.
------------------------------------
سوزان سونتاج مؤلفة رواية "عاشق البركان" ومسرحية "أليس فى الفراش"