31‏/03‏/2014

سينما النجوم وسمات الممثل

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
 
دانييل داى لويس


دعونا نبدأ هذه المحاضرة بمقدمة إستفزازية، وهى أن الممثل العظيم لا يكون عظيماً بإتساع وتنوع الشخصيات التى يستطيع تمثيلها، ولكنه الممثل الذى يتركز جهده فى تمثيل عدد أقل من الشخصيات ولكنه يُمثلها بإحساس عميق وتميز وجاذبية.

إذا فكرنا فى بعض كبار الممثلين الأمريكيين الذين بدوا كما لو أنهم هربوا من نظام نجم الأستوديو الذى أنتج جون واين وجارى جرانت وكلارك جيبل، ألن تظل إستجابتنا لهم لنفس الأسباب؟، فالممثلون مثل مارلون براندو وجاك نيكلسون وروبرت دى نيرو أفقدوا السينما سحرها وجلبوا لها واقعية خشنة، ففى أفلام السبعينات تحدث ديفيد تومسون عن جاك نيكلسون قائلاً (يمكن أن يكون غير حليق الذقن ووضيع أو كريه تماماً على الشاشة) ويقول فى "قاموس السير الذاتية للسينما" أن روبرت دى نيرو (نوع من الممثلين الذين يُذكروك كيف كانت السينما الأمريكية أنيقة) لكن هذا لم يُقلل من نجوميتهم، فما نريده من النجم ليس الرونق فقط.

فاذا لم يكن الأمر دائماً أن بريق الممثل فى جانب وتعدد الادوار التى يُمثلها فى جانب آخر، فما الذى نتوقعه من النجوم؟ فأفضل طريقة لشرح ما نناقشه هو أن نتحدث عن الصفات: ماهى السمات التى نبحث عنها فى الممثل وخاصة أن الصفات تختلف كثيراً من ممثل إلى آخر.
ما نقصده بالصفات هنا، هى كل من العناصر الجسمانية مثل الإبتسامة والصوت والعينان والمشية والشكل والشعر، وكذلك العناصر الغير ملموسة مثل الهالة وإحساس الحميمية والسحر أو الرقة التى يستطيع الممثل تقديمها، فعلى سبيل المثال، يتمتع جاك نيكلسون بإبتسامة رائعة والتى قال عنها مرة، إنها ليست مُفتعلة، بينما روبرت دى نيرو يتمتع بإبتسامة شديدة البلاهة حتى أن الناقدة بولين كيل " Pauline Kael " قالت عنها فى "عندما تخفت الأضواء" " When the Lights Go Down " أنه عندما يبتسم يبدو شبيهاً بأبلة القرية.

هل تؤثر فينا نيكول كيدمان بسبب أنفها الجميل جداً والذى تتمنى أى إمرأة تبحث عن الجمال أن يكون لها أنف مماثل؟، وماذا عن بول نيومان الذى قال ممازحاُ فى احد المرات، أنه إذا كانت عيونه الزرقاء الشهيرة بُنية ما كان أصبح نجماً سينمائياً؟ هل معظمنا يُفضل جورج كلونى عن توم كروز لأن كلونى يتمتع بصوت أكثر عمقاً وسلاسة يفتقر إليهما توم كروز رغم أنه يصغر كلونى بسنتين فقط؟

وهناك أيضاً سمات أقل وضوحاً، تلك الصفات التى يتمتع بها الممثل والتى لا تنتمى إلى الصفات الجسمانية، فنحن قد لا نهتم بصوت توم كروز لانه من نوع الممثلين الذين يجعلون الحبكة تتطور، فتوم كروز غالباً يُمثل شخصيات لها طموح كبير مثل فيلم "جيرى ماجواير" وفيلم "أوائل المقاتلين" "Top Gun" وفيلم "الشركة" " The Firm" وهو غالباُ ساذج كما فى فيلم "أعمال خطرة" " Risky Business " وفيلم "لون المال" " The Color of Money " وكذلك فيلم "العيون الواسعة تغمض" " Eyes Wide Shut ".

ومازال توم كروز يتمتع حتى اليوم بشخصية شبابية تساعده على الحفاظ على نجوميته: ولكن هل سيتغير ذلك عند وصوله إلى منتصف وأواخر الخمسينات من العمر؟ فكل أدواره فى أفلام "العين الواسعة تغمض" و"ماجنوليا" و"الرهن" "Collateral" و"أُسود من أجل الحملان" " Lions for Lambs " كانت أكثر نُضجاً، فهل كانت هذه الشخصيات إستمراراً لأدواره عن الشخصيات الساذجة والعفوية ؟ ربما ننظر إلى هذا الأمر كإخفاق من جانبه فى تمثيل الشخصيات الناضجة: فتوم كروز فى نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات من عمره كان غير قادر على إقناعنا بأنه شخص ناضج فى منتصف العمر، فالرعونة كانت مُلازمة له.

لكن هذا الأمر يتعلق بشخصية الممثل أكثر مما يتعلق بعُمره، ولهذا السبب لا يعانى براد بت ولا جونى ديب من نفس المشكلة فى تمثيل الأدوار الناضجة، تلك المشكلة التى لا نجدها مع جورج كلونى ودانييل داى لويس وشون بن فادوارهم تحتوى على هذا النُضج، وإذا كانوا واعين أن أفضل أدوارهم لن تتحقق بتمثيلهم لأدوار "أوائل المقاتلين" ولكن فى تمثيل أدوار منتصف العمر المُركبة؟ كيف تكون شخصياتهم كممثلين بهذا القدر من التنوع؟

وحتى جاك نيكلسون – ذلك الممثل العظيم- لم يكن مستعداُ لتغيير أدواره، ويعتقد الكثيرون أن أفضل أدوار جاك نيكلسون كانت فى حقبة الثلاثينات من عمره، فيما بين عام 1969 فى فيلم "إيزى رايدر" " Easy Rider " إلى عام 1980 فى فيلم "سطوع" " Shining ".

وفى فيلم "خمس قطع سهلة" " Five Easy Pieces " وفيلم "التفصيلة الأخيرة" " The Last Detail " وفيلم "الحى الصينى" " Chinatown " وفيلم "طار فوق عش المجانين" " One Flew Over the Cuckoo’s Nest " وفيلم "المُسافر" " The Passenger " كان جاك نيكلسون يعبر عن الإنسان الغير راضى والواعى بسخرية الحياة وفشلها، لكنه يبحث عن أكثر من هذا فى الحياة.

وإذا كان توم كروز لا يستطيع إقناعنا بأنه أصبح فى منتصف العمر، فهل هذا لأن شخصيته مُهيئة لتمثيل أدوار الشباب؟ وفى نفس السياق كان روبرت دى نيرو ممثلاً عظيماً إبتداءاً من فيلم "شوارع قذرة" " Mean Streets " وحتى "ملك الكوميديا" " King of Comedy " انها عشر سنوات حيث قام بتمثيل شخصيات تبحث عن المصداقية فى عالم يسخر من محاولاته للتواصل بهذا العالم كما فى فيلم "سائق التاكسى" " Taxi Driver " أومحاولته لبناء سمعة وصيت كما فى فيلم "الثور الهائج" " Raging Bull " أومحاولته للنجاح كما فى فيلم "ملك الكوميديا"، وحتى في فيلم "صائد الغزلان" " The Deer Hunter " حيث قام بتمثيل دور "مايك" وهو بطل من أبطال حرب فيتنام المتقاعدين، وتوجب عليه أن يُمثل دور الغريم العاطفى لشخصية كريستوفر ووكن، فالإثنان كانا يحبان نفس المرأة، لكن ووكن هو الذى كان يتودد لها: أما دى نيرو فكان يعاملها بقسوة.

ما نناقشه حتى الآن هو الملمح الجسمانى والملمح غير الجسمانى: ملامح الشكل وملامح الشخصية كما يروق لنا أن نسميهما، وسوف نميزهما من خلال مقاطع الفيدو التى سنشاهدها اليوم.
فى فيلم "باتش كاسيدى وطفل صندانس" " Butch Cassidy and The Sundance Kid " يُمثل بول نيومان وروبرت ردفورد الدورين المُسمى بهما الفيلم، وهما إثنان من الخارجين على القانون الذان يحشران نفسيهما فى أمور السلطة ويكسران القوانين ويفعلان أى شيئ يعبر عن وجودهما، أن الدورين عكس بعضهما، فبول نيومان يُمثل دور "كيد" " Kid " وروبرت ردفورد يمثل دور باتش كاسيدى.
 
توزيع الأدوار فى هذا الفيلم يجعلنا نفهم الأمر: فبول نيومان كان دائماً ممثلاً جسمانياً أكثر من ريدفورد، سواء فى فيلم "شخص ما هناك يُشبهنى" " Somebody Up There Likes Me " أوفى فيلم "لوقا صاحب اليد الباردة" " Cool Hand Luke " أو فيلم "طلقة لها صوت" " Slap Shot " كان نيومان يتحرك خلال حيز من المهارات الرياضية أكثر مما يستطيع ريدفورد، فهو يضرب زعيم العصابة ويُنصب نفسه زعيماً بمنتهى الهمة، فدائماً أدوار نيومان أكثر جسمانية من أدوار ريدفورد: بصرف النظر عن دور لاعب البيسبول الذى مثله ريدفورد فى فيلم "الطبيعى" " The Natural" ودور المُتزلج فى فيلم " إنحدار المُتسابق" " Downhill Racer " فقوته تكمن عادة فى تجسيده لادوار الشخص الواعى وهذا يتناسب مع لقطة الكلوس أب المتوسطة.

وعلى الرغم من ان مشاركة نيومان لريدفورد من المعتقد انها كانت غير مُرضية له، فريدفور كان دائماً يحصل على لقطات كلوس أب اكثر من نيومان فى فيلم "باتش كاسيدى وطفل صندانس" رغم ان نيومان أكثر نجومية وهذا منطقى، فنيومان ممثل يتحرك بفاعلية ونشاط خلال المساحة المكانية، وبناءاً عليه فهو يستفيد من اللقطات المتوسطة واللقطات العامة المتوسطة، أما ريدفورد فهو ممثل أكثر مُلائمة للمواقف الدرامية، وهذا ليس حقيقياً فقط في هذا الفيلم، لكنه ينطبق أيضاً على فيلم "كل رجال الرئيس" " All the President’s Men " وفيلم "المُرشح الرئاسى" " The Candidate " و فيلم "بروبيكر" " Brubaker " وفيلم "أسود من أجل الحملان" " Lions for Lambs".

فى فيلم "كل رجال الرئيس" كان ريدفورد الذى مثل شخصية بوب وودورد فى ازمة مع داستين هوفمان الذى مثل شخصية كارل بيرنستين بخصوص العمل وتحول الأمر إلى موقف مبدئى فيما يتعلق بقضية السلوك العادل، وفى فيلم "أسود من أجل الحملان" يشرح ريدفورد - بوصفه أستاذ جامعى- إلى تلاميذه لماذا الكفاح من أجل العدالة الإجتماعية ليس موضوعاً ساخناً، فإذا كانت شخصيات نيومان غالباً ينقصها التعلم، فإن شخصيات ريدفورد تحتوى على أحقية أخلاقية يتعامل بمقتضاها.

وإذا كنا نعتقد أن نيومان تناسبه اللقطة العامة المتوسطة (بصرف النظر عن عيونة الجميلة التى تستحق لقطات الكلوس أب)، وأن ريدفورد تناسبه لقطات الكلوس أب المتوسطة، فماذا عن دانييل داى لويس؟ أليس هو الممثل الذى يعطى الإنطباع غالباً بملأه لحدود الكادر السينمائى؟ سواء فى فيلم "بإسم الأب" " In The Name of the Father " حيث بدا فيه كأنه يشغل حدود الكادر رأسياً، أو فى اللقطات الواسعة فى فيلم "سيوجد دم" " There Will be Blood " حيث كان يملأ الكادر أفقيا، داى لويس ممثل رائع فى التعبير السينمائى.

سيدعى البعض ان أداءه مسرحى جداً ومفتعل جداً بالنسبة للسينما، لكننا إذا رأيناه كنقيض لروبرت دى نيرو لأدركنا كيف انه أكثر ملائمة للسينما، ما هى الادوات التى نحتاج إلها لنشرح هذا الأمر؟ إن صوت داى لويس قوى وذى نبرة، وفى فيلم مثل "البوتقة" " The Crucible " وفيلم "عصابات نيويورك" " Gangs of New York " وفيلم "سيوجد دم" سنجد انه يتمتع بقدرة على تجسيد الأدوار المُسيطرة.

وكذلك فإن إيماءاته برأسه ليست مجرد إيماءات لكنها تحتوى على معانى: تماماً مثل التمثيل المسرحى، كما لو أن داى لويس مناسباً للأمكنة أكثر من لقطات الكلوز أب السينمائية، أنظروا كيف يستخدم حواجبه فى فيلم "سيوجد دم" وفى فيلم "عصابات نيويورك" وأنظروا كيف أصبحت أقدامه الطويلة وسيلة تعبير، أنه العنصر الذى يسمح له أن يحتوى الكادر، وحتى عروق وجهه تبدو انها تُضيف إلى حدة اداءه التمثيلى.

هذه الطريقة لا تتشابه مع التعبير الهادئ لروبرت دى نيرو، فتعبيرات داى لويس حادة، إن تمثيله التعبيرى يجعل الشخصيات التى يمثلها أهم مما نراه فى الواقع، ولكى نفهم ما إذا كان هذا أداءاً تمثيلياً مفتعلاً يجب علينا أيضاً ان نُلقى نظرة على ما يجب ان تكون عليه "التيمة" فى السينما، فى فيلم "سيوجد دم" يمثل داى لويس شخصية رجل له طموح وأحادى النظرة، فيظهر كما لو كان رجل يفرض نفسه على الحياة: تاملوا الخمسة عشر دقيقة فى بداية الفيلم حيث نراه يحفر ويحفر.

وبناءاً عليه يُعتبر داى لويس ممثلاً يتجاوز الحد، بينما الممثلة الفرنسية الرائعة كاترين دى نيف فهى على النقيض منه، وربما تكون المثال الاول للممثلة التى تحتاج ان تعمل مع مخرج مُتمكن فالتمثيل ليس هم المهم، فالأهمية هى وضعية الممثل داخل الكادر وهذا دور المخرج.

عندما قال مايكل انجلو انطونيونى لديفيد هيمنجز فى فيلم "تكبير الصورة" " Blow Up " انه ليس من المهم بالنسبة لهيمنجز ان يعرف كثيراً عن الشخصية، فذلك لأن أنطونيونى يستخدم الكادر بنفس الأسلوب حتى يمكن للشخصية أن تظهر خلال حركة الكاميرا، وهذا ينطبق أيضاً على الكثير من أفلام كاترين دينيف " Deneuve " مثل فيلم "شمسيات شيربورج" " The Umbrellas of Cherbourg " وفيلم "التنافر" " Repulsion " وفيلم "يوم جميل" " Belle de Jour " وفيلم "تريستانا" " Tristana "

إنها ممثلة عظيمة لحالات السكون والغموض وتستحوز على وجه سينمائى يبدو شبيهاً بالقناع مثلها مثل الممثل ألان ديلون والممثلة شارلوت رامبلينج والممثلة مونيكا فيتى: فالكثير من الغموض يمكن الإفصاح عنه من خلال وجه لا يكشف إلا عن القليل من الأشياء، ويعتقد بعض النقاد أن كاترين دينيف شقراء جليدية، بالرغم من انها لم تعمل أبداً مع هيتشكوك- أستاذ الممثلات الشقراوات الجليديات-

ولكن ماذا عن المخرج الذى يُصر على توظيف الممثل بعيدا عن نمطه، وهل هذا ما تجنب ستانلى كوبريك تنفيذه مع توم كروز فى فيلم "العيون الواسعة تغمض"؟ ففى هذا الفيلم يبدو دور توم كروز صعباً عليه حيث يبدو مستسلماً لرؤية ستانلى كوبرك، ونرى هذا فى المشهد الذى يحضر فيه توم كروز ونيكول كيدمان حفلاً مُترفاُ حيث يركز ستانلى كوبريك على شخصية نيكول كيدمان كمركز للإهتمام حيث تتم اللقطة بزاوية واسعة تجعل توم كروز يبدو قصيراً ومقُرفصاً، بينما كل من جليسة الاطفال وصاحب الحفل يتحدثان عن جمال نيكول كيدمان: ويترك توم كروز وكأنه وصيفها.

وخلال الفيلم يبدو توم كروز طويلاً بالمعنى الحرفى للكلمة، فطبقاً للمقاييس المجرية نراه أطول عدة بوصات مما هو عليه فعلاً: ونفس الحال مع النموذجين "the two models، وهذا حقيقى أيضاً بمصطلح القصة فهو لا يستطيع ان يتعامل مع الناس الذين يصرون على رفضه وإرباكه، وشخصية توم كروز لا يمكن التعرف عليها بدقة من القصة، فستانلى كوبريك يفصلها عن الشخصية، فالأمر يبدو كما لو ان محدودية توم كروز كممثل تتناسب مع محدودية الشخصية.

ونفس الحال مع أفلام كاترين دينيف التى أخرجها بونويل وبولانسكى وجاريل وآخرون، فالمخرج يتحكم فى الأداء التمثيلى ولكنه أحياناً يهتم باللعب على شخصية الممثل أيضاً، وفى توزيع الدور على توم كروز والذى جاء عكس النمط الذى يناسبه، هل كان ستانلى كوبريك يسخر نوعاً ما من محدودية توم كروز كممثل؟.
من الواضح ان التمثيل مهمنة حساسة وذات خصوصية: وما نستطيع أن نستكشفه ونستفيد منه هنا، هو كيف يتعاملون المخرجون مع هذه الحساسية وكيف يتعاملون مع خصوصية الممثل.


19‏/03‏/2014

السينما الروائية بين القصة والشخصية والجو العام

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
أيام الجنة


دعونا ننظر إلى مصطلح السينما الروائية من زاوية كل من القصة والشخصية والجو العام، وأيضاً دعونا نفرق بين الحبكة وبين القصة ، وبين القصة وبين التيمة، وعلى الرغم من أن كُتب السيناريو تُصر على أن القصة هى أهم شيئ، حتى أن أستاذ الحكى ألفريد هيتشكوك يؤمن أنه ينتمى إلى تصنيف مخرجو القصة، إلا ان المخرجين ينقسمون إلى مخرجى قصة ومخرجى شخصية.

 عندما ناقش الناقد أندرو ساريس مفهوم السرد عند مارتن سكورسيزى فى أفلامه فى السبعينات، هل كان من الأفضل له أن يستشهد بهيتشكوك الذى تُمثل أفلامه أفضل نماذج فيلم القصة، ويبحث عن مخرج آخر يكون مهتماً بالشخصية؟

 والآن لعلنا نتسائل، ماذا عن الجو العام؟

أشار الناقد ستانلى كوفمان فى "أمام عينى" إلى أن تيرانس مالك لم يستطع الإمساك بفيلم "أيام الجنة" لأن تيرانس مالك لا يفهم أساسيات الشخصية والقصة.
ولكن هل كان هذا بسبب أن مالك كان أقرب إلى أن يكون مخرج جو عام حيث "المود" بالنسبة له أهم من القصة والشخصية؟ وكما قال الفيلسوف والناقد ستانلى كافيل فى "العالم المرئى" (أعتقد أن أى شخص أولى إهتمامه بفيلم "أيام الجنة" يتمنى أن يفهم ما هو الحد الأقصى للجمال وفيما يخدم........" من الواضح أنه لا يقصد كل النقاد، ما نلمح له هنا أننا نحتاج أن نستوضح الفيلم من جميع جميع جوانبه بدلاُ من ألقاء أحكامنا المُسبقة عليه.
فيلم شين


يتبادر إلى ذهنى ما قاله الناقد والرسام مانى فاربر فى "فضاء سلبى" (فكرة التفكير فى فيلم بطريقة تتناسب مع الطريقة التى يقصدها المخرج معناه أن نكون عادلين أكثر فى تناول العمل الذى بين أيدينا وهذا كل ما نملكه لتقدير المخرج على إنجازه)، والتفريق بين القصة والشخصية والتيمة يمكن أن يساعدنا هنا.

فى مشهد من فيلم "شين" " Shane " للمخرج جورج ستيفنز الذى أسس قصة قوية تقود الأحداث حيث يأتى إلى مزرعة العائلة شخص غريب غامض ولكنه ودود، وبعد ذلك بوقت قليل وبينما الغريب مازال فى المكان، يصل شرير الفيلم الذى يريد أن يستولى على المزرعة، وعندما يسحب "شين" الزناد بسرعة عندما يسمع ضوضاء حادة، فهذا يوضح ملمحاً من شخصيته، لكن هل نحن مهتمون أكثر بأفعاله السابقة أم بتصرفاته القادمة؟
الإهتمام بكشف أفعاله السابقة قد يُلمح إلى إهتمام أكبر بالشخصية، أما أفعاله القادمة فإنها تُشير إلى القصة، فإظهار الغريب على أنه شخص غامض أقل أهمية مما لو أظهرنا قدرة هذا الرجل الغامض على الفعل، فما نعرفه عن "شين" أنه بارع فى إستخدام البندقية وهذا يجعلنا نتسائل متى يستخدم مهاراته فى البندقية.

هذه هى دعامة فيلم الغرب الأمريكى: البطل المتردد الذى يحتاج أن يفعل ما يتوجب على الإنسان فعله، وما يجب عليه أن يفعله هو تقديم نفسه جيداً فى قصة قوية. فيلم "شين" تم عمله فى عام 1954 وبعض النقاد يقولون أن عرض الفيلم جاء قبل أربعة سنوات من ظهور بول نيومان فى فيلم "القناص الأشول" حيث أصبح فيلم الغرب الأمريكى سيكولوجياً، وحيث أصبحت الشخصية أكثر أهمية: فى فيلم "إنتهى الوقت" يُشير الناقد توم ميلن إلى الشخصية المحورية مثل شخصية "بيللى" الطفل المُضطرب عاطفياُ ونفسياُ.

الكثير من أفلام الغرب الأمريكى أصبحت متطورة نسبياً بسبب تحولها من الإهتمام بالقصة إلى الإهتمام بالشخصية، ففى فيلم "مكابى والسيدة ميللر" وفيلم "بات جاريت وبيللى الطفل" هناك غوص فى طبيعة الشخصية يطغى على القصة، حيث قال المُنظر العظيم أندريه بازن فى "ما هى السينما" -المجلد الثانى-، أن فيلم الغرب الأمريكى كان أكثر الأفلام النوعية أخلاقية، وهذا لأن فيلم الغرب الأمريكى كان يعتمد على القصة، فالأشخاص كانوا إما أبيض أوأسود، وعندما أصبحت الشخصيات رمادية وُلدت الشخصية فى فيلم الغرب على حساب القصة الأخلاقية:ً فأفلام الغرب الأمريكى الكلاسيكية تعتمد على القصة أما الأفلام الحديثة منها فهى تعتمد على الشخصية، ولا يعنى هذا أن أفلام الغرب الأمريكى قبل عام 1958 لم يكن بها أفلام تعتمد على الشخصية، ففيلم "النهر الأحمر" كان فى عام 1948 وفيلم "الباحثون" كان فى عام 1956، والفيلمان من الأفلام التأملية التى تعرض لنا تصرفات شخص شديد الخطورة.

فإذا كان فيلم "شين" من الأمثلة الممتازة لكلاسيكيات فيلم الغرب الأمريكى الذى يعتمد على قصة جيدة، عندئذ ماذا عن الفيلم الذى يعتمد على شخصية قوية؟ إ
ذا كان مارتن سكورسيزى قد نظر إليه النقاد والمخرجون فى السبعينات بوصفه فنان جيله، هل تم هذا بسبب شغفه بالشخصية على حساب القصة وهل هذا هو المسؤول جزئياً عن براعته؟ العديد من شخصيات أفلام سكورسيزى تشبه "الأطفال المُضطربون عاطفياُ ونفسياُ " مثل شخصية ترافيس بيكل فى فيلم "سائق التاكسى" الذى يعبر عما يجول فى عقله بصوت عالى، وحيث قدم سكورسيزى لقطات متعددة لبيكل بمفرده حيث كل لقطة ليست وحدة من وحدات السرد بمقدار ما هى وحدة من وحدات الإحاطة السيكولوجية بالشخصية. 
قطعات قصيرة

 شخصية بيكل دائماً لا تُحسن الظن فى المواقف الإجتماعية، حتى أن الجمهور لا يهتم بماذا يفعله بيكل ولكن لماذا يفعل ما يفعله، وحتى التصرفات المتطرفة التى تحدث قرب نهاية الفيلم تتركنا فى حيرة تامة نتيجة للشخصية المركبة التى يقدمها لنا سكورسيزى، بينما بعض النقاد لاحظوا تشابه هذا الفيلم مع فيلم "الباحثون" - حيث نرى شابة يتم إحتجازها من قبل شخصيات دنيئة بينما بيكل يريد أن يحميها منهم – سكورسيزى يهتم بتصويرالأمكنة التى تنتمى للمدينة، ويكشف عن اعداد من الشخصيات الدنيئة التى يتصل بها بيكل كما يهتم بالتفاصيل الفرعية، كل هذا يدل على أن سكورسيزى مهتم بالشخصية أكثر من إهتمامه بالفصة التى تعيش الشخصية فى سياقها.

ورغم ذلك فكثيرون قد يقولوا ان فيلم "سائق التاكسى" من أفلام "الجو العام"، حيث نرى لقطات النيون فى بداية الفيلم وموسيقى الجاز التصويرية التى ألفها برنارد هيرمان، هكذا كان سكورسيزى يعمل على إعادة التأطير ليؤسس "موداً" معيناً، وبالمقارنة مع أفلام ديفيد لينش فإن أفلام سكورسيزى تبدو أفلاماً واقعية فإهتمامه بالمشاكل المُباشرة يطغى على سلوك الشخصيات مهما كان شكل هذا السلوك.

وبناءاً عليه، تخيل لو أن ترافيس بيكل "بطل فيلم سائق التاكسى" قد تحول إلى شخصية أخرى، هذا بالضبط ما يحدث للشخصية الرئيسية فى فيلم ديفيد لينش "الطرق السريعة المفقودة" ففيلم لينش يُعتبر مثالاً واضحاً "للمود" إذا فكرنا فى طريقة الفيلم فى إختلاف"نبرة" القسم الأول عن "نبرة" القسم الثانى، ففى القسم الأول نجد ان شخصية بيل بولمان هو الشخص الغيور والزوج المُوسوس، وفى القسم الثانى نجد بلتزار جيتى هو العاشق الذى لديه علاقة عاطفية، القسم الأول بطيئ يتحسس جنون العظمة والقسم الثانى يستكشف الإثارة حيث "جيتى" يغار من زوج عشيقته- إنه مجرم خطير.

وبينما ألفريد هيتشكوك يقتل الشخصية المحورية فى القسم الأول من فيلم "سيكو" أما لينش فهو يقدم شيئاً مختلفاً، فعلى حين يكشف لنا هيتشكوك أنه مخرج قصة حيث يذهب إلى أبعد من تركيزه على الشخصية ليواصل إهتمامه بالسرد، فإن ديفيد لينش يلغى الشخصية الرئيسية – على حسب ظنى – لكى يذهب إلى أبعد مما تقدمه القصة والشخصية وذلك لخلق جو عام شديد التكثيف، فديفيد لينش يهتم جداً بالسرد المتسارع والصوت المعبر، فالأمر أشبه ما يكون بإطلاق العنان للسرد وبترك الصوت يردد الصدى بغرابة، فما يضيع منا من القصة نعود ونكتسبه من خلال الجو العام.

وروبرت ألتمان مخرج آخر إدعى انه يهتم قليلاً بالسرد، فهو يقبل بالضرورى من هذا السرد، وبقول (ما أتحدث عنه فعلاً هو إستبعاد السرد الأفقى من الفيلم والإحتفاظ بشيئ يحدث، هذا يجدى مع عدد من المشاهدين، فالمعلومات التى يحصلوا عليها من الفيلم تمحى كل المعلومات التى جمعوها فى حياتهم الحقيقية........) وهذا أيضاً شيئ يدعوا إلى السخرية التامة، واضحين فى الإعتبار كيف أثر فيلم "قطعات قصيرة" " Short Cuts " بقوة على السرد المعاصر، حيث إستخدم النقاد مصطلح مثل "الإخراج المُتجزأ" و"خطوط السرد المتلاحمة" و"السينما شديدة الترابط" لتوضيح ولع السينما الحالية بتعدد أساليب السرد.

فالولع فى السنوات الحالية ليس بالقصة لكن بالحبكة، ومن أرسطو إلى ديفيد بوردويل كان المحللون يفرقون بين القصة وبين الحبكة بوسائل عديدة، فعلى سبيل المثال يعتبر بوردويل وتومسون فى "فن الفيلم" أن القصة هى جميع الأحداث بما فى ذلك ماضى القصة والإرهاصات التى نتوقع أن تحدث، بينما الحبكة هى (أحداث محددة ومعينة يقدمها الفيلم فى السرد).

وبالإشارة إلى الفرق بينهما، نستطيع أن نرى كيف أصبحت الحبكة أهم شيئ فى الأفلام المعاصرة، ففى فيلم مثل "خيال صرف" وفيلم "أموريس وبيروس" وفيلم "21 جرام، فإن المدينة أصبحت مكاناً لحبكة مُركبة، حيث يتم تجهيل المشاهدين ببعض المعلومات لخلق أقصى قدر من الغموض عندهم بينما المخرج يقدم لنا القصة فى شكل بانورامى، وربما لا تتعمد هذه الأفلام إخفاء المعلومات عمداً كما فى العديد من أفلام "الفيلم نوار" لكن الأمر يبدو كما لو ان المخرج يُجهدنا عن طريق عرض القصة فى سياق حبكة مُركبة.

تقديم المدينة بهذا الأسلوب يُشبة الحبكة المركبة فى فيلم "نفس المشتبه فيهم" وفى فيلم "الملكات التسعة" وكذلك الأفلام الميتافيزيقة المثيرة حيث نجد انفسنا داخل وجهة نظر الشخصية مثل فيلم "الإشراقة الخالدة لعقل بليد" وفيلم "ماتريكس" وفيلم "تذكار" وكذلك فيلم "الحاسة السادسة" وفيلم "نادى العراك" حيث الحبكة التى يقدمها المخرج تغنيه عن القصة.

فى فيلم "الملكات التسعة"، على سبيل المثال، تخيل أن المعلومات الشحيحة يتم تقديمها لنا فى بداية الفيلم، حيث تتآمر الشخصيات على شخص آخر؟ الفيلم يتبع ترتيبات زمنية، لكن أهم معلومات السرد التى يمكن أن تُقدم لنا فى بداية الفيلم يتم حجبها إلى نهاية الفيلم كنهاية للحبكة.

لكن هل عمل حبكات قوية يقود غالباً إلى تيمات ضعيفة؟ تذكروا أننا ّفى بداية المحاضرة فرقنا بين القصة والتيمة، ربما إذا بذلنا مجهودنا فى خلق مُشاهد يتفاعل مع الأحداث ويستعمل عقله حتى لا ينقطع تركيزه عن متابعة الحبكة ومتابعات التغيرات، فهذا المُشاهد لا يُوضع فى موقف المُتابع لتطور تيمة الفيلم، عندما تحدث الروائى الشهير ميلان كونديرا عن الفرق بين القصة والتيمة فى "فن الرواية" قال (عندما تستبعد الرواية تيماتها وتكتفى بالحديث عن القصة فإنها تًصبح سطحية).

هل ينطبق نفس الشيئ على السينما؟ هل إذا إهتم أحد الأفلام بمحاولة التلاعب بالجمهور فإنه يخاطر بفقدان ترابط التيمة؟ فعلى سبيل المثال، عندما يستخدم فيلم تحولاُ مُلفتاً فى نهاية أحد الأحداث، هل يفقد شيئاً جوهرياً فى الأحداث التالية؟ هل التحولات فى فيلم "إشراقة خالدة لعقل بليد" تقضى على إستكشاف التشوش الذهتى للشخصية: هل نهاية فيلم "نادى العراك" يلقى جانباً بإستكشافه مفهوم "الكاريزما" والفكرة الرائعة التى تقول بأن الشخصية المحورية يعانى من فصام الشخصية؟ وعلى نفس المنوال هناك أفلام لا يوجد بها شيئ يحدث ومع ذلك ففى نهاية هذه الأفلام نحس بالرضا التام؟

إذا رأى المشاهدون أن فيلم مثل "جبل بروكباك" و فيلم "ستوجد دماء" فيلمان ناضجان، هل هذا يكمن جزئياً لأنهما يستكشفان مواضيعهما بدون الإعتماد على التلاعب فى السرد، وبدون ما أسماه أدم مارس جونز "ضد تغيير الحقيقة الزمنية" حيث بساطة السرد تُسحب منا؟ هذه بالطبع نقطة نقاشية لا نهاية لها، وواحدة من الموضوعات التى يمكن أن نعود لها لاحقاً فى هذا الكورس الدراسى، وينبغى علينا ان نختبرها بأنفسنا هذا الأسبوع.

 ناقشنا اليوم بصورة مختصرة تركيز فيلم "شين" على القصة، وناقشنا اهمية الشخصية فى فيلم "سائق التاكسى" وناقشنا أهمية الجو العام فى فيلم "الطرق السريعة المفقودة" وناقشنا السرد الأفقى فى فيلم "قطعات قصيرة" كما نوهنا عن الفرق بين القصة وبين الحبكة، وبين القصة وبين التيمة، آملاً أن نستطيع فهم هذه الافكار بالتفصيل أثناء مشاهداتنا لمقاطع الأفلام التى سنعرضها لمدة ساعتين.الآن


12‏/03‏/2014

السينما النوعية

الموت والرباعية لرومان بولانسكى
محاضرة:- تونى مكيبن

ترجمة:- ممدوح شلبى



سنتحدث اليوم عن إثنين من السينما النوعية، وما نقصده بالسينما النوعية هذه، أنها تلك الأفلام التى نتوقع من الجمهور التفريق بينها بسهولة كأنواع، مثل الأفلام الكوميديا وأفلام الرعب والأفلام الحسية، والأفلام العاطفية، فكل هذه التصنيفات تؤدى إلى رد فعل واضح لدى الجمهور، وكما أشارت ليندا ويليامز فى كتاب " الإباحية" (تخيل انك مخرج الفيلم وانك تقف وراء المُشاهدين فى صالة للسينما، وانك عملت فيلماً كوميدياً لكن الجمهور لم يضحك: أو أنك مخرج فيلم رعب ولم يصرخ أحد من المشاهدين، عندئذ ستكون أميل إلى الإعتقاد أن الفيلم فاشل".

ليست كل الأفلام النوعية تتطلب هذه الإستجابة، فأى شخص يستطيع مشاهدة أفلام غرب أمريكى أو خيال علمى أو حتى أفلاما موسيقية ومع ذلك لا نتوقع منه إستجابة، وفى هذه المحاضرة سوف نُركز على نوعين من السينما النوعية، هما الفيلم الكوميدى وفيلم الرعب.

فى الفيلم الكوميدى تُعتبر الإستجابة بالضحك بصوت عالى مؤشراً واضحاً على نجاح الفيلم، وبرغم ذلك فإن أفضل الأفلام الكوميدية لا ينتج عنها رد فعل قوي، هل أفلام "هناك شيئ ما بخصوص مارى" و"زولاندر" و"الطائرة" أفضل من الثلاثة أفلام الكوميدية التى سنركز عليها فى هذه المحاضرة، وحتى إذا كنا نضحك بصوت عالى فى هذه الأفلام الساذجة ولا نضحك بنفس الطريقة مع شارلى شابلن وودى ألن وبيل فورسيث، فهل مستوى الضحك مجرد ملمح من ملامح الفيلم الكوميدى؟ يجب أن نتذكر أن الفيلم الكوميدى لا يتحدد فقط برد الفعل من جانب الجمهور، ولكنه أيضاً يتحدد من خلال الحساسية التى يقدمها المخرج فيما يمكن أن نسميه "الحس الكوميدى للمخرج".

فى الأفلام الثلاثة التى إخترناها، توجد تلك الحساسية التى تقودنا إلى التفكير فى خصوصية الكوميديا، فنحن نقول أسلوب شارلى شابلن وأسلوب وودى ألن وأسلوب فورسىيث، وقد تكون كوميديا الأخوان فاريللى عالمية ولكن أليست هذه واحدة من نماذج الكوميديا البلهاء والسيئة التى ظهرت فى العقد الأخير وغالبا كان آدم سندلر او بن ستيلر هما أبطال هذه الأفلام السيئة رغم أن النجمين رائعين؟
 
العصر الحديث لشارلى شابلن
فى فيلم "العصر الحديث" يبدو كما لو أن الكوميديا ليست مُضحكة، إنها تعبر عن حساسية شارلى شابلن وتكشف عن الإشكالية الإجتماعية فى الزمن الذى ظهر فيه الفيلم، وكما أشار بألمعية الناقد السينمائى روبرت وارشو فى "التجربة الآنية" (يهتم المجتمع فقط بالسعى وراء الربح لدرجة الإعتماد على آلات قميئة وغير إنسانية لمجرد أنها تُحقق لهم هذا الربح، بينما الصعلوك كان مهتماً بممارسة علاقات إنسانية ومهتماً بالقيم الإجتماعية)

وكشف شابلن كيف أن الهامشى يظل هامشياً وغير قادر على الإندماج فى النظام الإجتماعى كما خلق شابلن من المصنع ترميزاً رائعاً وواقعياً عن المجتمع الذى كان يتبنى آراء تيلور (كفاءة الإنتاج فى متجر أو مصنع يمكن أن تتزايد بمراقبة دقيقة للعامل على نحو شخصى وبالقضاء على الوقت المُهدر.........)

لم يجعلنا شارلى شابلن نضحك بسهولة، كما انه عرض لنا عدم قدرة الأشخاص على الإندماج فى النظام الإجتماعى وخاصة نظام المصنع حيث يتضائل الإنسان ويصير مجرد جزء من الآلة، حيث نرى شابلن- فى المشهد الكلاسيكى- يعمل على خط إنتاج ويتم تجربة آلة الطعام الجديدة عليه، ألا يتأسس موقف شابلن فى كوميديته على عبثية موقف الرأسمالية حيث الإنسان مجرد وحدة إنتاج؟

المجتمع فى كوميديات المخرج الإسكتلندى الكبير بيل فورسيث يتم تقديمه بنفس الطريقة، ففيلم "فتاة جريجورى" يُصور بلدة إسكتلندية جديدة ولا يُركز المخرج على قتامة المناطق السكنية للبلدة التى من المفترض أن تُحسن الظروف الحياتية للناس الكثيرين الذين إنتقلوا من الأحياء الفقيرة لمدينة جلاسكو، حيث يعيش الناس بدون هدف ويشعرون بالملل ولا يحصلوا على وسائل الراحة فى حياتهم، فورسيث لا يفعل ذلك، فهو يُوظف الأماكن الحقيقة لكن لأغراضه الكوميدية.

فى المشهد الذى يمشى فيه جريجورى (الشخصية الرئيسية فى الفيلم) أمام بابه ويرى مجموعة من الأطفال يلعبون فى المنطقة، هذا المشهد يلخص جيداً كوميديا فورسث المتناقضة: ولعلنا نتسائل، أين آباء هؤلاء الأطفال؟ ولكن فى نفس الوقت نرى جيل جديد من الأطفال الأصحاء يلعبون بأمان بعيداً عن المدينة فى تلك البلدة الصغيرة جداً. يلعب فورسث طوال الفيلم على توقعاتنا الطبقية فى مقابل حسه الكوميدى، حتى أنه عندما يرتطم جريجورى بوالده فى الطريق، فإن فشل التواصل بين الأب والإبن يتحول إلى فرصة مثالية للأب ليُظهر معرفته بمراوغة الشباب وميلهم إلى عدم التواصل.

الذى إستطاع فورسث عمله بتفوق هو تضمين وجهة نظر أخرى للأحداث، وكمثال على ذلك نكتته التى قالها، فى كتاب "أبطال قوميون" لألكسندر وكر، حيث يركز الكتاب على تشاؤم الأسكتلنديين وعلى وجهة نظره الخاصة للعالم، فى أحد المرات تسلق إسكتلندى قمة جبل إفرست وقوبل صعوده إلى القمة بنفس النظرة التى يتطبع الجميع بها، فالمواطن الأسكتلندى سيقول (كل هذا جيد جداً، لكنه مازال عليه أن ينزل الجبل مرة ثانية).

فى فيلم "مانهاتن" لوودى ألن يبدو لنا أن الفيلم خالى من الكوميديا، ومثل معظم أفلام وودى ألن من منتصف السبعينات وحتى أواخر الثمانينات، كان العنصر الكوميدي يأتى دائماً من خلال الشخصية التى يُمثلها وودى ألن، حيث تنبع الكوميديا من طرافة الحوار وليس من الموقف الكوميدى.

دعونا نفكر فى المشهد المبكر من الفيلم حيث يجلس وودى ألن وأصحابه فى مطعم إيلين ويناقشوا أخلاقية إنقاذ أحد الأشخاص من الغرق، فنجد إستنكار وودى ألن وفى نفس الوقت يبرر لنا موقفه بأحسن ما يمكن: هو لا يحتاج إلى القلق بخصوص الموقف الأخلاقى لأنه -وودى ألن- لا يستطيع السباحة.
 
مانهاتن لوودى ألن
دائماً فى أفلام وودى ألن ثمة إظهار للحوار الثقافى المتحضر مع كلمات يصعب أن نسمعها فى حياة الناس الحقيقية، هذا مثال واضح لشخصية ألن الكوميدية، لكنها أيضاً تخبرنا الكثير عن الموقف المتحضر للشخص، ولا يمكن أن نجد مدينة تصلح كخلفية للفيلم من مدينة مانهاتن، فهى المدينة التى يقدمها لنا بكل مجدها وسُمعتها، لكن هذا أيضاً يحول الشخصيات إلى مرضى بمرض عصابى غير معروف حيث يتردد الناس فى مواقفهم، وغالباً نحن نضحك على الموقف المضحك الموضوع فيه وودى ألن وعجزه عن إتخاذ أى موقف بحسم.

كتب الناقد جيرارد ماست فى "كتاب السينما" إصطلاح " المناخ الكوميدي" للإشارة إلى الأحداث التى يمكن حدوثها فى الفيلم النوعى والتى تجعلها مفهومة للجميع، عندما ينزلق أحد الأشخاص على قشرة موز فإننا لا نتوقع أن ينكسر ظهره، فهذا الشخص سرعان ما يقف على قدميه، لكن كل السينما النوعية يمكن أن نقول عنها أنها تحتوى على "مناخ" وانه من المفيد أن نستتوضح ما نعنيه بالمناخ، ففى فيلم الرعب ما هو الشيئ الذى يجعلنا نشعر أننا فى عالم تقشعر له الأبدان، ولا يهم إذا كان كل فيلم أخرجه مخرج له شخصية إبداعية؟

فى المشاهد الأولى التى تكشف شوارع لندن من فيلم "إشمئزاز" لرومان بولانسكى، نجد انها لقطات تسجيلية للمدينة، ولكن هل هو أسلوب بولانسكى فى إستخدام العدسات الواسعة، الأسلوب الذى لا ينتقل فيه من اللقطة إلى اللقطة العكسية إلا ليسمح للشخصية أن تغزو إطار اللقطة، أم أنه أسلوب الصوت الذى يتم تكبيره بوحشية حتى يُعطينا إحساساً بالخطر؟

رومان بولانسكى مخرج عظيم لمشاهد الخطر والإنهيار التى تحدث للأشخاص بسبب بيئة خانقة وقمعية.

لكن هذا الإختناق من صنيعة الأشخاص غالباً، وفى فيلم "سكين فى الماء" و"طفل روزمارى" و"إشمئزاز" وكذلك فيلم "الموت والرباعية" " Death and the Maiden " فى هذه الأفلام يُحلل بولانسكى الرعب على أسس نفسية: مدينة لندن ليست مدينة مرعبة لكن بولانسكى شغوف بالعقول المشوهة وسينما الرعب شغوفة بالأطر المشوهة والأصوات المُبالغ فيها والتى تقود إلى تزاوج مدهش للعناصر، ويمكن أن يُقال نفس الشيئ عن ديفيد كروننبرج، ذلك المخرج الشغوف بالجسم كشغفه بالعقل، فعندما خصصت مجلة "سكرين" أحد أعدادها لأفلام الرعب الجسمانى فى عام 1986، كان المخرج كروننبرج محور هذا العدد، فأفلامه تكشف لنا رؤوساً تتفجر وعضلات أيادى تكسر أيادى أخرى، كما نستمع إلى تكسير عظام وأعضاء تتطاير من الأجسام.

هل من المسلم به أن مُخرجاُ يقرر أن يرى الجسم كمكان لإستكشاف الرعب يمكن ان يعمل فيلماً عن طبيبى أمراض نساء توأمين "قارعوا الأجراس الميتون" أو أنه توجب عليه ان يُعيد نفس الحالة فى فيلم "الطائر" " The Fly " مع التركيز على تعفن جسمانى؟

عندما يلاحظ أحد شخصيات فيلم "الحاضنة" ان جسمه يسقط فإنه يتندر على ذلك بقوله (لديه ثورة صغيرة فى يديه) وهو تعليق يتفق مع فكرة كروننبرج فى "كروننبرج وكروننبرج" أنه إذا كنا نستطيع أن نتخيل فيلماً من وجهة نظر المرض، فإن عدداً من أفلامه تنتهى نهاية سعيدة، ولكن إذا كان كروننبرج مثل بولانسكى يبحث عن مناخ الرعب وأيضاً يستخدم العدسات الواسعة والأصوات الخافتة التى تتحول فجأة إلى ضوضاء، فكل هذا يجعلنا نشعر بأننا لسنا فى بيئة آمنة، لكن الأولوية عند كروننبرج هى الجسد بينما الأولوية عند بولانسكى هى العقل.

قد لا يكون ستانلى كوبريك مشهوراً بأعتباره مخرج أفلام رعب، لكن أفلامه فى كثير من الاحيان تكشف عن الغُربة، إحساس التشويه الذى ينتج من إستخدام العدسة واسعة الزاوية، وإستخدام الأصوات التى تستدعى عناصر من أفلام الرعب، لدرجة أننا عندما نتناول فيلمه "السطوع" " The Shining " فإننا لا نجد هذا الفيلم جديداً عليه، فى المشهد الأول عندما يتقدم جاك نيكلسون لطلب وظيفة حارس شتوى لفندق، نلاحظ نوع الإيقاع المتباطء واللقطات المُشوهة التى تحيط بالغرفة فتخلق مناخاً ينذر بالخطر، ومثله مثل كل المخرجين الذين تحدثنا عنهم اليوم، يتوافق ستانلى كوبريك مع توقعات السينما النوعية وفى نفس الوقت يزيد عليها.

توجد لحظات نكاد نصرخ فيها، ورغم ذلك يهتم كوبريك بمناخ الفيلم النوعى أكثر من إهتمامه بتقديم الإثارة المتوقعة من مخرج أفلام رعب، وبصفته مخرج نوعيات محتلفة من الأفلام مثل " دكتور سترانجلاف" وفيلم "2001" وفيلم "البرتقالة الآلية" وفيلم" العيون الواسعة تغمض" " Eyes Wide Shut) " وبصفته مخرجاً قدم أفلام رعب ودراما تاريخية وأفلام حرب وخيال علمى وأفلام إثارة، يعى ستانلى كوبريك إصطلاح الفيلم النوعى جيداً لكنه أيضاً يريد أن يوظف الفيلم النوعى لكى يخدم أهدافه الخاصة، ما هى الأهداف الخاصة فيما يتعلق بكل مخرج من المخرجين الذين تحدثنا عنهم اليوم، هذا ما سوف نستكشفه أثناء مشاهدتنا لأفلامهم، كذلك فإننا نترك النقاش مفتوحاً حتى نتفق على الأسباب التى تجعل الفيلم كوميدى أو فيلم رعب مهول.


07‏/03‏/2014

سينما أمريكية جديدة

ماجنوليا
محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى


1


ثمة توجس من السينما الأمريكية الحالية حيث يحبها البعض والبعض الآخر يكرهها، فعادة توظف الأفلام الأمريكية القصة والشخصية بطريقة مُتعمدة، حيث كل شيئ يُوضع بين قوسين ويُقدم بمواصفات كرتونية نوعا ما.

الأفلام التى تتبادر إلى الذهن تشمل "كينونة جون مالكوفتش" " Being John Malkovich " و "أبناء رويال تيننبون" " The Royal Tenenbaums " و "انا قلب عائلة هاكابي" " I Heart Huckabees " و "الإشراقة الخالدة لعقل بليد" " The Eternal Sunshine of the Spotless Mind " و "الحياة المائية" " The Life Aquatic " وكذلك الفيلمين الأقل شهرة " الإنتخابات" " Election "و"الطرق الجانبية" " Sideways " هذه الأفلام غالبا تحتوى على بُعد عبثى وتتناول شخصاً مجنوناً وتتماهى معه. ماذا سيكون عليه الحال داخل عقل جون مالكوفيتش- على سبيل المثال – وتخيل لو أن ذكرياتك مع حبيبة سابقة قد إنمحت لان ألم الذكرى لا يُحتمل؟

هذه الأفلام تحتوى دائماً على عنصر كاريكاتورى يجعل الحياة الداخلية للشخصية أقل صلة بشخصيته الخارجية ومن الطريقة التى يظهربها، وهذا حقيقى مع كل أبناء تيننبوم فى فيلم "أبناء رويال تيننبوم" حيث يظهر كل من بن ستيلر ولوك ويلسون وجينيث بالترو بصورة تخالف حقيقتهم، فستيلر يرتدى ملابس رياضية حمراء، وبالترو تتميز بكحل عين كثيف وويلسون رئيس فريق تنس.

ان كل ما تشترك فيه هذه الأفلام هو حالة الإدراك، الحالة التى تضع المُشاهد فى موضع المُشاهد المُتميز حيث كل صورة تحمل علامة ويمكن فهمها بسهولة، وهذا ما دعى النقاد الى تسميتها "طابع عالم السيلولويد المغلق على نفسه" وهى ليس دائماً محل انتقاد.

طريقة الإخراج فى هذه الأفلام تتعارض كثيرا مع أفلام السبعينات، وحتى اذا كان مخرجو هذه الأفلام أنفسهم يستدعون أسماءاً من عقد السبعينات لعلاقة أفلامهم بها (فالمخرج ألكسندر باين - مخرج فيلم "الطرق الجانبية"- تحدث عن أهمية روبرت ألتمان بالنسبة له، كما نوه ديفيد. او. راسل – مخرج فيلم "أنا قلب عائلة هاكابى" – عن هال أشلى، بينما بى. تى. أندرسون – مخرج فيلمى "ليالى الراقصة" و"ماجنوليا" – إعتاد على إستعارة فسيفساء ألتمان فى أفلامه.

نحن نحس على أية حال أن قلائل من هؤلاء المخرجين الشباب لديهم الكثير من الإهتمام بما قاله الناقد فيليب كوكر فى كتاب "سينما العزلة" " حيث يُرحب ألتمان بالسرد المفتوح للعب بعناصره الثانوية، ويرحب بالصور التى تنصرف بعيداً عن مركز الحبكة العقيم بدلاً من التعبير عنها" وفى الأفلام الحالية يعود المركز العقيم للحبكة ويتم ترتيب العناصر الثانوية عادةً فى نسيج السرد.

ولعلنا نعتقد أن الدبور الذى ظهر فى فيلم "الإنتخابات" يلعب دوراً رئيسياً فى طريقة السرد، فهو يلدغ بطل الفيلم فى عينه ويتسبب هذا فى تغيير مسار القصة، وفى فيلم " الإشراقة الخالدة لعقل بليد" فإن العناصر الفلسفية – فكرة أن شخصاً ما قد يُريد أن ينسى ألم علاقته العاطفية الماضية- هذه العناصر الفلسفية يتم سردها بحرفية خلال إكتشاف "جيم كارى"- الشخصية المحورية- أن العلاقة السابقة التى جمعته مع رجل إنمحت من ذاكرته، وأن تصميم البروفسير على محو ذاكرة كارى فيما يخص علاقته العاطفية السابقة تخدم جداً الأهداف الشخصية للبروفيسير.

ليس المقصود من هذه المحاضرة التطاول على هذه السينما، إننا فقط نبذل جهدنا فى فهم ما ترمى إليه هذه السينما، وإلى أى مدى وصلت هذه السينما، فإذا كانت نبرة هذه الأفلام تتميز بالطرافة عادة، وإذا كانت القصص تتحرك فى إتجاه نهاية واضحة نوعاً ما، عندئذ فإن الفيلم لن يحقق ما نادى به اندريه بازن من أن السينما فى أقصى أهدافها يُمكن أن تُوفر – او طبقا لنص كلمات كوكر- "إمكانية تسمح للمُشاهد أن يحصل على مجموعة من المعلومات والخبرات من خلال الصورة"

يريد المخرجون الكثير من الأشياء ليُرتبوا المعلومات بمثل هذه الطريقة التى تسمح لنبرة الفيلم أن تظل مُنسجمة وأن يكون السرد واضحاً دون الخوض فى التعقيدات: كما ان القصص غالباً تكون هى أهم ما يحرص عليه كاتب السيناريو فى هذه "الحركة" السينمائية: مثل سيناريوهات تشارلس كوفمان لفيلم "كينونة جون مالكوفيتش" وفيلم "الإشراقة الخالدة لعقل بليد".

ونتيجة لهذا فإن هذه الأفلام تكون مفهومةً عادةً من المُشاهدة الأولى لأن عين المُشاهد يتم توجيهها بدقة كما أن القصص مبنية بدقة، أما المُشاهدة الثانية لهذه الأفلام فإنها تكشف عن أكثر بكثير مما كان مُتحققاً فى المُشاهدة الأولى.



2


ولكن هذا لا يشمل كل المخرجين الأمريكيين، فبعضهم لا يعول على الصورة مطلقا، فهؤلاء المخرجون تركوا فى أفلامهم إمكانيات التأويل مفتوحة، مثل المخرج جوس فان سانت فى أفلامه "الفيل" و "جيرى" و "الأيام الأخيرة" وكذلك المخرج لارى كلارك فى أفلامه " الأطفال" و "بولى" و "كين بارك" وكذلك المخرج فنسنت جالو فى أفلامه "الجاموسة 66" و "الأرنب البنى".
 
الفيل

 فبدلاً من السرد المتسارع كما فى فيلم " الإشراقة الخالدة لعقل بليد" والأفلام التى على شاكلته، فعلى العكس تبدو هذه الأفلام كما لو كانت تقلل من أهمية القصة وذلك لخلق حيزاً أكبر للمُشاهد فى عملية المُشاهدة.
ففيلم "الفيل" لفان سانت يناقش حادثة مأساة مدرسة كولمبين من جميع جوانبها ودوافعها من خلال أثنين من تلاميذ المدرسة الذين أطلقوا النار على أعداد كبيرة من التلاميذ والمُدرسين.

ولكن الفاجعة لا تحدث إلا في القسم الأخير من الفيلم، فالمخرج جوس فان سانت يكرس معظم الفيلم لمراقبة الطريقة التي دفعت التلميذين لهذه الجريمة، من خلال لهجة غير عادية تجمع جيداً بين إحساس الإهمال الذى شعر به التلميذان، وبين التوجس من جانب المُشاهد من خلال تلاعب المخرج فى البناء الزمنى ورؤيته للحدث من وجهات نظر مختلفة.

فإذا كان المخرج "ويس أندرسون" فى فيلمه يهدف إلى التهكم على البديهيات، فإن المخرج جوس فان سانت يبحث عن القلق الغامض، فنحن نُشاهد الفيلم ونتحرى عن طبيعة حادثة ليس لها سبب واضح ولكنها تحتمل الكثير من التأويلات.

فكل إيماءة يجب ان نقرأها كإشارة الى دافع مُحتمل، فهى ليست مجرد دافع للشخصية خلال السرد ولكنها تحتمل التأويل على أنها هوس إجتماعى، فأى العناصر يمكن تجميعها لخلق موقف مثل ما حدث فى مدرسة كولمبين؟ فالحدث يجمع بين الغرابة وفى نفس الوقت يحتاج الى تحليل.

فالمخرج جوس فان سانت يبدو انه يولى أهمية لهذا الوضع المتناقض في فيلمه باستخدامه للقطة –المشهد التى تبدو كما لو انها تُحيط بالشخصيات فتتصنت عليهم احيانا واحيانا أخرى تراقبهم، فالمخرج جوس فان سانت يقدم طريقة غير معتادة لحدث سبق للمخرج مايكل مور ان تناوله بطريقة مخالفة فى فيلمه "لعبة البولينج فى كولمبين".

وفد يكون مايكل مور مُحقا فى إدانته لنظام حيازة السلاح فى الفيلم، لكن مور أراد ان يتعاطى مع الحقائق وأراد ان يُدين الطريقة السهلة التى يستطيع بمقتضاها المواطن الأمريكى ان يحصل على السلاح حتى يُفسر حادث مدرسة كولمبين.

ومن المحتمل ان جوس فان سانت يتفق مع هذا الرأى، لكن هناك أيضا مدارس عديدة فى أمريكا لم تحدث فيها مثل هذه المذبحة رغم ان إقتناء السلاح متاح بسهولة فى هذه الأماكن، وكذلك فثمة بلدان تضع قيوداً على إقتناء السلاح مثل بريطانيا ومع ذلك حدثت مآسى مماثلة مثل حادثتى هانجرفيلد ودانبلان على سبيل المثال، أما بالنسبة إلى المخرج جوس فان سانت فإن ما يهمه هو فهم ملابسات مثل هذه الحادثة قدر الإمكان.

فليس من المهم أن نشرح ما حدث ولكن أن نحاول فهم طبيعة الحالة، وهذا موقف جمالى مبدئى، وقد يكون من العبث ان نُقلل من أهمية فيلم جوس فان سانت على حساب حادثة مدرسة كولمبين، تماما مثل أفلام لارى كلارك التى لم تُرد فقط أن تفهم سلوك المراهقين من الداخل ومن الإيماءات العارضة ومن جو الإحباط، ومن الحاجة إلى عمل شيئ بالنسبة لحياة شخص ما، ولكن إنجاز هذا بطريقة عفوية وغير مُرتبة، ففيلم "الفيل" يريد ان يبحث فى كل الطرق التى من خلالها يبنى المُراهقون هوياتهم بأنفسهم.

البعض سيعتمد على الصور والبعض سيعتمد على الحياة، وقد يبدو هذا رداً وقحاً، لكنه يساعد فى شرح كل من الحتمية والصدفة فى فيلم "الفيل" كذلك يعرض فان سانت الطابع العرقى للسلوك والذى يرهص بأفعال مستقبلية، وقد يجد البعض أن العناصر بدت شديدة التوكيد (فقد تعجب بعض النقاد من مُشاهدة الصبيان لمقاطع فيلمية نازية، ولعناق المثليين أثناء الإستحمام تحت مياة الدُش) لكن ظلت مساحة كبيرة من اللعب الحر فى هذا الفيلم.



3


بعض النقاد يستخدمون مصطلح جماليات التأثير ليصف أسلوب الأفلام الأمريكية التى أصبحت عنيفة، وأيضاً الطريقة التى تُؤثر بها هذه الأفلام على الجمهور، فعلى الرغم من أن العديد من أفلام أواخر الستينات وبداية السبعينات كانت عنيفة مثل "بونى وكلايد" و"الباقة البرية" و"البرتقالة الآلية" و"كلاب القش" فالحقيقة أن العنف، أولاً، كان رعباً تعاطفياً ، وثانياً، كان مُؤئراً تكميلياً.

من المؤكد أن العديد من الأفلام أرادت أن تُحدث صدمة، وإذا فعلوا ذلك فالصدمة مجرد نصف القصة فى جماليات التأثير، ففى أفلام مثل "تى2" و"السرعة" و"تأثير عميق" و"أرماجيدون" و"جودزيلا" و"يوم الإستقلال" بدا التأثير كما لو أنه يحتل الأولولية، فالكاتب عادة يعول على مصطلح "جماليات التأثير" ومن ناحية أخرى فإن جيف كينج قد يقول أن هذا الأمر ليس لُب الموضوع.

ففى كتابه "هوليوود الجديدة" يقول (يظل البناء السردى عنصراً هاماً فى الخلطة السينمائية التى توظف "المُشاهدة" كثيراً جداً، بالإضافة إلى المؤثرات الخاصة فى هذه الأفلام) لكنه أيضاً أشار إلى أنه فى الأفلام المعاصرة (لحظات "المُشاهدة" هنا تبدو طويلة وكثيرة التكرار، وانها تُجزء السرد) 
 
آلام المسيح
وهى نفس النقطة التى أشار إليها ليام نيسون بأسى عند تناوله لفيلم " إقبال" لتوم شون (لا أعتقد أننى أستطيع أن أتعايش مع ترهات الأفلام بعد الآن) (نحن أساساً عرائس ماريونيت) فأسلوب جماليات التأثير يعتمد قليلاً على القصة والشخصيات ويولى الأهمية للتقنية: فهو يعتمد على جودة الصوت والمؤثرات الخاصة: وبأسلوب يجعل المُشاهد لا ينفعل كلية على المستوى العاطفى، كما لو أن هذا النوع من الجماليات لا يحقق الهدف منه.

وهذا قد يُساعد فى شرح فيلم "آلام المسيح" الذى بدا مثيراً للشفقة وغريباً وعديم الحياة، إنه فعلاً يبدو كفيلم من هذه الأفلام التى ظهرت، حيث يجب عليك أن تكون على خلفية بالأصل الأدبى الذى إعتمد عليه الفيلم وإلا فإن تركيزك سيتشتت.

فالأمر يبدو كما لو أن المخرج ميل جيبسون لا يريد أن يُعيد خلق القصة المسيحية لكنه أراد ان يُجبر المُشاهد على التأثر بالضرب والكدمات وأن يشعر بالسخط، ألم يكن من الأجدر أن يُسمى الفيلم "عذاب المسيح" حيث كنا نرى عذاباً أكثر من الألم؟ لكن فيلم "آلام المسيح" مجرد فيلم واحد من الأفلام المعاصرة التى بدت كما لو أنها تريد أن تُؤلم المُشاهد: مثل أفلام أخرى تراوحت فى إمتيازها ولأسباب مختلفة تماماً مثل أفلام " كازينو رويال" و"الراحل" و"ميونيخ" و"أنقذوا العريف ريان" و"نادى العراك".

بينما افلام الكوارث فى السبعينات مثل فيلم "الزلزال" و"ذروة الجحيم" كانت تحاول أن تقدم قصة شخص (ربما كانوا يبذلون كل جهدهم لكننا نعرف أنهم لن يستطيعوا إدهاشنا بمؤثراتهم الخاصة) أما أفلام مثل "تيتانيك" و"السرعة" فقد أرادا أن يجعلانا فى حالة من الضغط، وأن يجعلانا نعرف إلى أى مدى تطورت هذه السينما على مستوى التقنية بما يسمح لجماليات التأثير أن تكون فعالة، وتستطيع أن تؤثر فينا مباشرة كما لو كانت قصة تُحكى جيداً.

ربما الأمر عودة إلى البدايات الأولى للسينما، حيث قام الناس يهرولون مع إقتراب القطار ناحية شاشة السينما فى فيلم الأخوين لوميير الأول، وحيث إهتاج الناس وهربوا من السينما عندما أطلق أحد شخصيات فيلم "سرقة القطار الكبرى" النار مباشرة ناحية الشاشة، لكن هذه الأمور حدثت عندما كانت التقنية بدائية وكان المُشاهد ساذج، أما الآن فلدينا جمهور يمكن ان نصفه بانه شديد التطور، ومع ذلك فإن جودة التقنية يمكن أن تُعيد هذا الجمهور إلى نفس حالة السذاجة.

وكما أشار توم جونينج فى "كتاب السينما" أن السينما فى أيامها الأولى كان لها إبهارها، حيث كان الجمهور يُثار ويستمتع بهذه البدعة وكان يتفاجأ إلى حد الصدمة.

وبصرف النظر عن أن بدايات السينما محل جدل ونقاش، لكن من المؤكد ان للسينما تاريخ حافل، فالسينما بالطبع، وعلى طول تاريخها، كانت تلعب دائما بالعناصر التى تتعلق "بسينما الإبهار"

هل توجب على الناس أن يصرخوا أثناء مشاهتهم لفيلم "سيكو" فى بداية الستينات وان يُستثاروا ويتفاجئوا إلى حد الصدمة؟ وحتى إذا كنا نعجب بالبراعة الجمالية لفيلم "بونى وكلايد" و"الباقة البرية" ألا يتوجب علينا أن نعترف بان جزءاً من إبهارهما يكمن فى شكلهما؟ لكننا يمكن أن نجيب بنعم، فهذا جزء من إبهارهما، لكنه مجرد جزء، وإذا بدا فيلمى "آلام المسيح" و"يوم الإستقلال" مختلفين، فذلك لأن الفيلمين كانا يريدان أن يهمشا العناصر الأخرى للتركيز بشكل أساسى على الحيل البصرية.

فيلم "يوم الإستقلال" يقدم لنا لقطات مبهرة لإنهيار الأبنية، فيلم جيبسون كان خلاصاُ روحياً لرجل واحد، فالظاهر أن المسيح يعانى من أجل التكفير عن آثامنا، لكننا مستعدون لدحض الإستمتاع بجماليات التأثير، لاحظوا الطريقة التى تنهال بها السياط على المسيح والتى لا تختلف كثيراً عن لقطات السياط المُستخدمة فى موجة أفلام البورنو مثل فيلم "مُنشار" وفيلم "الفندق" وفيلم "وولف كريك" حيث تكتسب هذه الأفلام حيويتها إعتماداً على الألم.



4
تحدثنا مسبقاً عن التأكيد الزائد للتفاصيل فى السينما، وعلى عكس ألتمان، فإن مخرجاً مثل ألكسندر باين توجب عليه أن يعمل ما بدا كلحظات عارضة تُثبت أهمية التطور فى القصة، عندئذ لماذا نُفرط فى عمل قصة تعتمد على التأكيد الزائد كما فى فيلم "21 جرام" وفيلم " نفس المشتبه فيهم" وفيلم " خيال صرف" وفيلم "إذهب"؟

تحدثنا عن هذا الأمر سابقاً فى محاضرتى المونتاج، حيث تساءلنا فيما يتعلق بالتعقيد، هل كان فيلماً مثل "تذكار" مُعقداً أم أنه مجرد فيلماً مُركباً، وهذا سؤال وجيه نسأله الآن فيما له علاقة بالتوكيد الزائد فى السينما الروائية، ذلك الأسلوب الذى راج جداً فى العقد الأخير.

 ما لدينا هنا غالباً هو خطوط متداخلة فى السرد والتى تبدو كما لو أنها تخلق إستمرارية فكل قصة تقود إلى أخرى دون وجود رابطة واضحة بين القصص، ومع تطور الحدث تتكشف العلاقات بين هذه القصص.

بعض هذه الأفلام تستخدم مؤثراً درامياً لضرورات الحبكة مثل أفلام "نفس المشتبة فيهم" و"إذهب" و"خيال صرف" والبعض الآخر من الأفلام يستكشف الأجواء المحيطة بالأحداث مثل أفلام "تخفيضات صغيرة " و "ماجنوليا" لألتمان، وأفلام أخرى تهتم بتقديم قضية كما نرى فى فيلم "21 جرام"
نفس المشيبه فيهم
 
وهذا لا يعنى أن كل نوع من هذين النوعين مستقل عن الآخر: ففيلم "ماجنوليا" (وإستشهاداً بأحد النقاد الذى وصفه بفسيفساء من القرف) أراد أن يُقدم قضية وأيضاً أن يركز على أماكن فى لوس أنجلوس تلك التى يصور فيها الفيلم. 

 فيلم "21 جرام" كما هو واضح، أنه كان يقدم قضية أثناء تقديمه لحالة قلب تم نقله من جسم شخص إلى ِجسم شخص آخر، وهنا نرى شون بن بعد عملية القلب قد أصبح مُغرماً ب "ناعومى واتس" زوجة الرجل الثانى الذى أخذ قلبه، (أنا ألخص لكم الفيلم) فالفيلم يمتلأ بتفاصيل هامة تقودنا إلى إدراك تفاهة الحياة وأيضاً إدراك التداخل بين الحيوات.

وإذا كنا قد تجاوزنا عن إفتعالية الفيلم، فهذا يكمن فى مقدرة المخرج أليخاندرو جونزالس إيناريتو على النظر إلى أبعد من تقنية الشكل وفى جعلنا نحس أنه لا يمكنه أن يطور الموضوع بأى طريقة أخرى.

وإذا كان قد سرد فيلمه بأسلوب أفقى، فهل أحسسنا أننا نفهم الحياة فهماً كاملاً والتى لا تشبه حياتنا على الإطلاق وليست لها أية صلة بحياة الآخرين أيضاً سواء على المستوى العاطفى (حيث نرى إزدياد حب ناعومى لشون بن) أو على المستوى الجسمانى (حيث نرى شون بن يسير بقلب رجل آخر) أو على مستوى معرفة من المسؤول عن هذا (فالممثل بينيشيو ديل تورو يُمثل دور الشخص المُعذب المسؤول عن موت الزوج)؟ ومثلما تحدثنا فى المحاضرات الأولى عن الأسلوب، وكيف أن المخرج يكون أحياناً مُفتعلاُ أكثر من كونه منطقى، يحق لنا أن نقول نفس الشيئ عن السرد والمونتاج.

هل نشعر بأن المخرج عمل شيئاً ذكياً أم أنه خلق شيئاً معقداً؟ لا يجب أن نتشدد او نتسرع فى حكمنا عليه، كذلك لا توجد تحفظات على الأسلوب، لكننا ربما نسأل أنفسنا عندما يوفر المخرجون لنا سرداً غير مفهوم، هل من الأفضل أن يقدم لنا المخرج جمالية معقدة تحتاج منا أن نفك طلاسمها أم يقدم لنا أسلوباً سهلاً يجعلنا نفهم تعقيدات الحياة.



5

من المجالات التى شهدت نمواً كبيراً فى العقد الأخير هى إزدياد شعبية السينما التسجيلية، ومن الواضح أن هذه الأفلام ليست أفلاماً تقليدية، ومع ذلك حققت هذه الأفلام مكاسب ليست قليلة، أو كما عنونت مجلة "سايت أند ساوند" الموضوع على النحو التالى "إيرادات الأفلام التسجيلية أصبحت كبيرة الآن فى شباك التذاكر"

وإليكم قائمة من الأفلام التسجيلية التى ظهرت فى العقد والنصف الماضيين: "قوس الأحلام" و"نادى بوينا فيستا الإجتماعى" و"تصوير عائلة فريدمانز" و"يوم من أيام سبتمبر" و"الأيام السوداء" و"لعبة البولينج فى كولمبين" و"فهرنهايت 11/9" و"حجمى الفائق" و"إملاء"

هذه القائمة ليست مقتصرة على الأفلام الأمريكية، ففيلم "يوم من أيام سبتمبر" والذى حصل على أوسكار أحسن فيلم تسجيلى، كان فيلماً إسكتلندياً، كما أن فيلم "نادى بوينا فيستا الإجتماعى" من إخراج الألمانى فيم فيندرز، لكن الفيلمين تم إنتاجهما بأموال أمريكية، ولعلنا نتساءل، هل نجاح هذه الأفلام شيئ جيد أم سيئ؟ وهل هو شيئ إيجابى أن تراعى الأفلام التسجيلية شباك التذاكر؟ دعونا نُجيب بنعم ولا.

نعم، لأن السينما التسجيلية وعلى مدى أعوام كان يُنظر إليها على أنها مهنة مهمة ولكنها غير رابحة، حيث كان المخرجون يعتمدون على العروض التليفزيونية وعلى مشاركاتهم فى المهرجانات الغريبة.

ولا، إذا كان المقصود من هذا أن المخرجين يقلدون حرفية الفيلم الروائى ليس بحثاً عن شكل لتقديم المعلومات بل للإستفادة من عناصر التشويق كهدف أساسى.

عدد من الأفلام التى ذكرتها لتوى تستخدم حرفية التوتر، وأكثر هذه الأفلام هو فيلم "الإملاء" الذى كان يتناول نتائج إمتحان فى الإملاء، بينما فيلم "حجمى الفائق" يُبالغ فى إظهار آثار تناول وجبات مكدونالدز لمدة شهر، فلعب الفيلم على عنصر التشويق من خلال مورجان سبورلوك (مخرج الفيلم والشخص الذى يُمثل الدور) للتشكيك فى القيمة الغذائية للأطعمة السريعة.

ومن الأفلام التى تجعلنا نفكر، أن فيلم "عندما كنا ملوكاً" يذهب فى الإتجاه الخطأ، وأصبح من الأفلام المهمة فى هذا الإتجاه السلبى، هذا الفيلم تم توزيعه فى عام 1996 وأصبح هو وفيلم "قوس الأحلام" منطلقان لظهور السينما التسجيلية التجارية. لكننا لا يجب علينا أن نرفض حرفية التشويق فى حد ذاتها، ودعونا بدلاً من ذلك أن نتساءل هل جاء التشويق من طبيعة الموضوع أم أنه تم إقحامه على مادة الفيلم؟ 

فى فيلم "عندما كنا ملوكاً" أراد المخرج ليون جاست أن يعود بنا إلى لحظة إندهاش كاملة، أراد من المشاهدين أن يكونوا واعين جداً أن "محمد على" عندما دخل حلبة الملاكمة مع جورج فورمان فى عام 1074، لم يكن أحد يظن أن لمحمد على أية فرصة، فقد قدم مبارتين صعبتين مع كين نورتون، بينما فورمان سحق نورتون فى جولتين فقط، وعلق الكاتب نورمان ميللر الذى كتب كتاباً عن المباراة، على كيفية تسديد فورمان اللكمات لحقيبة التمرين وانها كانت قوية لدرجة " إن أى من هذه الضربات كانت قوية لدرجة تحطيم أضلاع أى ملاكم آخر، وأن أى واحد لا يتمتع بعضلات بطن قوية سوف يتحطم عاموده الفقرى" فورمان لاكم حقيبة التمرين 600 مرة: وتساءل ميللر هل سيفعل فورمان نفس الضرر لمحمد على. مثلما فعل لحقيبة التمرين؟ 

وإستشهاداً بما كتبه كل من ميللر وسبيك لى وجورج بليمتون وآخرين، فبينما كان الفيلم يتحرك ناحية الملاكمة إلا أنه فى نفس الوقت لم يتجاهل تضمينات أوسع، فهذه المباراة حدثت فى دولة زئير التى كانت تحت حكم ديكتاتورى فاسد، حيث يتقاتل رجلان إلى حد أن يُميت أحدهما الآخر، إن تجاهل التوتر الناتج من المباراة وكذلك ما يحيط بها قد يبدو شيئاً سخيفاً، فالمخرج جاست ضفر بمهارة عنصر التشويق بمحتوى الفيلم.

فى فيلم "حجمى الفائق" للمخرج سبورلوك، نحس دائماً بالمغالاة التى لا تُضيف شيئاً إلى مادة الفيلم، وكما حذر الأستشاريون الطبيون سبورلوك من مخاطر حميته الغذائية الجديدة، حيث بدا سبورلوك أنه يريد الحمية ليؤكد على هذه المخاطر فبالغ فيها من أجل تحقيق الهدف من فيلمه.

وأخيراً أقول أن رجلاً يأكل الكثير من البورجر لا ينتج عنه توتراً يتساوى مع رجل يدخل حلبة الملاكمة مع رجل آخر يمكن أن يحطم عاموده الفقرى بضربة واحدة: تماماً مثلما نتساءل أى إمتحان إملائى يمكن حقاً أن يبرر نوعية العناصر الملفقة فى فيلم "إملاء" التى تحاول أن تقدمه لنا.

عندما كنا ملوكاً

كل ما نستطيع أن نقوله أن السينما التسجيلية تظل وفية لموضوعها وعندئذ تكتشف الدراما المناسبة للموضوع- بدون مغالاة وأيضاً بدون نكران لدورها وقدرتها على تحرى الحقيقة فى الموضوع الذى تتناوله.