25‏/02‏/2016

مايكل هانيكه.. التلاعب بالسلبية

دراسة: تونى مكيبن
ترجمة: ممدوح شلبى
يختلف مايكل هانيكه بعض الشئ، إنه مخرج أكبر فى السن من مخرجى السينما الألمانية الجديدة – هيرتزوج وفيندرز وفاسبندر- لكن هذا المخرج المؤلف النمساوى (رغم أنه من مواليد زيوريخ) ليست له علاقة مطلقاً بسينما السبعينات، ولكنه مخرج من مخرجى الألفية حيث أخرج أول أفلامه "القارة السابعة" عام 1989، وأصبح شخصية مؤثرة فى عالم السينما من نهاية التسعينات وبداية عام 2000 بأفلام مثل "ألعاب مرحة" و "شفرة غير معروفة" و"المخفى".
ذكرت هيرتزوج ورفاقه، لأن مايكل هانيكه بالطبع يُشارك المخرجين الألمان فى اللغة، لكن أيضاً وبشكل أساسى لإنه يشاركهم اللغة السينمائية، أليس هؤلاء الألمان مخرجى السينما الألمانية الجديدة مثلهم مثل هانيكه يخرجون أفلاماً صعبة فى رؤيتها، أليسوا هم المخرجون الذين يجبرونا على الإستشكال فى الصورة بعيداً عن دلالتها المباشرة؟.
وأيضاً وبينما معظم النقاد يتفقون على أن هيرتزوج وفيندرز وفاسبندر(الذى مات صغيراً عام 1982) كانوا مخرجو حقبة السبعينات وبداية الثمانينات، وإذا بدا مايكل هانيكه مخرجاً من مخرجى الالفية فهذه ليست فقط حقيقة تاريخية ولكنها أيضاً صفة تتسم بها جمالياته السينمائية.
مايكل هانيكه لا يريد سينما مفعمة بالتأمل والتى تستدعى التشكيك فى الصورة، لكنه يهتم بكيفية أن تتوافق السينما مع عالم الصور: فبقدر ما تكون الصورة متأملة بقدر ما تكون تأملية. هذا هو الفارق الأساسى، وهذا ما جعل مايكل هانيكه مخرجاً لعصره، وهذا يوضح بعضاً من نظرته المركبة.  
فى فيلم "القارة السابعة" تقرر الشخصيات الرئيسية الثلاثة (الزوج والزوجة والإبنة) وهم فى شقتهم أن ينهوا حياتهم بمجرد أن يروا فى التليفزيون أغنية "قوة الحب" لجنيفر وارن حيث كانوا ثلاثتهم يشاهدونها بنصف إنتباه، وكانوا يجلسون فى الفراش يشاهدون التليفزيون الذى كان موضوعاً فى الجانب الآخر من الغرفة  وكان مائلاً على جانبه: موضوع مائل أكثر من مجرد صورة مائلة حيث كانت المغنية تُشيع الشجن بينما ترقد الشخصيات على ظهورها فى مواجهة الحائط.
هذه قد تكون أكثر الفروق حدة بين ما توفره الصورة التليفزيونية وبين ما ينقله الفيلم، هنا نجد هذه العائلة على حافة الإنتحار (كانوا قد كتبوا خطاباً بالفعل إلى أب وأم الزوج يعلنون فيه عن نيتهم فى الإنتحار) وكانوا قد فككوا ونقلوا معظم محتويات الشقة من أثاث، وأغنية جنيفر وارن تعبر بعبثية عن الشجن الذى يصوغ محتوى المشهد.
هذه لم تكن الموسيقى فى آذانهم، ولكنه كان ورق الحائط الذى فى مجال نظرهم، حيث الشخصيات تبدو سلبية بينما جنيفر وارن تبدو نشيطة، إنه فعل الإستلاب كما يصفه روبرت فوللر: الحماسة فى الإحساس خارج الشخص نفسه، حتى أن الآخرين يمكن أن تتملكهم الأحاسيس التى عندنا مثل الضحك المُسجل فى بعض الكوميديات التليفزيونية الذى يُعتبر مثالاً نموذجياً.
وبينما تغنى وارن عن قوة الحب، تبدو العائلة وكانهم بلا مشاعر، فالأغنية لا تتشارك الإحساس مطلقاً مع الشخصيات، لكنها تُعبر عنهم.
يبدو الفيلم كما لو أنه بُنى على سلسلة من المجازات الإستلابية، بينما الشخصيات مُحاصرة خارج إحاسيسهم، والأشياء المتوفرة يجب أن تتحدث نيابة عنهم بدلاً من أن تتحدث لهم.
فى مشهد من الفيلم يأتى مبكراً جداً، يحضر شقيق الزوجة لتناول العشاء وتطفر منه الدموع بينما نستمع من خلال الراديو فى الخلفية إلى أغنية من أغانى البوب. الدموع الحقيقية تؤدى إلى إغلاق الراديو خارج الكادر، بينما الأخت تعبر عن مواساتها فى لحظة نادرة والتى تتخلل الإستلاب.
ومع ذلك فثمة أسئلة متنوعة تخص إشكالية الإستلاب التى شغلت مايكل هانيكه فى فيلم "القارة السابعة" وفى معظم أفلامه الأخرى أيضاً.
جزء من عدم رغبته فى شرح دلالة العمل يكمن فى قلقه من أن المُشاهد سينتهى به الحال إلى قبول تفسير المخرج بطريقة إستلابية، أو أن يجد الجواب فى تصريحاته. ومتحدثاً عن فيلم "المخفى" قال لصحفى الجارديان جاسون سولومونس "لن أعطى لأى شخص هذا الجواب".
إذا كنت تعتقد أن الجواب هو ماجد أو بيرو أو جورج أو المخرج أو الله نفسه أو الضمير الإنسانى – كل هذه الإجابات صحيحة، لكنك إذا إنتهيت إلى الرغبة فى معرفة من الذى أرسل أشرطة التسجيل، فإنك لن تفهم الفيلم.
ولكى تسأل هذا السؤال فهذا معناه إنك تتجنب السؤال الحقيقى الذى يُثيره الفيلم، والذى هو أكثر من مجرد : كيف نُعالج  ضميرنا وإثمنا ونُكيف أنفسنا للتعايش مع أفعالنا؟
إنه يتوقع منا أن نسأل الأسئلة التى تفصح عن الإستلاب، ولكنها الأسئلة التى تُولد بدلاً من ذلك مُشاهداً يتفاعل مع يراه.
وهنا تكمن نظرة مايكل هانيكه القاسية نوعاً ما: النظرة التى لا تريد تشكيل المادة حتى يمكن إستخلاص معنى يمكن تقديمه، ولكن بدلاً من ذلك من خلال شئ لابد أن يُرى.
هدفنا هنا الآن ليس أن نُدافع بقوة كبيرة عن هذا الوضع، والذى يظن بعض النُقاد أنه يأتى من خلال مستوى عالى من التفكير والأفكار التى تحمل معناً مزدوجاً، مع ما يضعه هانيكه من سرد تقليدى، فهو يفعل ذلك فقط لكى يستطيع أن يُعارضه عندما يشعر أن السرد التقليدى لم يعد مناسباً لما يهدف إليه. - مثل الأشرطة التى ترسل فى فيلم "المخفى" ومثل الدخلاء فى فيلم "ألعاب مرحة"
وكما تقول كاثرين ويتلى فى "سينما مايكل هانيكه : أخلاقيات الصورة" ... " ومن بين النقاد مارك كيرمود من مجلة "سايت أند ساوند" والناقد جى هوبرمان، أشارا إلى التناقض بين أهداف مايكل هانيكه المُعلنة وبين جمالياته السينمائية.
فيلم "ألعاب مرحة" يعتمد بقوة على أبنية تعميمية عندما نُحللها فإنها تقود إلى إتهام المخرج  بإزدواجية المعنى."
إنه بدلاً من ذلك يركز بشكل أساسى على قسوة رؤيته فيما لها علاقة بالحاجة إلى تقويض الإستلاب، ثمة دليل على ذلك فى مشهد من فيلم "ألعاب مرحة" حيث يبدو الأمر كما لو أن العائلة تنتقم، فالفيلم يعيد لقطات ويكشف أن السينما يمكن ان تخلق قصصاً على أمل الخروج من مواقف تلمح إلى اليأس (مثلما يتصادف حدوثه مع الدخلاء فى الأفلام التى تدور أحداثها فى داخل المنازل)، وعلى هذا النحو يستطيع مايكل هانيكه أن يقول بما أننا نشاهد فيلماً من صنع الخيال، فإن الموضوع المصنوع يمكن ان يتحول ضد المُشاهد أيضاً وليس فقط القصة. 
القسوة هنا تكمن فى التلاعب بالمُشاهد بطريقة سلبية (عبر سيطرة التشاؤم على التفائل)، ولكن ليس فقط عبر السرد، وليس فقط عبر الشكل الفنى أيضاً.
يقول مايكل هانيكه أننا نستطيع توقع الأسوأ ضمن القصة ومن خالق القصة أيضاً.
لا يلعب مايكل هانيكه دور الرب مع الجمهور كما كان يفعل ألفريد هيتشكوك، ولكنه بدلاً من ذلك يلعب دور الشيطان بطريقة ما : فالجنى المُعاند هنا يمكن وصفه بأنه ضمير مخرج سينمائى يصحح الوعى الزائف لسينما التوقعات.
إذا توقع شخص أن المجاز فى شخصية الدخيل فى أفلام المنازل ( مثل فيلم "المُختبئ فى المنزل"، وفيلم " كاب فير"، وفيلم "اليد التى تهز المهد") تتطلب عادة صرف الدخلاء، عندئذ ماذا يحدث إذا كان الفيلم على العكس من ذلك يصرف الذبن هم فى المنزل، والفيلم يفعل ذلك بتعمد حتى أن المخرج لن يساعد المُشاهد فى شئ؟ فالأمر ليس مجرد أن الموضوع ينتهى بدون أمل، ولكن أن الفيلم يُنكر بصورة مُتعمدة أن يكون الأمل فى الشكل الفنى.
إذا كان مايكل هانيكه أخرج فيلماً يتأمل فى المشكلة المتعلقة بنوعية أفلام الدخلاء، عندئذ فهذا شئ، لكن لكى تتأمله خلال الشكل الفنى للإنعكاس الذاتى فهذا شئ آخر.
فالمخرج الألمانى فاسبندر على سبيل المثال كان مخرجاً للإنعكاس الذاتى، وكان غالباً يستخدم إطارات الأبواب لكى يوحى بإطارات داخل إطارات، وكثيراً ما وظف أعمال دوجلاس سيرك لعمل أفلام ميلودرامية والتى وفى نفس الوقت تتضمن نقداً إجتماعياً حاداً داخل القصة.
وأيضاً وبينما كان فاسبندر يُتيح حيزاً للسلبية كما لو أنه يستكشف طرقاً يمكن بمقتداها أن ينكر إستلاب المشاهدين الذين لن يسألوا أسئلة عن الأفلام نفسها، أما مايكل هانيكه فهو يطلب التفاعل من جانب الجمهور.
إذا نحن تساءلنا إذا ما كان مخرجو الستينات والسبعينات العظماء ( إبتداءاً من الإسماء المُشار إليها سابقاً إلى بيرجمان وأنطونيونى وبونويل) خاطروا وصعنوا أفلاماً مفعمة بالملل – لعلى أتذكر الإسم الذى إلتصق بأنطونيونى، فقد أسموه أنتونى المُمل – فإن هانيكه، مثله مثل المخرجين الحداثيين الجُدد ، لارس فون تريير وجاسبر نوه وبرونو دومونت وكارلوس ريجاداس – يتميز بأنه مُفعم بالغضب.
إذا كان الحداثيون العظماء فى السينما يخاطرون بتحييد المُشاهدين، فالحداثيون الجدد يُولدون الصرع: الجسم لا يُبطئ الخطى، ولكن يُتوقع منه أن يزيد السرعة: ليشعر بالمخاطرة بدلاً من الراحة.
عندما قال مايكل هانيكة فى مقالة فى مجلة "سايت أند ساود" بعنوان "الإستبصار وليس البصر" أنا " قد أتماهى فقط فى الحديث عن تفليم الصور كفن إذا كانت الصور تحتوى على تلك العمليات من  الإنعكاس الذاتى البحت ( والتى تمتلك فى كل أشكال الفنون أشكالاً من الحداثية لا غنى عنها) " ،
يحق لنا أن نتسائل كيف يقدم الجيل الأحدث هذا الوعى الذاتى بطريقة مختلفة عن المخرجين الأوائل، توجد بالطبع صوراً صادمة فى أفلام المخرجين المؤلفين الذين نوهنا عنهم.
الفقرة الإفتتاحية من فيلم "برسونا"، ومُقلة العين فى فيلم "كلب أندلسى" لبونويل، ومشهد السلخانة فى فيلم "سنة الأقمار الثلاثة عشر" وحتى المشاهد الجنسية فى فيلم "تشخيص إمرأة" بصرف النظر عن أن هذه المشاهد تقع فى سياق آخر. فإن فيلم "ألعاب مرحة" وفيلم "المسيح – الضد" وفيلم "لا رجعة فيه" وفيلم "معركة فى السماء" وفيلم "النخلات الواحدة والعشرين"، فهذه الأفلام تتضمن إمكانية سخط المشاهدين وخروجه من صالة السينما قبل نهاية هذه الأفلام: هذا السخط جوهرى فى هذه الأفلام. وكما أشار الكاتب بن كينجزبرج " أخبر هانيكه الصحفيين أن المشاهدين الذين يمكن لهم أن يتعلموا من فيلم "ألعاب مرحة" سيظلون فى صالة السينما حتى نهاية الفيلم، والذين لا يحتاجون إلى التعلم فسوف يخرجون"
هذا الأمر يبدو سمة أساسية فى أفلام ريجاداس ونوه وآخرين، ألم يُصر نوه على تقديم ثلاثين ثانية من التحذير للجمهور قرب نهاية فيلم (Seul contre tous) ليعطيهم الفرصة ليخرجوا من صالة العرض؟
المخرجون المعاصرون يميلون إلى محاولة إكتشاف مكاناً بين تفاعلية وسائل الميديا المتداخلة والإنعكاس الذاتى للفنون العظيمة الذى يستحضره هانيكه، والإستلاب الذى يُصر على إنه محورى لمعظم السينما السائدة.
وكما قال مايكل هانيكه فيما له صلة بالإستلاب فى مقطع فى مجلة (Senses of Cinema) "أفلامى يمكن إعتبارها خطابات جدلية ضد السينما الأمريكية الفارغة وضد تسطيحها للمشاهدين، فأفلامى عبارة عن إستحضار لسينما تتضمن أسئلة مُلحة بدلاً من الإجابات الزائفة، من أجل إستجلاء مكان لفرض الحميمية، ومن أجل الإستفزاز والتحاور بدلاً من إستبدال الأحاسيس".
السينما السائدة ضمن هذا السياق تريد أن تستنفر الإحساس وتستبدله، ويشرح سلافوى زيزيك أفكار فوللر جيداً فى مقالته التى تحمل عنوان " الموضوع السلبى" حيث كتب ما يلى "فى بعض المجتمعات يُلعب نفس دور السلبية بواسطة ما يُسمى النادبات (وهن النسوة اللائى يُستأجرن للبكاء فى الجنازات): أنهن يؤدين مشهد المواساة لأقارب المتوفى، الذين يكرسون وقتهم لأفعال أكثر فائدة (مثل النظر فى كيفية تقسيم الميراث).
ونفس الحال فى العلب الدوارة فى الصلاة عند شعب التبت، أنا أضع قطعة من الورق المكتوب فيها شيئ ما داخل العلبة الدوارة، فتديرها تلقائياً ( أو ربما بطريقة عملية أكثر، دع الرياح تدير الدوارة) وعندئذ فالعلبة الدوارة تُصلى من أجلى...." ويُضيف زيزيك "ولتبديد الوهم الذى لا يحدث إلا فى مثل هذه المجتمعات البدائية، دعونا نفكر فى الضحك المُسجل فى شاشة التليفزيون... فحتى إذا لم أضحك، ولم أكن أفعل سوى البحلقة فى شاشة التليفزيون بعد يوم عمل شاق، فسوف أشعر بالإرتياح بعد مشاهدة العرض التليفزيونى، كما لو أن التليفزيون يضحك نيابة عنى".
هذه هى مشكلة مايكل هانيكه مع السينما السائدة، لكن السينما البديلة لا تخلو هى أيضاً من صعوبة، فالتفاعل مع ألعاب الكومبيوتر تترك المُشاهد غير مُستلباً ولكن متفاعلاً، ولكن أليس هذا مجرد إحساس زائف بالسيادة؟.
فى لعبة الفيديو قد نُسيطر على عالم إفتراضى، ولكن هل يعرفنا ذلك بواقعنا فيما وراء المجال الإفتراضى؟ إذا إفترضت هوليوود علاقة مع العالم الحقيقى الذى تتفاوض معه بإستلابية من أجلنا، عندئذ فإن لعبة الفيديو يمكن لها أن تمنحنا الفرصة لتصويب الرصاص على الأشرار، لكنها تخلق حيزاً لعلاقة أخلاقية مع الصورة. سواء على مستوى التفاعل أو الإستلاب، أين هو الفهم الأوسع بالمسؤولية؟
لسنا هنا بصدد تحليل ألعاب الفيديو، ولكننا نستشهد بها لمجرد التلميح إلى أن الإنخراط بفاعلية هو مجرد مهرب من الإستلاب الذى ينشده مايكل هانيكه. فالذى يميل إلى البحث عنه هو الفاعلية الذهنية، وهو يصر على أن الإنسان يمتلك علاقة تفاعلية ذهنية.
المشكلة مع لعبة الفيديو هنا، هى أنها تتوقع منا أن ننخرط فى إعادة رسم الميزانسين، أن نكون جزءاً من العالم المعروض، حيث نتغلب على الأشرار، ونهجم على جدران الجحيم، ونقفز عبر النيران، لكن قضية المعنى من هذا كله ليست فى الحسبان.
فنحن لا نعرف لماذا نطيح بشخص يعترض طريقنا، ولماذا نتسلق الحائط، أنها أفعال برجماتية.
الشرير والحائط عقبات، لكن فى أفلام مايكل هانيكه، فهو يريد الشخص أن يكون أخلاقياً ومحايداً، وبمقدار مشاركة الشخص بنشاط فى المهارة الحركية يكون نشاطه ممائلاً فى لعبة الفيديو. إنه مكان بين إستلاب الضحك المُسجل الذى يعنى أننا لا يجب علينا أن نضحك لأن الجمهور يفعل ذلك نيابة عنا، ولعبة الفيديو التى تُصر على اننا لابد أن نزج بأنفسنا فى التجربة الحركية الحسية، لكننا لا نفكر كثيراً فى التبعات الأخلاقية التى تترتب على أفعالنا.
ما هى الأمثلة التى نقدمها لهذا النشاط، فهذا الفهم عندما نشاهد فيلماً لمايكل هانيكه حيث علاقتنا بالمعرفة والأخلاق ليستا محل ماقشة، ولكنهما محل فعل: حيث من المتوقع بالنسبة لنا أن ننخرط فى عملية من فهم المعنى والوصول إلى إستنتاجات أولية فقط؟
ربما من المفيد مؤقتاً أن نقسم هذا النشاط إلى ثلاثة تصنيفات: العنف، والشخصى، والمجتمعى، على الرغم من أن الثلاثة يتداخلون معاً غالباً.
أمثلة العنف تشمل مشهد من فيلم "فيديو بينى" حيث الشخصية المحورية الشابة تطلق الرصاص على مراهق وترديه قتيلاً، واللحظة الموجودة فى فيلم "المخفى" حيث الأخ غير الشقيق لجورج يجز رقبته، ومثل طعنة السكين فى نهاية فيلم "مُعلمة البيانو"، وعندما يخنق جورج زوجته فى فيلم "آمور"، ومثل ثورة القاتل فى نهاية الأجزاء الواحدة والسبعين من فيلم "وقائع فُرصة" وبالطبع، العائلة المقتولة فى فيلم "ألعاب مرحة".
فى فيلم "فيديو بينى" وفى المشهد الذى يقتل فيه الفتاة، فمعظم الحدث يتم خارج الكادر، وبعد إصابتها بالرصاص فى المعدة بالبندقية، فإنها تسقط على الأرض والفيلم يكشف عن باقى الفقرة على شاشة فى الغرفة، بينما الكاميرا تركز على ما سجلته كاميرا الفيديو، والحدث كله تقريباً كان خارج الكادر، فمايكل هانيكه يركز بصورة أساسية على صوت صراخ الفتاة، طريقة الإستلاب فى مثل هذا المشهد قد تحتوى بداخلها على بُعد من أبعاد الحركة الحسية.
تسهم الموسيقى فى حالة التخدير للفتاة التى ربما تشعر بأنها تحاول أن تهرب بعد أصابتها بالطلق النارى، والصورة ربما تشير إلى الطرق التى بمقتداها تستطيع الهرب: قطع مونتاجى إلى الباب، وإلى السلاح الذى من الممكن أن تصوبه على قاتلها. وبدلاً من ذلك يُجبر مايكل هانيكه المُشاهد على السلبية بهدف توليد أسئلة أخلاقية، بينما نستمع إلى صوت ألمها، ونرى بعضاً مما تعرضه الشاشة البيضاء.
هناك ثمة تشابهاً هنا مع مشهد من فيلم "ألعاب مرحة" حيث يُردى إبن الزوجين قتيلاً برصاص القتلة، أما نحن فإننا نُركز على الدم الذى يملأ شاشة التليفزيون كلها بينما يستمر سباق الجائزة الكبرى "الجراند بريكس" بدون إكتراث.
فى كلى الفيلمين، يدفع مايكل هانيكه الجمهور بعيداً عن المُشاهدة الإستلابية، ويجعله يُشاهد بعقلية أخلاقية لا تصدر عنها أسئلة عما نشاهده فقط، ولكن لماذا نختار ان نشاهد ما نراه.
إذا كان هناك ثمة ملمح من أفلام لأنطونيونى وجودار وجانكسو حيث نتسائل عما نشاهده، فإننا ربما لا يجب علينا أن نسأل لماذا نشاهد ما نشاهده.
عندما علق جودار اللقطة طويلاً على جين سيبرج والممثل جان بول بلموندو الراقدين على السرير فى فيلم "على آخر نفس"، وعندما عرض جانسكو النشاطات الطقسية فى فيلم "المزمور الأحمر"، وعندما عرض مايكل أنجلو أنطونيونى الشخصية المحورية فى فيلم (La notte) وهو يتجول فى الشوارع.
وهذا الأمر ربما دفع مخرجاً مثل بيير باولو بازولينى فى فيلم " Salo " أن يسأل هذا النوع من الأسئلة، وثمة افلام قليلة منذئذ قدمت هذا الأمر ، فماذا يتوجب على الجمهور أن يفعله، هل يتوجب عليه أن يظل فى مكانه أم ينهض ويغادر، وهذه الحالة كانت أكثر وضوحاً فى آخر أفلام المخرج الإيطالى بازولينى.
وكما أقر مايكل هانيكه فى جريدة دير شبيجل "إنظر، فيلم " Salo " أو "120 يوماً لسادوم" لبيير باول بازولينى، والذى تعاطى مع الشذوذ الجنسى فى إيطاليا الفاشية، هذا الفيلم أخافنى كثيراً وظللت مريضاً بسببه لمدة 14 يوماً، ونسيته تماماً، وإلى اليوم لا أملك الشجاعة لكى أشاهده مرة أخرى، فلن أنظر مرة أخرى مطلقاً إلى مثل هذه التردى السحيق والذى لم أتعلم منه كثيراً".
سبب واحد يتعلق بلماذا نسأل سؤال "ماذا" فى العديد من الأفلام الفنية وهو لأن الفيلم يهمل تطور القصة من أجل أشياء أخرى: بالنسبة لنقد التاريخ، فإن الحديث عن الحضارة إنما هو إستكشاف للحميمية.
يمكن أن نجد أنفسنا فى حالة ملل بسبب الحياد، ولكننا لا نتواجه من الناحية الأخلاقية، يريد مايكل هانيكه التصدى الأخلاقى بتوظيف عناصر من التحرر الجمالى الذى إخناره جودار وأنطونيونى وجانسكو، ولكن فى إتجاه تصور متطرف والذى يجعل منه أكثر صعوبة حيث لا يتبع الفيلم القصة ولكن الفيلم يجعلنا فى مواجهة مع إستلابنا فى المقام الأول.
المرحلة الثانية من الإهتمام بالفاعلية الذهنية، حيث يلغى مايكل هانيكه السياق الذى تُجبر سينما أخرى على تقديمه.
نحن لا نعرف كثيراً عن ماضى الشخصين القاتلين فى فيلم "ألعاب مرحة" ولا نعرف شيئاً عن ماضى إريكا فيما يتعلق بالحب والإحباطات العاطفية فى فيلم "مُعلمة البيانو"، ولا نعرف على وجه الدقة وظيفة الزوج فى فيلم "آمور" ، ولماذا تُغير "آن" الرقم السرى فى نهاية فيلم "شفرة غير معروفة"
هناك أفعال واضحة ولكن لا توجد دوافع واضحة، القاتلان فى فيلم "ألعاب مرحة" سيقتلان الأسرة لكننا لن نعرف أسباب ذلك، تماماً مثل إريكا التى ستُصبح مهوسة بوالتر فى فيلم "معلمة البيانو" لكننا لا نعرف إن كانت هذه هى أول مرة بالنسبة لها، أم هى حالة مُكررة، فرواية "معلمة البيانو" التى كتبها ألفريدى جلينكه، تتحدث مبكراً عما حدث لها " مع بائع حاول أن ينال منها فى مقهى"، "وطالب شاب فى كلية الحقوق، ومُعلم شاب فى مدرسة"، بينما فى الفيلم فهى تظل إمرأة خام من الناحية الجنسية.
هذا أتاح الطزاجة: فنحن كمشاهدين تفكرنا فيما وراء الدافع دون ان نفترض أننا نعرف على وجه اليقين من أين تأتى الأفعال.
فى فيلم "آمور" عندما يتحول الزوج بحدة ناحية زوجته بينما كانت تتطلع إلى ألبوم صور، هل كنا نتساءل لماذا بدت سعيدة بماضيها ولماذا بدا الزوج غير ذلك؟
قد يدعى البعض أن هذا هو مايكل هانيكه الذى يعنى كثيراً بالشخصية، ولكن هذا مفيد جداً لرؤية ولع المخرج بالمساحة الممنوحة للشخصية من اجل إستثمار التأويل.
وعندما تحصر الكاميرا وجه إريكا بينما والتر يؤدى إختباره فى فيلم "مُعلمة البيانو"، أو بعد ذلك عندما تبدو مُنهارة عندما ترى رد فعل والتر وإحدى التلميذات وهما ينظران لبعضهما بعضاً، حيث تذهب إريكا وتضع زجاجاً مكسوراً فى جيب معطف الفتاة، هذا هو ولع المخرج بالشخصية، ولو كان مخرجاً آخر لوظف صوتاً من خارج الكادر ليعبر عما يدور فى عقل إريكا.
الفرق هنا أن مايكل هانيكه يبحث عن التعاطف من خلال حركات جسم إريكا، بينما المخرج الآخر فسوف يبحث عن التعاطف من خلال عقل الشخصية.
يُثبت هانيكه الكاميرا على إريكا فى هذا المثال أكثر من اللازم، كما لو أن السينما نفسها لديها رؤيتها الخاصة عن المعايير الإجتماعية والتى من القسوة أن تتشارك فيها مع شخص لأكثر من ثانيتين.
لكن مايكل هانيكه ليس لديه إهتمام بمثل هذه المعايير السينمائية الإجتماعية فهو يتيح لنا أن نفكر أبعد مما يحدث فى عقل إريكا، دون أن يوفر لنا ماضى القصة أو الصوت من خارج الكادر أو دون أن نعرف الدوافع الواضحة لأفعالها الأخيرة.
سواء كانت مُشاهدة إريكا فى فيلم "مُعلمة البيانو" أو عودة جورج لمنزله قرب نهاية فيلم "المخفى" وتناوله لأقراص مُنومة، وإتصاله التليفونى مع زوجته والدخول فى السرير، فالفيلم يفحص الشخصية من الخارج، لكنه فحص على أيه حال، فى فقرة من فيلم "المخفى" يوفر الفيلم ثلاثين ثانية فى تصوير لقطة لجورج وهو فى المطبخ، ولقطة طويلة له مُدتها دقيقة وهو يتحدث قى تليفون غرفة المعيشة، وحوالى 40 ثانية وهو يُسدل الستارة ويأوى إلى الفراش.
نحن هنا قد نتسائل عما يدور فى عقل هذا الرجل، ومايكل هانيكه يُصور الفقرة ليخلق ذلك الإحساس بالتحرى.
إذا إستمر مايكل هانيكه فى القطع المونتاجى من شيئ لأخر، من جورج وهو يتناول الأقراص المُنومة إلى تجرعه الماء من الصنبور، إلى ذهابة لغرفة المعيشة وإلتقاطه للتليفون، إلى تصويره فى لقطة مٌقربة وهو يتحدث فى التليفون، فالحدث قد يبدو أكثر أهمية من التحرى.
فى أفلام مايكل هانيكه نجده لا يهتم بأن نعرف أفكار الشخصية، لكنه يهتم بأن نستعرف عنها
غالباً.
وكان الإختلاف الذى أوردته سابقاً بين الإستعراف والمعرفة يأتى عبر تراكم بطيئ للتفاصل حيث يتحول الإستعراف إلى معرفة، بينما يحتوى الحدث على ما يمكن أن يكون معروفاً فى الإستعراف حيث يقطع الفيلم مونتاجياً بنفس مفردات السينما التقليدية فيما يتعلق باللقطات الـتأسيسية ولقطات الكلوس أب لكى يعكس هذا الأمر.
نحن لسنا فى وضع مائل أو على مسافة مما يحدث، بل نحن فى وضع مواجهة ومعاصرة، وكذلك فالشكل الفنى لا يجعل السلوك محل شك: إنه يعكس السلوك.
إنها بالطبع الحالة التى يمنحها لنا مايكل هانيكه بطريقة مُركبة أو من خلال شخصيات دوافعها غريبة، مثل (القتلة فى فيلم "ألعاب مرحة" وجورج فى فيلم "أمور") لكنه مُعتاد أكثر على منحنا مواقفاً مُعقدة سينمائياً، فللقطة الختامية فى فيلم "المخفى" والتى تكشف عن صبيين يتحدثان، ربما تجعلنا نتسائل عما يتحدثان عنه، لكن وفى القلب من هذه التركيبية نجد الإستعراف يتم:
يجب علينا أن نستخرج الإجابة من الإزدحام داخل كادر مزدحم، ولأن المعرفة تظل على مسافة عظيمة منا، ونحن لسنا على إطلاع بما يتحدثان عنه.
وهنا للمرة الثانية لا يكون الأمر إفتقاداً بالإهتمام بالشخصية، ولكن ثمة مطلب أننا نستعرف عن طبيعة ما يحدث عبر الكادر الذى يقدمه مايكل هانيكه والذى يبحث عن فهم عاطفى لكنه ليس إحساساً تشاركياً بسيطاً.
أما العنصر الثالث فى التفاعل الذهنى فهو يكمن فى الإجتماعية السياسية، عندما قال مايكل هانيكه "نحن نسجن أنفسنا لنحمى ما نحن فيه من عز، الشخصيات الرئيسية فى فيلم "ألعاب مرحة" مسجونون فى عوالمهم، وفى النهاية لا يقدرون على تجاوز الأسوار الدفاعية التى صنعوها حتى لا يستطيع الدخلاء الدخول إلى أملاكهم" (من جريدة دير شبيجيل).
هذا مثال على هذه الحاجة إلى دراسة الطبيعة الإجتماعية السياسية للظروف التى تُحيط بالشخصيات"
ويقول عن فيلم "شفرة غير معروفة" " فى الوقت الذى إنتقلت فيه العصور القديمة إلى العصور الوسطى ظهرت الهجرة بين الأمم. الآن هناك هجرة من نوع جديد والتى من الواضح أنها مختلفة فى الأسباب إجمالاً، لكن السبب الرئيسى للهجرة إقتصادى، سواء حالياً أو فى الماضى، والفجوة بين الأغنياء والفقراء، وسئم الكثير من الناس من ذلك، لكن لا توجد طريقة لتفادى هذا الوضع" ( من إنساوسيزم).
فى فيلم "شفرة غير معروفة" يتخذ مفهوم الفقر شكل إمرأة مُشردة، إنها ماريا القادمة من رومانيا وتشحذ فى شوارع باريس، بينما الثراء يتم التعبير عنه من خلال شخصية آن التى مثلتها جولييت بينوش، لكن كل منهما تعانى من الظرف الإجتماعى السياسى: ستُعاد ماريا إلى وطنها بعد موقف حدث فى الشارع، بينما آن سيتم الإعتداء والبصق عليها فى المترو.
وكما فى فيلم "المخفى" وفيلم "آمور" وفيلم "زمن الذئب" هناك توترات مصدرها الصراع العنصرى أو العرقى أو الإجتماعى، فى فيلم "المخفى" هناك لحظة يتشاجر فيها جورج مع راكب دراجة أسود البشرة: بينما فى فيلم "أمور" فإن الشجار بين جورج والممرضة قد يكون مصدره عدم إكتراثها بآن، أما الأمر بالنسبة له فيحتوى على رضاه كونه قادراً على الإستغناء عنها.
فى بداية فيلم "زمن الذثب" يُقتل زوج آن عندما تأتى عائلة جائعة للحصول على حاجاتها من الطعام فى عالم على شفا النهاية حيث مازال التمييز الإجتماعى قائماً، آن وجورج برجوازيان بصورة واضحة بينما العائلة الأخرى من الواضح أنهم ليسوا برجوازيين. 
النقد الإجتماعى السياسى عند مايكل هانيكه ليس نقداً حزبياً "أفلامى لم تدافع مطلقاً على أى أراء لأى حزب سياسى" ( من إنساوسيزم).
فهو على العكس من المخرجين المهمين الآخرين مثل جان لوك جودار إثناء المرحلة التى تبنى فيها الإشتراكية الماوية، وعلى عكس إيزنشتين الذى تبنى الإشتراكية السوفيتية فى أفلامه فى العشرينات، أو النهج الإشتراكى الذى تبناه كين لوتش فى معظم أعماله.
وهذا ليس معناه أننا نضع مايكل هانيكه فى مواجهة مع إثنين من أساتذة السينما ومع مخرج رائع مثل لوتش، لكننا نحاول أن نتفهم إهتمامات مايكل هانيكه السياسية، إنه عادة ما يُخرج موقفاً يحتوى بداخله على إمكانية الإختلاف فى وجهات النظر، بهدف إظهار الصعوبة فى التأقلم. 
وبشكل عام سنجد أنفسنا منحازين إلى راكب الدراجة الأسود فى فيلم "المخفى"، وسننجاز إلى آن فى فيلم "شفرة غير معروفة" وسننحاز إلى جورج فى فيلم "آمور" وسننحاز إلى عائلة آن فى فيلم "زمن الذئب" لكن مايكل هانيكه لا يبدو عليه أنه يريد منا أن ننحاز بهذه الطريقة الحادة، فهناك دائماً بُعداً إجتماعياً سياسياً داخل الصراع الذى يعنى أننا لا نستطيع بسهولة أن ننحاز إلى أحد الشخصيات، ولكن يجب علينا أن نجد فى موقفنا الأخلاقى موقفاً سياسياً أيضاً.
ما هى القوى الفاعلة فى الفيلم، وكيف نتعاطى مع هذه القوى فى حياتنا الشخصية؟. ربما يكون جورج على حق فى فيلم "المخفى" عندما يتذمر من شخص يسوق دراجته بسرعة كبيرة عكس الإتجاه فى شارع ذى إتجاه واحد، لكن إنفعاله كان عنيفاً وقاسياً، إنه الصوت الذى يعبر عن رجل نراه يمارس هذا الشعور منذ أن كان طفلاً.
كذلك نحن نتعاطف مع آن بسبب الإعتداء عليها فى المترو فى فيلم "شفرة غير معروفة"، فالإعتداء يصدر عن شابين عربيين، واللذان ربما لديهما أوجاعهما، لكننا من الصعب علينا أن نولى أهمية لأوجاعهما، فهما ربما فعلا ذلك لأنها كانت أكثر الركاب برجوازية فى عربة المترو، لعل مايكل هانيكه كان يراوغنا على مستوى الإحساس فى مشاهد كهذه، حتى أننا لا نُسقط تصوراتنا الإجتماعية السياسية مطلقاً على ما نراه، فيجب علينا ان نتعامل مع المستجدات.
وعلى هذا النحو، توجد ثلاثة مساحات فى حرية التأويل يمكن أن نستشفها فى أفلام مايكل هانيكه، وهم، العنف والشخصى والإجتماعى السياسى، فى مثل هذه التصنيفات الثلاثة، نستطيع أن نهرب من الإستلاب ليس عبر التفاعل بالطبع، ولكن عبر العمل الذهنى مع عناصر الفيلم المعقدة والمستشكلة.
بعض المشكلات التى يتصف بها مايكل هانيكه بالطبع هى إستحضار جماليات بعض أفلام المخرجين الألمان الجدد.
الإهتمام بالزمن الضعيف الذى يوظفه مايكل هانيكه كما أشرنا من قبل فى مشهد جورج وهو يستعد للذهاب للسرير، ألا نجد مثل هذا الأسلوب فى فيلم "ملوك الطريق" وفيلم "أليس فى المدن" لفاسبندر، فهذه التفاصيل عن حياتنا اليومية المعتادة نراه فى الشخصية الرئيسية وهو يحلق ذقنه فى فيلم "ملوك الطريق" ونراه فى الشخصية المحورية فى فيلم "أليس فى المدن" حيث تشاهد التليفزيون.
قضية النقد الإجتماعى سمة مميزة لمعظم أفلام فاسبندر.
تشعر إيمى بالإحراج عندما تضعف أمام قائمة الطعام فى مطعم هتلر السابق فى فيلم "الخوف يأكل الروح"، وإصرار الأم على عدم قبول إبنها لوظيفة ميكانيكى فى فيلم "تاجر للمواسم الأربعة"، إنهما مثالان يمكن أن نجدهما فى أفلام مايكل هانيكه، على الرغم من أن قضية الحالة الإجتماعية قد تكون مُوظفة بشكل مختلف.
النظرة الحيادية فى طريقة مايكل هانيكه تجعلنا نفكر فى هيرتزوج، رغم أن المخرج "أولريتش سيدى" النمساوى يبدو أكثر شبهاً بهيرتزوج من هانيكه.
ومع ذلك هناك لحظات نرى فيها حمامة فى فيلم "آمور"، ونرى ديكاً فى فيلم "المخفى" ونرى خنزيراً فى فيلم "فيديو بينى" وهى من العناصر التى تستحوذ على أسلوب هيرتزوج المُندهش.
وعلى هذا النحو يبدو مايكل هانيكه مخرجاً على صلة بجيله السينمائى لكنه من الناحية الجمالية يبدو مختلفاً عنهم لأسباب عدة، ونحن نشعر بأن هذه المسافة بينه وبينهم تكمن فى تفعيل مايكل هانيكه لإمكانيات المُشاهدة السلبية.
معظم مخرجى السينما الألمانية الجديدة أقل إهتماماً بتوليد الفاعلية إلا لمجرد إحتواء السلبية وإكتشاف طرق لجعل المُشاهد مأزوماً بدون جعله مستاءاً او مُضطرباً أو مُتلاعباً به.
هناك لحظات قوية فى السينما الألمانية الجديدة فى السبعينات (مثل قطع الرأس فى فيلم "أجويرا غضب الله"، ومثل مشهد الإجلاء فى فيلم "ملوك الطريق" ومثل فقرة السلخانة فى فيلم "سنة الأقمارالثلاثة عشر")، لكنها ليست سينما المواجهة، بل سينما تتحرى الأيديولوجيا والجماليات.
فهى سينما تتجلى فيها الصورة بكامل البُطء ، وأحياناً تبدو هذه السينما غير معنية بالجمهور.
كما لو أن المخرجين تحولوا إلى أنفسهم وبعدئذ خرجوا إلى المجتمع والطبيعة بعد - ومن خلال – هذه الهيمنة الذاتية المُعلنة.
مايكل هانيكه أكثر "خارجية"، ولديه وعى كبير بالجمهور كصانع مُشارك للمعنى، وهنا تكمن قوته وربما ضعفه أيضاً.
لسنا هنا بصدد الولوج إلى ماهية هذا الضعف، رغم ان إثنين من مظاهر هذا الضعف يمكن أن يشملا الرأى الذى يخص فئة معينة من الجمهور (مُشاهدى السينما الأمريكيين السلبيين)، وعدم الرغبة فى رؤية أن بعضاً من الحرفيات التى يوظفها (مثل المجرم فى فيلم "المخفى"، والخيال العلمى فى فيلم "زمن الذئب"، وشخصية الدخيل فى نوعية فيلم المنازل فى فيلم "ألعاب مرحة")، فهذه الحرفيات لها قواعدها فى السينما النوعية، ولكى يكسر هذه القواعد فهذا معناه المجاذفة بتوفير متطلبات منطقية معينة فى نظام سينما التوقعات، وهذه ليست من الحرفيات السهلة والرخيصة.
قد يرى البعض أن حرفيات مايكل هانيكه أرخص إذا قارناها بحرفيات مخرجين آخرين، وسبق أن نوهنا بما كتبه الناقدان كيرمود وهوبرمان. 
لا، فهدفنا بشكل أساسى هو أن نستوضح السبب الذى جعل مايكل هانيكه مخرجاً جديداً وهاماً، مخرجاً يؤمن بالجمهور أكثر مما فعل هيرتزوج وفاندرز وحتى فاسبندر، وأنه وضع أفلامه بطريقة تتضمن مُشاركة الجمهور فى إكتشاف معنى الأفلام فى محاولة للحد من المُشاهدة الإستلابية.
مايكل هانيكه مُجادل، وفى نفس الوقت فهو مُنظر سينمائى مُمارس يدعى أنه يعرف عما تتحدث أفلامه، ويدعى أنه يعرف ما تعنيه الألغاز (كما فى فيلم "المخفى" على سبيل المثال)، لكنه يرفض أن يكشف عن هذه المعانى للجمهور.
سينماه ليست سينما أسئلة تماماً، حيث كاميرا المخرج فى هذه السينما تستكشف طبيعة الأشياء، لكنها بدلاً من ذلك تطلب من الوسيط السينمائى أن يترك حيزاً لتوليد مُشاهداً يجب عليه أن يحس بأنه حُر.
وسواء كانت أفلامه على هذا النحو أم لا، فثمة نقطة خلافية فيما لو كانت الإجابة فى يد المخرج لكنه يحتفظ بها فى قلبه:
لكن ومن أجل كل ما تقدم فأفلام مايكل هانيكه هامة، كما أنه من أكثر المحرجين الذين خلقوا سينما قاسية بعديد من الأساليب، ليس فقط بعرضه لصور عنيفة، وليس فقط بحذفه لتفاصيل الشخصيات، وليس فقط بوضعنا فى مواقف إجتماعية تُناقض طبيعتنا، ولكنه أيضاً يحجب المعنى ويُصر على ألا يكشفه.
هذه بعض الأسباب التى تجعل مايكل هانيكه جديراً بالإعجاب، لكنه لم يحظ بالتقدير ومازالت سينماه بعيدة عن أن تُحب، لكن أعماله أيضاً تُساعدنا على فهم السينما والمجتمع فى الألفية الجديدة.
وكما قال جيلبرتو بيريز "أفلام الرعب تُخيفنا، وأفلام الإثارة العنيفة تُثيرنا، والقصص العاطفية تُبكينا.
المعاناة غالباً ما تكون جزءاً من متعتنا، ولكن ضمن حدود، وعلى أيه حال، لا يجب علينا أن نكون مُستائين جداً كوننا لسنا سعداءاً.
لوى بونويل تجاوز حدود الإستياء، ونفس الحال ولكن على طريقته الخاصة نجد المخرج النمساوى مايكل هانيكه" ( من لندن ريفيو أوف بوكس).
فى الحقيقة، يحق لنا أن نقول أن مايكل هانيكه فعل ما يجعله مُتجاوزاً لمطالب لوى بونويل، فاللحظة الشهيرة والقاسية فى فيلم "كلب أندلسى" حيث نرى عيناً تُشق بموسى حلاقة هى صورة مناسبة تُلخص الكثير من أفلام مايكل هانيكه، وحالة الإنزعاج التى يجعلنا نشعر بها ليست لحظة معزولة بل هى لُب كل أفلامه.


11‏/02‏/2016

فيلم الحمل الأثيوبى



 
فيلم "الحمل" يُغير الصورة النمطية عن أثيوبيا
( سيتم عرض هذا الفيلم في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية الذى يبدأ فعالياته في 17 مارس 2016) 
ياريد زيليكا – 37 سنة - أدهش العالم بأول أفلامه "الحمل" الذى أخرجه وكتب له السيناريو، ودخل به المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائى 2015، وإشترك به فى مهرجان ميلان السينمائى فإنتزع جائزة أحسن فيلم روائى، وإختارت مجلة "فاريتى" ياريد زيليكا كواحد من عشرة كُتاب سيناريو تُرشحهم المجلة لقراءها لكى يُشاهدوا أفلامهم.
فيلم الحمل فيلم سيرة ذاتية يتناول طفولة ياريد، وفى حواره مع الناقدة كارولينا. أ. ميراندا فى صحيفة لوس انجليس تايمز أجرته معه يوم 4 يناير، يقول أن الفيلم كان وسيلة بالنسبة له لتضميد جروحه، فهو يتناول تجربة إبعاده عن عائلته وهو فى سن عشر سنوات، فنظام ديرج ( النظام العسكرى الذى حكم أثيوبيا من عام 1974 إلى عام 1987) سجن والده ثم تزوجت والدته، فترتب على ذلك أنه عاش مع جدته، ثم هرب والده من السجن وسافر إلى اليابان، ثم إنتهى به الحال فى الولايات المتحدة الأمريكية، فأرسل إلى إبنه ليلحق به، لكن والده كان شخصاً غريباً بالنسبة له، ولذلك فقد أراد فى الفيلم أن يعبر عن إحساس طفل بالفقد والحزن.
الفيلم "الحمل" يُصور أثيوبيا بطريقة لم يسبق للعالم أن شاهدها به على هذا النحو، ولعلنا نتذكر فيلم "وراء الحدود" من بطولة أنجولينا جولى حيث تنطبع فى أذهاننا صورة أثيوبيا كبلد المجاعات والصراعات السياسية - وهى نفس الصورة التى ربما تٌعاود الظهور مرة أخرى عبر وسائل الإعلام العالمية فى الأسابيع أو الشهور القليلة القادمة، فأثيوبيا تعرضت لموجة جفاف حادة فى موسمى سقوط أمطار متتاليين حيث تهطل الأمطار هناك فى شهر أبريل ومايو، ثم فى شهرى أغسطس وسبتمبر، مما عرض المحاصيل إلى التلف وقطعان الحيوانات إلى النفوق ، وأثيوبيا تتعرض الآن لجفاف تالى للسنة الثانية بسبب تأثير ظاهرة النينيو المناخية التى يصاحبها جفاف فى شرق إقريقيا، وهذا سيعرض حياة الناس أنفسهم للخطر وخاصة الأطفال.
لكن الفيلم الذى يحكى عن طفل إسمه إفرايم توجب عليه أن يعيش مع عدد من أفراد العائلة فى منطقة نائية بعد موت والدته، يُقدم أثيوبيا بطريقة مختلفة، من خلال مناظر بديعة للقرى وقمم الجبال الخلابة، وطقوس كنسية حيث يبارك القس أحد العائلات.
الفيلم صادفته صعوبات كثيرة فى إخراجه وفى تجميع الممثلين لأن أثيوبيا ليست بها صناعة سينما، ويقول المخرج أن السلطات كان لديها هواجس من تصوير الفيلم لأنهم يعرفون أن الصورة المنقولة عن أثيوبيا فى العالم هى صورة أثيوبيا التى يعانى شعبها من الفقر والمجاعات.
كذلك لا يوجد ممثلون، فرغم أن أثيوبيا لديها تقاليد مسرحية متأصلة ومسرح أطفال إلا أنها لم تُفده لأن هذه المسارح تقدم عروضها باللغة الأمهرية، ولذلك فالمخرج بحث عن الطفل الذى سيقوم بالدور الرئيسى فى الفيلم فى الشوارع والمدارس، أما بالنسبة للقرويين فقد إختارهم فى مواقع التصوير ولم يخل الأمر من الصعوبة لأن الممثل الذى يقع عليه الإختيار كان من الممكن أن يترك التمثيل وينشغل بالماشية التى يرعاها.
الأمر برمته كان شديد الصعوبة لأن تصوير مشهد داخل الكنيسة كان يحتاج إلى إستئذان بطريرك الكنيسة الأرثوزوكسية فى أثيوبيا.
كان ياريد وبعد إنتقاله لأمريكا يدرس عن التمنية العالمية فى الجامعة ثم حصل على ماجستير فى السينما من جامعة نيويورك، ثم سافر إلى النرويج لأنه إختار أطروحة الإقتصاد الزراعى فى النرويج، لكنه سرعان ما شعر بالحنين إلى بلده، وشعر بالرغبة فى قص الحكايات بنفس طريقة جدته التى كانت تحفظ الفلكلور الشفهى الأثيوبى وتسرده له.
الفيلم القادم لياريد زيليكا سيحمل عنوان "1991" وسبب إختياره لهذا العنوان، أنه العام الذى بدأت فيه الديمقراطية فى أثيوبيا، ويقول أن الأطفال الذين وُلدوا فى هذه الحقبة يبدون كما لو أنهم من عالم آخر، فهم أكثر تعلماً وأكثر معرفة بالعالم، إنهم تحملوا مخاطر رحلات فى غاية الخطورة من أجل الحصول على حياة أفضل، فبعضهم إخترق الصحراء من أجل الوصول إلى السعودية، والبعض الآخر ركب قوارب الموت من أجل الوصول إلى أوروبا، والبعض الآخر أخترق الأدغال من أجل الوصول إلى جنوب إفريقيا.
مقالة:- ممدوح شلبى