14‏/10‏/2014

الفيلم السيريالى مولهولاند درايف

 ترجمة:- ممدوح شلبى
 
بعد الفيلم الغريب "قصة ستريت" فإن المخرج ديفيد لينش، أستاذ السيريالية التى تُذهل العقل، أخرج فيلم مولهولاند درايف الذى نال الإستحسان، وهو فيلم إثارة يغلفه الغموض ينتمى إلى نوعية أفلام الجريمة الجديدة وهو يعتمد على عرض الأحلام، والحقيقة أن الفيلم يمكن النظر إليه على أنه نسخة جديدة من فيلم " توين بيكس" فكلا الفيلمين يتشابهان فى الموتيفات والتيمة وكذلك العناصر الفنية، مثل البناء السردى اللاتصاعدى والإستخدام المكثف للون الأحمر وتقديم الأغانى القديمة.

 
بداية الفيلم تسترعى إنتباهنا بمشهد رقص سيريالى سريع من نوع رقصة "جيترباج" تحذر الجمهور من ان الفيلم لن يكون فيلماً عادياً من أفلام أمسيات السبت التى يمكن أن تستمتع بها مع أسرتك، وكلمة "جيترباج" نفسها مُشتقة من الإرتعاش الهذيانى، وقد تخدم هذه الرقصة كتمهيد للتغيرات السيكولوجية والعاطفية التى ستُصيب المُشاهد إثناء مشاهدة الفيلم.
 
وبعد مشهد قصير يشبه الحلم، نرى وسادة حمراء، وهذه هى المرة الأولى التى يظهر فيها اللون الأحمر الذى سيتكرر ظهوره كثيراً فى الفيلم، وليست غلبة اللون الأحمر هنا هى التى تُدكرنا بإستخدامه المتكرر فى فيلم "توين بيكس" ولكننا أيضاً فى هذا الفيلم لدينا غرفة نوم حمراء شبيهة بنفس غرفة النوم فى فيلم توين بيكس.
 


ومن ملامح أسلوب ديفيد لينش الأخرى، ان السرد الروائى اللاتصاعدى يصبح الآن راسخاً مثل مشهد الفتاة المُصابة التى تهرب من محاولتها لإرتكاب جريمة وهى الآن تتجول بدون هُدى، مع إنتقال مونتاجى إلى مشهد آخر- ذلك المشهد الذى يظهر فيه رجل وكابوسه، تيمة الحلم هنا أصبحت محورية فى هذا الفيلم وتتخذ شكلاً مُرعباً، هذا الرجل يمر بتجربة مرعبة يعيشها فى أحلامه ويقظته- الرجل الذى يظهر فى خلفية العشاء يُعيد إلى أذهاننا القاتل بو فى فيلم توين بيكس، إنه من المستحيل أن نتجاهل حقيقة أن معظم الشخصيات تعيش حالة حلمية خاصة بهم، فالرجل مسكون ومُنهك من مخاوفه وكوابيسه، والممثلة الطامحة "بيتى" تعيش حلمها بأن تكون نجمة سينمائية، وريتا تلك الفتاة المجهولة تعانى من فقدان الذاكرة الذى أصيبت به بعد حادثة سيارة، وهى تعيش الآن فى حالة حلمية رغماً عنها.
 
فى ظل إصرار المخرج على رفض تفديم تفسيرات منطفية للرمزية فى الفيلم، فالأمر يبدو وكأنه من العبث أن نحاول الوصول إلى تأويل واحد نتفق عليه بخصوص الفيلم، إن رفض ديفيد لينش يمكن بالتأكيد أن يُقرأ على أنه رغبة منه بأن يجعل مُشاهديه يصلون إلى تاويلاتهم الخاصة بشكل فردى، وهذا فى حقيقة الأمر ملمح رئيسى فى تأويل الأحلام.
 
الشخصيات الثلاثة الرئيسية فى الفيلم لديهم منظورهم الحلمى الخاص، فبالنسبة لريتا، الحلم هو منزل عمتها كما انها تُشير إليه بإعتباره مكان الأحلام (ربما الأمر نوع من الكوميديا السوداء من جانب ديفيد لينش)، وبالنسبة للشخص المجهول فالحلم يمثل الكابوس والرعب، وبالنسبة لريتا فهذا الأمر بمثابة تجربة تعيشها كفاقدة للذاكرة، ويبدو المُشاهد كما لو أنه منوط به البحث عن وسائل ممكنة للهروب من السيريالية فى الفيلم.
 


وكمحاولة لإيجاد طريقة لريتا لكى تتعافى من فقدان الذاكرة، فإن المرأتين تذهبان للعشاء فى وينكيس حيث ترى ريتا إسم "ديان" على شارة النادلة فتتذكر فجأة إسم ديان سيلوين ويصبح العشاء عنصراً محورياً فى الفيلم، وربما يمكن إعتباره موتيفة قوية للفيلم.
 
وبعد أن تحصل الشخصية الغامضة كاميلا رودس على الدور التمثيلى فى الفيلم بدلاً من بيتى التى كانت ترغب فيه، نجد المرأتين تذهبان إلى منزل إمرأة ما تُسمى ديان سيلوين ليكتشفا - ويالها من فاجعة بالنسبة لهما - ان المرأة عبارة عن جثة مُتعفنة راقدة على سرير، وبعد عودتهما إلى المنزل وممارسة الجنس، تبدا ريتا فى ترديد كلمة "سيلينشيا" وبعض التعبيرات الاسبانية الاخرى فى كابوسها الذى ينتابها، وهذا المشهد شديد الصلة بنهاية الفيلم.
 
ثم يركبان تاكسياً إلى المسرح حيث يحضران حفلاً موسيقياً سيريالياً ويسيطر اللون الأحمر على المشهد مرة ثاتية، وهو من الممكن ان يكون رمزاً للدم أو الخوف أو النار، وتُخرج بيتى علبة مربعة زرقاء من حقيبتها، وستظهر علاقة هذه العلبة بمفتاح أزرق سنراه لاحفاً، ويعودان إلى المنزل، فتختفى بيتى فجأة، وتفتح ريتا العلبة وعندئذ تسقط على الأرض، ربما ترمز العلبة إلى البوابة التى تقود إلى العالم الحقيقى، كما سنلاحظ ، وربما ترمز أيضاً إلى الحقيقة المخفية، بينما المفتاح قد يكون أحد الوسائل التى يستطيع بها المرء أن يفتح بوابة هذا العالم.
 
 
المشهد التالى يكشف عن المرأة الميتة المُشار إليها سابقاً – هذه المراة على قيد الحياة الآن وهى تبدو شبيهة تماماً ببيتى، إنها تستيقظ بواسطة راعى بقر غامض والذى يمكن إعتباره بمثابة وسيطاً او جسراً بين العالمين، يبدأ المُشاهد الآن فى الظن بأن كل ما حدث كان حلم بيتى – التى أصبحت الآن ديان سيلوين- وأننا فى النهاية نعايش الحقيقة. أ
 
أول شيئ يُدهشنا هو التباين بين بيتى وديان "فهما شخصية واحدة" بيتى ممثلة ساحرة وطموحة وممتلئة حماساً، بينما ديان بلا لون، فهى شاحبة وتبدو كما لو كانت منهارة وفاقدة للطموح، إنها يمكن أن تكون رمزاً للممثلة الفاشلة، أو ببساطة هى شخصية "ميتة" كما ظهرت فى القسم الأول – الموت كرمز للسقوط من الجنة، ويتم تصوير كاميلا الآن بواسطة ريتا وتظهر المرأتان كما لو كانت بينهما علاقة حميمة.
 


فيلم "مولهولاند درايف" يتشابه مع فيلم "الإمبراطورية الأرضية" فكلا الفيلمين يحتويان على هلاوس لممثلتين تتعاملان مع حياتهن المهنية وحياتهن العاطفية، وكل منهما إتخذت الطريق الخطأ، تبدو كاميلا وهى تمازح آدم كيشر، الذى ظهر بوصفه المخرج فى تجربة الاداء التمثيلى الأولى، كما انها تحاول ان تصد عواطف ديان الموجهة لها. وعندما تصل ديان إلى أسوأ حالاتها فإنها ترتب أمراً مع قاتل محترف –ظهر فى الحلم أيضاً – لكى يقتل كاميلا، لم يكن لهذا المشهد ان يكون هاماً إذا لم تظهر فيه شارة النادلة المكتوب عليها إسم بيتى، وهذا مثال على الإزدواجية بين شخصيتى بيتى وديان، والمشهدان المتوازيان يمكن رؤيتهما كانعكاسات مرآة لكل منهما.
 
رمز المرآة فى تفسيرات الاحلام يعبر عن الكيفية التى يريد بها أحد الأشخاص أن يراه بها شخص آخر، أو ببساطة الكيفية التى يود احد الأشخاص ان يراه الناس بها، إنه أيضاً هام لتفسير المشهد حيث حلمت ديان بها كممثلة ناجحة، ومن الواضح انها ليست ناجحة.
 
فى هذه المسألة حدثنا سيجموند فرويد فى كتابه -تفسير الاحلام- عن مفهوم تحقيق الرغبة، الفيلم يتبنى بقوة التصور عن الاحلام بوصفها تجسيد لرغبات لم تتحقق، حلم ديان يمكن رؤيته كمحاولة لرؤية نفسها ناجحة وانها حققت ما تريد.
 
الرجل الذى يعانى من الكابوس فى القسم الاول من الفيلم نراه أيضاً فى العشاء، لكنه فى المكان المضبوط الذى يخبر فيه محدثه أنه يقف - إنها نظرية الإنعكاس مرة أخرى- فبالنسبة لشخص بلا مأوى، فهو يعبر عن تفسيرات لا حصر لها، أما بالنسبة لى فالأمر الأكثر اهمية أن نراه كشكل يجسد الشر الذى تمثله ديان، أو الشر الموجود فينا جميعاً.
 
 
وعندما تعود إلى المنزل، تعانى ديان من هلاوس تتعلق بزوجين مُسنين ، يمثلان لها الضمير والإحساس بالذنب، وتقتل نفسها، المشهد الاخير يحدث فى مسرح، جيث تتداخل صورة للمرأتين مع الخلفية، ربما المسرح كله يمثل مخيلة ديان، صورة المرأتين تظهر لمدة وجيزة، كما لو انهما آخر ما تراه ديان، وتلاشى الصورة فى النهاية كحياتها التى تنتهى بينما المرأة الغامضة ذات الشعر الأزرق تهمس "سيلنشيو".
 
هناك الكثير من الجدل حول معنى الفيلم وهناك أراء متعددة تتعلق بالعالمين، سواء كان الأمر مجرد حلم غريب ليس له علاقة حقيقية بالواقع، أم أن القسم الاول من الفيلم كان مجرد تصور من ممثلة فاشلة، فالفيلم بالتأكيد يشحذ التفكير.


12‏/10‏/2014

سينما ديفيد لينش السيريالية

مصدر المقالة :- ------------
ترجمة:- ممدوح شلبى
ديفيد لينش
ظهرت السيريالية كحركة فنية فى العشرينات وكانت تستهدف التعبير عن اللاوعى دون الإلتزام بالحقيقة والمنطق، السيريالية تستكشف الطرق التى تتداخل فيها العوالم المختلفة أو تتواجد معاً أو تتصل ببعضها بعضاً، ومن هذا التعريف المُبسط نستطيع وصف ديفيد لينش بانه مخرج سينمائي سيريالي، فإنتاجه الفنى وخاصة أفلامه السينمائية تقدم هذه السيريالية.
والسيريالية أيضاً كانت أول حركة فنية ترتبط بالسينما عن قرب، فالسينما كانت أكثر الوسائل ملائمة لتصوير إنعدام الحدود بين عالم الأحلام وعالم الواقع، وكان السيرياليون هم أول من كشفوا عن التشابه بين الصور فى أحلامنا وفى لاوعينا وبين الصور الخيالية فى الأفلام، وكانوا يطمحون إلى التأثير على التصورات الإنسانية عن الواقع عن طريق إظهار أن الواقع ليس إلا واقعاً إسمياً، ونحن من نسميه واقعاً.
ديفيد لينش مخرج سينمائى أمريكى، تمثل أفلامه السينما المستقلة الناجحة، وديفيد لينش هو الوحيد من المخرجين الأمريكيين الذين نجحوا فى عمل أفلام فنية على الطريقة الأوروبية، وبالإضافة إلى أن ديفيد لينش مخرجاً فإنه منتجاً وسيناريستاً، وهو أيضاً رساماً ومصوراً فوتوغرافياً وموسيقياً.ونستطيع ان نجد فى كل أفلامه أن العلاقة بين الاحلام والواقع من الموضوعات الاساسية، فالسيريالية واللامعقول دائماً موجودان، وهو لا يلقى بالاً إلى الوسيط الفنى الذى يستخدمه سواء كان هذا الوسيط هو السينما أو التليفزيون، وغالباً فإن ديفيد لينش يميل إلى الإحتفاظ بتأويلات أفلامه لنفسه فهو لا يبوح بها، فهو يترك هذه التأويلات لكى يستكشفها الجمهور بنفسه، ولإن افلامه تصدر عن لا وعيه، فقد قال أنه يستمتع كثيراً بتأويلات الجمهور لأفلامه، وهذه التأويلات غالباً ما تكون مختلفة كلية عن رؤاه الخاصة.
وُلد ديفيد لينش فى ميسولا بمونتانا فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1946، وبصرف النظر عن ان عائلته تنقلت كثيراً، فإن ديفيد لينش عاش طفولة سعيدة، ورغم أنه وعائلته عاشا حياة الطبقة المتوسطة العادية، فديفيد لينش الطفل عرف أن الحدود بين الواقع والأحلام ليست جامدة، فقد قال "أنه عرف أن ثمة عالم آخر تحت سطح العالم الذى نعيشه، وأن عوالم أخرى يمكن إكتشافها إذا حفرت عميقاً تحت السطح"، ويقول لينش بانه عرف هذا عندما كان طفلاً لكنه يقر بأنه استعصى عليه أن يجد دليلاً على زعمه.
العنصر السيريالى فى أعمال ديفيد لينش شديد الوضوح لان عملية إخراج فيلم أو إبداع اى شكل فنى من وجهة نظره ما هى إلى عملية لا وعى خالصة.
السينما من وجهة نظر ديفيد لينش هى عملية تحويل حلم إلى فيلم سينمائى بالكشف عن لامعقولية العالم الحلمى فى الظروف العادية، ومن اجل هذا يستخدم ديفيد لينش السرد المُتجزء وعدد لا حصر له من الكوابيس واللقطات التى تُشبه الحلم، وسوف نلاحظ فى أفلامه تكراراً للقطات للنار، والطرق السريعة ليلاً، والدخان، والأضواء المتقطعة، ولقطات عديدة مُشوهة.
أراد ديفيد لينش أن يُصبح رساماً عندما كان عمره 9 سنوات، لكنه وبينما كان يتعلم ليصبح رساماً، أدرك أنه بإستخدام الوسيط السينمائى يستطيع عمل صور مؤثرة وان السينما يمكن أن تكون أكثر الوسائط تأثيراً فى التعبير عن رؤاه.
قال ديفيد لينش أنه يُفضل السينما عن أى شكل فنى آخر، لأن السينما نفسها تحتوى على فكرة الزمن والسرد والحوار والموسيقى والمؤثرات الصوتية، وهذه الأشياء تُتيح له ان يعبر عن أفكاره وأحاسيسه التى لا يمكن التعبير عنها بإستخدام أى وسيط فنى آخر.
وهو يُفضل الصورة عن الكلمة، وهذا واضح فى أفلامه وخاصة فيلم "رأس الممحاة" الذى يتميز بشُح الحوار، وديفيد لينش على أيه حال ظل محافظاً على وجود ضوضاء تغلف شريط صوت أفلامه، كما انه يكتب موسيقى أفلامه بنفسه، وهو يستخدم الكلمات الغامضة كعنصر من عناصر عالمه الحلمى.كما ان الستارة الحمراء هى أحد الرموز التى يتكرر ظهورها فى أفلام ديفيد لينش، وظهرت للمرة الأولى فى فيلم "الأزرق المخملى". وقد عبر عن ولعه بلحظة محددة – وهى لحظة جلوسك فى صالة السينما بينما الأضواء تنطفئ وتنفتح الستارة ويبدأ الفيلم، وهذا يأخذك إلى عالم آخر- هذه اللحظة المحددة هى التى ألهمت ديفيد لينش أن يستخدم رمز الستارة الحمراء أكثر من مرة فى أفلامه.
وتُمثل الستارة الحمراء نوعاً من الفاصل بين الواقع المادى الحقيقى وبين عالم الحلم، ففى "توين بيكس" فإن الغرفة الحمراء بالستائر الجدارية الحمراء هى المكان الذى تتخذ فيه الأرواح شكلها المثالى، وهى المكان الوسط بين عالمين حيث يمكن لأى شيئ أن يحدث ولا توجد مشكلة بالنسبة للزمن.

الأحلام

الأحلام هى واحدة من أكثر الموضوعات المُستخدمة فى أفلام ديفيد لينش، وهو يفترض فى معظم افلامه ان العالم الذى نعيش فيه ليس هو العالم الوحيد المتاح، وبالنسبه له فأن الواقع اليومى الذى نعيشه هو مجرد ظل لأفكار مظلمة وخطيرة وشهوانية تسيطر على الإنسان العادى.
معظم مواضيع أفلامه تبدو أسيرة الحدود الغير واضحة بين واقعين مختلفين، ولكن بدون معرفة يقينية بما هو الواقع الحقيقى وما هو الواقع الحلمى، فشخصية "إيجنت كوبر" فى "توين بيكس" يسأل نفس السؤال الذى يراودنا عندما نفكر فى الأحلام، فهو يسأل "هل تعرف من أين تأتى الأحلام؟، الخلايا العصبية المركزية تُطلق شحنات عالية الفولت إلى مقدمة الدماغ، هذه الشحنات تُصبح صوراً، والصور تُصبح أحلاماً، لكن لا أحد يعرف لماذا نختار تلك الصور بالتحديد" ، وعن سر إهتمامه بالأحلام قال ديفيد لينش "عندما تنام، فانت لا تتحكم فى أحلامك، وانا احب ان أخوض فى العالم الحلمى الذى أختلقه، فهو العالم الذى إخترته والذى اتحكم فيه بشكل كامل".
التباين بين الحلم والواقع وبين الخير والشر موجودان فى فيلم "الأزرق المخملى" حيث تنقسم بلدة إلى قسمين، قسم للخير والثراء وقسم للفقر والوضاعة، ونفس الحال مع الشخصيات الرئيسية، فهى تخلق تبايناً، فشخصية جيفرى تُمثل الخير وشخصية فرانك تُمثل الشر، وشخصية ساندى تُمثل البراءة بينما شخصية دوروثى تُمثل الدناءة، والحقيقة ان العديد من عناصر أفلام ديفيد لينش تقابلها عناصر عكسية فيما له علاقة بإيمانه بالعوالم الحلمية وبحقيقة أن كل صورة كبيرة جميلة يمكن أن تحتوى على تفاصيل بشعة.
ومرة أخرى، فثمة توازى يمكن إكتشافه بين قناعات ديفيد لينش فى العوالم البديلة وبين كل العناصر فى أفلامه التى ترمز لهذا، ففى واحدة من رسوماته التى تحمل إسم "أنا أنظر إلى نفسى" نرى جانبى شكل معروضين، فهو هنا يصور قناعاته بالشيئ وعكسه –الخير والشر، والحلم والواقع، والظلام والنور، والجمال والقبح، وكذلك يكشف عن المنطقة الوسطى بين العالمين حيث نجد ان الغرفة الحمراء فى فيلم "توين بكس" تعبر عن هذه المنطقة الوسطى، ويعلق ديفيد لينش عن هذا قائلاً "إن الشيئ يقابله نقيضه، وهذا يعنى وجود شيئ فى المنتصف، وان المنتصف ليس لتعادل النقيضين ولكن الوسط هو قوة النقيضين".
موضوع الحلم غالباً ما يتحول إلى موضوع الحلم الأمريكى- الذى غالباً ما يظهر فى اعمال ديفيد لينش أيضاً – من المشاهد الأولى المُدهشة فى فيلم "الأزرق المخملى" إلى قصة بيتى إلمس، حيث تحاول فتاة صغيرة أن تصنع هذا الحلم الأمريكى فى هوليوود، فكرة الحلم الأمريكى يمكن ان يكون لها جذور من طفولته، فالعالم فى طفولة لينش كان فى الضواحى شديدة الصغر، وعلى أيه حال، فهو غالباً ما يلمح ألى عناصر القبح فى حياة الضواحى، وهذا أيضاً موصوف فى أفلامه.
التناقض بين الجمال التام وبين التفاصيل القبيحة يمكن رؤيته فى المشهد الإفتتاحى من فيلم "الأزرق المخملى" حيث تنتقل الكاميرا من صورة لمنزل جميل مبنى على بقعة من العشب الأخضر المقصوص، لتكشف لنا الكاميرا عن العنف الشديد لحياة الحشرات تحت هذا المنظر البديع فى جماله.
هذا الملمح من العنف فى الحلم الأمريكى يتكرر فى أعمال ديفيد لينش، إنه يفحص الجانب المظلم من المجتمع، الذى يمكن أن يوصف بانه واحد من العوالم البديلة التى يحرص لينش على تقديمها كثيراً، فهناك شيئ ما يحدث ويمكن رؤيته وثمة شيئ آخر مختلف كليةً يحدث تحت السطح، والذى يمكن إكتشافه هو عندما تدخل ما يسمى المنظقة الوسطى فقط، فيلم "توين بيكس" و فيلم "مولهولاند درايف" وفيلم "الأزرق المخملى" هم أكثر أفلام ديفيد لينش التى ينطبق عليها ما سبق من توصيف لأسلوبه.
فيلم الأزرق المخملى
الازرق المخملى


يداوم لينش على تحدى أبعاد الواقع وغالباً فإنه من المستحيل أن نعرف ما هو الحقيقى فى أفلامه وما هو حلم، فأى تفصيلة يومية تحتوى على هذه الحالة، وحتى الأشياء الأكثر إعتيادية يمكن ان تُصبح مؤرقة، ويفعل ديفيد لينش هذا مع المنازل كالبيت الذى عاش فيه فى طفولته حيث يبدو خانقاً وكئيباً "البيت هو المكان الذى تتجه فىه الأشياء فى إتجاه خاطئ "
فيلم "الأزرق المخملى" فيلم تذهب الأشياء فيه إلى الإتجاه الخاطئ. بطل الفيلم "جيفرى" هو ولد مراهق عادى، وبعد أن يكتشف أذناً مفصولة، فإنه ينخرط فى عصابة منحرفة تحتبس زوج أحد المغنيات وإبنها كرهينتين حتى ينالوا منها جنسياً، المشاهد العنيفة يمكن أن تُرى كرمز للعنف الأسرى داخل العائلات، ففرنك يمثل الأب المتعسف وجيفرى إبنه، الفيلم يستكشف العقدة الأوديبية بمشاهد مشوشة حيث "الوليد يريد ان يمارس الجنس".
فيلم الأزرق المخملى لا يُصدر مشكلات العالم، فكل المشكلات التى يتعاطى معها الفيلم هى مشكلات تدور فى المنطقة السكنية وداخل عقول الناس، ويصور الفيلم الظهور البرئ والساذج لبلدة صغيرة، حيث العالم السفلى القبيح يواصل الظهور، لاشئ سوى الأسود والأبيض، والتباين الموجود فى فيلم "الازرق المخملى" يعبر عن هذا، فالفساد والجرائم والدعارة وإضطهاد النساء من الأشياء المخفية تحت سطح الحياة فى بلدة من بلدات الضواحى الهادئة.
جيفرى له دور فى الفعل كجسر بين العالم السفلى المظلم وبين حياة الضواحى البريئة، بينما كل من العالمين مختلفين كلية عن بعضهما بعضاً "انا أرى شيئاً مخفياً دائماً، انا فى منتصف شئ غامض وكل ما فيه سرى" يبدا جيفرى فى ملاحظة إزدواجية الحياة حتى فى بلدته الصغيرة.
الأزرق المخملى
والمرأة التى تقع فى ورطة هى واحدة من أكثر مواضيع أفلام ديفيد لينش، فى فيلم "الأزرق المخملى" يتم التعدى على دوروثى فالنس من فرانك، مما يجعلها واهنة وغير سوية من الناحية العقلية، بينما فرانك بوث - المجرم الذى يحتجز زوج دوروثى وإبنها كرهينتين – يعتدى عليها جنسياً مراراً وتكراراً، إنها تصبح مُدمرة لدرجة انها تبدأ فى إعتبار أمر الأعتداء الجنسى عليها كشئ مفيد " جزء منك معى، انت تضع مرضك بداخلى وهذا يساعدنى، فهو يجعلنى قوية" وعندما تكتشف جيفرى فى شقتها بعد ان إعتدى عليها فرانك لتوه، وبينما يذهب جيفرى إليها ليهون عليها، فإنها تستحلفه ان يضربها.
وبينما تصبح شخصيات الفيلم على علم بنفوسها المظلمة، فإنهم يقبلون هذا ويواصلون الحياة، فالحياة تستمر دائماً، ويصور الفيلم قناعة ديفيد لينش بالطبيعة الإزدواجية للعالم، فأينما كان هناك ضوء فهناك أيضاً ظلال – فلا يوجد شئ كامل، المشهد الأخير من الفيلم يصور عصفوراً يجلس على حافة النافذة، وفى منقاره عقد يمسك به– فهناك دائماً عالم سفلى مظلم، وبإدراك هذه الحقيقة فلا شئ آخر يمكن عمله إلا مواصلة الحياة.
يبدأ الفيلم بأذن وينتهى بأذن، بينما جيفرى يستيقظ فى نهاية الفيلم، بينما الكاميرا تتباعد "زووم اوت" عن أذنه، وهذا قد يلمح إلى أن كل ما حدث فى الفيلم ما هو إلا خيال من جيفرى، والمشاهدون يُتركون مرة ثانية لتأويل الفيلم على الطريقة التى يحبوها.
فيلم "مولهولاند درايف"
"مولهولاند درايف" واحد من أكثر أفلام ديفيد لينش التى تعبر عن أسلوبه، وعلى أيه حال، فهو أيضاً واحد من أفلامه التى رفض ان يحلله أو يفسره، الفيلم يستكشف الكثير من مواضيع ديفيد لينش الأكثر شيوعاً فى أسلوبه، مثل الذاكرة والهوية والمدينة الكبيرة الغير واقعية – وهى لوس انجلوس فى هذا الفيلم – كما لا يوجد سرد تقليدى فى الفيلم، وعلى أيه حال فإن الشخصيات وذواتهم يتدمرون ببطء وعلى غير المتوقع.
مولهولاند درايف
فالممثلة الطامحة بيتى إلمس تصل إلى لوس أنجلوس وتكتشف إمرأة تعانى من فقدان الذاكرة تعيش فى الشقة التى من المفروض ان تكون شقتها، فتصبح المراتين صديقتان وتحاولان تجميع أجزاء القصة الغير مفهومة، وبينما يتقدم الفيلم، فلأمر يصبح أكثر وضوحاً فى انه من المستحيل أن نجد إستنتاجاً واحداً صحيحاً للقصة، ومع فقدان الذاكرة للشخصية المحورية وحقيقة أن نفس الممثلات يؤدين أدواراً مختلفة، فإن الجمهور يتشتت كثيراً، وعندما يجلس رجلان للعشاء، يناقشان حلم مر به احدهما عندئذ نرى نفس الوحش الموصوف فى الحلم خلف عشاءهما، ويبدأ الجمهور مرة ثانية فى التشكيك فيما هو واقع وما هو خيال.
ويتحول الفيلم أكثر إلى السيريالية عندما تكتشف المرأتان صندوقاً أزرقاً ومفتاحاً مطابق لقفله، فتلح بيتى على الذهاب فوراً إلى نادى "سيلينشيو" بالرغم من ان الساعة قاربت الثانية ليلاً، وفى النادى يشاهدان إمرأة تغنى، وفجاة تنهار وتقع بينما صوت الغناء يستمر، الممثلتان يبدوان فى شخصيتين مختلفتين الآن، وهذا يجعلنا نستشكل فى كل حبكة الفيلم حتى تلك اللحظة.
ومثلما فى فيلم "الازرق المخملى" يرسل لنا الفيلم رسائلاً بأن لا شئ يبدو كحقيقته، فلا يوجد مكان أفضل من هوليوود للتعبير عن ذلك، كما أنها المكان حيث المظهر هو كل شئ ولكنه لا يكفى، وبينما الممثلون الذكور يجب عليهم أن ينالوا بإستمرار الأدوار التى تجعل منهم أشخاصاً آخرين، فمن السهل أن ننسى الهوية الحقيقة لأحد الممثلين، ويبحث ديفيد لينش أيضاً فى هذا الملمح فى فيلمه "إمبراطورية أرضية" " Inland Empire "
الستائر الحمراء تظهر فى هذا الفيلم مرة أخرى، كما لو كانت رأس "رجل من مكان آخر" " Man From Another Place " الذى نراه فى فيلم "توين بيكس" وملح جيد من الإزدواجية يُضاف إلى قائمة ديفيد لينش عن الأشياء ونقيضها، مثل السذاجة واللؤم، الأضواء المتقطعة يتم تقديمها أيضاً كشواهد متعددة لحالة النوم والتى توحى بالأحلام، وهذه الأضواء واحدة من التيمات الرئيسية فى الفيلم.
الحياتان المتوازيتان للمراتين يمكن تفسيرهما كحلم، فكل منهما تنام كثيراً وكل منهما لديها طموح، وعلى أيه حال، ففى هذا الفيلم لا توج إجابة صحيحية واحدة ولا يوجد عالم حقيقى، وبينما يهتم ديفيد لينش بالعوالم المتوازية وبإزدواجية كينونتنا، فثمة ما يجعل بعض من مشاهد هذا الفيلم تقع فى المنطقة الوسطى بين عالمين.
مولهولاند درايف
وهناك فى هذا الفيلم فقرت يمكن وصفها بانها تصدر من اللاوعى والبعض الآخر مجرد قصص فرعية فى الفيلم وهى تقود للاشئ، بينما الشخصيات تصل إلى حالة من التقبل لحيواتهم الإستثنائية ويتعلمون ان يتعايشوا معها، وكذلك الحال مع المشاهدين، فيلم "مولهولاند درايف" لا يعبأ بالحقيقة، فالشئ المهم هو العزف على ألحان سوداوية والإكثار من التفاصيل واللعب بالضوء.
ديفيد لينش علق بنفسه على الضوء فى مدينة لوس أنجلوس قائلاً أنه أكثر ملمح يميز المدينة، وعلى الرغم من ان لوس أنجلوس تُصور بطريقة مرعبة اكثر فى فيلم "مولهولاند درايف" فقد قال لينش أن لوس أنجلوس مدينة تجسد رهابه من المدن الكبرى بسبب الإضاءة الخاصة التى يدعى بانها تتميز بها، الفيلم جميل من الناحية الجمالية وتجربة شديدة الذاتية – وتفسير الفيلم منوط بمن يشاهده، وعلى أيه حال فالفيلم يترك المُشاهد وبداخله إحساس بالجمال المؤرق.
ديفيد لينش مخرج يستطيع ان يتركنا نشعر بالتشوش والصدمة، وان يجعلنا مذهولين ومرتبكين، أفلامه تأتى من لا وعيه، وأفلامه تبدو كامكنة شديدة الظلمة، إنه شخص روحانى إلى أقصى حد، وتصور شخوصه هذه الظلمة ببراعة، لأن لا احد من شخصياته يتصف بالخير المطلق أو الشر المطلق، كذلك فديفيد لينش يؤمن بوجود أكثر من وجود او عالم، وهو يوحى أيضاً بحتمية وجود شيئ يربط هذه العوالم، وهذا المكان ليس واقعياً تماماً وليس خيالياً تماماً.
يستخدم ديفيد لينش موتيفات تشتهر بها أفلامه، مثل الطرق السريعة ليلاً، والستائر الحمراء، والنار، والدخان، والنساء الجميلات اللاتى يقعن غالباً فى مشاكل، كما يستخم أكوام الزبالة وةيتبنى مفهوماً خاصاً عن الصوت، وأكثر المواضيع التى تركز عليها أفلامه، هى العائلة والجنس والعنف الجنسى والهوية والأحلام ، وعدم واقعية الحياة التى نحياها.
أنه يوظف التفاصيل الصغيرة والسرد الغير تصاعدى ليخلق صوراً مؤرقة لقصص مستحيل تصديقها ولكنه يحيل هذه الإستحالة إلى حقيقة، وهو يتركنا دائماً مُندهشين، إنه يتركنا ونحن غير متيقنين من اى شيئ، وان تلك الأحلام هى جزء من حقائق حياتنا، وبينما نشاهد أفلامه، فنحن غالباً لا نحصل على كل الإجابات، وهذا يجعل لا وعينا يكشف عن نفسه، ويسمح بتفسيرات لا حصر لها لمغزى أفلامه.


21‏/09‏/2014

أفلام جودوروفسكى السريالية

أليخاندرو جودوروفسكى
 
مقالة:- نيل إيفانس
ترجمة:- ممدوح شلبى

وًلد المخرج أليخادرو جودوروفسكى – الشيلى الفرنسى- فى عام 1929، وهو يتمتع بلمسة متفردة حقيقية فى الوسط السينمائى، أى فيلم من أفلامه القليلة التى اخرجها إبتداءاً بفيلمه السريالى الأول فى عام 1967 "فاندو وليز" " Fando & Lis " إنتهاءاً بفيلمه "رقصة الحقيقة" " The Dance Of Reality " الذى أخرجه فى العام الماضى بعد توقف عن الإخراج دان 23 عاماً، فهذه الأفلام تحف سينمائية متفردة، فكل فيلم يمتلك القوة لإحداث الصدمة وتحدى وهز المشاهدين بعيداً تماماً عن عوالمهم المُعتادة.

كان جودوروفسكى - ومعه المخرج المستقبلى فرانسيسكو أرابال – واحداً من رواد حركة مسرح الرعب فى الستينات، وهو أسلوب فوضوى للعروض المسرحية لا يراعى الطريقة التى إعتاد بها الجمهور مشاهدة المسرح ولكنه يقدم العالم الذى يحيط بهم، بطريفة مختلفة تماماً من ناحية الأسلوب والشكل، ونفس هذا التوجه ترسخ فى أفلام جودوروفسكى بالمفهوم البحثى سواء كان مادياً أو روحياً، بهدف إستكشاف وتجسيد الشكل والمعنى فى حياة الإنسان.

وسواء كان البحث عن إستبصار روحى كما فى فيلم " " " El Topo " – 1970 أو فيلم "الجبل المقدس" " The Holy Mountain " – 1973 ، او بالتعامل مع الحياه فيما بعد الصدمة كما فى فيلمه الإستثنائى "سانتا سانجر" " Santa Sangre " 1989، نجد أن جودوروفسكى يمتلك حساً سينمائياً شديد التفرد والذاتية.

يترتب على هذا النهج فى بعض الأحيان أن يكون العمل السينمائى مقصوراً على فئة معينة ويتسبب فى التشويش لجمهور معين، وجودوروفسكى ليس الشخص الذى يهمل هذا البعد، فهو يستطيع ان يحد من رؤيته من أجل الحصول على جمهور أكثر عدداً، إنه المخرج الذى يجب عليك كمُشاهد أن تتفاعل معه، وهذا المخرج سبق له ان قال عن فيلمه الشهير " El Topo " أنك إذا كنت محدوداً فى تصوراتك فإن الفيلم سيكون محدوداً مثلك، وإذا كنت مستعداً لأن تتماشى مع الفيلم فإن الفيلم يأخذك إلى فضاءات لا حدود لها.

ولجودوروفسكى القدرة أيضاً على خلق الصور التى تتملك من عقلك وتأبى ان تبارحه، سواء كانت الصورة عبارة عن لقطة جميلة أمامية او خلفية فى فيلم " El Topo " حيث نرى صبى على ظهر حصان يترك لعبته بينما نرى صورة لأمه مدفونة فى الرمال، وكذلك فى فيلم "الجبل المقدس" حيث يتحول البراز الادمى إلى ذهب، وكذلك جنازة الفيل فى فيلم "سانتا سانجر"، فثمة كيمياء سينمائية مذهلة لا يستطيع إنجازها سوى جودوروفسكى، وقد حاول الكثيرون أن يستنسخوا أسلوبه وطريقته، لكن لا أحداً منهم إستطاع أن يلامس تلك القوة التى لديه حتى يبتدع شيئاً ليتفرد به فيظل عصياً على النسيان.

ففى العديد من أفلامه أيضاً، نجد جودوروفسكى أحياناً شديداً وعنيفاً فى إنتقاده للأنظمة الدينية والسلطات الحاكمة اللتان من المفترض أنهما من يديران المجتمع، فأفلامه فضاءاً سينمائياً يُشكك فى كل شيئ.

وقد تعرض جودوروفسكى على مدى القرون الماضية للعديد من الإتهامات، من بينها أنه إستفزازى لا لشيئ إلا للفت الإنتباه، وكذلك عداءه للمرأة، وكذلك أنه شديد الذكاء فيما يتعلق بجمهور السينما، وهذه الامور بالمناسبة، هى ما جعلته مُتفرداً، فأفلامه تمتلك قدرة مُذهلة على كسب الناس وكذلك على إستعداء ناس آخرين، فهو بالنسبة للبعض عبقرياً، وبالنسبة لآخرين أبلة.

الشيئ المؤكد، انك إذا كنت تشعر بالضجر من الطريقة التى كرست فيها السينما نفسها من أجل هدف واحد فقط وهو عائد شباك التذاكر وأنها أصبحت مجرد سلعة، فإن جودوروفسكى وأفلامه هما النقيض التام لهذا الأمر، وإذا كنت تريد أن تشاهد أفلاماً تجعلك تفكر وتحس وتتحدى فلسفتك الشخصية فيما يتعلق بالعالم الذى يحيط بك، فجودوروفسكى هو السينمائى الذى تبحث عنه.

ونتيجة لشغفه وأصالة فلسفته الذاتية ونظرته إلى العالم، فإن جودوروفسكى من المخرجين الذين طوال مشوارهم الإبداعى كان يواجه العديد من الصعوبات التى تعوق تمويل أفلامه، وأكبر مثال على ذلك سيتم توضيحه تفصيلاً فى سياق هذا المقال لاحقاً، إنه يتعلق بمحاولته الفاشلة عام 1974 لعمل فيلم سينمائى عن الرواية الكلاسيكية "الكثبان" لفرانك هربرت.

فثمة إحساس بأن المنتجين وخاصة فى هوليوود كانوا يخافون من جودروفسكى ويخافون من أنه ينظر إلى السينما كفن ولا ينظر إليها كمُنتج تُجارى، والحقيقة أن جودوروفسكى لم يخضع لإملاءات أى أحد فى أى مرحلة من مشواره الفنى، مما تسبب فى إعاقته، فسوء الحظ كان مُلازما له، فقد أخرج سبعة أفلام فقط طوال مشواره الفنى.
 
سنُلقى نظرة على أسباب إختلاف جودوروفسكى عن المخرجين من جيله ونرى كيف أنه كان له تأثير كبير على مخرجين مثل ديفيد لينش وجاى مادين وريتشارد ستانلى ونيكولاس ويندنج رن.
 
 
فاندو وليز
فيلم فاندو وليز – 1967

تم تصوير هذا الفيلم على مدار عامين فى دولة المكسيك التى تبنته، ويتميز فيلم "فاندو وليز" بأنه متجزء بصورة كبيرة وانه شكل سريالى متحرر تماماً، يقدم لنا شخصيتين تبحثان عن المدينة الخيالية "تار" حيث ستتحول كل أحلامهما إلى حقيقة.

والفيلم مليئ بالصور والأصوات الإستفزازية، وقد تسبب هذا الفيلم فى أعمال شغب كبيرة فى المهرجانات بسبب صراحته وتجاوزاته، وبعد وقت لاحق تم منع هذا الفيلم فى المكسيك، تلك الدولة التى صُنع فيها الفيلم والتى تبنته.
وبعد ذلك بعدة اعوام، إستطاع جودروفسكى ان يُثبت أقدامه فى عالم السينما بسبب هذا الفيلم، فهذا الفيلم الذى يُنظر إليه ضمن سينما المؤلف – كان بمثابة وضع بذور للعديد من التيمات والموضوعات التى سيبحثها جودوروفسكى فى أفلامه اللاحقة.
 
 
فيلم "إل توبو" "EL TOPO" 1970
 
 
إل توبو
الفيلم الثانى لجودروفسكى كان "إل توبو" وقد وضع جودوروفسكى على الخريطة السينمائية، وهو فيلم غرب أأمريكى، لكنه بدا مختلفاً وليس له شبيه فى ذلك الوقت.
 
وهو يروى قصة أحد الفرسان – جودوروفسكى هو الذى مثل الشخصية- حيث يبحث عن معنى وقيمة لحياته، ويحتوى الفيلم على رموز دينية متنوعة، وينقسم بناء فيلم "إل تابو" إلى أربعة أجزاء، فتتسمى هذه الأجزاء الأربعة بأسماء من الكتاب المقدس "سفر التكوين" و"الرُسل" و"المزامير" و"سفر الرؤية"، ومما لاشك فيه أن هذا الغرب الأمريكى ليس هو الغرب الأمريكى السخى الذى كان الممثل جون واين بطلاً فى العديد من أفلامه. 
 
فالفيلم مليئ بالصور العنيفة والناس المشوهين والأقزام والمرضى المصابين بمتلازمة داون وكل المظاهر التى تجعل منه فيلم غرب أمريكى مختلف، "إل توبو" فيلم لا مثيل فى تفرده وتجاوزه.
 
وقد تصادف أن أرسى هذا الفيلم تقاليداً جديدة فى كيفية تسويق وعرض السينما على الجمهور، ذلك أن دار سينما "إلين" " Elgin " فى نيويورك – التى كان يديرها بن بارنهولز – قرر ان يعرض فيلم "إل توبو" فى ساعات العصر يومياً، بدلاً من الحفلات الخمسة المعتادة، هذا الأسلوب والطريقة أفرزت ما أصبح معروفاً الآن بإسم "فيلم منتصف الليل".
 
ولكى يتحقق ذلك، قررت سينما إلين أن تجتذب الجمهور الذى يبحث عن التميز حتى يأتى ويشاهد هذه السينما المختلفة، وقد عرضت فى الواجهة لقطة متفردة من الفيلم، والحقيقة أن هذا الفيلم حقق مكاسب مالية هائلة وإستمر عرضه خمس سنوات فى سينما إلين فى حفلات منتصف الليل فقط.
 
كما أن الفيلم إجتذب معجبين مثل مغنى فرقة البيتلز الشهير جون لينن الذى أقنع مديره – ألين كلين – أن يشترى حقوق عرض فيلم "إل توبو" وفيلم جودوروفسكى التالى الذى كان إسمه "الجبل المقدس"، وقد كان هذا الأمر بمثابة نصل سيف سام بالنسبة لجودوروفسكى.
 
فبعد أن إختلف جودوروفسكى مع كلين – ذلك الرجل الذى كان مشهوراً بأسلوبه وطريقته العدائية فى الشئون المالية- فإن حقوق فيلم "إل توبو" وفيلم "الجبل المقدس" تم سحبهما من كلين، وترتب على ذلك أن هذين الفيلمين لن يُشاهدا لعديد من السنوات وسيتم تخزينهما فى ظروف رديئة على شرائط قيديو.
 
وفى عام 2006 تصالح كل من كلين وجودوروفسكى، ونتج عن ذلك إصدار نسخة "دى فى دى" فخمة لفيلمى "إل تابو" و"الجبل المقدس" وتم توزيعهما، بما يليق بهذين الفيلمين من أهمية.
 
 
فيلم الجبل المقدس " The Holy Mountain " 1973
 
 
الجبل المقدس
بعد النجاح الغير مسبوق لعروض فيلم "إل توبو" فى سينما إلين، حصل جودوروفسكى على مليون دولار من شركة " AKCKO " التى يديرها ألين كلين، كما حصل على شيك – على بياض – لعمل اى شيئ يريده، وكانت النتيجة إخراج فيلم "الجبل المقدس" بميزانية مقدارها نصف مليون دولار.
 
كل ما كان غريباً وغير مألوف فى فيلم "إل توبو" أصبح مفهوماً، فيلم "الجبل المقدس" كان تلك القصة شديدة الغرابة عن ممثلين من كل الكواكب الذين يجمعهم الكيميائى أليخاندرو جرودوفسكى. 
 
التوجه الرئيسى للفيلم يتشابه مع فيلم "فاندو وليز" - أول أفلام جودروفسكى الروائية -، وفيلم الجبل المقدس كان يبحث عن جبل مقدس خيالى كما يشير عنوان الفيلم، وطوال الفيلم، كان المُشاهد يتعاطى مع أكثر الصور السريالية والعنيفة التى يراها لأول مرة فى حياته.
 
ويشار إلى هذا الفيلم أيضاً على أنه هجوم لا هوادة فيه من جانب المخرج على كل شيئ موجود فى العالم، وثمة إساءة واضحة لكل الناس فى هذا الفيلم، سواء كانت هذه الإساءة عبارة عن بندقية مصنوعة على شكل نجمة داوود اليهودية، وثمة هجوم متعدد على المؤسسات الدينية والمخادعين والمشعوذين الذين يدعون انهم يعرفون معنى الحياة، او اللقطة الأخيرة من الفيلم حيث تتراجع الكاميرا إلى الخلف لتكشف عن فريق تصوير الفيلم والكيميائى "جودوروفسكى" يتحدث إلى الجمهور ويقول لهم أن يكتشفوا معنى حياتهم بأنفسهم. 
 
إنه فيلم شديد الغرابة ينحو إلى العزف على إيقاعه الخاص، فيلم "الجبل المقدس" على أية حال، يُعيد تعريف مصطلح "الذوق المُكتسب" لهؤلاء الذين يحبون سينماهم أن تهزهم وتتحداهم، فمما لا شك فيه أن هذا الفيلم موجه إليك .
 
 
فيلم: ناب ""Tusk 1979
 
 
ناب
منذ أن إنتقلت ملكية فيلم "ناب" من المخرج، أصبح هذا الفيلم عصياً على الوجود، إنه موجود فقط على "اليوتيوب" ولم يحظى مطلقاً بتوزيع رسمى من أى نوع، سواء كان سينمائياً أو على شرائط الفيديو، أو على نسخ "دى فى دى" "بلو-راى".
 
كان هذا الفيلم محاولة من جودوروفسكى لعمل فيلم يكون مناسباً للجمهور العادى، وكان هذا الفيلم هو الفيلم الذى تلى محاولته الفاشلة لعمل فيلم "الكثبان" قصة فيلم "ناب" تتعلق بمصير فتاة صغيرة وفيل وُلدا فى نفس اليوم فى الهند إثناء العهد الإستعمارى، بينما كانت الهند مازالت تابعة للملكة المتحدة.
 
هؤلاء الذين شاهدوا الفيلم يقولون أنه لا يحتوى على الشكل السحرى الذى أُخرج به فيلم "إل توبو" وفيلم "الجبل المقدس" بما يحتوياه من تحدى وتجريب صعب.
 
وبالنسبة لمخرج مثل جودروفسكى، فمن العار أن يكون فيلم "الناب" وفيلم "لص قوس قزح" الذى أخرجه عام 1990 من بطولة بيتر أوتول وعمر الشريف، ليسا متاحان لجمهور السينما العادى الذى يحب أفلام جودوروفسكى بصرف النظر عن أنهما يحتويان على ما يمنع عرضهما العام..
 
 
فيلم سانتا سانجر " Santa Sangre " 1989
 
 
سانتا سانجر
وبعد عدة سنوات من الإبتعاد عن عالم الإخراج، عاد جودوروفسكى فى نهاية الثمانينات بهذا العمل المُذهل، وهذا الفيلم كان أول الأفلام التى إستحسنتها لهذا المخرج ولعبقريته الحقيقية، الفيلم كان أيضاً بمثابة نقطة تحول بالنسبة للمخرج، فهو أكثر تماسكاً من بعض اعماله السابقة وهو الفيلم الأول الذى أثبت أنه أكثر أفلامه نجاحاً ووُزع على نظاق واسع فى شباك التذاكر، كان الفيلم من إنتاج كلوديو أركينتو- شقيق المخرج الإيطالى الأسطورى داريو-.
 
فيلم "سانتا سانجر" صُور فى سيرك حيث تتعرض الشخصية الرئيسة "فينكس" لسلسلة من الاحداث المؤلمة، وقام بطولة الدور آكسل جودوروفسكى إبن المخرج، فيلم "سانتا سانجر" مزيج مُدهش يتناول علاقة بين أم وإبنها بطريقة لا تختلف كثيراً عن فيلم "سايكو" لألفريد هيتشكوك، وهو يكشف عن مصارعين من المكسيك وممارسات دينية تمارسها فتاة تعرضت إلى الإغتصاب وقُطعت يدها وتعيش حياتها فى سيرك.
 
طريقة إستخدام جودوروفسكى للألوان والموسيقى فى هذا الفيلم كانت غير مسبوقة ومختلفة عن المليون فيلم التى أنتجتها السينما فى العالم، والفيلم يستحوز على المُشاهد ويجعله يدخل فى مستوى من الإحساس الغرائزى والبدائية، والفيلم مثله مثل كل أفلام المخرج إستفزازى ومُتجاوز وخاصة فيما يتعلق بنظرته للدين.
 
فيلم "سانتا سانجر" يُعد أفضل الأفلام التى جعلت جودوروفسكى مخرجاً عبقرياً، والفيلم يُقلل من بعض الأساليب التى إشتهر بها المخرج –تلك الاساليب التى حدت من جمهوره وجعلته جمهوراً مُختار، إذا كنت تريد فيلماً تبدأ به مشاهدة جودوروفسكى فهذا الفيلم هو الأفضل وكذلك فيلم "إل توبو" 
 
 
فيلم لص قوس قزح 1990
 
 
لص قوس قزح
فيلم "لص قوس قزح" لم يكن من إنتاج جودوروفسكى ولكن تم التعاقد معه لإخراج هذا الفيلم، وترتب على ذلك غياب واضح لحسه القوى وسطوته وأسلوبه فيما نراه امامنا على الشاشة، وفى نفس الوقت، نرى نقص واضح فى الصور المتحدية والمثيرة للقلق التى تميز بها المخرج، الفيلم يحكى بطريقة خيالية عن لص يبحث عن ذلك الإناء الذهبى الذى يُضرب به المثل.
 
الفيلم بطولة بيتر أوتول وعمر الشريف وكريستوفر لى، ومن المشين ألا يتم الترخيص لهذا الفيلم بالعرض السينمائى، فالترخيص بعرضه فى أمريكا إختص فقط بشرائط الفيديو – مثله مثل فيلم "الناب"، إنه يستحق ان يحظى بمُشاهدة عامة فى السينمات.
 
 
فيلم رقصة الحقيقة " The Dance Of Reality " 2013
 
رقصة الحقيقة
 
وبعد غياب عن السينما كمخرج دام ثلاثة وعشرين عاماً، ترددت خلالها شائعات عن مشاريع افلام مثل "إبناء إل توبو- أبيليكان" " The Sons Of El Topo/Abelcain " – الجزء الثانى من فيلم "إل توبو"- وفيلم "الملك أًصيب بطلق نارى" " King Shot " والفيلمان يشبهان المخطط السينمائى لفيلم "الكثبان" الذى لم يتحقق فى مراحل إنتاجية متنوعة، فيلم "رقصة الحقيقة" بدا أنه تم تنفيذه من لا شيئ.
 
كان جودوروفسكى وقتها فى الثمانينات من عمره وكان يعود بذاكرته إلى طفولته، فيلم "رقصة الحقيقة" يمكن وصفه بإنه سيرة ذاتية روائية مختصرة، مثل فيلم "اماكورد" لفللينى 1973، وفيلم "أيام الراديو" لوودى ألن 1987، فيلم "رقصة الحقيقة" يتناول حياة المخرج عندما كان طفلاً يتعامل مع أب قاسى وأم حنونة، وهى الشخصية الوحيدة فى الفيلم التى تتحدث غناءاً بصوت أوبرالى.
 
الفيلم به مبالغات ومُفعم بالعاطفة، وأحياناً مفعم بالإثارة، وهذا كان بمثابة عود محمود وجميل من مخرج عظمته حقيقية، فيلم "رقصة الحقيقة" فيلم شديد الحساسية وشديد الذاتية بالنسبة لجودوروفسكى، حيث نراه فى الفيلم يدخل إلى الشخصية أو يبتعد عنها ليعكس لحظات من ماضيه، ويعود بذاكرته إلى الخلف كرجل أكبر سناً، فالفيلم فعلاً متفرداً ومُؤثراً جداً.
 
فهو بحق فيلماً جميلاً وصعباً، ولكنه صادف صعوبات فى عرضه حول العالم طوال العام الماضى، وسوف يُوزع الفيلم فى نُسخ "دى فى دى " "بلو- راى" فى الشهور القادمة فى الولايات المتحدة الأمريكية.
 
 
فيلم "الكثبان لجودوروفسكى" " Jodorowsky’s Dune " 2013 من إخراج فرانك بافيتش
 
الكثبان
 
فيلم "الكثبان لجودوروفسكى" فيلم تسجيلى يكشف عن محاولات جودوروفسكى التى بدات عام 1974لعمل فيلم عن الرواية الكلاسيكية التى كتبها فرانك هربرت.
 
هذا الفيلم التسجيلى قصة مؤثرة عن الإستحواز والوله من جانب جودوروفسكى، فالمخرج نفسه هو محور وواجهة الفيلم التسجيلى، حيث يظهر لنا وهو فى الثمانينات من عمره ومازال حاد الذكاء مثل الحديد.
 
يتناول الفيلم التسجيلى كيف ان فيلم "الكثبان" بأفكاره اللغير مسبوقة وبفلسفته فيما يتعلق بخطة الإنتاج والمؤثرات الخاصة والممثلين، كان شديد الإختلاف عن الطريقة الهوليودية.
 
فالممثلون والفريق السينمائى الذى كان جودوروفسكى يخطط لهما لفيلمه المأخوذ عن رواية "الكثبان، يمكن وصفهما بانهما مُذهلان، فالفنانون الموجودون فى الفيلم يشملون فنان الجرافيك ميبيوس، ومصمم المناظر جيجر والكاتب دان أوبانون ومايك جاجر كممثل لفيد روثا وسلفادور دالى يمثله إيمبرر شادان، واورسون ويلز يمثله بارون هاركونان، وهندسة الصوت لبينك فلويد والمؤثرات البصرية للبريطانى الساحر كريس فوس.
 
وغنى عن القول، أن هذا واحد من أكثر الأفلام المغرية فى تاريخ السينما، وبالنسبة لمصادقية الفيلم عالمياً، فهو يناقش حقيقة أن عدم إنجاز الفيلم كان يكشف عن خوف هوليوود من جودوروفسكى وولعه التام بالمشروع، هوليوود مُمثلة برجال أعمال، وهى ببساطة كانت لا تريد شخصاً مثل جودوروفسكى لأنه لا يفكر بنفس طريقتها فى التفكير.
 
الفيلم التسجيلى يقدم أيضاً حوارين رائعين مع المخرجين ريتشارد ستابلى ونيكولاس ويندنج رن، هذان المخرجان أحب ان أعتبرهما احفاد جودوروفسكى الروحييين سينمائياً، وفى الحقيقة، فإن المخرج رن يُهدى فيلمه الأخير لجودوروفسكى، إنه الفيلم السريالى "الله فقط هو من يُسامح" " Only God Forgives " 2013، ومع مرور الأيام أصبح الإثنين صديقين حميمين، إنه المخرج رن الذى يأخذنا خلال سيناريو وصفى رائع إلى ما كان فى عقل جودوروفسكى بخصوص فيلم "الكثبان".
 
ورغم ان رؤية جودوروفسكى لفيلم "الكثبان" لم تتحقق أبداً، فإنه من الممتع أن نُشير إلى تأثير مشروعه على صناعة السينما فى العقود التالية، فجيجر وأوبانون عملا لاحقاً فى واحد من أكثر الأفلام أهمية وإدهاشاً فى تاريخ السينما، إنه فيلم "الاجنبى" لريدلى سكوت عام 1979، فالتصميم الإبداعى كان لجينجر، وفى الأفلام الأحدث نستطيع ان نلتقط المركبة الفضائية فى فيلم "حُراس المجرة" للمخرج جيمس جن، على حين ان كريس فوس صمم أمتع ما قدمه إستوديو مارفل.
 
ومن المثير أيضاً ان نُشير إلى أن خوف هوليوود من إستثمار أموالهم فى فيلم من إخراج جودوروفسكى كان خوفاً من ضياع أموالهم التى سينفقوها على المشروع، ومن المفارقات الحادة، انه بعد خمس سنوات، تعرضت هوليوود لكارثة مالية وإفلاس بسبب فيلم "بوابة السماء" 1980 الذى اخرجه مايكل سيمينو. 
 
لماذا كانت هوليوود خائفة من جودوروفسكى، فهذا المثال على طريقة هوليوود فى إدارة صناعة السينما سيظل واحداً من أعظم أسرار هذه الصناعة.
 
فيلم "الكثبان لجودوروفسكى" الذى أخرجه فرانك بافيتش في عالم 2013  يمنح المشاهدين رؤية قوية لا تُنسى عن الحياة وعن فلسفة جودوروفسكى ذلك الفنان الأصيل الذى يعد وواحداً من اهم السينمائيين.


20‏/09‏/2014

بيلا تار

بيلا تار
مقالة:- دانييلا يوجا
ترجمة:- ممدوح شلبى

فى عام 1986 علق بيلا تار مازحاً على إشتراكه فى المهرجانات السينمائية قائلاً "منذ أن أصبح إسمى بيلا تار وانا اتعامل بإحترام فى المهرجانات الدولية". فالإسم الأول فى المجر وإسم العائلة يتم كتابتهما بطريقة عكس الشائع فى اللغات الأوروبية، فإسم العائلة يأتى أولاً وإسم الشخص وأبيه ياتى بعد ذلك، وبناءاً عليه، عندما يخاطب المجريين شخصاً أجنبياً فإنهم عادة يقلبون ترتيب الأسماء مما يجعل هذا الأجنبى يتعجب، وعندما نرى أو نسمع أن إسم أحد المجريين مكتوباً بطريقة عكسية فنحن نعرف أن هذا الشخص إما ان يكون خارج المجر أو أنه مُشار إليه فى نص أجنبى. " وكون ان الأسم أصبح بيلا تار فهذا معناه انه نال شهرة عالمية".
إكتسب "تار" شهرة عالمية وتقديراً متزايد، وكان التقدير الذى ناله فى بلاده يختلف عن التقدير الذى يستمتع به عالمياً، فعلى مدار ستة عشر عاماً كان "بيلا تار" مختلفاً عن "تار بيلا".
وُلد بيلا تار عام 1955فى "بيكس" فى جنوب المجر، وفى عيد ميلاده الرابع عشر حصل على كاميرا "8 مللى" من والده، وفى عمر السابعة عشر تسببت هذه الكاميرا فى جلب المتاعب له، وفى أثناء دراسته فى المدرسة الثانوية، إنخرط أيديولوجيا فى بعض الحركات اليسارية التى تنتمى للماوية، هذه المجموعات اليسارية وعلى الرغم من انها كانت تتكون من مثقفين وفنانين، إلا أنها أنشأت وعياً فيما يخص الطبقة العاملة والعمال اليدويين.
وهذه المجموعات تحلقت حول فرق موسيقية مثل فرقة مونزون " Monszun " وحول فرق مسرحية مثل فرقة أورفيو "Orfeo"، وبينما كان بيلا تار مازال طالباً فى المدرسة الثانوية، فإنه ذهب للعمل بإنتظام فى ترسانة لبناء السفن، وإنضم لهذه المجموعات فى زياراتهم المتواصلة للمناطق العمالية والمساكن العمالية، وفى احد هذه المناسبات، تقابل بيلا تار مع مجموعة من العمال الغجر الذين كتبوا رسالة إلى "جانوس كادار" سكرتير عام حزب العمال الإشتراكى المجرى، يطلبون منه أن يمنحهم تصريحاً ليتركوا المجر لكى يعملوا فى النمسا، لأنهم لا يستطيعون العثور على أعمال كافية فى المجر.
بد هذا الطلب شديد العبثية فى عام 1971 فى بلد كان يُلزم من يريد ان يزور قريباً له فى الخارج أن يستخرج تصريحاً خاصاً، وهذا الأمر كان يضع الشخص الذى يحاول ذلك فى محنة كبيرة.
هذه القصة ألهمت بيلا تار الذى كان عمره ستة عشر عاماً أن يطلب من هؤلاء العمال الغجر أن يتحدثوا عن موقفهم ودوافعهم أمام كاميرته، وبمساعده من إثنين من أصدقاءه، أنشأوا مجموعة سينمائية أسموها "دزيجا فيرتوف" (تشبها بمجموعة دزيجا فيتوف التى أنشأها جان لوك جودار وجان بيير جورين).
وعملت مجموعة دزيجا فيرتوف لبيلا تار فيلماً تسجيلياً عن هؤلاء الغجر- وهؤلاء العمال الذين ظهروا فى هذا الفيلم إختفوا منذ ذلك الحين- وأرسل بيلا تار الفيلم إلى مهرجان سينمائى لأفلام الهواة حيث فاز بالجائزة الأولى.
هذا النجاح جعل بيلا تار شديد الفخر بفيلمه، حيث تمنى ان يشاهده كل الناس وخاصة العمال، ولذلك فقد كان يأخذ آلة العرض وشريط الفيلم ويذهب ليعرضه مرات عديدة أسبوعياً فى أماكن إقامة العمال، وكان ينصب الشاشة ويجهز المعدات ويعرض الفيلم على العمال العائدين من المصنع إلى بيوتهم، لقد رسم بيده لوحات دعائية "بوستر" عن الفيلم للإعلان عن هذه العروض السينمائية فى اماكن سكن العمال.
وبالنسبة للعمال فقد إستقبلوا هذه العروض بحماس، لكن الحزب الشيوعى لم يرق له الأمر، وفى احد الأيام وبينما هو فى المدرسة تلقى بيلا تار أمراً بأن يذهب إلى مكتب الحزب فى الحى لكى يشرح لهم ما يقوم به ولكى يعرض الفيلم على مسؤولى الحزب، وعندما شاهد مسؤولى الحزب هذا الفيلم لم يقولوا شيئاً، وتركوه يذهب، ولم يترتب على ذلك أى شيئ، لكنه وبعد عام عندما انهى المدرسة الثانوية، أراد ان يلتحق بالجامعة، فقيل له أن يصرف نظره عن ذلك ولا حتى ان يفكر فيه، فكان محروماً من التعليم فى اى مؤسسة تعليمية فى المجر، وبناءاً عليه فقد ذهب للعمل فى ترسانة بناء السفن وإستمر هناك عامين، لكن بنيته الجسمانية الهزيلة لم تكن مناسبة للعمل الشاق الذى يتطلبة العمل فى بناء السفن، فأرسل طلباً لقسم الفلسفة فى جامعة "إلتى" "ELTE" ببودابست.
وفى إمتحانات القبول صدم بيلا تار الأستاذ الذى يمتحنه عندما قال له ان البيان الشيوعى لماركس كان مثل العمل الادبى أكثر من كونه برنامجاً سياسياً، وان الشيوعية كانت حركة اكثر من كونها تشكيلاً سياسياً مؤسسياً، فلم ينل بيلا تار الموافقة على طلبه، وحصل على وظيفة بواب لأحد المراكز الثقافية فى واحدة من المناطق العمالية فى بودابست، وفى هذه الأثناء واصل بيلا تار إخراج أفلام الهواة، وحصل أحدها على جائزة ثانية فى مهرجان ثانى لسينما الهواة، وكانت لجنة التحكيم تتكون من مخرجين من بينهم إستفان دارداى وجيورجيز زالاى، وهما عضوان مهمان فى جماعة لمخرجى السينما التسجيلية يعملون فى نوع من السينما شبه التسجيلية وشبه الروائية، وحصل بيلا تار على دعوة منهما للعمل كمساعد فى مشروعهما القادم، فيلم ساجا (فيلم –ريجينى 1977).
وفى سن العشرين من العمر توفر لبيلا تار أن ينتمى للإخراج السينمائى الإحترافى.
فى هذه الأثناء، كان لدى بيلا تار بالفعل مشروعاً سينمائياً يعمل فيه، وجزء من هذا المشروع كان الفيلم الذى فاز بالجائزة فى مهرجان سينما الهواة، وهذا الفيلم كان عن شابة تُسمى إيرين زايكى، والتى قابلها بيلا تار عندما كان يصور فيلماً فى المنطقة العمالية فى ضواحى بودابست، وهى المنطقة التى كانت تتعرض للإزالة فى ذلك الوقت.
كانت إيرين تسكن بطريقة غير قانونية فى أحد الشقق، لكن تصادف ان المجلس المحلى للمدينة أجبرها على الرحيل، وقرر بيلا تار الذى كان يعمل مستقلاً فى ذلك الوقت، ان يعمل فيلماً يتناول قضية إخلاء السكان، ووجد مخبئأً فى مبنى مجاور يمكن من خلاله أن يصور الفيلم بسرعة، فمكث هناك نصف ساعة قبل أن يصل موظفى المجلس المحلى للمدينة ومعهم قوة من الشرطة.
وإكتشفت الشرطة وجود بيلا تار وبدأت الإجراءات بالقبض عليه أولاً ثم أخذوه إلى مقر الشرطة، فظل محبوساً هناك لنصف يوم، وفى أثناء ذلك أكمل موظفى المجلس المحلى مهمتهم، وبعد ذلك أُخلى سبيل بيلا تار.
كانت إيلين لا تملك مكاناً تذهب إليه – بعد ترحيلها من الشقة - إلا مكان زوج امها، حيث كانت المقيمة الثانية عشر فى هذا المكان، هذه القصة كانت مصدر الفيلم الروائى الطويل الأول لبيلا تار، الذى يحمل إسم "عش العائلة" " Family Nest " عام 1977، حيث مثلت إيرين زايكى البطولة النسائية، كما مثلت أدواراً رئيسية فى أفلام بيلا تار التالية، مثل فيلم "تانجو الشيطان" "Satantango" وفيلم "هارمونيات ريكميستر" " Werckmeister Harmonies ".
فيلم "عش العائلة" تم إنتاجه من خلال ستوديو بالاز بيلا، وهو ستديو مستقل للمخرجين الشباب، وتم عرض الفيلم فى عام 1979
وعندما كان بيلا تار فى سن 22 سنة، لم يكن فقط أصغر مخرج سينمائى فى المجر بسبب العرض الرسمى لفيلمه الروائى الطويل "عش العائلة"، لكن هذا الفيلم أيضاً أكسبه شهرة على المستوى المحلى والعالمى، كما فاز الفيلم بالجائزة الكبرى فى مهرجان مانهاتن الدولى للسينما عام 1979، وفى نفس الوقت كان بيلا تار مثار إهتمام لأنه لم يحصل على أى تدريب إحترافى.
لم يكن الأمر فقط أنه صغير جداً، لكنه أيضاً كان من خارج المجتمع الإحترافى للسينما، وهذا المجتمع كان شديد الحرص ألا يسمح لأحد أن يقترب من إنتاج فيلم إلا إذا كان قد نال تعليماً رسمياً، وبالنسبة لبيلا تار، فقد كان يأخذ بجدية أمر التعلم كمخرج سينمائى وقد نُصح ان يلتحق بمعهد رسمى للسينما، وعلى الرغم من أنه مُنع قبل سنتين من التعليم فى أى مؤسسة تعليمية فى المجر، فإنه وبعد إنجازه لفيلم "عش العائلة" أصبح من السهل عليه أن يلتحق بمعهد للسينما، فإلتحق فى الفصل الدراسى لميكلوس زينيتار، وهو فى الأساس برنامج لتعليم الإخراج التليفزيونى، ولكنه تحول فى عام 1978 إلى برنامج لتعليم الإخراج السينمائى.
ونظراً لأن بيلا تار كان دخيلاً على معهد السينما، فإنه لم يكن يحضر العديد من المحاضرات، وأخرج فيلمه الروائى التالى "الدخيل" " The Outsider " عام 1981 ، وسُمح له بان يعمل ما يروق له ولم يكن مطلوباً منه أن يعيش الحياة العادية لطلبة المعهد، كان فيلم "الدخيل" إنتاجاً إحترافياً رسمياً.
الدخيل
وبعد عرض الفيلم، شرع بيلا تار فى عمل مشروعه الثالث، وهو فيلم "الناس الجاهزون" " Prefab People " عام 1982، وفى نفس العام أخرج فيلم "ماكبث" 1982، وكان فى الأساس أحد أعماله كطالب، لكنه أعيد إنتاجه بعد ذلك للتليفزيون.
وعند تخرجه من معهد السينما، كان قد أخرج بالفعل ثلاثة أفلام وحصل على جائزتين عالميتين، أحدهما تنويه خاص من مهرجان لوكارنو عن فيلمه "ناس جاهزون"، وكانت تلك بداية مُكثفة وغير عادية للمسار المهنى لمخرج سينمائى فى هذا السن الصغير.
فى عام 1980 كان بيلا تار واحداً من مؤسسى ستوديو سينمائى جديد يُسمى "ستوديو تارسولاس" وقد تكون هذا الإستوديو من مجموعة من الناس المهتمين بتيار معين من السينما المباشرة، ثم إلتحق بهم آخرون كانت لديهم أفكاراً عن صناعة أفلام خارج الشكل النموذجى لأفلام الواقعية السياسية التى كانت سائدة فى السينما المجرية، كانت مهمة هذا الإستوديو من الناحية الرسمية خلق وترويج أسلوب السينما الشبه تسجيلية والشبه روائية التى كان المؤسسون قد بادروا بها منذ خمس سنوات، وعلى أيه حال، فإن المخرجين الذين كانت لديهم رؤية وطموحات طليعية، إنضموا أيضاً وأخرجوا أفلاماً لهذا الإستوديو.
وأصبح ستوديو تارسولاس بسرعة كبيرة أكثر ستوديوهات المجر فى إنتاج السينما الإبداعية، لكن ستوديو تارسولاس كان عمره قصيراً، فالمخرجون من الإستوديوهات الأخرى لم يوافقوا على تشكيل ستوديو تارسولاس لسبب بسيط وهو أنهم كانوا يعانون جميعاً من تقلص التمويل الحكومى لصناعة السينما، ووجود ستوديو آخر معناه تقسيم هذا الأموال بين خمسة ستوديوهات بدلاً من أربعة، وبعد ست سنوات من المقاومة - فى عام 1985 - تم إغلاق ستوديو تارسولاس الذى كان يمثل الصيغة المؤسسية الوحيدة للسينما المجرية التى تنتهج الروح الإبتكارية.
أخرج بيلا تار فيلمين لإستوديو تارسولاس، وهما "ناس جاهزون" و فيلم "التقويم الشتوى" " Almanac of Fall " 1985، وفى نفس العام تمت موافقة الإستوديو على فيلمه "تانجو الشيطان" لكن إنتاج الفيلم لم يبدأ، وبسبب إغلاق ستوديو تارسولاس، فإن الفرص التى كانت متاحة لإنتاج هذا الفيلم إنتهت تماماً، وحاول بيلا تار ان يبيع الفكرة إلى العديد من الإستوديوهات الباقية، ولكن جهوده لم تُكلل بالنجاح، ووصل الأمر إلى حد أن قيل له من رئيس أحد هذه الإستوديوهات والذى كان من زملاءه المخرجين، إنه كان هاوياً ومن الأفضل له ان يعتزل الإخراج السينمائى للأبد.
التقويم الشتوى
وجد بيلا تار نفسه مُهمشاً فى صناعة السينما المجرية، التى لم يكن ينتمى إليها على أيه حال، وبدا الأمر كما لو أنه لن يكون قادراً على الإستمرار كمخرج ضمن الهيكل المؤسسى الموجود، وبدأ مشروعاً سينمائياً جديداً أقل طموحاً من فيلم "تانجو الشيطان" وكان عبارة عن فكرة كانت لديه منذ وقت طويل عن مُغنية بلدة صغيرة وزوجها، فكتب سيناريو فيلم "الإدانة" " Damnation " بالإشتراك مع لازلو كرانزناهوركاى، وهو مؤلف الرواية المأخوذ عنها فيلم "تانجو الشيطان".
إدانة
كان بيلا تار معتاداً على فكرة كونه دخيلاً وكان متقبلاً لحالة التهميش التى يعيشها، لقد جمع العديد من الرعاة الذين ليست لهم علاقة مباشرة بالإنتاج السينمائى، مثل معهد السينما المجرى، ووكالة الإعلانات المجرية، والتليفزيون المجرى، والشركة الحكومية لتوزيع الأفلام " MOKÉP " – التى إنضمت إلى المشروع لاحقاً- وإذا كان التليفزيون المجرى لم يُشارك فى إنتاج الفيلم لكان هذا الفيلم هو أول الأفلام المجرية الروائية الذى يتم إنتاجه كاملاً بعد الحرب العالمية الثانية خارج النظام الرسمى لصناعة السينما المجرية.
كان بيلا تار حتى ذلك الوقت غير معروف على نطاق واسع، وكل خطوة فى مسيرته الفنية كانت عشوائية وكانت تبقيه على هامش صناعة السينما، أو كما وصفت زوجته "آنيس هرانتيزاكى" الموقف على النحو التالى "لم يعامل بجدية كمخرج سينمائى، فهو بالنسبة للأستوديوهات كان مجرد حالم"، وتم تصنيفه كشخص ينتمى إلى حركة السينما الذى تلتزم أسلوباً يجمع التسجيلية بالروائية ولكن بدون ألمعية، إنه لم يرق حتى لمستوى رموز هذه الحركة من المخرجين الآخرين، وطبقاً لهذا الرأى فأفلامه لم تكن تكشف عن إهتمام كبير بالمباشرة السياسية، فيلم "التقويم الشتوى" كان بالفعل غير شبيه بفيلمه السابق وأثار حماس النقاد فى الخارج أكثر مما أثاره بالنسبة للنقاد فى المجر، لكن هذا الفيلم وضع الأساس لشهرته العالمية، وأصبح التناقض - بين الوضع الهامشي له في المجر وشهرته الدولية المتزايدة - أكثر وضوحا مع فيلمه التالى "الإدانة".
أثار هذا الفيلم عاصفة من المقالات النقدية الساخرة والقاسية، ورُفض بالإجماع من لجنة تحكيم "أسبوع الفيلم المجرى" عام 1988، لكنه وفى نفس الوقت نال عن هذا الفيلم "جائزة النقاد العالميين" كما حصل على جائزتين عالميتين من مهرجان "كان" ومهرجان "برجامكو"، كما ترشح لجائزة "الفيلم الأوروبى" وحصل على دعوات من عدد من مهرجانات السينما العالمية الأخرى فى جميع أنحاء العالم.
وفى العام التالى حصل بيلا تار على عضوية " DAAD2" للفنانين ليقضى عاماً فى برلين الغربية، وعند عودته، ترك بيلا تار وزوجته إنيس هرانيتزاكى شقتهما فى وسط بودابست وإنتقلوا إلى قرية صغيرة تبعد حوالى 30 كيلو متراً عن بودابست، وهناك بدأ الزوجان فى إعدادهما للتحفة السينمائية "تانجو الشيطان" وبدا الأمر كما لو أن إنتقال بيلا تار للعيش فى هذه القرية كان بسبب إستمرار تهميشه من الوسط السينمائى الإحترافى فى المجر، فهو لم يشارك فى أى نقاش إحترافى ولم يكن على إتصال بمعظم الشخصيات القيادية فى إنتاج السينما المجرية، وعلى أية حال، فمنذ هذا الوقت أصبح بيلا تار أستاذاً زائراً فى معهد السينما فى برلين، حيث كان يذهب إليه شهرين من كل عام، ومن المتناقضات أنه لم يتسلم أى دعوة على الإطلاق للتدريس فى معهد السينما المجرى.
وفى عام 1994 عُرض فيلم "تانجو الشيطان" فى "أسبوع الفيلم المجرى"، وإعتبر منظموا هذا الأسبوع ان إشتراك بيلا تار كان حدثاً هامشياً، فالفيلم لم يحظ بمشاهدة كبيرة بسبب الطول الكبير جداً لمدة عرض الفيلم، فهو يدوم سبع ساعات ونصف، وتم عرضه فى دار سينما صغيرة، فعدة مئات من المشاهدين رأوا هذا الفيلم، وعبروا عن سخطهم بأصوات عالية أثناء المُشاهدة، وهذا الفيلم حقق لبيلا تار شهرة كبيرة عالمية وسط عشاق السينما فى جميع انحاء العالم، كما أشاد به النقاد المعروفين.
تانجو الشيطان
ونتيجة لواقع ان بيلا تار كان هو من يؤمن مصادر تمويل أفلامه على مدى الخمسة عشر عاماً السابقة، فلم يكن مجرد مخرجاً بل كان مُنتجاً منفذاً، وبعد عرض فيلمه التالى "هارمونيات ريكميستر"، أنشأ بيلا تار شركته الخاصة للإنتاج " T. T. Filmműhely "بالإشتراك مع المنتج جابور تينى.
ومع حلول عام 2000 لم يعد بيلا تار مُهمشاً، فقد كان معروفاً جدا بسبب نجاحاته العالمية، كما نال الإعتبار بصفته مخرج غريب ولكنه شخصية هامة فى السينما المجرية، وعلى الرغم من ان تجميع رعاة فيلم "هارمونيات ريكميستر" إستغرق وقتاً طويلاً، فقد إستطاع أن يؤمن التمويل لهذا الفيلم أيضاً بما فى ذلك المنحة الحكومية الهامة، ونال بيلا تار فى عام 2003 أعلى جائزة قومية يمكن لفنان مجرى ان يحصل عليها، وفى عام 2009 وافق على عرض بأن يكون مرشحاً لرئاسة مؤسسة السينما المجرية، لكن لم يمر وقت طويل حتى أدرك أن هناك دعم صغير جداً لتصوره الراديكالى عن كيفية إدارة المؤسسة فتراجع عن الترشح، وفى عام 2010 اُنتخب رئيساً لجمعية المخرجين المجريين.
هارمونيات ريكميستر
صادف فيلمه "رجل من لندن" " The Man from London " إخفاقاً على عكس التوقعات بنجاحه الساحق، وكان هذا يُرهص بالصعوبات التى أحاطت بفيلمه التالى "حصان تورينو" " Turin Horse " 2011، وهو الفيلم الذى اعلن بيلا تار انه سيكون آخر أفلامه وسوف يتقاعد بعده، لقد أعلن عن ذلك عندما كان ناجحاً فعلا على المستوى المحلى والعالمى، وكان يحظى بالشهرة والتقدير فى الأوساط السينمائية الدولية، ففى لوس أجلوس كانت تُباع "تى شرتات" مكتوب عليها إسمه، كما ان مخرجين آخرين كانوا يقلدون أسلوبه السينمائى، وأصبح من المخرجين الذى يعشقه جمهور الفن السينمائى فى جميع انحاء العالم، فعندما إنتهت حالة التهميش ووضعية الدخيل التى كانت تصف حالته، وعندما أصبح واحد من أهم المخرجين فى ثقافة السينما الطليعية، إتخذ قراره بان الوقت قد حان لإعتزاله.


23‏/07‏/2014

القصة السينمائية وأشكال السرد


محاضرة: - تونى مكيبن
ترجمة: - ممدوح شلبى
كفارة شوشانك

"لا توجد قصة فى أى فيلم من أفلام أنطونيونى" هكذا قال موراى بوميرانس فى مقالة " Michelangelo Red, Antonioni Blue " وهذه الفكرة تستحق أن نحتفظ بها فى عقولنا،  حيث يوجد الكثير جداً من أساتذة السيناريو والنصوص الذين يصرون على أهمية القصة فى الفيلم، روبرت مكى " Robert McKee " فى كتاب "القصة " كتب ما يلى "فن القصة هو القوة الثقافية المهيمنة فى العالم، وفن السينما هو الوسيط المهيمن فى هذا النشاط الثقافى الكبير".
" وكما قلت مراراً، جوهر الدراما هو الصراع: فبدون الصراع لن تجد فعل: وبدون الفعل لن تجد شخصية: وبدون الشخصية لن تجد قصة: وبدون القصة لن تجد سيناريو" ويتفق سيد فيلد مع هذا الراى فى كتابه "السيناريو".

ومتحدثاً عن السيناريو يقول سيد فيلد "ليس لديك سوى عشرة صفحات لكى تلفت إنتباه القارئ أو المُشاهد: ولهذا السبب فهناك الكثير جداً من الأفلام التى تبدأ بمجموعة مشاهد مثيرة للإهتمام مثل إفتتاحية فيلم "الفك المفترس"... وفيلم "كفارة شوشانك" " Shawshank Redemption " وفيلم "الساعات" وفيلم "غزاة العالم المفقود" " Raiders of the Lost Ark " ...... فبمجرد ان تًؤسس هذا المشهد او مجموعة المشاهد – والتى تسمى عادة حث الأحداث- فإنك تستطيع أن تبنى بقية القصة"

ويصر الناقد البريطانى جون يورك فى مقالة له عن الحكى السينمائى – نُشرت فى صحيفة الجارديان – على أن القصة تحتاج قوى معادية "فأحياناً يتصادف أن الشخصية المحورية يتم إلقاءها بعيداً وتجد نفسها مجبرة على الدخول فى عالم لم يسبق لها أن رأته، ونجد أن الصبر ينفذ ونجد ان جريمة تحدث....إلخ، كل هذه الأفعال لها تبعات: والتى فى المقابل تثير عقبات – التى يُطلق عليها القوى المعادية –  وهى  مجموع كل العقبات التى تعوق شخصية فى سعيها لتحقيق ما تتمناه".

هذا كله جيد للكثير من الأفلام، لكنه غير مفيد لأفلام أخرى، وهدفنا فى هذه المحاضرة أن نناقش فكرة القصة ليس بإعتبارها أمراً مفروغاً منه ولكن بإعتبارها بُعداً من أبعاد الفيلم، وبدلاً من النظر إلى السينما كشكل فنى أو صناعة تحكى لنا قصصاً – على الرغم من ان هذا هو ما يحدث غالباً- فمن المفيد لأهداف المحاضرة أن نقترح أربعة طرق لمسالة السرد السينمائى، فإذا قسمنا طرق الحكى الفيلمى إلى "الصريح" و"الإنقلابى" و"التأملى" و"واللاروائى" عندئذ نستطيع ان نهرب من التصورات السائدة عن السينما بإعتبارها شكل قصصى.

الطريقة"الصريحة" هى ببساطة أكثر الطرق شعبية لسرد قصة، وهذا حيث يبنى الفيلم مشكلة يمكن ان تستشكل وتنتهى بحل لهذه المشكلة، والإستشكال والحل يتمان بطريقة تتسق مع صعوباتنا فى الإدراك– بمعنى أن تتسق طريقة  السرد مع المحرك الزمنى للقصة، فعندما نرى شخصية مايكل كورليونى التى مثلها أل باتشينو وهو يفقد روحه ببطء فى فيلم "الأب الروحى"، وشخصية راتسو ريزو التى مثلها داستين هوفمان وهو يفقد صحته فى فيلم "راعى بقر منتصف الليل" " Midnight Cowboy "، وشخصية إيثان إدوارد الذى مثلها جون واين وهو يجد إبنه أخيه فى فيلم "الباحثون"، والثلاثة رجال فى المركب (روبرت شو وروى شيدر وريتشارد درايفوس) وهم يمسكون سمكة القرش فى فيلم "الفك المفترس"، والشخصية المحورية وهى تقوم بإخراج الشرير فى فيلم "شين" "ٍ Shane " فإن الفيلم يكون عادلاً مع المشاهدين: ما نراه هو ما لدينا، ورغم ذلك ستكون هناك تطورات تالية، لكنها ليست مثل المفاجاة الدرامية.
الأب الروحى -الجزء الثانى

فى فيلم "الأب الروحى" يؤكد مايكل كورليونى لزوجته كاى "دايان كيتون" إنه ليس مثل عائلته، لكن مع نهاية الفيلم سيكون مثل عائلته وأكثر، حتى ان كاى سيتم الكذب عليها بخصوص أهداف الإستمرار العائلى فى الإمبراطورية الإجرامية، وشخصية إيثان إدوارد لا يقتل إبنة أخيه، فقد قبض عليها الهنود الحمر، وصديق ريزو - جو باك-  "جون فوى" لا يصبح ناجحاً فى نيويورك كما كان يأمل عندما وصل إلى المدينة، معظم هذه الأفلام هى أفلام هامة، لكننا وبسبب الهدف من المحاضرة سوف نصنفها على انها أفلام "صريحة".

كل فيلم من هذه الأفلام له قصة واضحة تنمو وتجعلنا نتابع قصتها، وليس مطلوباً منا ان نخمن شيئاً، ومن المؤكد أنه سيكون هناك توتر فى المواقف، وسيكون هناك تفكيك للقصة إلى أجزاء، لكن وحتى فى الجزء الثانى من فيلم "الأب الروحى"، ورغم ان القصة تعتمد على الفلاش باك، فالفيلم يتكون من زمنين (دون كورليونى فى الماضى: ومايكل فى الحاضر) فإننا لا نتوقع من الفيلم أن يفاجانا فى تصوراتنا عن الاحداث.

فى طريقة السرد "الإنقلابية" " peripital " يقال لنا أننا كنا مخطئين فى تصديق تصوراتنا، المصطلح الذى نستخدمه هنا ماخوذ من إستخدام أرسطو لكلمة الإنقلاب " peripity " فى الاحداث، وكما يقول أرسطو "التغيير من الحالة الاولى للأشياء الموجودة فى المسرحية إلى نقيض الحالة الموضحة، وهذا ينطبق أيضاً على الطريقة التى نقول عنها أنها سلسلة الاحداث المحتملة او الضرورية: كما نرى تطبيقاً لذلك فى مسرحية "أوديب" على سبيل المثال: هنا نجد نقيض الأشياء يحدث من خلال الرسول الذى يأتى لكى يُبهج اوديب ولكى يزيل مخاوفه ومخاوف امه، لكنه يكشف عن سر ولادته".

العديد من الأفلام ليس بها مثل هذا "الإنقلاب": فما نراه هو كل ما لدينا، ونحن ننتظر الزمن حتى يؤكد التصورات، الطريقة "الصريحة" - كما شرحناها- تشبه لعبة كرة القدم حيث النتيجة غير معروفة حتى تنتهى المباراة، بينما الطريقة "الإنقلابية" تكون نتيجة المباراة معروفة مسبقاً، لكننا لم نكن على معرفة بما يدور خلف الكواليس. 
فى الفيلم التحريضى الرائع " Manderlay " للمخرج لارس فون تريير، نكتشف أن العبد الأسود الذى مثله دانى جلوفر كان مشتركاً مع صاحب المزرعة  فى إبقاء الوضع على ما هو عليه، معتقداً بانه إذا لم يظل الوضع على حاله فان الموقف سيزداد سوءاً بالنسبة لكل العبيد: فقد يحصلون على حريتهم لكنهم سيجوعون وسيتقاتلون مع بعضهم بعضاً.

هذا هو "الإنقلاب"، فبينما نفترض شيئاً فإننا ندرك لاحقاً عكس ذلك، نحن كنا نعتقد أن الأمر ببساطة هو قضية رجل أبيض يقمع الزنوج، لكننا نرى الرجل الأسود يمكن ان يكون متورطاً فى الظلم.

فى أفلام مثل "الحى الصينى" " Chinatown " و فيلم "نادى العراك" " Fight Club " وفيلم "الحاسة السادسة" " The Sixth Sense " وفيلم "تذكار" " Memento " وفيلم "حرارة جسم" " Body Heat " وفيلم "جزيرة القفل" " Shutter Island " وفيلم "اللعبة" " The Game " وفيلم "دوار" " Vertigo " وفيلم "ساحر أووز" " The Wizard of Oz " وفيلم "سايكو" " Psycho "، نحن على خطأ عندما نقيم تصورات يقينية، فالفيلم لا يكشف فقط عما لا نعرفه لكنه يكشف أيضاً عما كنا نخمنه كحقيقة.

عندما يقتل بطل الفيلم شخصية جاك بالانس فى نهاية فيلم "شين " أو عندما يزداد فساد مايكل كورليونى داخل العائلة، او عندما يموت رازو ريزو، هذه اللحظات تعتمد على الظروف المستجدة: مستجدة بمعنى أننا ليست لدينا معرفة مسبقة تجعلنا ندرك أن ريزو سوف يموت، وان "شين" سيفوز، و أن مايكل سيصبح نقيض ما قاله عن نفسه فى بداية الفيلم، الزمن هو الذى يكشف هذه التغييرات.

فى سينما "الإنقلاب" على أية حال، فان وجهة النظر أكثر من الزمن هى التى تكشف عن هذه التغييرات، سكوت "جيمس ستيوارت" يكتشف أنه تم التلاعب به من صديقه القديم جافين فى فيلم "دوار": فقد تم توظيفه ليتبع مادلين ليس بسبب أنه شرطى سابق عظيم، ولكن لان سكوت كان عاجزاً عن الحركة وقعيد، ويستطيع جافين أن يرتب لموت زوجته من خلال الإستفادة من مرض الرهاب من المناطق العالية الذى يعانى منه سكوت، وفى فيلم "الحى الصينى" يدرك جاك نيكلسون "جى جى جيتس" أنه كان فى الطريق الخطأ عندما تعلن فاى دوناواى "إيفيلين مولوارى" انها إبنة أبيها وفى نفس الوقت حبيبته، وفى فيلم "اللعبة" تكتشف شخصية مايكل دوجلاس أن أخيه رتب سلسلة من الأحداث لكى يوفر له إحتفالاً سعيداً بعيد ميلاده.

فى كل حالة من الحالات السابقة ثمة حدث كان موجوداً مسبقاً والمُشاهد يكتشف ما حدث بأثر رجعى، فى فيلم "الفك المفترس" وفيلم "الباحثون" وفيلم "راعى بقر منتصف الليل" ورغم أن لا احد يستطيع ان يعرف مسبقاً أن سمكة القرش ستُقتل، وان إبنة الاخ سيتم إنقاذها، وان راتسو سيموت، هذه احداث ضمن الزمن "الظاهر" فى الفيلم، اما فى "الإنقلاب" فإن الحدث يكون قبل القصة او خارج الكادر، إذا شعرنا احياناً بالخدعة فى مثل هذا الامثلة، فهذا لاننا عرفنا أدلة لمحت إلى دوافع متنوعة وراء أفعال الشخصيات.

فى فيلم "دوار" ربما يبدو جافين أو مادلين مشبوهاً فيهما، وربما تلك اللحظة فى فيلم "الحى الصينى" حيث تبدو مولوارى فى حالة قلق بعد أن يحس جيتس أنها تتلاعب به، هل يقودنا هذا ان نسأل كثيراً عما تخفيه مولوارى فعلاً، وربما يجب علينا ان نعرف ان شخصية "ويليس" فى فيلم "الحاسة السادسة" هو رجل ميت.

بينما قد يجد البعض ان مثل هذا "الإنقلاب" علامة على التلاعب من جانب المخرج تجاه المُشاهد، وهذا يعيدنا إلى التراجيديا الإغريقية التى نجدها فى واحد من أروع أفلام السبعينات، إنه فيلم "الحى الصينى" ونجدها فى أفلام واحد من أكثر المخرجين المعاصرين تأثيراً، إنه لارس فون تريير، إشارة إلى ان "الإنقلاب" شكل سردي ممتازً، ويمكن ان يقال نفس الشيئ على فيلمى "الحاسة السادسة" و "نادى العراك" فيمكن تشبيه السرد الإنقلابى بالبضاعة المشتبه فيها التى تباع خلف الشاحنة.

أيضاً هدفنا هنا ليس أن ندافع او نهاجم، ولكن أن نناقش، وبينما يوجد هؤلاء الذين يعتقدون ان "الإنقلاب" المفاجئ يشير إلى تلاعب، فإن البعض ربما سيصر على أن المخرجين الذين يصنعون أفلاماً تناسب التصنيف الثالث "التأملى" " tentative, " يمكن ان يبدون كسولين.

فالأمر يبدو كما لو أن المخرج الذى يصر على التحايل والمفاجاة هو مخرج يقدم عملاً صعباً لكنه ليس عادلاً، بينما مخرج الفيلم "التأملى" يبدو انه يلعب على كل المستويات إذا فكرنا فى المقارنة برياضة من الرياضات، ألا يبدو المخرج الذى لا يتيح شيئا،ً شبيها بلاعب كرة القدم الذى يُضيع الوقت؟ إذا كان لدينا مثال بلعبة جيدة، فماذا تشبه هذه اللعبة عندما يتم لعبها: لعبة بفريقين يحاولان ان يحرزا الإنتصار بأقل مجهود؟

هذا غير عادل لنوع السينما التى يصنعها عباس كيلروستامى وأنطونيونى واندريه تاركوفسكى ولوى بونويل وهو هسياو هسين ومايكل هانيكه، لكنها يمكن ان تبدو غير مفهومة للوهلة الاولى بالنسبة للمشاهدين المبتدئين.

الناقد الامريكى جدفرى شيشاير يقدر كثيراً أفلام كياروستامى، لكنه أيضاً يقر بان "أفلامه تبدو غير معنية على غير العادة بقضية الجمهور". ويضيف أيضاً، على أية حال، أن "الإفتقاد الواضح للإهتمام بالجمهور يخفى معناً عميقاً بالقلق والمسؤلية على نفس القضية". الإثارة السطحية للعبة يحل محلها تحرى وتحقيق لطبيعة الأشياء، وسواء حدث ان تكون نهاية فيلم "طعم الكريز" التى ترفض الكشف عما إذا كانت الشخصية المحورية ستواصل الحياة أم لا، بعد ان بحثت الشخصية المحورية عن أناس لكى يواروا جثته فى التراب عندما ينتحر، وفى فيلم "المطارد" لتاركوفسكى، نراه يسمح للشخصيات الثلاثة الرئيسية ان تدخل النطاق، ولكن بالنسبة إلى معنى النطاق فإنه يظل غامضاً، أو أنطونيونى الذى يتراجع عن كشف الجريمة الموجودة فى فيلم "تكبير الصورة"، المخرجون الثلاثة كلهم قد يكونوا معذورين ليس فقط برفضهم ان يلعبوا اللعبة فى ظل أسلوبهم البطيئ حيث لا شيئ يحدث، ولكن أيضاً فى عدم اللعب بعدالة عن طريق تأسيس إحتمالات الكشف التى كانوا يحجبوها.

لكن هدف الفيلم "التأملى" ليس أن يخفى عن الجمهور شيئاً فى بداية الفيلم ثم يكشفه فى الختام كما نتوقع من الفيلم "الإنقلابى"، ولكن ان يخفى كل شيئ من اجل الكشف عن وجهة النظر المختلفة للمًشاهد الذى يتصادف أنه يشاهد الفيلم، كياروستامى وتاركوفسكى وانطونيونى وبونويل لم يكونوا جميعهم خالقين الألعاب التى يرفضون عندئذ أن يجيبوا عليها، لكنهم بدلاً من ذلك يريدون "الألعاب التساؤلية"، ألعاب لا يوجد لها حل سهل.

أحد الأسئلة التى سألها كياروستامى فى فيلم "طعم الكريز" كانت، ماذا لو كان الإنسان يريد أن ينتحر؟، بينما فيلم "المطارد" لتاركوفسكى يتسائل ماذا يعنى أن نؤمن؟، وفيلم "تكبير الصورة" لأنطونيونى يتفكر حول طبيعة الفضول، أراد المخرجون أن يقدموا سؤالاً أعظم من الإجابة القصصية الجاهزة، ولكى يخلقوا مساحة للمشاهدين حتى يجيبوا على السؤال بأنفسهم.

فيلم بونويل "سحر البرجوازية الخفى" " The Discreet Charm of the Bourgeoisie " هو فيلم "تأملى" حتى ان القصة لا يمكن أن تتطور نظراً لان الشخصيات لا تحصل مطلقاً على الوجبة التى يعدوا أنفسهم بها بسبب مقاطعات متنوعة، يلعب الفيلم مع توقعاتنا بينما نحن على ما يبدو نكون فى حالة واحدة فقط وهى أن نجد أنفسنا مستيقظين وخارجين من هذا الموقف بينما نلاحظ ان ما يحدث كان مجرد حلم لاحد الشخصيات، وعندئذ مرة اخرى، عندما نستسلم لواقع القصة نكتشف أننا فى حلم شخصية أخرى، نستطيع أن نرى هذا "التأمل" بطريقة إستفسارية فى أفلام كياروستامى، رغم ان المخرج يقول - فى مجلة فيلم ميكر- "من الواضح ان البشر هم انفسهم أينما كانوا"، فكياروستامى أيضاً يبحث عن الإستجابة على الصعيد الشخصى..

وقال له محاوره زكارى ويجون "انت تذكر الجمهور سواء تعلقوا بأشياء محددة ام لا،  انا عرفت بملاحظتك التى تقول فيها ان السينما غالباً تنقل معلومات كثيرة مثل الأفلام البورنو، وأنك تحب أن تحتوى الأفلام على معلومات أقل، انت تريد من الجمهور أن يعمل فكره كثيراً حتى يفهم ما يجرى، هلا تحدثنا عن إخفاء الفيلم للمعلومات حتى تمنح المشاهدين مساحة حتى ينخرطوا فى الموضوع؟" وكان رد كياروستامى "المنتجون والمخرجون السينمائيون قرروا ان المقاعد فى السينمات تم صناعتها لكى تحول عقول الناس إلى عقول بليدة، وبمجرد ان يدخلوا إلى دار السينما فإنهم يصبحون مستهلكين بلهاء ويجب عليهم أن يتغذوا على المعلومات، نفس هؤلاء الناس عندما يغادرون دار السينما، وعندما ينظرون من وراء الستائر فى منازلهم فإنهم يكونون فضوليين تجاه جيرانهم، إنهم يمكنهم ان يخمنوا إذا كان جيرانهم إخوة أم زوج وزوجة، وما هى اعمارهم، وما هى وظائفهم، إنهم يكونون فضوليين فيما بين بعضهم بعضاً ويمكنهم ان يفهموا بعضهم بعضاً بدون أن يتغذوا بالمعلومات"

نحن فى الحياة لدينا الحرية أكثر من معظم الأفلام لأننا نستطيع أن نمارس فضولنا بدلاً من أن نحصل على المعنى والمعرفة التى فُرضت علينا، فى بداية فيلم "طعم الكريز" ربما نتسائل ما الذى تفعله الشخصية المحورية وهى تقود السيارة خارج ضواحى مدينة طهران: هل سبب قيادته المتأنية للسيارة أنه يبحث عن عامل يستأجره، أم انه يبحث عن صديق؟.

القليل من الناس كانوا يخمنون انه يبحث عن شخص لكى يوارى عليه التراب بعد ان يموت، وفى هذه الفضاءات خلق كياروستامى معانى مختلفة ، وبالتأكيد فإننا فى فيلم "طعم الكريز" سنكتشف ما تبحث عنه الشخصية المحورية مع توالى الفيلم، لكن هناك ثمة توتر إستفسارى فى الفيلم حتى يجعلنا فضوليين بفعالية بدلاً من تقبل الأمر بسلبية.

فى فيلم "ستحملنا الريح جميعاً" هذا الفضول بفعالية يؤخذ إلى آفاق جديدة، وكما يقول جدفرى شيشاير فى "النيويورك برس" "ليست الفرضية الأساسية للقصة فقط هى التى تتركنا مشوشين وغير متيقنين خلالها، ولكن الشخصيات الإحدى عشر الهامة – ومن ضمنهم حفار القبور، والمراة الميتة ورفقاء بيزهاد – فكل هذه الشخصيات ليست مرئية، فكياروستامى ينوه عنهم أو يدعنا نسمع أصواتهم، ولكنه يبقيهم مختفيين".

عندما لاحظنا أن الأفلام العظيمة مثل "سيكو" و"ساحر أووز" هى أفلام "إنقلابية" عظيمة، فقد يجوز لنا أن نضيف أن إنقلابهما يعتمد على منع إظهار الشخصيات على الشاشة، فى فيلم "سيكو" نكتشف أن الأم هى فعلاً نورمان باتس، إنه يطلق صوته حولها، وفى فيلم "ساحر أووز" فإن الصوت الطلق العميق للساحر ينتمى إلى ساحر لا إعتبار له، تلك الأشكال هى ما أطلق عليها مُنظر الصوت العظيم مايكل شيون "أصوات خارج الكادر" "نحن نستطيع وصف الأصوات خارج الكادر بانها الكثير من الشخصيات الغامضة والثرثارة المختفية وراء الستائر، فى الحجرات أو المخابئ، حيث شريط صوت الفيلم يقدمهم لنا: مثل أستاذ الجريمة  فى فيلم المخرج فريتز لانج "" عهد الدكتور مابيوس"، ومثل الام فى فيلم "سيكو" لهيتشكوك، ومثل الساحر المزيف فى "ساحر أووز" الذى أنتجته شركة مترو جولدن ماير......" من كتاب "الصوت- رؤية".

يستطيع المرء أن يرى طموح كياروستامى "التأملى" فى منحنا إحدى عشر من هذه "الأصوات خارج الكادر" بينما فريتز لانج وألفريد هيتشكوك منحانا صوتاً واحداً فقط.

فى أحد اللحظات من فيلم "ستحملنا الريح جميعاً" يُلقى عالم آثار بعظمة إلى الشخصية المحورية التى تتلقفها، وبعد ذلك يتم نقله إلى المستشفى بعد حادث تعرض له فى حفرة، أيضاً فإنه يظل من الضرورى وجود الشخصيات خارج الشاشة حيث يتيح لنا كياروستامى ان نتكهن بمظهر هذا الشخصيات.

وفى فيلم "عشرة" لكياروستامى نجد انه أقل طموحاً ولكنه مازال مهتماً بموضوع "الأصوات من خارج الكادر"، فهو يعرض بداية نقاش بين صبى صغير وبين امه بينما هما فى سيارة تسير، ولدقائق قليلة تتثبت الكاميرا على وجه الصبى بينما امه تُسمع من خارج الكادر وهى تجادله قبل أن يقطع المخرج على الأم ونرى انها إمراة شابة جميلة ترتدى نظارات شمسية، هل تفاجئنا من هذه الصورة، هل كنا نتوقع إن المرأة من ربات البيوت؟ إذا قطع الفيلم بين الإثنين من بداية المشهد، فإن كياروستامى كان سيحذف هذا الإحساس اللاشعورى الذى يحعلنا نتسائل عن ماهية هذه المراة وما هو شكلها، لأننا سنراها فى الحال، لكن طريقة كياروستامى تسمح لاى مُشاهد ان يخمن - سواء شعورياً او لا شعورياً- شكل هذه المرأة.

وكما قال روبير بريسون فى احد المرات فى كتاب "ملاحظات للسينمائى" الصوت يستدعى للأذهان صورة، لكن الصورة لا تستدعى فى الأذهان صوتاً، وبالتأكيد فإن فيلم بريسون عن السجين الهارب المسمى "رجل يهرب" " A Man Escaped " كان فيلماً عبقرياً ليس فقط بسبب الطريقة التى تستحضر الإستشهادات خلال شريط الصوت الذى يعتمد على مكونات بصرية وجدت مكانها فى الشخصية المحورية بينما هو حبيس زنزانته، فهناك شخصيات عديدة تصبح مسموعة من خارج الكادر، وحتى الأشياء يمكن ان تكون لها أصوات أيضاً بينما نحن نتسائل من هم الذين نسمع أصواتهم.

من الواضح انه ليس كل المخرجين يقدمون التأمل والتخمين بنفس هذه الطريقة، ربما يضيف كياروستامى عندما يتحدث عن قدرة المشاهدين على الإستدلال فى حياتهم الخاصة قائلاً "لماذا يجب أن يكون الأمر مختلفاً فى السينما؟" لكن هذا قد يكون مختلفاً جداً عن نوع التخمينات التى يقدمها انطونيونى وإنجمار برجمان وتاركوفسكى ومايكل هانيكه وهو هسياو هسين، واى تحليل جيد للسرد التأملى يمكن أن يكشف عن الكيفية التى يستخدمها المخرجون، أنطونيونى على سبيل المثال قد يتفق مع كياروستامى عندما قال ان أصول الفيلم تبدأ "من تخميناته عن الحياة الحقيقية، هذا النوع من التخمين يصبح نوعاً من الغذاء الروحى، او الطعام الفكرى" لكنه أيضاً يقول أنه "يعترف أنه إذا كنت تريد ان تعبر عن عالمك الشعرى فيجب عليك ان تتجاوز الواقع"، من كتاب "الهندسة المعمارية للرؤية البصرية" " The Architecture of Vision ".

إذا كان ميزانسين كياروستامى واقعياً بصرامة، فإن الواقعية الموجودة فى أفلام انطونيونى تمتلك بُعداً لما وراء الحياة الأرضية، فمدينة لندن فى فيلم "تكبير الصورة" تبدو خالية تماماً وتمتلك بعداً يعبر عما بعد القنبلة النيوترونية، والمنزل فى مقدمة الصخرة فى فيلم "نقطة زابريسكى" هو عبث معمارى مثل الإحتمالات المستقبلية، وبرج الماء فى بداية فيلم "كسوف الشمس" يبدو نذيراً بالإبادة النووية.

عندما سئُل انطونيونى من الناقدين سيرجى دانى وسيرجى توبيانا فى مجلة "كراسات السينما" لماذا لم يُخرج فيلم خيال علمى، فلم يبدو هذا كسؤال أحمق كما يبدو من الوهلة الاولى، أنطونيونى بدا كما لو كان يبحث عن بُعد مستقبلى من الناحية الفكرية، واى تطور قصصى في أفلامه يتم تحجيمه بسبب هذه الإشكالية الفكرية، إذا بقت قصص أنطونيونى نصف حاضرة رغم إمكانية تصويرها ( فثمة إمراة مفقودة فى فيلم "المغامرة"، وثمة جريمة قتل يتم إرتكابها فى فيلم "تكبير الصورة" وثمة رجل يحمل هوية قاذف بندقية فى فيلم "المسافر" – فهذا لأن التصور الذهنى أكثر اهمية من السرد القصصى، وحتى عندما يصور العمارة القوطية فى فيلم "المسافر" فإنه يفعل ذلك لكى يعطى الإحساس بان الشخصية صغيرة فى الكادر.

عندما تحدث جيل دولوز فى مجلد السينما 1 – الصورة المتحركة- عن ان الكادر له شكل تماثلى "analogue"، فقد أصر على ان الكادر يجب أن يعتمد على نظام المعلومات اكثر من إعتماده على النماذج اللغوية، المعلومات القصصية عند انطونيونى تبدو دائماً ثانوية بالنسبة إلى معلومات الأسلوب: فتجميع المعلومات البصرية لا يمكن ان يقلل من محتويات القصة، لكنه يبدو كإنجراف إلى عالم بصرى غير معتاد، وبالتالى فربما يوجد ثمة بُعد للخيال العلمى فى أفلام أنطونيونى.

أفلام تاركوفسكى تمتلك عنصر الخيال العلمى بدون شك، لإنه اخرج فيلمين ينتميان لهذه النوعية من الأفلام وهما فيلم "سولاريس" وفيلم "المطارد"، وهى إعدادات من روايات خيال علمى بصرف النظر عن الطريقة الغير تقليدية للفلمين، لكن إذا كان أنطونيونى ينشد فى أغلب الاحوال معانى غامضة لأفلامه خلال ما يفرضه من امكنة، فإن تاركوفسكى ينشد فى أغلب الأحيان سينما يمكن فيها للغموض ان يعلن عن نفسه فى الموضوع بدون تهميش وتغيير الموضوع، ولكن حيث الإعتقاد الذاتى يمكن ان يؤثر على موضوع إهتمام الشخص.

فى فيلم "سولاريس" نجد ان الشخصية المحورية "كريس" والآخرين الذين يدورون في المدار الفلكى، لديهم القدرة على خلق أناس بدون ذاكرة، وبناءاً عليه فإن زوجة كريس السابقة التى إنتحرت تعود إلى الحياة، وفى فيلم "المطارد" فإن النطاق يحقق أعمق رغبات الإنسان، لكنه يعكس أيضاً الضعف الإنسانى: أحد الشخصيات يُصبح غنياً بطريقة لا يمكن تخيلها، وعندئذ  ينتحر بعد وقت ليس طويلاً، العالم والكاتب اللذان يذهبان إلى النطاق مع المطارد يشعران بالفزع بينما يقتربان من النطاق، عارفين أنه ليس موضوعاً خارجياً ولكنه إتصالاً وتواصلاً مع أفكارهما ومشاعرهما.

غموض تاركوفسكى فى هذه الأمثلة ياتى من اللعب بالذاتية على حساب الموضوعية، من التلميح بعالم المستقبل الذى يمكن ان يزيل الحدود بين المادة والذاكرة.

الذى نجده غالباً فى المخرجين العظماء "التأمليين" هو ان الغموض ليس دائماً مجرد قضية السرد، إنه يتصل بعناصر الحيز والمشكلة الإدراكية أيضاً، وهذا لا يقتصر فقط على أنطونيونى، إنه عنصر محورى لبعض أفلام مايكل هانيكه وبعض أفلام هو هسياو هسين.
اللقطة الختامية الشهيرة فى فيلم "المخفى" لمايكل هانيكه تحتاج ان تُحلل بسبب صلتها بالمعلومات، فأولاً واخيراً، وقبل أن نستطيع حتى ان نبدأ فى تخمين ماذا تعنى، نحن نلاحظ أن إبن الشخصية المحورية يتحدث إلى الإبن الذى تبناه أبيه، وقد نتسائل إذا ما كانت هذه لحظة وفاق بين الجيل الأصغر فى غياب للجيل الأكبر، ام أنهما متورطان فى حملة إرهاب موجهة ضد الشخصية المحورية.

ربما يريد منا مايكل هانيكه أن نخمن ما يحدث، لكن، اولاً وأخيراً، يجب علينا ان نرى الشقيقين فى الكادر، فيكشف لنا هانيكه عنهما فى لقطة عامة مع عدد كبير من الشخصيات الاخرى الموجودة فى اللقطة أيضاً، وفى أفلام هو هسياو هسين أيضاً هناك غموض فى اللقطة، فى عدد من مشاهد فيلم "وداعاً، وداعاً أيها الجنوب"، فالغموض يتعلق بالطريقة التى يضع بها المخرج الشخصيات فى الكادر – احياناً يواجه احد الأشخاص شخصاً آخر بينما هو هسياو هسين يصور من وراء أحدهما حتى لا نستطيع ان نرى التعبير على وجه أى من الشخصيتين- فالغموض هو غموض فى دوافع الشخصيات أنفسها.

وعلى أية حال، فإن مخرجين مثل هانيكه وانطونيونى، وكذلك تاركوفسكى وكياروستامى، مازالوا مخرجين للسينما القصصية بشكل عام، لكنهم أصبحوا مخرجى قصة - موجهة وأصبحوا جزءاً من السرد "اللا روائى"، ففيلم "خمسة" لكياروستامى، على سبيل المثال، به عنصر قوى من الفيلم المركب ذى الاجزاء، بسبب اقسامه الخمسة، والتى تشمل قسماً حيث قطعة من الخشب تطفو على سطح البحر، وقسماً آخر عن اناس يتحدثون على الشاطئ، فلا توجد قصة تتطور، ويقول كياروستامى فى فيلم تسجيلى تم صنعه عن مراحل عمل فيلم "خمسة" انه كان مُتضايقاً جداً لأن الناس كان يستريحون فى القيلولة أثناء عمل الفيلم، وكان هذا فى الحوار الذى ادلى به للناقدة ناسيا حميد فى مجلة "سايت اند ساوند" منذ عدة سنوات" إذا خرجت من السينما ونسيت ما شاهدته لتوك، فمن الأفضل لك بدلاً من ذلك ان تُقضى الساعتين فى النوم، فهذا على الأقل قد يمنحك بعض الطاقة، معظم أفلام هذه الايام تستنفذ طاقة الإنسان" – مجلة "سايت اند ساوند" عدد فبراير 1997- كياروستامى يتحدث عن الأفلام التى لا تخلق حيزاً كبيراً للغموض، وهى أفلام التسلية والترويح عن النفس، لكن الأفلام التى تقف على الطرف القصى لتيار السينما السائدة هى أفلام تتمتع بحرية فى طريقة السرد، حتى النوم يمكن ان يكون جزءاً من رد الفعل الشخصى على مشاهدة هذه الأفلام، والفيلم يخلق حيزاً لإمكانياته.

قد تكون طريقة كياروستامى فى عمل فيلم "خمسة" شبيهة بالنقد الذى كتبه داى فوجان عن فيلم "إمباير" للفنان اندى ورهول- الذى يدوم ثمان ساعات -  وهو فيلم يركز على مبنى الإمبير ستات، فعن هذا الفيلم التسجيلى ألمح فوجان أنه "يحتاج ليس إلى ان نشاهده ولكنه يحتاج فقط ان يُعمل"، فحضورنا الفعال غير دى صلة.

واحد من المشاكل التى يصادفها العديد عند مشاهدة الأفلام التى تفتقد إلى العنصر السردى "السينما اللاروائية" هى ان السينما وسيط يتميز بالإستمرارية، على عكس فن الرسم، فالفيلم فن مكانى وزمانى، ألا يكون الموقف غير مفهوماً أن يغضب احد الاشخاص إذا كان فرض الزمن موجود بدون امكانية للقصة؟

إذا أصر شخص ما ان أى اللوحة الفنية يجب أن يتم التطلع إليها لمدة زمنية معينة، فهل بعض من نفس الإحباط والهياج يدخل فى اللعبة؟ إن بعضاً  من الاهداف للسرد "اللا روائى" هو ان يستكشف الزمن بدون الإصرار على تلبيسه فى الحدث القصصى، الكثير مما يُدعى السينما التجريبية تهتم بهذه القضية, وسواء كان هذا فيلم "طول الموجة" " Wavelength " لمايكل سنو أو فيلم "الغروب" " Nightfall " لجيمس بيننج، أو فيلم "ليتوانيا وإنهيار الإتحاد السوفيتى" " Lithuania and the Collapse of the USSR " لجوناس ميكاس، أو فيلم "النوم" " Sleep " أو فيلم "بنات تشيلسى" " Chelsea Girls " او فيلم "خدعتى" " My Hustler " لورهول، فإن الفرد يجد ان الأفلام تبحث عن مزج بين الصرامة وبين السرد الطليق.

فيلم "طول الموجة" لسنو عبارة عن حركة زووم بطيئة تستغرق 42 دقيقة، ولا تغير الكاميرا مكانها أبداً، فهى تتحرك بهذا البطء فى إتجاه صورة مُعلقة على الجدار فوق كرسى أصفر، وفيلم "غروب" لبيننج يتبع زوال الضوء فى احد الأمسيات فى غابة بالولايات المتحدة الأمريكية، بينما في فيلم "ليتوانيا وإنهيار الإتحاد السوفيتى" تتركز الكاميرا على ميكاس وهو جالس على كنبة يشاهد الأحداث على شاشة التليفزيون، يركز ميكاس الكاميرا على سكونه اكثر مما يركز على الموقف الليتوانى كلحظة تاريخية، فميكاس المولود فى ليتوانيا والذى يقيم فى أمريكا يمس قضايا البُعد والسلبية فى مقابل التغيير التاريخى، فى فيلم "النوم" يصور وارهول جسماً نائماً لمدة ست ساعات.

وفى فيلم "انا لا أعرف ما أحبه " " I Do Not Know What It Is I am Like " للمخرج بل فيولا، فإن الكثير من وقت الفيلم يتم تمضيته على مشاهدة الطيور والحيوانات والأسماك.

عندما يتحدث النقاد او المخرجون أنفسهم عن الأفلام، فإنهم يناقشون التفاصيل التكنيكية او التفاصيل المتوفرة، عندما نوه بى آدامز سيتنى عن فيلم "النوم" فى " Visionary Film " فقد قال "نصف دستة من اللقطات تُشاهد على مدار ست ساعات، ولكى يتحقق هذا التطويل فقد إستخدم وارهول شريط "اللوب" المطبوع فى المعمل لشريط الفيلم الذى يبلغ مائة قدم، وفى النهاية إستخدم الصورة الثابتة الموجودة أعلى رأس الشخص النائم".

فى فيلم بل فيولا، نحن نشهد الشكل الفنى فى العمل: فنحن عادة نستطيع مشاهدة كاميرا المخرج منعكسة فى عين احد الطيور.

على أية حال، لا يجب علينا ان نبالغ فى إظهار مراحل التصوير على حساب الحدث، وكما يقول ستيفن دوسكين عن فيلم "طول الموجة" "إنه فيلماً بسيطا جداً (عبارة عن زووم مستمر بطيئ خلال حجرة) فهو ليس أكثر من حركة مكانية، حركة تتقدم خلال حيز مرئى، وهناك أربعة احداث تتم فى الفيلم على فترات: يتم إدخال حقيبة كتب إلى الحجرة، وتستمع فتاتان إلى الراديو – كان الراديو يذيع أغنية "حقول الفراولة" لفرقة البيتلز- ورجل يدخل الحجرة ويسقط على الأرض: وتدخل فتاة وتتحدث تليفونياً مع شخص ما وتقول له ان الرجل مات" – من كتاب "الفيلم هو" –

فى فيلم ميكاس، من الواضح ان ثمة احداث هامة تحدث أثناء مشاهدته للتليفزيون، لكن هذه الاحداث يتم إحتواءها داخل حالة السكون، داخل النموذج الرئيسى للفيلم الذى يجعل اى إنشغال بالحدث أشبه ما يكون بامر ثانوى بالنسبة للهدف الرئيسى للفيلم.

ينطبق هذا أيضاً على مشاهد ميكاس التى صورها عن حياة اندى وارهول، حيث البعد التوثيقى يتم تدميره بسبب الشكل الفنى للفيلم، وفى فيلم "مخملية تحت الأرض" " Velvet Underground’ "، فإن ما سجله ميكاس يتم عمل المونتاج له كما لو ان العملية المونتاجية اكثر اهمية من الوثيقة المُصورة، فثمة قطع مونتاجى مفاجئ، ومؤثرات بصرية وأصوات مشوهة، وهذا جعل الفيلم وكانه وثيقة لا صلة لها بما تم تصويره ولا صلة له بالهدف الذى كان وراء تصوير الفيلم.

عندما يبدأ شريط الصوت فى فيلم "طول الموجة" فإننا نسمع صوت ضربة حادة، إنها مزعجة جداً حتى انها تصم آذاننا وتسيطر علينا اكثر من الحدث الذى تعرضه الشاشة.

لكى نفهم هذا الفرق عن السينما الروائية العادية، يمكن لنا ان نتذكر الصوت فى فيلم "لا رجعة فيه" للمخرج جاسبر نوى، حيث كان الصوت مزعجاً بشكل واضح، لكنه سيجعل المُشاهد مرعوباً من الحدث الذى يدور على الشاشة - ومن ضمنه مجموعة مشاهد طفاية الحريق الشهيرة - وعن توصيف شريط الصوت فى فيلم "لا رجعة فيه" يذكر " IMDB "  ان "الدقائق الثلاثون الأولى من الفيلم بها خلفية من الضوضاء ترددها "28Hz "  وهذا تردد منخفض، وغالباً غير مسموع، وهذه الضوضاء تشبة الضوضاء التى يُحدثها الزلزال، وهى تتسبب فى الغثيان للإنسان، كما تتسبب فى المرض والدوار، وكانت هذه الضوضاء هى السبب فى خروج الناس من دار السينما أثناء عرض القسم الاول من الفيلم فى اماكن مثل مهرجان كان ومهرجان سان سبستيان، وفى الحقيقة، فإن هذا الصوت تم إضافته للحصول على رد الفعل هذا".

لكن هندسة الصوت هنا تدعم السرد، بصرف النظر عن بناء الحبكة "الإنقلابية" حيث يتوافق شريط الصوت المقرف مع الصور التى تعرض نفس القرف – عملية إغتصاب، ومشهد لطفاية حريق-.
 فيلم جاسبر نوى يحتوى على "التجريب"، لكنه من المبالغة ان نقول انه طليعى فيه، فعادة ما تهتم الأفلام "اللاروائية" بالتقنية،  وهذه خيارات رئيسية على حساب السرد وعلى حساب حتى العناصر التمثيلية.

ربما هذه التصنيفات عامة جداً وغير كافية، لكنها تتيح لنا ان نرى السينما فى علاقتها بالسرد ليس بوصفة سلسلة من الأشكال، ولكن بوصف السينما متصلة بالسرد "الظاهر" فى احد الأطراف، وبالسرد "الغير روائى" فى الطرف الآخر، فبعد كل شيئ، فحتى فيلم "جمال أمريكى" " American Beauty " يمكن ان يتضمن بداخله مشهداً حيث يمكن ان يكون قطعة من السينما التجريبية- إنه مشهد الحقيبة البلاستيكبة-  بصرف النظر عن صوت التعليق والموسيقى التى تؤكد المعنى.

فى فيلم "كلوس أب" لعباس كياروستامى هناك لحظة نرى فيها علبة صفيح تتدحرج فى الشارع، وتصويب الكاميرا على هذه الصفيحة يمكن ان يُلمح إلى السرد "اللا روائى"، بينما فى فيلم "المطارد" لتاركوفسكى هناك مجموعة مشاهد حيث تنفصل الكاميرا عن القصة وتتبع أشياءاً تحت الماء.

وبناءاً عليه، فإن الملمح "اللاروائى" قد لا يغطى كل الفيلم، لكنه مجرد لحظة داخل الفيلم تنتمى ظاهرياً إلى تصنيف آخر، وفى الواقع، فإن فكرة الموضوع الدخيل على الفيلم – كما فى فيلم "جمال أمريكى" وفيلم "كلوس أب" – أخذت حظها من الاهمية، فالكاتب الواقعى السينمائى سيجفريد كراكور يقول " المشهد المسرحى يركز بالحتمية على الممثل، بينما الفيلم سينمائى لديه الحرية فى التركيز على وجود الممثل وكذلك تفاصيل الأشياء المحيطة به". (من كتاب "نظرية الفيلم" " Theory of Film ").

ربما نقول فى الختام، أن الطريقة الوحيدة للهروب من القصة، نقيضاً لكُتاب مثل "مكى" وسيد فيلد ويورك، هى ان نفكر فى إهتمام كراكور بالموضوع، وكذلك ملاحظة جيل دولوز عن أنظمة المعلومات، إذا كنا نرى الفيلم بشكل أساسى بصفته موضوعات داخل نسق مرئى، عندئذ يمكن ان يكون السرد وسيلة يتم من خلالها ترتيب الحقل المرئى ولكن بعيداً عن الموضوع الواحد.