28‏/08‏/2011

الحافلة

ممدوح شلبى
كريم ابراهيم
منذ اللحظة الاولى ونحن نستكشف فيلما روائيا قصيرا بعنوان الحافلة ، فاننا ندرك اننا ازاء فيلما كبيرا لسينمائى مخضرم .
ان الفيلم يبدأ بلقطة قريبة لمنبه ينطلق صوته فنرى يدا تدخل الكادر ثم تُوقف صوت المنبه ، بعد ذلك تتابع لقطات قصيرة جدا يدوم كل منها ثانية واحدة او ثانيتين ، تُلخص لنا طقس الاستيقاظ الذى نجربه نحن ايضا طوال حياتنا ، فدخول الحمام ومياه الصنبور وكوب الشاى او القهوة  ثم اصطفاق باب الخروج وراءنا ، هذه كلها طقوس يومية نعرفها ونحفظها جميعا عن ظهر قلب ، ويتشارك فيها كل الناس سواء كانوا فى ألمانيا او ايطاليا او اليابان او مصر او اى مكان آخر .
ان المخرج كريم ابراهيم ( او كريم قنديل ) يختزل طقوس الاستيقاظ فى ثوان قليلة وهو على ثقة من ان التطويل او الاسهاب سيُصيب جمهور فيلمه بالرتابة .
فمنذ اللحظة الاولى نحن امام مخرج يعى عصره ويعى تقاليد المشاهدة ويفهم جيدا ما هو الزمن الضعيف - كاصطلاح سينمائى -  والزمن القوى ، ذلك الذى سوف نتعرف عليه مع هذا المخرج .
ان المخرج يختار لحظة اصطفاق الباب لتقديم عنوان الفيلم الذى نراه باللغة الالمانية واسفله بالعربية كلمة الحافلة حيث نستمع الى الموتيفة الموسيقية للفيلم والتى تعزفها  آلة وترية  ، وسوف تتكرر نفس الموتيفة طوال الفيلم فى لحظات يختارها كريم بعناية .
ثم نرى الكاميرا تستقبل بطلة الفيلم من خلال الباب الزجاجى لمدخل البيت ، ونراها تقترب ثم تفتح الباب لنرى وجهها فى لقطة قريبة جدا ، ونكتشف ايضا اننا امام ممثلة من الدرجة الاولى فاطلالتها والنفس الذى تستنشقه ونظرتها التى ترسم معنى الملل واليأس ، هى امور لا تستطيع ممثلة هاوية ان تختزلها بمثل هذه البراعة ، ونستمع الى صوتها من خارج الكادر باسلوب التعليق .
ان الفيلم يتم تقديمه فى صيغة الراوى من خلال بطلة الفيلم ، ويتداخل صوتها كراوية مع الحوار البليغ فى هذا الفيلم الفذ ، حيث نستمع اليها تقول لنا ( انها السابعة ) ونرى المخرج ينقلنا فى لقطة عامة لنرى بطلة الفيلم تقطع الطريق امام منزلها ، لتظهر فى لقطة عامة اخرى يتصدرها قدم احد الاشخاص فى مقدم الكادر يقف على محطة حافلات ، مع استمرار صوت التعليق لتخبرنا البطلة ( لن اعتد ابدأ هذا الجو المظلم القاتم ) .
وتواصل الكاميرا استقبالها للممثلة حتى تصل الى قرب الرجل فيقطع المخرج على لقطة عامة اخرى لمحطة الحافلات فى المواجهة .
لقد اسس المخرج فى هذه الثوانى القليلة مكان وزمان الفيلم والحالة النفسية لبطلته ، ثم يقطع على نفس المكان ومن نفس الزاوية ولكنه يقترب اكثر ، بينما نرى البطلة تتطلع الى جانب الطريق فى ترقب وانتظار للحافلة وتنظر الى ساعة يدها ، ثم نستمع الى تعلقها من خارج الكادر ( الساعة السابعة تماما فى يوم شتوى بارد ) ثم تستدرك فى لقطة متوسطة جانبية من وجهة نظر رفيقها الذى ينتظر بدوره فى محطة الحافلات ( اليوم مثل الامس مثل الغد ) .
بتلك الكلمات سوف نتذكر مسرح العبث ولكننا الآن لسنا فى لحظة عبثية ، انها لحظة من لحظات مواطنة تعاصرنا وتُمثلنا وتنطق بما يجول فى نفوسنا ، حيث الفيلم كله ينتمى الى الزمن القوى - بالمعنى الدرامى الاصطلاحى – فكل تفصيلة وكل ثانية يتم وضعها بعناية لتثبيت حالة نفسية واحساس انسانى عام نتشارك جميعا فيه .
وبينما تواصل البطلة تعليقها نسمع صوت الشخص المجاور لها يقاطعها بالسؤال عن الساعة ، لقد تم تقديم هذا الشخص من قبل فى اللقطة العامة لذلك فان المخرج ينقلنا اليه مباشرة فى لقطة قريبة ، بينما البطلة تواصل تعليقها الذى يجعلنا نرى ما تراه فهى الآن اصبحت تعرف شيئا عن هذا الرجل بعد ان كان مجرد شخص ، انها الآن تعرف كيف يلبس وماذا يحمل فى يده وتُعبر لنا عن انطباعاتها عنه .
ان هذا الاسلوب السينمائى البليغ لا يُقدمه الا مخرج مخضرم ، يعرف كيف يقدم شخصيات فيلمه فى توقيتات مناسبة ليختصر ركاكة التطويل والاسهاب المرير الذى تعودنا عليه فى السينما المصرية واحيانا السينما العالمية ، فقد اصبحنا الآن اكثر معرفة بالشخص لكن الفضول مازال يتملكنا مثل البطلة ، وهكدا يتقدم الفيلم فى انسيابية ولغة بليغة ماهرة .
ان الفيلم يبدأ من هذه اللحظة ، فالحوار بين الشخصتين والذى لا يتعدى كونه مجرد سرد لتجربة هذا الرجل الحياتية النادرة ، دون ان يحتوى الفيلم على تلك الضلالات التى تعلمناها فى دراستنا للفيلم الدرامى  فالفيلم لا يحتوى على ازمة ، والازمة تتحول الى صراع يتطور حتى نصل الى ذروته لينتهى بانتصار احد الاطراف والتى غالبا ما تُرضينا .
ان فيلم الحافلة فيلما حداثيا – او ما بعد الحداثية – كصيغة فنية اسست لها الموجة الجديدة فى فرنسا فى ستينات القرن العشرين لتصل الى ذروة بريقها فى افلام عباس كياروستامى وخاصة فيلمه طعم الكريز الحاصل على سعفة كان الذهبية باستحقاق فى عام 1997 , حيث البنية الفيلمة تختصر الحياه بالحياه نفسها لتضرب باساسيات الفيلم التقليدى عرض الحائط .
ان فيلم الحافلة يحتوى على لغة حوار ادبية بليغة ، وخاصة فى مونولوج هذا الرجل الذى يتحدث عن عمله السابق كمصور حرب ، وتجربتة النادرة وما حدث له ونهاية عمله ثم تسريحه من العمل .
ونتساءل هل هذا الرجل مجنون ؟ ورغم ان المخرج يكشفه لنا ويُعريه تماما عندما نراه يتراجع فزعا ونكتشف بعد ذلك انه رأى مالم نراه نحن ، انه فعلا مجنون لكننا لا نتهمه ، اننا ايضا لا نتعامل مع جنونه على انه مرض لاننا ايضا اشباه له .
كيف لنا ان نتهم بالجنون من يُلخص مواجعنا فى هذا الزمن الصعب ؟ ان البطلة نفسها لا تنظر اليه على انه مجنون .
ان كريم ابراهيم هو من كتب هذا السيناريو عن قصة قصيرة ألفها بنفسه ، لنرى تطبيقا عمليا لنظرية المخرج المؤلف ، لكن هذه النظرية عند كريم ابراهيم تدخل الى مستو جديد وزمن واعد حيث يستطيع اى اديب ان يصنع فيلمه وان يستثمر هذا الوسيط الجديد لاثراء تجربته الادبية ، فالصورة تغنى عن ألف كلمة .

ان الحرفية العالية للفيلم ولغة الحوار الادبية والدقيقة فى التعبير عن الشخصيات وحالتهم ، واستخدام الكاميرا المحمولة بديلا عن الكاميرا الثابتة وتوظيف الموسيقى بهذا القدر من البراعة من خلال موتيفة تتكرر دائما - كان كريم هو الذى ألفها وعزفها بنفسه - وبراعة تقديم الفيلم بهذه اللقطات القصيرة جدا والتى تدوم ثوانى فتختصر بجزالة كل شئ وتُعبر عن شخصيتى الفيلم ، ثم تقديم الفيلم فى صيغة الراوى .
كل هذه اللمسات تقدم لنا مخرجا من الطراز الاول ، لا يمكن ان نعتبر فيلمه عملا للهواه ، انه شديد الاحترافية يمتلك ادواته ويُشكل بها كل ما يريد ببلاغة وسهولة ، اننا ازاء مخرج واعد ، نتمنى له الاستمرار وانا على ثقة من ان مخرجا فى مثل وزنه كفيل بان يُطهر نفوسنا من غثاثة ما علق بها من سينما هابطة .

ان المخرج كريم ابراهيم  ( او كريم قنديل ) ابن المسرحى السكندرى محمد ابراهيم ، وكريم من مواليد الاسكندرية فى عام 1981 ، حاصل على بكالريوس علوم من جامعة الاسكندرية ، وقد شارك فى الحركة الفنية المسرحية منذ طفولته ، فقد مثل فى مسرحية للاطفال بطولة ايمان الصيرفى وعزت الامام وجيهان نور ومن اخراج المخرج المسرحى صبحى يوسف .
ولقد عمل كريم بالجرافيك فترة من الوقت فى مصر ثم سافر الى ألمانيا ليواصل عمله فى الجرافيك ، وهو فى ألمانيا حاليا و يعمل فى شركة تستقبل طلبات الطلبة الوافدين .
انه لم يتعلم السينما بصورة احترافية لكن أثر فاسبندر وجودار وعباس كياروستامى باديا تماما فى فيلمه الذى يستحق الاشادة ، فتحية صادقة لهذا المخرج الواعد .
ويمكن مشاهدة الفيلم على الرابط التالى :-

نشرت هذه المقالة ايضا فى موقع عين على السينما
مع اجمل تحياتى
ممدوح شلبى .