07‏/03‏/2014

سينما أمريكية جديدة

ماجنوليا
محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى


1


ثمة توجس من السينما الأمريكية الحالية حيث يحبها البعض والبعض الآخر يكرهها، فعادة توظف الأفلام الأمريكية القصة والشخصية بطريقة مُتعمدة، حيث كل شيئ يُوضع بين قوسين ويُقدم بمواصفات كرتونية نوعا ما.

الأفلام التى تتبادر إلى الذهن تشمل "كينونة جون مالكوفتش" " Being John Malkovich " و "أبناء رويال تيننبون" " The Royal Tenenbaums " و "انا قلب عائلة هاكابي" " I Heart Huckabees " و "الإشراقة الخالدة لعقل بليد" " The Eternal Sunshine of the Spotless Mind " و "الحياة المائية" " The Life Aquatic " وكذلك الفيلمين الأقل شهرة " الإنتخابات" " Election "و"الطرق الجانبية" " Sideways " هذه الأفلام غالبا تحتوى على بُعد عبثى وتتناول شخصاً مجنوناً وتتماهى معه. ماذا سيكون عليه الحال داخل عقل جون مالكوفيتش- على سبيل المثال – وتخيل لو أن ذكرياتك مع حبيبة سابقة قد إنمحت لان ألم الذكرى لا يُحتمل؟

هذه الأفلام تحتوى دائماً على عنصر كاريكاتورى يجعل الحياة الداخلية للشخصية أقل صلة بشخصيته الخارجية ومن الطريقة التى يظهربها، وهذا حقيقى مع كل أبناء تيننبوم فى فيلم "أبناء رويال تيننبوم" حيث يظهر كل من بن ستيلر ولوك ويلسون وجينيث بالترو بصورة تخالف حقيقتهم، فستيلر يرتدى ملابس رياضية حمراء، وبالترو تتميز بكحل عين كثيف وويلسون رئيس فريق تنس.

ان كل ما تشترك فيه هذه الأفلام هو حالة الإدراك، الحالة التى تضع المُشاهد فى موضع المُشاهد المُتميز حيث كل صورة تحمل علامة ويمكن فهمها بسهولة، وهذا ما دعى النقاد الى تسميتها "طابع عالم السيلولويد المغلق على نفسه" وهى ليس دائماً محل انتقاد.

طريقة الإخراج فى هذه الأفلام تتعارض كثيرا مع أفلام السبعينات، وحتى اذا كان مخرجو هذه الأفلام أنفسهم يستدعون أسماءاً من عقد السبعينات لعلاقة أفلامهم بها (فالمخرج ألكسندر باين - مخرج فيلم "الطرق الجانبية"- تحدث عن أهمية روبرت ألتمان بالنسبة له، كما نوه ديفيد. او. راسل – مخرج فيلم "أنا قلب عائلة هاكابى" – عن هال أشلى، بينما بى. تى. أندرسون – مخرج فيلمى "ليالى الراقصة" و"ماجنوليا" – إعتاد على إستعارة فسيفساء ألتمان فى أفلامه.

نحن نحس على أية حال أن قلائل من هؤلاء المخرجين الشباب لديهم الكثير من الإهتمام بما قاله الناقد فيليب كوكر فى كتاب "سينما العزلة" " حيث يُرحب ألتمان بالسرد المفتوح للعب بعناصره الثانوية، ويرحب بالصور التى تنصرف بعيداً عن مركز الحبكة العقيم بدلاً من التعبير عنها" وفى الأفلام الحالية يعود المركز العقيم للحبكة ويتم ترتيب العناصر الثانوية عادةً فى نسيج السرد.

ولعلنا نعتقد أن الدبور الذى ظهر فى فيلم "الإنتخابات" يلعب دوراً رئيسياً فى طريقة السرد، فهو يلدغ بطل الفيلم فى عينه ويتسبب هذا فى تغيير مسار القصة، وفى فيلم " الإشراقة الخالدة لعقل بليد" فإن العناصر الفلسفية – فكرة أن شخصاً ما قد يُريد أن ينسى ألم علاقته العاطفية الماضية- هذه العناصر الفلسفية يتم سردها بحرفية خلال إكتشاف "جيم كارى"- الشخصية المحورية- أن العلاقة السابقة التى جمعته مع رجل إنمحت من ذاكرته، وأن تصميم البروفسير على محو ذاكرة كارى فيما يخص علاقته العاطفية السابقة تخدم جداً الأهداف الشخصية للبروفيسير.

ليس المقصود من هذه المحاضرة التطاول على هذه السينما، إننا فقط نبذل جهدنا فى فهم ما ترمى إليه هذه السينما، وإلى أى مدى وصلت هذه السينما، فإذا كانت نبرة هذه الأفلام تتميز بالطرافة عادة، وإذا كانت القصص تتحرك فى إتجاه نهاية واضحة نوعاً ما، عندئذ فإن الفيلم لن يحقق ما نادى به اندريه بازن من أن السينما فى أقصى أهدافها يُمكن أن تُوفر – او طبقا لنص كلمات كوكر- "إمكانية تسمح للمُشاهد أن يحصل على مجموعة من المعلومات والخبرات من خلال الصورة"

يريد المخرجون الكثير من الأشياء ليُرتبوا المعلومات بمثل هذه الطريقة التى تسمح لنبرة الفيلم أن تظل مُنسجمة وأن يكون السرد واضحاً دون الخوض فى التعقيدات: كما ان القصص غالباً تكون هى أهم ما يحرص عليه كاتب السيناريو فى هذه "الحركة" السينمائية: مثل سيناريوهات تشارلس كوفمان لفيلم "كينونة جون مالكوفيتش" وفيلم "الإشراقة الخالدة لعقل بليد".

ونتيجة لهذا فإن هذه الأفلام تكون مفهومةً عادةً من المُشاهدة الأولى لأن عين المُشاهد يتم توجيهها بدقة كما أن القصص مبنية بدقة، أما المُشاهدة الثانية لهذه الأفلام فإنها تكشف عن أكثر بكثير مما كان مُتحققاً فى المُشاهدة الأولى.



2


ولكن هذا لا يشمل كل المخرجين الأمريكيين، فبعضهم لا يعول على الصورة مطلقا، فهؤلاء المخرجون تركوا فى أفلامهم إمكانيات التأويل مفتوحة، مثل المخرج جوس فان سانت فى أفلامه "الفيل" و "جيرى" و "الأيام الأخيرة" وكذلك المخرج لارى كلارك فى أفلامه " الأطفال" و "بولى" و "كين بارك" وكذلك المخرج فنسنت جالو فى أفلامه "الجاموسة 66" و "الأرنب البنى".
 
الفيل

 فبدلاً من السرد المتسارع كما فى فيلم " الإشراقة الخالدة لعقل بليد" والأفلام التى على شاكلته، فعلى العكس تبدو هذه الأفلام كما لو كانت تقلل من أهمية القصة وذلك لخلق حيزاً أكبر للمُشاهد فى عملية المُشاهدة.
ففيلم "الفيل" لفان سانت يناقش حادثة مأساة مدرسة كولمبين من جميع جوانبها ودوافعها من خلال أثنين من تلاميذ المدرسة الذين أطلقوا النار على أعداد كبيرة من التلاميذ والمُدرسين.

ولكن الفاجعة لا تحدث إلا في القسم الأخير من الفيلم، فالمخرج جوس فان سانت يكرس معظم الفيلم لمراقبة الطريقة التي دفعت التلميذين لهذه الجريمة، من خلال لهجة غير عادية تجمع جيداً بين إحساس الإهمال الذى شعر به التلميذان، وبين التوجس من جانب المُشاهد من خلال تلاعب المخرج فى البناء الزمنى ورؤيته للحدث من وجهات نظر مختلفة.

فإذا كان المخرج "ويس أندرسون" فى فيلمه يهدف إلى التهكم على البديهيات، فإن المخرج جوس فان سانت يبحث عن القلق الغامض، فنحن نُشاهد الفيلم ونتحرى عن طبيعة حادثة ليس لها سبب واضح ولكنها تحتمل الكثير من التأويلات.

فكل إيماءة يجب ان نقرأها كإشارة الى دافع مُحتمل، فهى ليست مجرد دافع للشخصية خلال السرد ولكنها تحتمل التأويل على أنها هوس إجتماعى، فأى العناصر يمكن تجميعها لخلق موقف مثل ما حدث فى مدرسة كولمبين؟ فالحدث يجمع بين الغرابة وفى نفس الوقت يحتاج الى تحليل.

فالمخرج جوس فان سانت يبدو انه يولى أهمية لهذا الوضع المتناقض في فيلمه باستخدامه للقطة –المشهد التى تبدو كما لو انها تُحيط بالشخصيات فتتصنت عليهم احيانا واحيانا أخرى تراقبهم، فالمخرج جوس فان سانت يقدم طريقة غير معتادة لحدث سبق للمخرج مايكل مور ان تناوله بطريقة مخالفة فى فيلمه "لعبة البولينج فى كولمبين".

وفد يكون مايكل مور مُحقا فى إدانته لنظام حيازة السلاح فى الفيلم، لكن مور أراد ان يتعاطى مع الحقائق وأراد ان يُدين الطريقة السهلة التى يستطيع بمقتضاها المواطن الأمريكى ان يحصل على السلاح حتى يُفسر حادث مدرسة كولمبين.

ومن المحتمل ان جوس فان سانت يتفق مع هذا الرأى، لكن هناك أيضا مدارس عديدة فى أمريكا لم تحدث فيها مثل هذه المذبحة رغم ان إقتناء السلاح متاح بسهولة فى هذه الأماكن، وكذلك فثمة بلدان تضع قيوداً على إقتناء السلاح مثل بريطانيا ومع ذلك حدثت مآسى مماثلة مثل حادثتى هانجرفيلد ودانبلان على سبيل المثال، أما بالنسبة إلى المخرج جوس فان سانت فإن ما يهمه هو فهم ملابسات مثل هذه الحادثة قدر الإمكان.

فليس من المهم أن نشرح ما حدث ولكن أن نحاول فهم طبيعة الحالة، وهذا موقف جمالى مبدئى، وقد يكون من العبث ان نُقلل من أهمية فيلم جوس فان سانت على حساب حادثة مدرسة كولمبين، تماما مثل أفلام لارى كلارك التى لم تُرد فقط أن تفهم سلوك المراهقين من الداخل ومن الإيماءات العارضة ومن جو الإحباط، ومن الحاجة إلى عمل شيئ بالنسبة لحياة شخص ما، ولكن إنجاز هذا بطريقة عفوية وغير مُرتبة، ففيلم "الفيل" يريد ان يبحث فى كل الطرق التى من خلالها يبنى المُراهقون هوياتهم بأنفسهم.

البعض سيعتمد على الصور والبعض سيعتمد على الحياة، وقد يبدو هذا رداً وقحاً، لكنه يساعد فى شرح كل من الحتمية والصدفة فى فيلم "الفيل" كذلك يعرض فان سانت الطابع العرقى للسلوك والذى يرهص بأفعال مستقبلية، وقد يجد البعض أن العناصر بدت شديدة التوكيد (فقد تعجب بعض النقاد من مُشاهدة الصبيان لمقاطع فيلمية نازية، ولعناق المثليين أثناء الإستحمام تحت مياة الدُش) لكن ظلت مساحة كبيرة من اللعب الحر فى هذا الفيلم.



3


بعض النقاد يستخدمون مصطلح جماليات التأثير ليصف أسلوب الأفلام الأمريكية التى أصبحت عنيفة، وأيضاً الطريقة التى تُؤثر بها هذه الأفلام على الجمهور، فعلى الرغم من أن العديد من أفلام أواخر الستينات وبداية السبعينات كانت عنيفة مثل "بونى وكلايد" و"الباقة البرية" و"البرتقالة الآلية" و"كلاب القش" فالحقيقة أن العنف، أولاً، كان رعباً تعاطفياً ، وثانياً، كان مُؤئراً تكميلياً.

من المؤكد أن العديد من الأفلام أرادت أن تُحدث صدمة، وإذا فعلوا ذلك فالصدمة مجرد نصف القصة فى جماليات التأثير، ففى أفلام مثل "تى2" و"السرعة" و"تأثير عميق" و"أرماجيدون" و"جودزيلا" و"يوم الإستقلال" بدا التأثير كما لو أنه يحتل الأولولية، فالكاتب عادة يعول على مصطلح "جماليات التأثير" ومن ناحية أخرى فإن جيف كينج قد يقول أن هذا الأمر ليس لُب الموضوع.

ففى كتابه "هوليوود الجديدة" يقول (يظل البناء السردى عنصراً هاماً فى الخلطة السينمائية التى توظف "المُشاهدة" كثيراً جداً، بالإضافة إلى المؤثرات الخاصة فى هذه الأفلام) لكنه أيضاً أشار إلى أنه فى الأفلام المعاصرة (لحظات "المُشاهدة" هنا تبدو طويلة وكثيرة التكرار، وانها تُجزء السرد) 
 
آلام المسيح
وهى نفس النقطة التى أشار إليها ليام نيسون بأسى عند تناوله لفيلم " إقبال" لتوم شون (لا أعتقد أننى أستطيع أن أتعايش مع ترهات الأفلام بعد الآن) (نحن أساساً عرائس ماريونيت) فأسلوب جماليات التأثير يعتمد قليلاً على القصة والشخصيات ويولى الأهمية للتقنية: فهو يعتمد على جودة الصوت والمؤثرات الخاصة: وبأسلوب يجعل المُشاهد لا ينفعل كلية على المستوى العاطفى، كما لو أن هذا النوع من الجماليات لا يحقق الهدف منه.

وهذا قد يُساعد فى شرح فيلم "آلام المسيح" الذى بدا مثيراً للشفقة وغريباً وعديم الحياة، إنه فعلاً يبدو كفيلم من هذه الأفلام التى ظهرت، حيث يجب عليك أن تكون على خلفية بالأصل الأدبى الذى إعتمد عليه الفيلم وإلا فإن تركيزك سيتشتت.

فالأمر يبدو كما لو أن المخرج ميل جيبسون لا يريد أن يُعيد خلق القصة المسيحية لكنه أراد ان يُجبر المُشاهد على التأثر بالضرب والكدمات وأن يشعر بالسخط، ألم يكن من الأجدر أن يُسمى الفيلم "عذاب المسيح" حيث كنا نرى عذاباً أكثر من الألم؟ لكن فيلم "آلام المسيح" مجرد فيلم واحد من الأفلام المعاصرة التى بدت كما لو أنها تريد أن تُؤلم المُشاهد: مثل أفلام أخرى تراوحت فى إمتيازها ولأسباب مختلفة تماماً مثل أفلام " كازينو رويال" و"الراحل" و"ميونيخ" و"أنقذوا العريف ريان" و"نادى العراك".

بينما افلام الكوارث فى السبعينات مثل فيلم "الزلزال" و"ذروة الجحيم" كانت تحاول أن تقدم قصة شخص (ربما كانوا يبذلون كل جهدهم لكننا نعرف أنهم لن يستطيعوا إدهاشنا بمؤثراتهم الخاصة) أما أفلام مثل "تيتانيك" و"السرعة" فقد أرادا أن يجعلانا فى حالة من الضغط، وأن يجعلانا نعرف إلى أى مدى تطورت هذه السينما على مستوى التقنية بما يسمح لجماليات التأثير أن تكون فعالة، وتستطيع أن تؤثر فينا مباشرة كما لو كانت قصة تُحكى جيداً.

ربما الأمر عودة إلى البدايات الأولى للسينما، حيث قام الناس يهرولون مع إقتراب القطار ناحية شاشة السينما فى فيلم الأخوين لوميير الأول، وحيث إهتاج الناس وهربوا من السينما عندما أطلق أحد شخصيات فيلم "سرقة القطار الكبرى" النار مباشرة ناحية الشاشة، لكن هذه الأمور حدثت عندما كانت التقنية بدائية وكان المُشاهد ساذج، أما الآن فلدينا جمهور يمكن ان نصفه بانه شديد التطور، ومع ذلك فإن جودة التقنية يمكن أن تُعيد هذا الجمهور إلى نفس حالة السذاجة.

وكما أشار توم جونينج فى "كتاب السينما" أن السينما فى أيامها الأولى كان لها إبهارها، حيث كان الجمهور يُثار ويستمتع بهذه البدعة وكان يتفاجأ إلى حد الصدمة.

وبصرف النظر عن أن بدايات السينما محل جدل ونقاش، لكن من المؤكد ان للسينما تاريخ حافل، فالسينما بالطبع، وعلى طول تاريخها، كانت تلعب دائما بالعناصر التى تتعلق "بسينما الإبهار"

هل توجب على الناس أن يصرخوا أثناء مشاهتهم لفيلم "سيكو" فى بداية الستينات وان يُستثاروا ويتفاجئوا إلى حد الصدمة؟ وحتى إذا كنا نعجب بالبراعة الجمالية لفيلم "بونى وكلايد" و"الباقة البرية" ألا يتوجب علينا أن نعترف بان جزءاً من إبهارهما يكمن فى شكلهما؟ لكننا يمكن أن نجيب بنعم، فهذا جزء من إبهارهما، لكنه مجرد جزء، وإذا بدا فيلمى "آلام المسيح" و"يوم الإستقلال" مختلفين، فذلك لأن الفيلمين كانا يريدان أن يهمشا العناصر الأخرى للتركيز بشكل أساسى على الحيل البصرية.

فيلم "يوم الإستقلال" يقدم لنا لقطات مبهرة لإنهيار الأبنية، فيلم جيبسون كان خلاصاُ روحياً لرجل واحد، فالظاهر أن المسيح يعانى من أجل التكفير عن آثامنا، لكننا مستعدون لدحض الإستمتاع بجماليات التأثير، لاحظوا الطريقة التى تنهال بها السياط على المسيح والتى لا تختلف كثيراً عن لقطات السياط المُستخدمة فى موجة أفلام البورنو مثل فيلم "مُنشار" وفيلم "الفندق" وفيلم "وولف كريك" حيث تكتسب هذه الأفلام حيويتها إعتماداً على الألم.



4
تحدثنا مسبقاً عن التأكيد الزائد للتفاصيل فى السينما، وعلى عكس ألتمان، فإن مخرجاً مثل ألكسندر باين توجب عليه أن يعمل ما بدا كلحظات عارضة تُثبت أهمية التطور فى القصة، عندئذ لماذا نُفرط فى عمل قصة تعتمد على التأكيد الزائد كما فى فيلم "21 جرام" وفيلم " نفس المشتبه فيهم" وفيلم " خيال صرف" وفيلم "إذهب"؟

تحدثنا عن هذا الأمر سابقاً فى محاضرتى المونتاج، حيث تساءلنا فيما يتعلق بالتعقيد، هل كان فيلماً مثل "تذكار" مُعقداً أم أنه مجرد فيلماً مُركباً، وهذا سؤال وجيه نسأله الآن فيما له علاقة بالتوكيد الزائد فى السينما الروائية، ذلك الأسلوب الذى راج جداً فى العقد الأخير.

 ما لدينا هنا غالباً هو خطوط متداخلة فى السرد والتى تبدو كما لو أنها تخلق إستمرارية فكل قصة تقود إلى أخرى دون وجود رابطة واضحة بين القصص، ومع تطور الحدث تتكشف العلاقات بين هذه القصص.

بعض هذه الأفلام تستخدم مؤثراً درامياً لضرورات الحبكة مثل أفلام "نفس المشتبة فيهم" و"إذهب" و"خيال صرف" والبعض الآخر من الأفلام يستكشف الأجواء المحيطة بالأحداث مثل أفلام "تخفيضات صغيرة " و "ماجنوليا" لألتمان، وأفلام أخرى تهتم بتقديم قضية كما نرى فى فيلم "21 جرام"
نفس المشيبه فيهم
 
وهذا لا يعنى أن كل نوع من هذين النوعين مستقل عن الآخر: ففيلم "ماجنوليا" (وإستشهاداً بأحد النقاد الذى وصفه بفسيفساء من القرف) أراد أن يُقدم قضية وأيضاً أن يركز على أماكن فى لوس أنجلوس تلك التى يصور فيها الفيلم. 

 فيلم "21 جرام" كما هو واضح، أنه كان يقدم قضية أثناء تقديمه لحالة قلب تم نقله من جسم شخص إلى ِجسم شخص آخر، وهنا نرى شون بن بعد عملية القلب قد أصبح مُغرماً ب "ناعومى واتس" زوجة الرجل الثانى الذى أخذ قلبه، (أنا ألخص لكم الفيلم) فالفيلم يمتلأ بتفاصيل هامة تقودنا إلى إدراك تفاهة الحياة وأيضاً إدراك التداخل بين الحيوات.

وإذا كنا قد تجاوزنا عن إفتعالية الفيلم، فهذا يكمن فى مقدرة المخرج أليخاندرو جونزالس إيناريتو على النظر إلى أبعد من تقنية الشكل وفى جعلنا نحس أنه لا يمكنه أن يطور الموضوع بأى طريقة أخرى.

وإذا كان قد سرد فيلمه بأسلوب أفقى، فهل أحسسنا أننا نفهم الحياة فهماً كاملاً والتى لا تشبه حياتنا على الإطلاق وليست لها أية صلة بحياة الآخرين أيضاً سواء على المستوى العاطفى (حيث نرى إزدياد حب ناعومى لشون بن) أو على المستوى الجسمانى (حيث نرى شون بن يسير بقلب رجل آخر) أو على مستوى معرفة من المسؤول عن هذا (فالممثل بينيشيو ديل تورو يُمثل دور الشخص المُعذب المسؤول عن موت الزوج)؟ ومثلما تحدثنا فى المحاضرات الأولى عن الأسلوب، وكيف أن المخرج يكون أحياناً مُفتعلاُ أكثر من كونه منطقى، يحق لنا أن نقول نفس الشيئ عن السرد والمونتاج.

هل نشعر بأن المخرج عمل شيئاً ذكياً أم أنه خلق شيئاً معقداً؟ لا يجب أن نتشدد او نتسرع فى حكمنا عليه، كذلك لا توجد تحفظات على الأسلوب، لكننا ربما نسأل أنفسنا عندما يوفر المخرجون لنا سرداً غير مفهوم، هل من الأفضل أن يقدم لنا المخرج جمالية معقدة تحتاج منا أن نفك طلاسمها أم يقدم لنا أسلوباً سهلاً يجعلنا نفهم تعقيدات الحياة.



5

من المجالات التى شهدت نمواً كبيراً فى العقد الأخير هى إزدياد شعبية السينما التسجيلية، ومن الواضح أن هذه الأفلام ليست أفلاماً تقليدية، ومع ذلك حققت هذه الأفلام مكاسب ليست قليلة، أو كما عنونت مجلة "سايت أند ساوند" الموضوع على النحو التالى "إيرادات الأفلام التسجيلية أصبحت كبيرة الآن فى شباك التذاكر"

وإليكم قائمة من الأفلام التسجيلية التى ظهرت فى العقد والنصف الماضيين: "قوس الأحلام" و"نادى بوينا فيستا الإجتماعى" و"تصوير عائلة فريدمانز" و"يوم من أيام سبتمبر" و"الأيام السوداء" و"لعبة البولينج فى كولمبين" و"فهرنهايت 11/9" و"حجمى الفائق" و"إملاء"

هذه القائمة ليست مقتصرة على الأفلام الأمريكية، ففيلم "يوم من أيام سبتمبر" والذى حصل على أوسكار أحسن فيلم تسجيلى، كان فيلماً إسكتلندياً، كما أن فيلم "نادى بوينا فيستا الإجتماعى" من إخراج الألمانى فيم فيندرز، لكن الفيلمين تم إنتاجهما بأموال أمريكية، ولعلنا نتساءل، هل نجاح هذه الأفلام شيئ جيد أم سيئ؟ وهل هو شيئ إيجابى أن تراعى الأفلام التسجيلية شباك التذاكر؟ دعونا نُجيب بنعم ولا.

نعم، لأن السينما التسجيلية وعلى مدى أعوام كان يُنظر إليها على أنها مهنة مهمة ولكنها غير رابحة، حيث كان المخرجون يعتمدون على العروض التليفزيونية وعلى مشاركاتهم فى المهرجانات الغريبة.

ولا، إذا كان المقصود من هذا أن المخرجين يقلدون حرفية الفيلم الروائى ليس بحثاً عن شكل لتقديم المعلومات بل للإستفادة من عناصر التشويق كهدف أساسى.

عدد من الأفلام التى ذكرتها لتوى تستخدم حرفية التوتر، وأكثر هذه الأفلام هو فيلم "الإملاء" الذى كان يتناول نتائج إمتحان فى الإملاء، بينما فيلم "حجمى الفائق" يُبالغ فى إظهار آثار تناول وجبات مكدونالدز لمدة شهر، فلعب الفيلم على عنصر التشويق من خلال مورجان سبورلوك (مخرج الفيلم والشخص الذى يُمثل الدور) للتشكيك فى القيمة الغذائية للأطعمة السريعة.

ومن الأفلام التى تجعلنا نفكر، أن فيلم "عندما كنا ملوكاً" يذهب فى الإتجاه الخطأ، وأصبح من الأفلام المهمة فى هذا الإتجاه السلبى، هذا الفيلم تم توزيعه فى عام 1996 وأصبح هو وفيلم "قوس الأحلام" منطلقان لظهور السينما التسجيلية التجارية. لكننا لا يجب علينا أن نرفض حرفية التشويق فى حد ذاتها، ودعونا بدلاً من ذلك أن نتساءل هل جاء التشويق من طبيعة الموضوع أم أنه تم إقحامه على مادة الفيلم؟ 

فى فيلم "عندما كنا ملوكاً" أراد المخرج ليون جاست أن يعود بنا إلى لحظة إندهاش كاملة، أراد من المشاهدين أن يكونوا واعين جداً أن "محمد على" عندما دخل حلبة الملاكمة مع جورج فورمان فى عام 1074، لم يكن أحد يظن أن لمحمد على أية فرصة، فقد قدم مبارتين صعبتين مع كين نورتون، بينما فورمان سحق نورتون فى جولتين فقط، وعلق الكاتب نورمان ميللر الذى كتب كتاباً عن المباراة، على كيفية تسديد فورمان اللكمات لحقيبة التمرين وانها كانت قوية لدرجة " إن أى من هذه الضربات كانت قوية لدرجة تحطيم أضلاع أى ملاكم آخر، وأن أى واحد لا يتمتع بعضلات بطن قوية سوف يتحطم عاموده الفقرى" فورمان لاكم حقيبة التمرين 600 مرة: وتساءل ميللر هل سيفعل فورمان نفس الضرر لمحمد على. مثلما فعل لحقيبة التمرين؟ 

وإستشهاداً بما كتبه كل من ميللر وسبيك لى وجورج بليمتون وآخرين، فبينما كان الفيلم يتحرك ناحية الملاكمة إلا أنه فى نفس الوقت لم يتجاهل تضمينات أوسع، فهذه المباراة حدثت فى دولة زئير التى كانت تحت حكم ديكتاتورى فاسد، حيث يتقاتل رجلان إلى حد أن يُميت أحدهما الآخر، إن تجاهل التوتر الناتج من المباراة وكذلك ما يحيط بها قد يبدو شيئاً سخيفاً، فالمخرج جاست ضفر بمهارة عنصر التشويق بمحتوى الفيلم.

فى فيلم "حجمى الفائق" للمخرج سبورلوك، نحس دائماً بالمغالاة التى لا تُضيف شيئاً إلى مادة الفيلم، وكما حذر الأستشاريون الطبيون سبورلوك من مخاطر حميته الغذائية الجديدة، حيث بدا سبورلوك أنه يريد الحمية ليؤكد على هذه المخاطر فبالغ فيها من أجل تحقيق الهدف من فيلمه.

وأخيراً أقول أن رجلاً يأكل الكثير من البورجر لا ينتج عنه توتراً يتساوى مع رجل يدخل حلبة الملاكمة مع رجل آخر يمكن أن يحطم عاموده الفقرى بضربة واحدة: تماماً مثلما نتساءل أى إمتحان إملائى يمكن حقاً أن يبرر نوعية العناصر الملفقة فى فيلم "إملاء" التى تحاول أن تقدمه لنا.

عندما كنا ملوكاً

كل ما نستطيع أن نقوله أن السينما التسجيلية تظل وفية لموضوعها وعندئذ تكتشف الدراما المناسبة للموضوع- بدون مغالاة وأيضاً بدون نكران لدورها وقدرتها على تحرى الحقيقة فى الموضوع الذى تتناوله.