26‏/05‏/2014

الصورة السينمائية

محاضرة:- تونى مكيبن
 ترجمة:- ممدوح شلبى
العام الماضى في مارينباد
 
عندما نفكر فى الصورة، فإنه من المفيد أن نلاحظ كبف ان مخرجين كثيرين يرون الصورة بشكل مختلف تماماً، والدليل على ذلك التعليقات المتوفرة فى "منتدى الكتاب السينمائى" والذى يضم مناقشة أشترك فيها 35 مخرجاً، فالمخرج دوسان ماكايفيف " Dusan Makajevev " يقول (الشيئ المهم أن نفهم أن لا شيئ آخر موجود فى الأفلام سوى الصورة – وأياً ما كان الموجود فى الكادر فهو كل ما لدينا) ورغم ذلك يعتقد كلود شابرول أن (الشيئ المهم فى الكادر هو ما لا تعرضه).
 
هل المقولتين مختلفتين، أم ان كل منهما يقول نفس الشيئ بطريقة مختلفة: إن الكادر هو ما نراه، وإنه هو كل ما نراه فى أى لحظة متوفرة؟ وكما يعتقد المخرج والمصور نيستور ألمندروس ( اعتقد أنك تحتاج إلى الإطار، وبمعنى آخر، إذا لم يكن ثمة محدودية فلا وجود للإختلافات الفنية، أنا أعتقد أن الكادر هو أعظم إكتشاف) ويعتقد رينيه فيرنر فاسبندر (الأمر شديد البساطة، أعتقد أن الكادر مثله مثل الحياة، فالحياة أيضاً لا توفر سوى خيارات محددة).
 
الذى نريد ان نشرحه فى هذه المحاضرة هو ان لدينا أربعة خيارات ممكنة فيما يتعلق بالصورة، اولاً، الأفلام التى تبدو انها تجعل الكادر نافذة على العالم، وثانياً، تلك الأفلام التى ترى الصورة كإطار يحوى العالم كما فى الأفلام الواقعية التقليدية، ثالثاً، الأفلام التى تستخدم الكادر بشكل رئيسى لأبعد مما تقدمه القصة، واخيراً، الأفلام التى تستخدم الكادر ليس أكثر من كونه وحدة من وحدات خطة المونتاج، وبالطبع فإن مثل هذه التعميميات تستحوز على الكثير من الصحة،
 
ولكن هذه التصنيفات قد تساعدنا جداً فى ملاحظة أنه وبرغم أن معظم المخرجين يبدون مُتفقين على ان الكادر هو كل ما لديهم، فإنهم لا يرون جميعهم أن الكادر يستحوز على نفس النمط من الصلاحية. قد تكون أفلام المخرج كن لوتش نموذجاً للكادر الواقعى، ففى فبلم مثل "كيس " " Kes " وفيلم "أمطار الحجر" " Raining Stones " وفيلم "أرض وحرية "" Land and Freedom " وفيلم "إسمى جو" " My Name is Joe " نجد انه يلتقط إحساساً عاديا يفوق الحرفية المنمقة، وكما يقول بنفسه (عمل أشياء تبدو مزيفة هو أسلوب سهل، فالمتطلبات الحرفية مثل الحصول على ممثلين وجعلهم يتفوقون على انفسهم ليس شيئاً هاماً، لكن هذا يمكن ان يكون مُسلياً، لأنه وبصرف النظر عن براعتهم فإن هذا يخلق مستواً آخر من الوعى فى عقولهم، وانا اعتقد انه من اللازم والضرورى أن نقلل من قدراتهم حتى يندمجوا بشكل كامل). من كتاب "لوتش فى لوتش" " Loach on Loach ".
 
إذا كنا فى المشهد الطويل الذى دار حول مناقشة حقوق ملكية الأرض فى فيلم "أرض وحرية" نحس أننا نشاهد ونتصنت، فهذا يكمن جزئياً فى طريقة المخرج كن لوتش التعميمية: فالأمر يبدو كما لو انه يريد أن يكون تأطيرالموضوع أقل من الإمساك به. وبالنسبة لأغراض الشرح، فسوف نضم مخرجين واقعيين آخرين من بينهم جان رينوار وروبرتو روسللينى وروبرت آلتمان، ففى مشاهد من فيلم "قواعد اللعبة" لجان رينوار نرى كيف أنه يجعل التأويلات مفتوحة، فالشخصيات بصورة مستمرة تدخل وتخرج من اليمين واليسار ومن أعلى ومن أسفل الكادر. وعندما تحدث رينوار عن المخرجين الذين يندرجون تحت تصنيفين أشار إلى أن هناك مخرجين يضعون (كاميرتهم فى بقعة معينة يتم إختيارها بدقة).
 
وهذا يوفر لك إحاطة جميلة بالموضوع: فهو يعطيك بالإضافة إلى الركائز فكرة محددة تلك التى يمكن ان تساعد رمزياً فى سرد القصة: وبعدئذ لنأخد الممثلين ونضعهم أمام عدسات الكاميرا، وهكذا عليك ان تستمر (لكننى ضد هذا، إننى احب ان أبدأ بالممثلين، احب أن أضعهم فى مود معين، فنحن – المخرجون- ببساطة دايات نستقبل مولوداً) ويُضيف (انا دائماً أحاول ألا أقطع مونتاجياً أثناء اللقطة، وهذا يفسر لماذا أسنخدم عادة لقطة المتابعة، وكذلك تحريك الكاميرا جانبياً لإستعراض المكان... إلخ، ولا يوجد سبب يدفعنى لذلك سوى كُرهى ان أقطع تمثيل الممثل أثناء تجلياته) – من كتاب "إخراج الفيلم" " Directing the Film ".
 
إذا كان رينوار غالباً يريد صورة مُكثفة بمخارج ومداخل، فهذا يخلق تناقضاً نوعاً ما. لعل هذا يساهم فى الإحساس بالواقعية من خلال رفض تجزئة الفيلم إلى أجزاء سردية، لكنه قد يُقوض الواقعية للجوءه إلى تعظيم الشكل المسرحى، ألسنا فى المسرح غالباً ما يكون لدينا إحساس بالخروج والدخول لخشبة المسرح التى تُعتبر فضاءاً محدوداً رغم ان المخرج المسرحى يوظف جوانب المسرح؟. وعلى الرغم من ان رينوار وروسللينى تم تصنيفهما كمخرجين واقعيين، لكن دعونا نستشهد بفقرة من فيلم "رحلة إلى إيطاليا" " Voyage to Italy " لروسللينى وفقرة اخرى من فيلم "قواعد اللعبة" لرينوار حتى نتوقف على إختلافاتهما الطفيفة،
رحلة إلى إيطاليا
قواعد اللعبة
 
ففى مشهد من فيلم روسللينى حيث يتقابل الزوج مع زوجته على السطح حيث حمام الشمس، نجد ان الكاميرا تتابع تحركاته من مجيئه وحتى يجلس بجانبها. عندئذ يستخدم الفيلم اللقطة واللقطة العكسية التقليدية واللقطة التى تجمعهما "لقطة الإثنين": لكنه بالرغم من ذلك يلعب على فكرة ان هذا واقع مصنوع، فهو مكان تصوير خارجى وليس ديكورا، بينما المنزل فى فيلم "قواعد اللعبة" لرينوار يبدو ديكوراً أكثر من كونه مكان تصوير، وان هوس رينوار بالممثلين - الذى سبق لنا التنويه عنه – لا يقود فى هذا المثال إلى الإحساس الواقعى بالمكان،
 
كان روسللينى على أية حال أكثر إهتماماً بالمكان من الحبكة أو الممثلين. وطبقاً لكلمات إنجريد برجمان – بطلة أفلامه- (فى هوليوود، كنت اعتمد تماماً على السيناريوهات التى تم كتابتها بدقة، فكل تفصيلة مكتوبة وكل لقطة وكل زاوبة وكل حركة للكاميرا مكتوبة فى النص الورقى....... اما مع روبرتو روسللينى فالأمر أشبه بميدان حرب حيث القائد فقط هو من يعرف ما يتوجب على الجنودعمله.) – من كتاب "إنجريد برجمان: السيرة الذاتية" " Ingrid Bergman: A Personal Biography ".
 
وعندما سُؤل روسللينى من إريك رومر وفرنسوا تريفو – فى مقالة منشورة فى مجلة كراسات السينما- عما إذا كان يعمل من خلال تصور مُسبق، فرد روسللينى رداً قاطعاً (لا شيئ على الإطلاق، فليست لدى خطة محددة، وما املكه على وجه التقريب هو ملاحظة عابرة محددة، وانا أعمل طبقاً لما أراه). فى فيلم "رحلة إلى إيطاليا" تصبح مدينة نابولى شخصية فى الفيلم على حساب شخصيات الفيلم الحقيقية- دعونا ناخذ فى إعتبارنا ما تحدثت عنه إنجريد برجمان-.
 
التباين بين رينوار وروسللينى هنا هو الإختلاف بين مشاهدة الواقع المصنوع مثل الممثل فى المثال الأول، وبين المكان فى المثال الثانى، كل من رينوار وروسللينى مخرجان يتم النظر إليهما كواقعيين، لكن واقعية كل منهما تتخذ شكلاً مختلفاً عن الآخر، وعلى أية حال، يجب علينا ان نحترس من إطلاق أحكام تعميمية كثيرة، فروسللينى عمل الكثير من الأفلام من بطولة "آنا ماجنانى" بالإضافة إلى إنجريد برجمان، حيث إختيار الممثل المناسب شيئ مهم فى الفيلم، ونحن لا نستطيع بسهولة أن نفصل فيلم مثل "سترومبولى" " Stromboli " وفيلم "رحلة إلى إيطاليا" عن الأداء التمثيلى الإستعطافى– والعدوانى احياناً – الذى قدمته إنجريد برجمان فى الفيلمين.
 
ونفس الحال مع فيلم "النهر" لجان رينوار الذى تم تصويره فى الهند، وهذا الفيلم ذكره جاك ريفت فى سياق مقالته عن فيلم "رحلة إلى إيطاليا" فى مجلة كراسات السينما، وعندما أصبح جاك ريفت مخرجاً أصبح مولعاً بكل من التمثيل والامكنة الحقيقية فى باريس كما فى فيلم "نحن" " Us " وفيلم "جنون الحب" " L’amour Fou " وفيلم "سيلاين وجولى يُبحران" Celine and Julie Go Boating " وفيلم "المصائب الجميلة" " la belle noiseuse " وفيلم "سوف نعرف" " Va Savoir ". فهو يبدو كما لو انه تأثر بكل من رينوار وروسللينى. والشيئ الذى أضافه فى أفلامه كان مسألة الوقت الحقيقى فى الواقع المصنوع، أطول أفلام ريفت يدوم ثلاثة عشر ساعة، ومعظم افلامه لا تقل مدة الواحد منها عن ثلاثة ساعات، فى فيلم "المصائب الجميلة " أعد المخرج فيلمه عن رواية لبلزاك تدور حول فنان وفتاة موديل، وهو يصور التردد ومحاولات الإقدام والتراجع ليس فقط من خلال ما تستحضره أمكنة التصوير ولكن أيضاً من خلال الزمن المُعاش.
 
هذا مزيج يجمع بين التمثيل - أو بالأحرى سلوك الشخصيات – وبين الإهتمام بالمكان مع عنصرمرور الزمن، كل هذه العناصر أساسية فى أدبيات الصورة الواقعية، وسواء كان الإهتمام بالإطار موجوداً ام لا، فثمة إهتمام بتحديد الموضوع داخل الكادر، كذلك أكد روبرت ألتمان (لا أحس بالقلق من الإطار على الإطلاق، إنها اللقطة المتوسطة التى أختار ان أعمل بها أفلامى) وعندما قال إنه يحب العدسة الواسعة، فهى العدسة التى تسمح له أن يعطى للفيلم (إحساساً بالفراغ: أنا أردت من المشاهدين ان يستشعروا التجسيم (الإستشهاد من منتدى الفيلم) وفى نفس السياق، فهذا يعنى إحساساً بأن المُشاهد يمكن ان يراقب مجموعة كبيرة من المعلومات أمام عينه.
 
ريفت وألتمان يختلفان كثيراً عن بعضهما بعضاً كمخرجين، وهما كذلك مختلفين جداً عن رينوار وروسللينى، لكن ومن أجل دواعى الشرح دعونى أقول أنهم يتشاركون نفس الإهتمام بالإطار كحرفية واقعية فى "الصورة الواقعية" وعلى النقيض من هذا، نستطيع أن ننظر إلى مخرجين آخرين يستخدمون الصورة ضمن نظرية السينما الشكلية، فهى وسيلة يستطيع من خلالها المخرج ان يرسم بالضوء وان يرى الممثلين والديكور، وحتى إستخدام الفيلم للزمن لا يتعلق بالواقع ولكن يتعلق بالمخرج الذى يحاول ان يخلق "صورة جمالية". وفى هذا السياق لا يكون الفيلم تقليداً للحياة أو شبيهاً بالمسرح، لكنه يكون أكثر صلة بفن الرسم، فقد أشار العديد من النقاد على سبيل المثال ان أفلام مايكل أنجلو أنطونيونى مُتأثرة بالتأثيرة التجريدية فى الفن التشكيلى، وان جان لوك جودار مُتأثر بفن "البوب".
 
وكما قالت روزاليند كراوس – ناقدة تشكيلية ومُنظرة- فى كتاب "اللاوعى البصرى" " Optical Unconscious " إن انطونيونى يتشارك مع التأثيرية التجريدية فى تصدير الخلفية على حساب مقدمة الصورة، ففى فيلم "الليلة" " La notte " يوجد مشهد يؤطر فيه انطونيونى المبنى بحيث يبدو ضخماً فى مقابل شكل جين مورو التى تبدو شديدة الصغر. كذلك فإن التأثيرية التجريدة موجودة أيضاً فى فيلم "الصحراء الحمراء"، فالجدران فى هذا الفيلم والتى طُليت بالألوان توحى بفن الرسم، انطونيونى سيخلق أيضاً الأطر التى تستدعى الإنتباه إلى المشهد من خلال الإيحاء بالشاشة المنقسمة داخل نفس اللقطة، عندما يلتقط توماس الصور فى المتنزة فى فيلم "تكبير الصورة"، فإن أسلوب انطونيونى فى إستخدام الكادر الفارغ لا يستدعى الإنتباه عادة إلى الكادر الفارغ نفسه فقط ، ولكنه يستدعى أيضاً حقيقة أن هذا متنزة فى مدينة لندن فى عصر يوم أحد حيث الفراغ هو السائد، ولكن أيضاً بتقسيم الشاشة إلى قسمين بوضع شجرة فى منتصف الصورة. هذا الأسلوب يجعل الأسئلة عن الكادر تتداعى إلينا.
 
إذا كان الناقد الفرنسى العظيم أندرية بازن " Andre Bazin " يؤمن بأن الصورة ما هى إلا نافذة على العالم، فإن انطونيونى بإستمرار يحجب المنظر، وعندما سؤل انطونيونى عن أهمية الرسم فى أفلامه، رد على جان لوك جودار الذى كان يحاوره منفرداً، فى فيلم "الصحراء الحمراء" (أشعر بالحاجة إلى التعبير عن الواقع بطريقة لا تكون واقعية تماماً، فلقطة للخط الأبيض الذى يقسم طريق مرصوف تهمنى أكثر جداً من السيارة التى تقترب منا). هذا تلخيص رائع للفرق بين المخرج الواقعى الذى يستخدم الكادر ليلتقط العالم، وبين المخرج المُولع بإمكانية الرسم فى الكادر، وبالطبع نحن نحتاج فقط إلى مقارنة حالة التحقيق الذى قدم بها روسللينى لمدينة نابولى فى فيلم "رحلة إلى إيطاليا"، وبين حالة إستكشاف مدينة برشلونة فى فيلم "المسافر" لأنطونيونى لكى نرى الفرق بينهما. فكاميرة روسللينى تكشف عن مدينة نابولى من خلال عيون الشخصية التى تُمثلها إنجريد برجمان: أما أنطونيونى فإنه يبحث عن حيزاً سينمائية فيما وراء حيز الشخصية.
 
كذلك فإنه يؤطر أحياناً العمارة الجودية " Gaudi architecture " ليُقلل من الزخم التشكيلى فى الكادر، فهناك ثمة إحساس بأن الشخصية حاضرة بإعتبارها جزء من محيط عام أكثر من كونها الشيئ الذى ينفرد بالصورة. وعندما سأل جودار انطونيونى (عندما تبدأ او تُنهى لقطة على شكل تجريدى لمادة او تفصيلة، هل تفعل ذلك بنفس روح الرسام التشكيلى؟)، ولعل جودار كان يوجه السؤال لنفسه، فكتاب السيرة الذاتية الذى كتبه ريتشارد برودى عن جودار وكان بإسم "كل شيئ هو السينما" " Everything is Cinema " يُورد المؤلف إستشهاداً من مدير التصوير "إد لوتشمان" الذى قال (اخبرنى جودار انه يريد ان يحصل على مدير تصوير ليعمل معه بطريقة مختلفة، مدير تصوير لا يتقابل معه إثناء التصوير فقط ولكن طوال الوقت).
 
فجودار أراد مدير تصوير يكون كاداة تحت تصرفه - ليس لكى يُصور حياة على الحافر- ولكن ليُصور التصورات العامة للمخرج، وكان مدير التصوير لوتشمان يًصور كما لو كان يستخدم الفرشاة وألوان الزيت، فى مقالة رائعة كتبتها "ألين بيرجالا" تحت عنوان "الجانب الآخر من البوكيه" " The Other Side of the Bouquet " تحدثت عن أفلام جودار فى حقبة الثمانينات وذكرت (فى هذه الحقبة بدأ جودار فى تصوير فيلم "الشبق" " Passion " بمجرد ان عاين الأمكنة، كان جودار ينظر إلى نفسه ضمن السينما التى تُحيط به كآخر ديناصور، وكفصيلة إنسانية نادرة وانه الناجى الوحيد من فصيلته... إلخ، وبالنسبة لفيلم "الشبق" توجب على جودار ان يبحث خارج السينما عن معايير حتى يستطيع ان يقيس نفسه بالمقارنة بها، وأن يبحث عن الأفلام الكلاسيكية العظيمة لكى يتبعها ثم يتمرد عليها.
 
وكذلك فى افلام جودار فى حقبة الستينات، كان هناك ثمة إحساس أن الإطار مثل "الكانافا" التى يرسم عليها الصورة، فى فيلم مثل "الإحتقار" " Contempt " وفيلم "بيرو المجنون" " Pierrot le Fou " وفيلم "الصينية" " La Chinoise " كان إستخدام جودار للألوان الأساسية يكشف عن مخرج يقوم بالتلوين، فهو القائل (هذا ليس دماً، إنه لون احمر).
بيرو المجنون
 
وفى فيلم "الإحتقار" نجد ان الشقة ليست فضاءاً واقعياً بل للتجارب فى التلوين، فجودار يلعب باللون الأبيض للحوائط والمساحات الفارغة، فى مقابل زى الحمام الأحمر الذى ترتديه بريجيت باردو ولون الكراسى الزرقاء ولون الكنبة الحمراء، التأطير عادة يحصر لحظة حتى انها تصير صورة ثابتة، تماماً كما لو اننا نتوقف امام لوحة فى معرض فن تشكيلى. توجد لقطة للسلالم عند الشاطئ حيث نرى الشخصيات تبدو صغيرة فى الجانب الأيسر من الكادر: صورة الصخرة تبدو فى الجانب الأيسر من الكادر بينما البحر يحتل الجانب الأيمن من الكادر، وكادر آخر نرى فيه بريجيت باردو مُستلقية على الفراش فى الثلث السفلى للكادر بينما الحائط الأبيض الممتد والباب يعلوانها ويحيطان بها، هناك أيضاً والطبع ثمة تأثر بفن البوب نستدل عليه فى فيلميه "صُنع فى أمريكا" " Made in USA " ومن فيلم "الصينية".
 
ومن المخرجين الذين يقدرون الرسم نجد بيتر جريناواى – عمله الاخير يُسمى "مُشاهدة ليلية" " Nightwatching " وهو نفس إسم لوحة لمبرانت " Night Watch " (الرسم محورى أيضاً فى فيلم "الشبق" لجودار) جريناواى يميل إلى التكوين الجمالى على حساب تطور القصة، الجمع بين الإثنين فى فيلم "مشاهدة ليلية" يجعل الفيلم قريباً من السينما وفن الرسم معاً، المخرج بيتر جريناواى يجمع نفس الناس الكثيرين الذين يظهرون فى لوحة رمبرانت التى تعبر مجازياً عن مؤامرة.
 
ونفس الحال فى فيلم "عقد دراوتسمان" " Draughtsman’s Contract " فهو يمزج القصة بالتكوين الفنى، فكل انواع التأويلات فى فن الرسم والتى تعملها الشخصية المحورية موجودة، لكنه اعمى عن رؤيها، فالمخرج جريناواى يركز على الإطار داخل إطار، وهو يؤكد بثقة (إننى أقاوم منذ مدة طويلة فكرة الفيلم الأوروبى الفنى الكلاسيكى الذى شاهدته وقتئذ، فالفيلم كانت له صلة وثيقة جداً بتقنية كتابة السيناريو الادبى حيث يهتم الفيلم بالمعالجة القصصية على حساب المفردات السينمائية ويتبع كل قواعد السرد التقليدى، لكننى كنت مُقتنعاً – وهذا تحدى- أننى أبتدع عالماً سينمائياً حيث الشخصيات لا تتحدث مباشرة إلى الكامير والميكروفانات – كما كنت أقول فى المقالات السينمائية الأولى – ولكنهم يتحدثون إلى بعضهم بعضاً. وكانت النتيجة ظهور فيلمه "عقد دراوتسمان" فالفيلم يضع سره بالمعنى الحرفى داخل الإطار، فالأمر يبدو كما لو ان مسيرة جريناواى الفنية أُضيف إليها شيئاً جديداً بفيلم "عقد دراوتسمان" فهو ينظر إلى السينما دائماً كوسيط لا يعبر عن الواقع –مع كامل الإحترام للحقيقة- ولكن كشكل فنى يمنحه الفرصة ليبحث عن الفن المصنوع فى تجلياته المختلفة، ورغم أن كُتباً لا حصر لها تصر على أهمية السيناريو بوصفه أهم ما فى الفيلم، فإن جريناواى يعتقد أن اهم ما فى الفيلم يكمن فى أشياء أخرى.
 
أفلام جريناولى تُشير غالباً إلى أهمية الخرائط المرسومة والإسكتشات، كما لو أن مساحة الشاشة تشبه الخريطة ويتم تلوينها أكثر من متطلبات الفيلم الواقعى، فى فيلم "الطباخ واللص، زوجته وعشيقها" " The Cook, the Thief, his Wife and her Lover " يستخدم جريناواى لقطة المتابعة مع تغيير ملابس هيلين ميرين بينما تتحرك من احد الحجرات إلى الحجرة التالية، الملابس تتناسب مع التغيير فى ألوان الحجرات، فالألوان تتغير من اللون الأبيض للحمام إلى اللون الأحمر فى الصالة، جريناواى أستاذ من نوعية خاصة، وكذلك فإنه كثراً من إنتقد الأفلام التى تكون خادمة للسيناريو، وهو يتسائل لماذا ؟.
 
السينما تختلف عن فن الرسم، وإذا لم يكن من الضرورى أن يتخذ شكلاً سردياً، فعلى الأقل يجب ان يدور فى زمن واحد، إنه نوع من التحدى وخروج عن السينما، فهذه إشارة عابر لابد منها للسير بعيداً عن فن الرسم، فلا يوجد وقت زمنى محدد عندما نتطلع إلى لوحة فنية: لكن هذا الزمن ضرورى عندما يتعلق الأمر بالسينما. حسناً إذا كان كل هذا يهدف إلى تغيير السينما جذرياً، ولكن أليس الواحد منا يجب ان يكون واعياً فى نفس الوقت بالطبيعة الخاصة للشكل (بغض النظر إذا كان هذا يتغير مع الأفلام الفنية؟).
 
أشار كافكا فى أحد المرات إلى السينما بإعتبارها تضع عيون الإنسان على شكل موحد، وان هنالك ثمة خطورة من ان يفرض المخرجون على الجمهور قصة منمقة، الا تتحطم هذه الوحدة عندما يشعر الإنسان أن الزمن - كمكون أساسى فى السينما – ليس محل إعتبار من المخرج؟ هذه القضية تهم المخرجين أكثر وهم يعبرون عن الزمن من خلال الكادر إذا فشلت القصة فى تقديمه. إذا كنا نحس ان جودار وأنطونيونى أستاذان وان جريناواى ليس كذلك، فجزء من هذا يكمن فى ان جودار وأنطونيونى يهتمان بطبيعة الشكل السينمائى، بينما موقف جريناواى المبدئى من القضايا الاساسية يُعتبر تجاوزاً لطبيعة الشكل السينمائى، وكما قال زاك كامبل لجريناوى فى "الوضوح الصعب" " Elusive Lucidity " (ما يُزعجنى فيما يتعلق بما يقال عبر الأفواه انه يُقال بوصفه موقفاً ثقافياً متميزاً لكنه ينم عن جهل عميق بالسينما...).
 
إذا كان هناك مخرجين يُصرون على أهمية الكادر على حساب القصة، فهل هناك العديد من المخرجين الذين يروا الكادر مجرد عنصر من عناصر القصة، المخرجون الذين يستخدمون الكادر كفرصة للقطة الواقعية التى تسمح لهم بدفع القصة إلى الأمام وتوليد "صورة ذات معنى"؟. وكما يقول ديفيد مامت (السؤال هو، أين أضع الكاميرا؟) هذا هو السؤال البسيط ، وإجابته هى (أضع الكاميرا فى ذلك المكان الذى من خلاله ألتقط لقطة ضرورية مؤثرة لكى تتقدم القصة إلى الأمام) ويعترف ديفيد مامت بوجود مخرجين لديهم حس بصرى كبير، ولكن، ولإنه ليس واحداً منهم، فإن دوره فى السينما هو أن يُصور بأسهل طريقة ممكنة لتعزيز القصة.
 
(إذا تصادف أن طالباً يريد ان يختصر فسوف يلجا إلى عدد من الأفعال التى ستقوده إلى هذا الإختصار أو أن يتخلى عنه، وعندئذ سيكون مُرتاحاً: فحالة من التحقق ستكون قد تحققت) أما بالنسبة لمامت، فأى تراجع معناه خسارة فى اللقطات المُصورة (لماذا يصور المخرجون اللقطة كثيراً جداً – اكثر من ستة عشر مرة- هل لانهم لا يعرفون طريقة تصوير القطة؟ (من كتاب الإخراج السينمائى) إنهم يصورون لقطات كثيرة لإنهم لا يُركزون – طبقاً لرأى مامت- وغرض المخرج أن يعرف ما يريده: فالمطلوب من اللقطات أن تحكى قصة.
 
لا نهدف من هذه المحاضرة ان نُعلى أو نُحط من شأن أحد: كل ما نسستطيعه أن نفكر فى أعظم أمثلة الحكى المرئى، حيث تتقدم قصص الأفلام إلى الامام بسرعة بسبب عبقرية المخرج فى بناء اللقطات وفقاً لأقصى قدر ممكن من التأثير الدرامى، فى مشهد من فيلم "سيكو" " Pyscho " لهيتشكوك، نراه يقطع مونتاجياً ويحرك الكاميرا جانبياً أو يجعلها تُتابع، حيث تُقرر ماريون كرين أن تحتفظ باموال رئيسها معها بدلاً من إيداعها فى البنك، هذا مثال عظيم، ومثال عظيم ثان نجده فى بداية فيلم "دوار" " Vertigo " التى تُؤسس لرُهاب شخصية سكوت من الأماكن العالية.
 
قد يكون هناك الكثير من الزخم عند هيتشكوك، لكن هذا نادراً جداً فى صوره، قال مامت ان المخرجين الذين يصورون اللقطة مرات كثيرة، لا يعرفون تماماً ماذا يفعلون، لكن المخرج أرثر بن على العكس من ذلك، فهو يقول (انا أُصور عدد كبير من اللقطات- عدد كبير فعلاً) (من كتاب الإخراج السينمائى) ومع ذلك نرى مشهداً من فيلم "بونى وكلايد" يبدو مُقتصداً تماماً، فعندما نرى بونى وكلايد فى الفيلم يُصابان بطلق نارى، نجد ان الفيلم يتجنب تصوير القاتل وبدلاً من ذلك يضعنا فى الموقف الذى تكون فيه الشخصيتين: فثمة إحساس بوجود شيئ غير مرغوب فيه. يمكن ان يكون المشهد معتمداً على المونتاج المتوازى وعلى اللقطة واللقطة العكسية بحيث نعرف نحن انهما يتعرضان للخطر من قتلة وراء الأشجار، ولكن بدلاً من ذلك نجد أن المونتاج المُقتصد الذى عمله أرثر بن يجعلنا نحس بوجود شيئ ما خطأ، لكنه لا يعطينا الإحساس بأن الشخصيتين على وشك الموت،
 
ونستطيع ان نجد مثال عظيم آخر على المونتاج بدون إهدار لقطات، هذا المثال فى لحظة ترويح من فيلم "موت فى الحديقة الفرنسية" " Death in a French Garden " للمخرج ميشيل ديفيل " Michel Deville " حيث نرى إبناً يصل إلى منزل والده فى سلسلة من القطعات المونتاجية المتوافقة، وبمصاحبة لأصوت أبواب سيارة ورنين التليفون وأبواب الشقة وهذا يسمح بإنتقالات ناعمة وسريعة، ففى فيلمى المخرجين أرثر بن وميشيل ديفيل هناك قدر كبير من الإقتصاد البصرى.
بودوفكين
 
هذه الأمثلة تتوافق أيضاً مع راى المخرج السوفيتى العظيم بودوفكين فيما يتعلق ببناء المشهد، فهو يقول (بين الحدث الحقيقى الذى يحدث فى الواقع وبين تجسيده على الشاشة هناك فلرق ملحوظ، وهذا بالتحديد ما يجعل الفيلم فناً) (من كتاب التقنية السينمائية والتمثيل السينمائى) (Film Technique and Film Acting) وهو يقترح أيضاً أن المخرج الذى يعمل مشهداً تأسيسياً يجب عليه بعدئذ أن يُمنتجه بطريقة مختلفة. المشهد فى ذاته شيئ بكرى مثله مثل الحدث، إنه يُمنتج لمجرد جعله اكثر سينمائية، وأعطى بودوفكين مثالاً لهذا الشكل بفيلم "الأب" " Daddy" فثمة سيارة تصطدم فى الفيلم، لكن المشهد فى البار الموجود فى منزل الأم يمكن ان يكون جيداً أيضاً، فهو هنا يبنى موقفاً مازال يتكرر كثيراً فى السينما، ففى احد اللحظات ينظر شخص ما كما لو كان مستعداً للعراك، ويقطع بودوفكين على التطورات فى الموقف بينما تتوقف الموسيقى، ويتطلع الناس ليعرفوا ما يحدث.
 
هذا المشهد لايزال حاضراً رغم مرور 90 عاماً على إخراجه بسبب كلاسيكيته ولإنه شديد التأثير. وعلى أيه حال فإن زميله المخرج السوفيتى سيرجى إيزنشتين كان يؤمن بأن الأفلام يجب أن تُصور ليس إعتماداً على إعادة ترتيب المشهد، لكن بجعل المشهد أكثر ديناميكية حتى أنك لا تستطيع أن تعيد ترتيب أجزاءه بسهولة مرة اخرى، وإذا كان بودوفكين يؤمن ان الصور يجب أن تُوضع معاً -مثل قطع الطوب - لبناء صرح متماسك، فإن البناء عند إيزنشتين يخالف قوانين الطبيعة. وإذا كان تصوير الجيش القيصرى يدوم مدة طويلة جداً حتى ينزلوا سلام الأوديسا فى فيلم "المُدرعة بوتمكين" " Battleship Potemkin " فهذا ليس بسبب كثرة هذه السلالم: ولكن لان إيزنشتين أراد ان يتلاعب بالمكان والزمان ليؤكد على شناعة حركة الجيش وهم يُردون الناس قتلى، ونفس الحال عندما نجد أنفسنا نتسائل من اى مكان جاء هؤلاء الناس وما هى الروابط التى تجمعهم بينما عربة الطفل الوليد تنحدر على السلالم. وبينما عربة الطفل يتم رؤيتها من خلال شخصيات أخرى، فأننا لا نكون متأكدين تماماً من المكان الذى ينظرون منه. فى فيلم يعتمد على المبادئ الأساسية التى يتبناها بودوفكين، قد نكون على معرفة بالناس وبمدى قربهم او بُعدهم أثناء تأسيس مشهد الفيلم، وبعد ذلك يتم إعادة تأسيس المشهد بهدف معرفة الروابط ، ربما بودوفكين يعجبه هذا المشهد من فيلم إيزنشتين، لكن الاكثر من هذا، أن هذا المشهد يتوافق مع نظرية بودوفكين أكثر من مخالفته لها.
 
تجارب إيزنشتين المونتاجية وصلت إلى آفاق أبعد فى أفلام الستينات والسبعينات من خلال مخرجين مثل ألان رينيه وأيضاً نك روج وجون بورمان وجوزيف لوسى وريتشارد ليستر، وبطريقة مختلفة مع المخرج روبرت بريسون من حقبة الخمسينات وما تلاها، كل هؤلاء المخرجين كانوا يبحثون فى إطار "إعادة بناء الصورة". ففى بداية فيلم "هيروشيما حبيبى" لألان رينيه، لعلنا نتسائل من أين يأتى صوت المُعلق حيث نسمع صوت إمرأة تصر على أنها رأت شيئاً ما فى هيروشيما، بينما رجل ما يُصر انها لم تشاهد شيئاً فى هيروشيما. نحن نرى جثتين متصلتين، فنخمن ان صوت التعليق يخصهما، لكن فى هذه اللحظة لا نستطيع ان نكون متأكدين بينما يقدم لنا الفيلم صوراً لها علاقة بما تقول المراة انها شاهدته: حيث نرى مستشفيات ومتاحف هيروشيما.
 
إذا اعاد إيزنشتين ترتيب مشهد بمثل هذه الطريقة فنحن لن نستطيع بسهولة أن نعيد المشهد إلى حالته الاولى مرة اخرى، اما ألان رينيه فإنه أكثر ميلاً إلى تركيب زمن مخالف للمكان حتى اننا نتسائل عن مكان الشخصيات وعمن يكونون. إذا فكك إيزنشتين المكان بهدف خلق قوة إيقاعية تعتمد على تداخل الصور التى تجعل الحدث أكثر مباشرة، فإن أسلوب ألان رينيه يميل إلى جعل الحدث أكثر بُعداً، مشكلة الزمن أنه دخيل على الصورة حتى انه لا وجود لتوتر حاضر وبسيط والذى من خلاله يمكننا أن نتعامل مع الفيلم، ألان رينيه طور هذا الأسلوب إلى مستوى أكثر تعقيداً فى فيلمه التالى "العام الأخير فى مارينباد" " Last Year at Marienbad " حيث فكرة أن هذا العام والعام الماضى وذكريات الشخصيات لا يتم التوافق بينهم.
 
ويدين نك روج وآخرين إلى هذه الإبتكارات، ففيلم "توقيت سيئ" " Bad Timing " يبدا بمحاولة إنتحار، ويربط الفيلم الأجزاء المختلفة للقصة حتى نستطيع ان نفهم الدوافع التى تسببت فى محاولة الإنتحار، لكن هذا ليس نوعاً من الفلاش باك ذلك الذى نراه فى فيلم "تعويض مًضاعف" " Double Indemnity " فنحن نجد ان أهم أحداث الفيلم تتم فى الماضى، ونسمع صوت تعليق من الزمن المضارع، لكن الفيلم يتحرك فى الأزمنة بين"الفلاش باك" و"الفلاش فوروارد" حتى نفهم أيضاً دوافع العاشق الذى يظن البعض انه هو الذى قادها إلى هذا الفعل بينما مفتش المباحث يقوم بالتحرى والتحقيق.
 
فى فيلم "نقطة بيضاء" " Point Blank " لجون بورمان، نجد الشخصية المحورية "لى مارفن" فى الفراش مع شقيقتها السابقة "انجى ديكنسون" ومع سلسلة من دورات الكاميرا يتم تصوير الفراش حيث نرى العشاق الآخرين يدخلون إلى مجال رؤيتنا: مارفن فى الفراش مع أختها السابقة: ديكنسون فى الفراش مع الصديق السابق لمارفن، ومع كل دورة للكاميرا يظهر لنا تكوين لعاشقين آخرين.
 
وفى فيلم "لانسيلوت والمال" " Lancelot du Lac and L’argent " يعود المخرج بريسون إلى الجدال الذى دار بين بودوفكين وإيزنشتين، لكن هذه القضية مرت أيضاً على هيتشكوك، وقال الكثير عن اسلوب هيتشكوك إنه يمكن ان يساعدنا، ومن المفارقات أن نفهم شيئاً عن عبقرية بريسون، فالنقاد أشاروا إلى ان هيتشكوك مخرج عظيم فى تقديم العلاقات، وعبقرى فى جعل المُشاهد يستنتج حدث بدون معرفة التفاصيل التى تجعله على معرفة يقينية. أفلام الإثارة القائمة على التحقيق البوليسى تعتمد دائماً على معرفة الدلائل حيث يكتشف المُحقق الجانى من خلال شكوك لها أسباب، لكن الشكوك المسببة عادة تكون طوال الوقت، أما هيتشكوك فهو أكثر من الجميع عكس هذا، فهو يريد على ما يبدو أن يحيد الحدث فى علاقته بإكتشاف الدليل، ونستدل على هذا من فيلميه "التجريبين" "الحبل" " Rope " و"النافذة الخلفية" " Rear Window " ففى الفيلمين نجد الدليل الذى يتوفر لشخصية جيمس ستيوارت ليس فعالاً، وفى فيلم "الحبل" نجد ان إثنين من تلاميذه السابقين لديهما جثة فى صندوق فى الشقة أثناء وجبة الإداء التى تتناولها شخصيات كثيرة. هل سيكتشف ستيوارت ما يحدث؟ الجمهور يعرف مسبقاً، لكن متى يعرف ستيورات؟.
 
وفى فيلم "النافذة الخلفية" نحن لسنا أكثر فطنة من جيفريز، ومع ستيوارت فى نفس الفيلم ليست معرفتنا بالشقة محدودة فقط - كما فى فيلم "الحبل" – ولكن أيضاً بسبب أن رجل ستيوارت مكسوره وانه يستخدم كرسى متحرك، فى الفيلم نحن نجمع أجزاء القصة كما يفعل هو، ونكون حبيسى وجهة نظره وإستنتاجاته من مشاهدته لما يجرى فى الشقق المجاورة، وفى حالات اخرى، وكما أشار "جيل دولوز" " Gilles Deleuze " فى كتاب "سينما1" تحت عنوان صورة الحركة، هيتشكوك يستخدم ما أطلق عليه دولوز إسم التشتيت (demark) :وهى تفصيلة يتم فرضها على الجمهور وتُجبر الجمهور أن يلاحظ شيئاً هامشياً، مثل طاحونة الهواء التى تدور فى الإتجاه المعاكس للرياح فى فيلم "مراسلة خارجية" " Foreign Correspondent " والمفتاح الذى لا يناسب القفل فى فيلم "إتصل بميم للقتل" " Dial M for Murder " وكوب الحليب البراق فى فيلم "الشك" " Suspicion ".
 
يستخدم هيتشكوك هذه العلاقات لتطوير السرد وللمعرفة النفسية، ولكن بريسون يهتم بنوع آخر مختلف من الأدلة، فى نهاية فيلم "لانسيلوت والمال" مشهد القتال يُقدم بإختصار بينما نحن نرى السهام تُطلق والخيول تنطلق إلى الغابة بدون فرسانها، والفرسان يعانون من إصابات قاتلة، بينما لو كان ذلك فى فيلم آخر، فهذه اللحظة يمكن أن تُقدم بينما أحد السهام يتم إطلاقه، وأحد الفرسان يُصاب فيسقط من على الحصان الذى يواصل الجرى بدون راكبه، الفارس يُجرح، هذه الأشياء يتم تقديمها فى سلسلة من اللقطات الغير متوائمة، حيث الفعل وأثره يتم تجاوزهما لكننا نظل قادرين على فهم ما يحدث. لكن الشواهد المُقدمة فى هذا المشهد المختصر للعراك تكون أقرب إلى الحدث عند إيزنشتين أكثر من الحبكة عند هيتشكوك، نحن نعلل مانراه حتى نولد معنى: ليس أن نُخمن دافع ثانى وما يترتب عليه من فعل، مثلما نجد فى الصورة المبنية، بريسون يدفع بمشاكل معينة للأدلة أبعد كثيراً من كل من إيزنشتين وهيتشكوك ويصل إلى إعادة للبناء بشكل متشدد.
 
ما قدمته فى هذه المحاضرة ليس أكثر من محاولة رؤية الصورة والكادر فى عدد من مظاهرهما المتعددة، ولكى نتوصل إلى أنه ورغم ان الكادر هو كل ما لدينا، فهناك العديد من الطرق التى يمكن من خلالها خلق الصور وربطها معاً، وبناءاً عليه نحن ننظر إلى الأربعة خيارات. إذا كان روسللينى ورينوار وآخرين ينشدون الصورة الواقعية كنافذة على العالم، فإن أنطونيونى وجودار وجريناواى يتبعون غالباً فكرة إن الإطار هو "كانافا" أكثر من كونه نافذة، بينما مخرجون آخرون يرونه وحدة من وحدات الحبكة، ووحدة معلوماتية يجب أن تتوافق مع باقى الوحدات المعلوماتية الأخرى لخلق قصة شديدة القوة بأقل قدر ممكن من الزخم البصرى مثل هيتشكوك وأرثر بن. أما إيزنشتين وبريسون فهما يتبنيان فكرة أن الصورة هى مكون من مكونات المونتاج أكثر من بن وهيتشكوك (بصرف النظر ان لهيتشكوك تجارب سينمائية وأنه إستخدم اللقطة – المشهد فى فيلميه "الحبل" و "تحت برج الجدى " " Under Capricorn " لكن توظيف الصورة يخالف تصوراتنا العادية عن الحقائق الطبيعية اكثر من التصديق عليها. ثم لدينا مخرجين مثل ألان رينيه وروج اللذان يتلاعبان بالازمنة ويجعلانا غير متاكدين أين نحن فى الإطار الزمنى،.
 
هذه المحاضرة على أية حال كانت تعميمية، وبالطبع فإنها مجرد إجتهاد منى – لرؤية الإطار الذى يوظفه المخرجون بطرق مختلفة، فرؤيته كنوافذ على العالم تشبه النظارة والتى لا تحتاج فقط ان تكون شفافة ولكن أن تكون فنية ومُلونة ومثل الموزاييك أيضاً.


12‏/05‏/2014

السينما الأمريكية الحالية

محاضرة:- تونى مكيبن
 ترجمة:- ممدوح شلبى
 
تذكار
لم يستطع اى كاتب ان يلتقط بذكاء ما يدور فى السينما الامريكية الحالية أكثر مما فعل ديفيد بوردويل فى كتابه "الطريقة التى تتحدث بها هوليوود" " The Way Hollywood Tells It " فقد صاغ فى هذا الكتاب عبارة "التكثيف المستمر" لكى يصف كيف ان العديد من الأفلام الأمريكية أصبحت أسرع وتيرة، وأكثر تعقيداً من الناحية السردية، وتُوظف مجموعة كبيرة جداً من اللقطات أكثر مما كان عليه الحال فى السابق، بينما وفى نفس الوقت فإنها تلتزم بكل قواعد الإستمرارية، وأصر بوردويل على ان كل فيلم تم صُنعه فى الولايات المتحدة الأمريكية يتبع هذه القواعد بإستثناء وحيد وهو أعمال ديفيد لينش.
 
وبعد فترة قصيرة من ظهور الكتاب، جاء مقال مارك لوسون فى صحيفة الجارديان البريطانية الذى أعلن فيه ان عصراً ذهبياً جديداً تمر به السينما الأمريكية ينافس حقبة الأربعينات وحقبة السبعينات. وبينما رأى بوردويل أن "التكثيف المستمر" يخلق مشاكل، فإن لوسون رأى عكس ذلك، فبوردويل يقول "إن الرؤية البصرية البديعة فى افلام التسعينات تتحقق من خلال حبكات أفلام مثل فيلم "إذهب" " Go " وفيلم "تذكار" " Memento " وفيلم "جاكى براون" " Jackie Brown " فهى افلام ماكرة يتم تقديرها ليس بسبب واقعيتها ولكن بسبب براعتها المستحدثة" ويقول أيضاً "ان معظم المخرجين يريدون كعكة ويأكلونها، وانهم يقدمون أسلوباً لا يتجاهل إستثارة خيال المًشاهد.
 
ولكن هل أسلوب التنوير يحتل الأولوية وغالباً "يغرق فى عرض لا مبرر له؟" وينهى بوردويل كتابه بمزيج من التفائل والتشائم، لكن بعض التحفظات التى قدمها بوردويل تعامل معها لوسون كنقاط إستحسان. ويقول لوسون على سبيل المثال "السبب الرئيسى لهذه النهضة أن كل مستويات السينما –من الناس الذين يضعون ميزانية الافلام إلى الناس الذين يدفعون ثمن تذاكر السينما – اصبحوا أقل خوفاً من مستوى الأفلام الذهنية والافلام المعقدة" ويقول أيضاً "الآن أصبح من المُفضل أن يكون المنتج والمخرج والممثل من المتعلمين – وبعدئذ من خريجى المعاهد السينمائية – وبعد ذلك ممن حصلوا على درجات علمية أعلى، وهذه السينما تعتمد على جمهور سينمائى أكثر تعليماً أيضاً".
 
نريد ان نتناول فى هذه المحاضرة ما يحدث فى السينما الأمريكية، بصرف النظر عن أن المخرجين والجمهور أصبحوا أكثر تعليماً، وبصرف النظر عما إذا كان هذا المستوى من التعليم مفيداً دائماً. الكثيرون الآن قد ينظرون إلى فيلم "كازينو رويال" " Casino Royale " كمثال على هذه النهضة فى السينما والتى تتطلب مًشاهداً متعلماً، فالفيلم يبدو أقل حرفية وأقل تحدياً وأقل إبهاراً من افلام جيمس بوند السابقة.
 
كازينو رويال
فيوجد فى هذا الفيلم فتاة واحدة فقط وهى تجعل جيمس بوند أكثر ضعفاً من اى فتاة ظهرت مع جيمس بوند من قبل، وكذلك فشرير الفيلم ليس هو الشرير – فوق العادة – الذى يتم التندر عليه فى سلسلة الأفلام التى تحمل إسم "أوستن باور" فى السنوات الاخيرة ، لكن هذا الشرير هو شخص خاسر على كل المستويات وهو يحتاج ان يُكون ثروة ليؤمن حياته. هذا فيلم من أفلام جيمس بوند الذى يبدو انه يسير على نفس النهج الجمالى والاخلاقى لسلسلة أفلام بورن " Bourne " وهو يبدو أقرب إلى التعقيدات الفلسفية لفيلم سيريانا " Syriana " مما فى افلام جيمس بوند الأخرى التى قام ببطولتها روجر مور وبروسنان والتى تميزت بالرواج العالمى، وهذا الفيلم أيضاً يعتبر مثالاً على "التكثيف المستمر " الذى تحدث عنه بوردويل، وخاصة أحد عناصره – وهو ما أسماه جيف كينج "جماليات التأثير" حيث الأولوية تكمن ليس فى سرد قصة جيدة ولكن فى إستجابة الجمهور للأحداث المُصورة المُتفجرة.
 
دعونا نستدعى انهيار مبنى "الإمباير ستات" فى فيلم "يوم الإستقلال" " Independence Day "، وتدمير المدن فى فيلم "ارماجيدون" " Armageddon " وأندلاع البركان فى فيلم "البركان " " Volcano "، فالشخصية والقصة يتواريان فى مقابل المؤثرات الخاصة، ففى مشاهد المُطاردة فى بداية فيلم "كازينو رويال" فى موقع مبنى مدغشقر، يتم تسجيل كل ضربة وكل سقوط فى لقطات مقربة وبمصاحبة مؤثرات صوتية،
 
وعلى اية حال، فإن أفلام "جماليات التأثر" تهدف إلى إحاطة المُشاهد بالمؤثرات الخاصة وتقنية الصوت الدولبى، ولكن هل "جماليات التاثير " المعروضة فى فيلم "رويال كازينو" تخدم هدفاً مباشراً؟. دعونا نفكر قليلاً فى احد تجليات "جمالات التأثير" التى بدت شديدة الإسراف: ففى مشهد من فيلم "السرعة" " Speed " حيث نرى اتوبيساً بدون ركاب يصطدم بطائرة بدون ركاب ومن ثم يقدم هذا المشهد إنفجاراً كبيراً لكنه إنفجار خالى تماماً من الأهمية، وإذا كان مشهد المُطاردة فى فيلم "كازينو رويال" فعالاً، فنحن نريد فعلاً أن نعرف أسباب ذلك،
 
وإذا كان هذا الفيلم قد حظى بأفضل إستقبال من جميع أفلام جيمس بوند التى ظهرت قبله لسنوات، فهذا يكمن فى "جماليات التأثير" التى تعاطت مع المستوى الإنسانى. فالصوت الدولبى والإقتصاد الكامل فى المؤثرات الخاصة والذى يستهدف تاثيراً جسمانياً حسياً فورياً، جعلنا ندخل فى عمق تجربة جيمس بوند بدون مبالغة أو خوف باعثه إهمال هذه المؤثرات الخاصة، فعندما يُسأل جيمس بوند هل يحب خمر المارتينى مُخففاً أم مُركزاً، فإنه يُجيب "هل تعتقد أننى سالعنك" فبعد سنوات من إستبعاد المبالغة والمؤثرات الخاصة التى تُبهر العين، أصبح جيمس بوند أكثر قُرباُ من الواقع فهو كثراً ما تبدر منه زلات ويتعرض لإصابات. ومن البديهى ان كل من بوردويل ولوسون يشيدان بفيلم "كازينو رويال" ففى حالة بردويل فإنه يعتقد أن "التكثيف المستمر" و"جمايات التأثير" كانا شديدى الروعة، بينما لوسون يُضيف أن قدرة الجمهور الواعى على فهم السرد المعقد والغير تقليدى فى محتوى فيلم أكشن، يعنى ان فيلم جيمس بوند لم يعد يحتاج إلى تصنيف الناس على أساس "طيب وشرير" ولكن الفيلم يتناول بذكاء القوى التى تسيطر على العالم. 
 
وعلى الرغم من ان بوردويل يقول ان كل مخرجى أمريكا تقريباً يتعاطون مع عوالم موحدة، فإنهم يجعلون أسلوب السرد مُتجزءاً، ويتحدث كريستوفر نولان كذلك عن التوجه الذهنى الواضح فى فيلم "تذكار"، فنحن قد نرى الفيلم ثلاث مرات حتى نستطيع ان نفهم كل تعقيداته، ومن الأفضل ان يتجه الواحد مباشرة إلى النسخة الدى فى دى ويشاهد الفيلم بالترتيب الزمنى للاحداث. ولكن هل افلام المخرج ديفيد لينش مفهومة وخاصة فيلمه "محرك مولهولند" " Mulholland Drive "؟ بشخصيته الرئيسية التى تتحول إلى شخص آخر أو تتحول إلى نسخة ثانية لنفس الشخص، فالفيلم يُسهب فى تقديم الشخصيات التى لا تقدم الكثير او القليل لمحور القصة التى تظل مُبهمة دائماً، فيلم ديفيد لينش يُعد تجربة سينمائية غير مسبوقة وهو عصى على الفهم،
 
وإذا طبقنا طريقة بوردويل - التى تتعاطى مع معظم الأفلام الأمريكية - لكى نفهم هذا الفيلم، فإنه عندئذ سيفقد الكثير من تميزه الفائق. فلكى نفهم الفيلم أكثر علينا ان نحاول أن نفهم الأحاسيس التى يستثيرها فينا كمشاهدين أكثر مما يفعله الفيلم فى طريقة السرد، فالأمر أشبه بعلاقة الفرد بالأحلام: فبدلاً من محاولة الفهم المنطقى للاحداث علينا ان نعرف الأحاسيس التى يولدها الفيلم، فعندما نحلم، ألسنا نتعامل من خلال الاحاسيس، حيث الأحداث هى التى تعكس هذه الأحاسيس، بينما فى الحياة نحن نتعامل بطريقة عكس هذا: فالعواطف نحن نستبعدها بشكل تام عن الاحداث وإن كنا بعدئذ نربط بها الاحاسيس؟ فمنطق الحلم فى فيلم ديفيد لينش يجعلنا نمزج حياة اليقظة مع منطق الحلم.
 
التعامل السهل مع القصة يمكن ان يقتصر على الأفلام الأقل تعقيداً فى المشاعر، ويستخدم بوردويل مصطلح "التلغيز" ليصف حالة الفيلم الذى يحجب المعلومات لكنه "لا يوحى بانه يفعل ذلك"، وللناقد آدم مارس- جونس راى وجيه – سبق لنا ان أشرنا إليه فى محاضرة "السينما الروائية بين القصة والشخصية والجو العام" يتحدث فيه عن السينما التى تكون ضد منطق عقارب الساعة، فهذه الأفلام تحتوى على بلبلة تجعلنا نشكك فى كل السرد وفيما نصل إليه من إستنتاج، ففيلم مثل "اللعبة " " The Game " وفيلم "نادى العراك" " Fight Club " وفيلم "الحاسة السادسة" " The Sixth Sense " وفيلم "تسع ملكات" " Nine Queens "كل هذه الأفلام التى تولد بلبلة تقلب الفيلم رأساً على عقب وتستدعى منا ان نُعيد قراءة المعلومات التى شاهدناها وكنا نعتقد انها مسلمات حتى هذه اللحظة، ثم نكتشف أنها كانت مجرد نتاج لذاتية الشخصية، او أنها كانت تتلاعب بجانب آخر من جوانب الشخصية. ديفيد لينش على الرغم من ذلك يبدو انه لا يريد تلغيزاً ذكياً فى حبكة غامضة، لكنه يريد إدماجاً للشخصية والقصة فى الجو العام حتى يتركنا نتعامل مع مشاعرنا الذاتية تجاه ما نراه، ولكى نفعل ذلك فمن الأفضل لنا ان نحاول فهم كيف يولد ديفيد لينش إطارات فارغة وكيف يتلاعب بترتيب الحوار والموسيقى والصوت فى الفيلم حتى ان ذلك الصوت يصبح أكثر العناصر اهمية، وحيث لقطاته المقربة لا تؤكد المعنى لكنها تستثير الأسئلة، وحيث لقطاته التأسيسية لا تؤسس المشهد لكنها تخلق إحساساً غريباً فى المُشاهد الذى ينظر إلى شيئ ما ولا يعرف يقيناً إذا كانت اللقطة هى لقطة وجهة نظر أم لا.
 
وأفلام ديفيد كروننبرج الاخيرة مثل فيلم "تاريخ العنف" " A History of Violence " وفيلم "وعود شرقية" " Eastern Promises " تبدو أفلاماً غريبة لعدة أسباب، فالفيلمان تقريباً من أفلام التنبؤ وهو يستخدم التقاليد القديمة فى بناء اللقطات وفى الشخصيات وفى حبكتى الفيلمين، فهما يحتويان على قصتين مبهمتين لكنهما قريبين إلى ما يُسمى فى التراجيديا الإغريقية باللحظة الكاشفة " peripety " – وهى تحول مفاجئ وغير متوقع للأحداث والموقف مثل إكتشافنا ان اوديب هو من تنطبق عليه اللعنة فى مسرحية اوديب-
 
تاريخ العنف
فى فيلم "تاريخ العنف" تعتقد زوجة جون ستول ان زوجها شيئ معين، وبعدئذ فى منتصف الطريق تكتشف انه شخص آخر تماماً، لكن بمقارنة هذا الفيلم بافلام الإثارة التى - تسير عكس عقارب الساعة – يبدو لنا الفيلم قديماً، وكما لو انه يستغنى عن الحبكة مُبكراً جداً.ً ديفيد كروننبرج على أية حال مشهور بتناوله للأمور الفلسفية المعقدة، وهناك ثمة إحساس غامض بصعوبة الفيلمين، كما لو اننا كنا نتوقع مزيداً من السرد عما نجده فى الفيلمين ومزيداً من الصور الفلسفية عما تعودناه مع كروننبرج، كما أنه يستخدم لقطات رد الفعل واللقطات التأسيسية ويقدم شخصية الشرير بوضوح لا لبس فيه، ويستخدم أيضاً نفس أسلوب المخرج ترانتينو فى التصوير والحوار الذى يرهص بالاحداث القادمة، وفى نفس الوقت فإنه يقدم لنا تحليلاً شديد الدقة عن جرثومة العنف التى إستشرت فى حياتنا.
 
فى العديد من أفلامه الاولى التى قدمها فى إطار نوعية أفلام الخيال العلمى المرعبة مثل فيلم "القشعريرة" " Shivers " وفيلم "المسعور" " Rabid " وفيلم "الحاضنة" " The Brood " نحس انه كان يريد أن يكشف عن تاريخ المرض. وفى فيلم "تاريخ العنف" يفعل ذلك فيما له صلة بالعنف قائلاً (العقد الإجتماعى تم إلغاءه فى امريكا) وان ثمة (نوعية من الهلوسة فى الحياة فى الولايات المتحدة الأمريكية) ويعرض فى فيلم "تاريخ العنف" تجربة قاسية لثقافة البندقية فى امريكا، ويترك المُشاهد يصنع كعكته ويأكلها، هل أسلوب ديفيد كروننبرج اكثر تقليدية وأكثر راديكالية من الأفلام العديدة التى تُعد امثلة على أفلام "التكثيف المستمر" ؟ وهل يحتاج المُشاهدون أن تُقدم إليهم التعقيدات الفلسفية ليس فقط على المستوى التقنى والسردى ولكن أيضاً على المستوى الإجتماعى الفلسفى؟ وبالنسبة للبعض، فإن مثل هذه الأسئلة ليست شائعة فى الكثير من السينما الأمريكية: حيث تكمن الطزاجة فى مكان آخر: فهى تكمن فى الأسلوب.
 
هل اهم شيئ فى إستجابتنا لأفلام ديفيد لينش وكروننبرج ألا نُلقى بالاً بوعى المُشاهد ولكن ان نهتم بحالة الفهم الساخر فيما له علاقة بعديد من الأفلام التى تلعب على البعد الكوميدى؟ صاغ الناقد سكوت فونداس مصطلح "الفاصل الجنسى" " detail fetishism’ " ليصف أفلام مثل فيلم "روشمور" " Rushmore " وفيلم "ديناميت نابليون" " Napoleon Dynamite " فهذه الأفلام تهتم اكثر بالميزانسين أكثر من إهتمامها بالشخصيات التى لا تعدو ان تكون احد أبعاده. تُعد أفلام "حديقة عامة" " Garden State " و"أبناء رويال تيننبوم" " The Royal Tenenbaums " و "الحياة المائية" " The Life Aquatic " و "انا قلب عائلة هاكابى" " I Heart Huckabees " و "إعداد " Adaptation " أمثلة لنوعية من السينما جعلت المُشاهد واعياً ليس عبر عمل فيلم يعتمد على قصة مُلغزة ولكن بدلاً من ذلك السماح لهم ان يتبنوا موقف الذى لا يعنيه الأمر والذى يجعل المُشاهد على معرفة دقيقة أين موقعه من الاحداث طوال الوقت.
 
ففى الدقائق القليلة الأولى من بداية فيلم "أبناء رويال تيننبوم" يولد المخرج وس أندرسون إحساس بالضيق العام والذى يدين فيه قليلاً إلى أفلام الأخوين "كوين" " Coens’ " وكثيراً إلى المُباشرة فى الفقرات الإعلانية. هذا النوع من السينما مُضحك، ويُعد وس اندرسون أستاذاً له، ولكن عندما تحدث لوسون عن ذكاء الجمهور المُعاصر، وانتقد بوردويل هذه التعقيدات الفلسفية، ولعلنا نفعل الأسوأ بمشاهدة الأفلام الموصوفة بانها "فواصل جنسية" ونرى أين تكمن المشكلة، دعونا نشاهد كيف يقطع اندرسون مونتاجياً إلى ازمنة سابقة وأزمنة مستقبلية فى أسلوب تصوير اللقطة واللقطة العكسية والتى تحصر الشخصية فى الكادر، او إلى الطريقة التى يمحو بها العمق والزخم من الصورة، هذه سينما تعنى بالإدراك فعلاً، ولكن هل هى فعلاً أكثر فلسفية من الصورة السينمائية التى تقدم "عمق الميدان" ومن أسلوب اللقطتين الذان يسمحان للممثلين والميزانسين ان يتعايشا؟


01‏/05‏/2014

تأملات فى الفيلم النوعى

محاضرة:- تونى مكيبن
 ترجمة:- ممدوح شلبى

 الفيلم الكوميدى

يوجد مصطلح مفيد أطلقه جيرالد ماسك، وظهر هذا المصطلح فى "كتاب السينما" حينما تحدث عما أسماه "المناخ الكوميدى" " comic climate"، إنه كل انواع الاحداث التى يمكن أن تحدث ويتحقق منها نوع من الكوميديا القائمة على تعطيل المنطق، فعندما يخطو شخص ما على قشرة موز، فإنزلاقه بهذه الطريقة قد يُؤدى إلى كسر ظهره، لكنه فى السينما ينهض على قدميه فوراً، هذا مثال عملى على المناخ الكوميدى.


الحياة جميلة
فى فيلم "الحياة جميلة" " Life is Beautiful " للمخرج روبرت بنجينى يصل المناخ الكوميدى إلى اقصى ذروته، فنحن يتوجب علينا أن نُعطل المنطق حتى نتقبل فكرة أن معسكر الموت –الهولوكوست- يمكن ان يكون مصدراً للفكاهة العفوية، والعديد من الناس اللذين أحبوا الفيلم من الجمهور العادى يؤكدون أن الفيلم عطل المنطق بإمتياز، فقد إستطاع أن يجعل المشاهدين يرون الكوميديا فى الفظاعة، تماماً مثل رؤيتنا لأحد أشخاص فيلم وهو ينزلق ويؤذى نفسه، فنحن نضحك ونحن على علم بأن هذا مُتضمن فى مناخ سينما نوعية محدد.

فى مشهد من فيلم "الحياة جميلة" يتلاعب بنجينى بعنصرين كوميديين: يمكن تسميتهما كوميديا التوقعات وكوميديا المفاجأة. ولذلك فعلى سبيل المثال، عندما يميل بنجينى ناحية حافة النافذة ويسقط إصيص الورد من النافذة على رأس احد الاشخاص الموقرين من السكان، فنحن هنا لدينا كوميديا المفاجأة: فليس من المفروض أن نكون على علم مسبق بما سيحدث، وهذا مُضحك لانه يفاجأنا. لكن شخصية بنجينى تنزل السلم بعد ذلك عاقدة العزم على تلطيف مزاج الرجل المُوقر الذى كان منشغلاً بالهرش فى رأسه بعد أن خلع قبعته، ويحاول بنجينى أن يساعده، وبينما يفعل ذلك يضع البيض - الذى تصادف أنه يحمله – فى قبعة الرجل المُوقر، وبالطبع، يضع الرجل - قليل الحظ - القبعة على رأسه وهى تحتوى على البيض.

ولعل المثالين ليسا من أمهر الحرفيات الفنية، لكنهما مثالين جيدين لكوميديا المفاجأة وكوميديا التوقعات التى جاءت بعدها مباشرة. يُعد بنجينى بشكل أو آخر من فنانى الكوميديا المرئية "الحركية"، بينما فنان كوميديا آخر مثل وودى ألن تُعد كوميدياه لفظية، ودائما هناك ثمة إختلاف قد يكون كبيراً او صغيراً بين الكوميديا المرئية والكوميديا اللفظية، وأيضا فإن العديد من ممثلى الكوميديا العظام كانوا ممثلى كوميديا مرئية بشكل أساسى مثل باستر كيتون وشارلى شابلن وكذلك بيتر سيلرز – على سبيل المثال – وخاصة فى فيلميه "طلقة فى الظلام" " Shot in the Dark " وفيلم "الحفلة" " The Party ".

وهذا ليس تقليلاً من أهمية الكوميديا اللفظية - لأننا فى هذا الجانب لن نجد وودى ألن فقط، ولكننا سنجد جروتشو ماركس وجاك ليمون أيضاً- وعلينا ان ننظر إلى الكوميديا المرئية والكوميديا اللفظية كطريقتين مختلفتين للفكاهة، فى الكوميديا اللفظية نحن أكثر ميلاً لتقدير النكتة، فنحن نضحك بإقتضاب لفترة قصيرة وبعد ذلك ننخرط فى الضحك، وهذه النقطة قد نتفق أو نختلف فيها ولكن التعميم مُفيد.

ولعل من الهام عندما نتحدث عن الكوميديا أن ننوه إلى ما كتبه فرويد تحت عنوان "النكات وعلاقتها باللاوعى" " Jokes and their Relation to the Unconconscious " حيث ميز بين الفكاهة المُغرضة وبين الفكاهة البريئة، ففى الفكاهة المُغرضة يشير فرويد إلى وجود حديث عن النكات الإباحية أو الإستهزاء العدوانى، بينما تُعد النكتة البريئة مجرد تلاعب مُضحك بالكلمات، اما النكتة المغُرضة فهى تنال عادة من أحد الأشخاص. لا تهم المصداقية عندما نحاول ان نتندر على السياسة، أليست الهجائية مُتنفساً لنا دائماً، ألسنا نحتاج دائماً إلى كبش فداء لأننا نريد فى حياتنا نمطاً معيناً من الفكاهة؟. تمتلأ افلام وودى الن – على سبيل المثال- بنكات تهكمية على نظام الطبقات والتعليم والحالة الإجتماعية وأيضاً نجد نكات جنسية (مثل رد وودى ألن على شخصية والاس شون فى فيلم مانهاتن)، وأفلامه تمتلأ أيضاً بما يمكن ان نسميه النكتة التى تتفهمها طبقة إجتماعية معينة: مثل النكتة التى نجدها فى فيلم "آنى هول" " Annie Hall " حيث تتناقش أستاذة فى الإعلام مع المارشال مكلوهان الذى يحتد عليها ويقول لها انه لا يعرف شيئاً عن رسائل الماجستير.

وهذا يمكن ان يثير التساؤلات عن الحالة "الديمقراطية" التى يعمل بها الفنان الكوميدى، وبشكل عام، كلما كان الفنان الكوميدى "حركياً" كلما كانت فكاهته أكثر عالمية: وإذا كنا ننظر الآن إلى باستر كيتون بوصفه فنان كوميدى عظيم، فهذا يكمن جزئياً فى أن تكنيكه يتجاوز حدود الزمان والمكان فهو يجعلنا معجبين ببراعته الفائقة فى الكوميديا "الحركية" كما فى فيلمه "باخرة بل الإبن" " Steamboat Bill Jr " وفيلمه "الجنرال" " The General ".

أما عبقرية وودى ألن التى لا جدال فيها، فهى تعتمد كثيراً على الإسقاطات الإجتماعية، مثل فيلميه الرائعين "آنى هول" و"مانهاتن".

لا ينبغى أن نُقصر "المناخ" على الفيلم الكوميدى، فكل الأفلام النوعية تحتاج إلى "المناخ" بشكل أو آخر، وتحتاج إلى نظام من التوقعات حتى يُعطل المُشاهد المنطق فى إستجابته للكيفية التى توظف بها الأفلام النوعية آلياتها، مثل وجود الفرض المجازى – العناصر - التى يتطلبها الفيلم النوعى، حتى تكون التوقعات التى لدى المُشاهد متوافقة مع هذه الفروض المجازية.

فيلم الرعب

وهذا مما يخلق التناقض فى فيلم الرعب، فبعض الدارسين من الطلبة سيتحدثون عن حبهم لأفلام الرعب لكنها لم تعد ترعبهم، وسوف يستمرون فى مُشاهدة أفلام الرعب على أمل أن يجدوا رعباً حقيقياً، لكنهم إذا شاهدوا ولديهم جاهزية للإستمتاع سوف يروا كيف يتوافق الفيلم النوعى مع توقعاتهم. وهذا قد يساعد فى تفسير جاذبية فيلم مثل "صرخة" " Scream " للمخرج وس كرافن " Wes Craven"، وفى تقدير فيلم يعتمد على وعى المُشاهد مثل فيلم "هلاوين" " Halloween " فالمُشاهد الواعى سيتوقع المشهد التالى ليس بسبب علاقة التوقع بالخوف أو الهلع، ولكن بنوع من التوقع أقرب إلى الإستمتاع: فالمُشاهد على علم بأن الشخصية توشك أن تُصدم، فهو كمشاهد يعرف ما سيحدث مقدماً.

أسلوب الوعى هذا يخاطر بإستبعاد الطبيعة النفسية للفيلم النوعى، فأفلام نوع معينة تقود إلى حالة فسيولوجية مثل فيلم الرعب والفيلم الكوميدى والفيلم الرومانسى على وجه الخصوص، بمعنى أن جزءاً من جاذبيتها ينشأ من خلال طريقة هذه الأفلام فى توليد رد فعل فسيولوجى (جسمانى) ملموس: مثل الضحك فى الفيلم الكوميدى، والصراخ فى فيلم الرعب، والدموع فى الفيلم الرومانسى.

هذا ما دعى ليندا ويليامز فى " Hardcor" وآخرين إلى تسميه ذلك "هيئة" الفيلم النوعى، لكن إذا كان الناس جاهزين للتفاعل مع التوقعات إعتماداً على معرفتهم المسبقة فمن أين يأتى الرعب إذن؟ وقد يكون من المفيد أن نستدعى هيتشكوك هنا وتفريقه بين التشويق والرعب.

التشويق يتطلب تنبيه مُسبق: والرعب يتطلب المفاجأة، هكذا قال هيتشكوك، ولذلك فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون لديك مشهداً وتقوم بتصويره بطريقتين مختلفتين: واحد منهما ليؤكد التشويق والثانى ليتلاعب بعنصر الصدمة، مثل مشهد لزوجة تنام على الفراش فى المنزل مع عشيقها، ويقطع المخرج بينهما وهما فى الفراش وبين الزوج الذى يدخل إلى العمارة ويصعد على السلالم ببطء. وبينما يقطع المخرج بين الموضوعين فإننا نعرف ما سيحدث بعد ذلك، وسيكون شيئاً تشويقياً حيث أننا ننتظر حدوث شيئ حتمى، لكن المخرج يستطيع عمل شيئ غير ذلك بالتركيز فقط على العاشقين فى السرير، واللحظة فقط التى نرى فيها الزوج هى اللحظة التى يفاجأهما وهما راقدين فى السرير يستريحان بعد النشوة الجنسية. وسيقود هذا – إذا صُور المشهد بطريقة جيدة – إلى إحساس فورى بالمفاجأة،

ونفس الحال مع مشهد الرعب، نحن لا نحتاج إلى الإقرار بأن الرجل هو الزوج: فالذى يُعد مُهماً هو رد الفعل الذى يظهر على وجه الزوجة من الصدمة والمفاجأة وهذا ما سيحدث أيضاً فى رد فعل المشاهدين. وهذا ما أسماه روبرت بيرد " Robert Baird " "مؤثر الغفلة": وهى لحظة صادمة ومفاجأة، وينطبق هذا أيضاً على أفلام الرعب: ومن فيلم "الفك المفترس" " Jaws " لستيفن سبيلبيرج نستطيع ان نختار مثالاً جيدا وهو الرأس التى تشق جسم القارب فجأة.

افلام الرعب المعاصرة الجيدة يجب عليها ألا تتجاهل ان العديد من المشاهدين يعرفون الحيل السينمائية التى اصبحت تقليدية، وان التشويق الذى تحدث عنه هيتشكوك يتوافق أيضاً مع التوقعات، لكن مخرج أفلام الرعب الجيد يجب عليه ان يكون قادراً بإستمرار على خلق صدمة فعالة من وقت إلى آخر، وهكذا يمنح الجمهور رد الفعل الفسيولوجى العجيب الذى يتناسب مع التسمية النوعية لفيلم الرعب.

واحد من عناصر جاذبية فيلم "مشروع ساحرة بلير" " The Blair Witch Project " بالنسبة لعديد من المشاهدين الذين راوه، هو أن عدداً من التقاليد السينمائية لم تُستخدم: إنه لا ينتمى إلى نوعية فيلم رعب- ما بعد الحداثة- التى تجعل المشاهدين عارفين مسبقاً مثل فيلمى المخرج كرافن "كوابيس جديدة" " New Nightmares " و"الصرخة" الذى يؤكد بهما الإتقان الإبداعى للفيلم النوعى، لكنه على العكس من ذلك، ففيلم "مشروع ساحرات بلير" يُعد محاولة للعودة بفيلم النوع إلى أكثر أشكاله بدائية: تماماً مثل قصة عن شبح، الإتقان فى حكيها ليس مُهماً بمقدار أهمية حكيها حول نار المدفأة فى منتصف الليل حيث المستمعون خائفون مُسبقاً، لعل العديد من أفلام الرعب تُضحى بالجو العام فى مقابل عناصر التأثير الفنية حتى يمكن ان تخلق مؤثر الصدمة الجيد العجيب داخل جو عام لا يكون مرعباً تماماً.
مشروع ساحرة بلير

فيلم "مشروع ساحرة بلير" يتغاضى عن الجو العام، وهو يشبه الفيلم الممتاز "الشر ميت" " Evil Dead " الذى سبقه بمدة طويلة، ويشبه الفيلم الأقل شهرة ولكنه جيداً جداً " المياة المفتوحة" " Open Water "، فى فيلم "المياة المفتوحة" لا يتعاطى الفيلم مع المفاجاة بشكل فعلى، ولكنه يجعل المشاهدين مدركين بإستمرار: فهُم على معرفة بما ستفعله الشخصيات للخروج من الموقف الذى يكونون فيه، إنهم مجموعة من الغواصين الذين يُمضون أجازتهم ويتوهون وسط المحيط بعد أن فشل المركب فى العثور عليهم، هل سيتم العثور عليهم، أم ان أسماك القرش ستلتهمهم؟


فيلم الخيال العلمى

ماذا نتوقع من أفلام الخيال العلمى؟ الطلاب الدارسين يذكرون عادة مجموعة المؤثرات الخاصة الجيدة لفيلم "النصل الدائر" " Blade Runner " ويذكرون فيلم "البرتقالة الآلية" " A Clockwork Orange "، الذى يقدم تصوراً عن واقع مستقبلى مرير ايضاً، حيث المستقبل يتم تقديمه بطريقة تشائمية وكعلامة تحذير لما سيأول إليه العالم، ويحق لنا ان نقول ان فيلم الخيال العلمى هو أكثر انواع الافلام النوعية "إفتراضية"، وعندما نقول انه الأكثر "خيالية" فإننا لا نقصد نفس المعنى.
النصل الدائر

نستطيع ان نؤكد بطرق كثيرة ان الفيلم الموسيقى أكثر "خيالية" وأكثر "عبثية" من فيلم الخيال العلمى، فالدافع الإنسانى والسيكولوجى والسلوك فى فيلم الخيال العلمى يكون بعيداً جداً عما نفعله فى حياتنا، كم منا صدح بالغناء ورقص فى الشارع عندما وقع فى الحب أو نال الوظيفة التى يحلم بها ؟، لكن فى فيلم الخيال العلمى لا تتطلب الخيالية دائماً إنخراطاً كاملاً فى العبث، لكنها تتطلب تغيير طفيف فى حالتنا السيكولوجية.

فى اواخر الستينات وبداية السبعينات ظهرت موجة عظيمة من أفلام الخيال العلمى الذهنية – الإجتماعية، وبدا الأمر كما لو كان رد فعل لمقولة سوزان سونتاج فى مقالها المنشور فى عام 1965 تحت عنوان "تخييل الكارثة" حيث كتبت قائلة (لا يوجد فى فيلم الخيال العلمى أى نقد إجتماعى ولا يتضمن أى تلميح إلى النقد الإجتماعى) وهو بالتأكيد ما ظهر لاحقاً فى فيلم "النمو السكانى صفر" " Zero Population Growth " وفيلم "الطعام الصناعى الاخضر"" Soylent Green " وفيلم "هروب لوجان" " Logan’s Run " وفيلم "المسعور" " Rabid " وفيلم "القشعريرة" " Shivers" وحتى فيلم "كوكب القرود" " Planet of the Apes " فكل هذه الأفلام كانت تبحث فى الكيفية التى يدمر بها الإنسان نفسه أو يدمر بها كوكبه، او معيشته فى حالة من عدم الوعى.

ويُعد فيلم "الطعام الصناعى الأخضر" واحداً من عدد من افلام الخيال العلمى الذى يتناول نظرية مالتوس فيما يتعلق بالإنفجار السكانى، وهى النظرية التى ظهرت أيضاً فى فيلم "النمو السكانى صفر" و"هروب لوجان" فكل هذه الأفلام تطرقت إلى قضية المصادر الطبيعية للغذاء أوالإشكالية الفلسفية فيما يتعلق بإزدياد عمر الإنسان. هذه الأفلام إعتمدت قليلاً جداً على المؤثرات الخاصة مقارنة بتلك الأفلام التى ظهرت فى نهاية السبعينات وبداية الثمانينات مثل "حرب النجوم" و "ترون" " Tron " و"النصل الدائر" وفيلم "فايرفوكس" " Firefox " لكن هذا التعميم غير صائب: فمن الإجحاف ان نقول أن النقد الإجتماعى لم يكن موجوداً قبل مقولة سوزان سونتاج.

كل من فيلم "إنهيار الأمن " Fail Safe " وفيلم " الدكتور سترينج لاف" " Dr Strangelove " تم عرضهما مؤخراً ومن الواضح انهما يثيران التسؤلات حول قناعات إجتماعية معينة. وفى نفس السياق توجد افلام خيال علمى نحت فى نفس الإتجاه فى الثمانينات وخاصة أفلام ديفيد كروننبرج، فالمخرج كروننبرج كان دائماً يمزج الخيال العلمى بالقضية الإجتماعية.

إنه مخرج فيلمى "المسعور" و"القشعريرة" الذى نوهنا عنهما آنفاً، فهو كمخرج أفلام خيال علمى يهمه كثيراً ان يتعاطى مع الجانب النفسى والجسدى. ما أقصده من هذا أنه مخرج عظيم للمرض والمصاعب وعادة فإنه يقدمها معاً، وبناءاً عليه يعد فيلميه"المسعور" و"القشعريرة" من أفلام القضية الجنسية، فالمرض يستشرى فى المجتمع ويخلق بداخله التوتر، وبعض النقاد رأوا الفيلمين كإرهاصات لظهور مرض الإيدز، وتسائل ناقد مثل روبين وود – وقت عرض الفيلمين- عما إذا كان كروننبرج مخرجاً محافظاً تُدلل افلامه التحذيرية على موقفه ورد فعله.

وربما يكون من المفيد جداً أن ننظر إلى كروننبرج كشخص يريد أن يستشرف ما سيؤول إليه المجتمع فى المستقبل وانه يوظف الميزانسين ويلمح به إلى الحاضر، ونستدل على هذا من خلال فيلمه الذى أخرجه فى بداية الثمانينات تحت عنوان " Videodrome " "تسجيل لفيديو" حيث يريد مخرج تليفزيونى ان ينتهز الفرصة ويقدم شيئاً غير مسبوق فى قناته ويقتنص شريط فيديو من قناة حيث الخط الفاصل بين الواقع والخيال لا وجود له.

ويظهر هذا أيضاً فى فيلم "الذبابة" " The Fly " الذى اعاد إخراجه بصيغة فكرية فى عام 1985، حيث تقود التجارب الجينية إلى تحويل الشخصية الرئيسية إلى ذبابة – كإسم الفيلم- لكن الفيلم يعرض كل مرحلة من تحوله كتطوير فى البحث العلمى، وقد تكون الشخصية الرئيسية قد فقدت آدميتها لكنها تكون الرابحة بكل المقاييس.

وفيلم "إصطدام" " Crash " قد لا ينتمى كلية إلى نوعية فيلم الخيال العلمى، لكن به أيضاً ثمة ملمح من الإستشراف لما سيؤول إليه المستقبل، وهذا الفيلم مأخوذ من كتاب لبالارد " J. G. Ballard". حيث تصبح السيارات كائنات معبودة، وتصبح الكثير من العناصر الفرعية للسيارة كرموز جنسية ذكورية وكأداوات للمتعة الحسية بدون ألم، الفكرة هى أن النشوة الجنسية تاتى من خلال الجمع بين حادث السيارة وبين تصورات عن المستقبل، ومن الأشياء التى يستطيع كروننبرج عملها، هو إخراجه لأفلام الخيال العلمى بدون ان تحتوى مادة الفيلم على عناصر فيلم الخيال العلمى: مثل الإحساس الإستشرافى الواضح، والمؤثرات الخاصة، والديكور الذى يتم تصميمه ليتناسب مع فيلم الخيال العلمى. إنه يجعلنا أيضاً نفكر فى الحدود الفاصلة بين الذكر والأنثى، حيث نراه يتفرع إلى موضوع الطلاق مثل فيلم "الحاضنة" " The Brood " أو يتفرع ليعرض الأمراض النسوية كما فى فيلم "فارعو الأجراس الموتى " " Dead Ringers " أو يتفرع إلى ألعاب الفيديو مثل فيلم "وجود" " Existenz ".

فيلم الغرب الأمريكى

يستوقفنا دائماً عندما نتامل فيلم الغرب الأمريكى ان الرجال الطيبين يرتدون الملابس الفاتحة وان الأشرار يرتدون الملابس السوداء، لعلنا نستدعى رعاة البقر والهنود الحمر وكذلك روح الإستكشاف: التحرك ناحية الغرب الأمريكى، وإكتشاف الذهب أو على الأقل البحث عن حياة معاييرها أفضل،

إن فيلم الغرب الأمريكى أيضاً من الأفلام النوعية التى تصنع أمريكا، وإذا كان جون واين فى أفلامه مثل " الحنطور" " Stagecoach " و "النهر الاحمر" " Red River " و "الباحثون" " The Searchers " يُعد واحداً من أعظم الشخصيات الأمريكية، فهذا لأنه يستحضر القيم التى تحتاج البلاد ان تعيش بها: وهى قيم صعبة لكنها عادلة، وليس فى الامر هزل ولا بد من هذه القيم.

لكن البعض وجد ان فيلم الغرب الأمريكى شاعرياً جداً، وفى نهاية الستينات عمل عدد من المخرجين ما يمكن أن نسميه "أفلام الغرب الأمريكى المُعدلة" فهى تُشكك فى العديد من التصورات حول الفيلم النوعى، فهذه الأفلام لم تعد تهتم فى الأساس بصنع أمريكا، ولكن بإنتقاد أمريكا، وإذا كان اندريه بازن " André Bazin " فى مقالته "فيلم الغرب الأمريكى " The Western’ " كان مُحقاً عندما قال ان الفيلم النوعى كان نوعاً من التصور الذهنى عن الواقع التاريخى، وأنه أسطورى جداً، حتى ان مخرجين معينين أرادوا ان يتخلصوا من طابعه الأسطورى.

وفى نفس السياق يعتبر المخرج سام بيكنباه واحداً من اعظم مخرجى الغرب الأمريكى، لأنه إذا كان فيلم الغرب الأمريكى يُنظر إليه غالباً على انه من الأفلام النوعية الجيدة التى تفصل بين الحضارة فى مقابل الطبيعة، وتفصل بين الاخلاق فى مقابل الوضاعة، وتفصل بين الهمة فى مقابل التكاسل- فإن المخرج بيكنباه أراد ان يجعل هذه الفروق تذوب وان ينقلها من الشكل الأسطورى إلى الواقع التعس اليومى، ولذلك ففى فيلميه العظيمين عن الغرب الأمريكى "الباقة البرية" " The Wild Bunch " و"بات جاريت وبيلى الطفل" " Pat Garrett and Billy the Kid " نراه مهتماً بوضعية الخارجين على القانون حيث تحتفظ الشخصيات بعديد من عناصر الشخصية فى فيلم الغرب الأمريكى ولكن بدون تحميلها نظام القيم الإيجابية.
بات جاريت وبيلى الطفل

ففى فيلم "الباقة البرية" يحصل روبرت ريان على مهمة مطاردة زميله ويليام هولدن والقبض على باقى عصابة هولدن، فالعمل الذى يؤديه ريان ليس من الأعمال البطولية- إنه يعمل أساساً فى خدمة أحد أباطرة السكة الحديد الذى يريد التخلص من هولدن- وينحاز المخرج بيكنباه لشخص خارج على القانون ودموى مثل ريان، وفى فيلم "بات جاريت وبيلى الطفل" نرى بات جاريت يخون ويوافق على الفبض على صديقه القديم بيلى الطفل، فقد قرر بات جاريت انه يريد ان ينحاز إلى المستقبل- مع بدء حلول المدنية- ويقول بيلى ان الزمن ربما تغير لكنه لا يريد ان يفعل نفس الأمر، فللمرة الثانية نرى المخرج بيكنباه ينحاز لشخص خارج عن القانون على حساب عنصر التمدن.

إذا كان العديد من المخرجين يرون ان فيلم الغرب الأمريكى من الأفلام النوعية التى تعنى بصناعة أمريكا وجعلها افضل – حيث يظهر هذا علانية فى فيلم "الحنطور" ويظهر بشكل عرضى فى فيلم "الباحثون" ويظهر بشكل أسطورى كما فى فيلم "الرجل الذى أطلق النار على ليبرتى فالانس" " The Man Who Shot Liberty Valance " ويطلب منا المخرج بيكنباه أن نتسائل عما تتأسس عليه هذه الحضارة، ففى احد الجوانب لدينا رجال دمويين يعيشون فى مجتمع عدوانى مُسلح، وفى الجانب الآخر لدينا حالة لموت هذا المجتمع البدائى بسبب ممارسات مستمرة من النفاق والخيانة.

لا شك ان صيغة المخرج بيكنباه التى تستبعد الاسطورة تتضمن نوعاً من السخرية، لكنها سخرية بلا معنى، فهو يحس بان الشخصية فى أفلام الغرب الأمريكى القديمة لديها قيم يمكن التشكيك فيها، لكنه برغم ذلك يقدم نفس الشخصية، فثمة إحساس فى فيلميه المُشار إليهما بأنه أكثر تبنياً للأسطورة وليس نافياً لها: فهو يريد من رجل الغرب الأمريكى ان يواجه ماضيه: ويريد أن يقول ان العديد من شخصيات هذه الأفلام لم تصنع أمريكا من الناحية التاريخية، لكن ثمة شيئ ما قد تم تحطيمه من خلال التحرك الأمريكى فى إتجاه تمدن مشكوك فيه، ويمكن للواحد ان يقارن هذا بأفلام سرجيو ليونى التى تتميز بحالة تنويرية أكثر وبطريقة أكثر فنية فى تطوير نوعية فيلم الغرب الأمريكى، مثل أسلوب الإسقاط الذاتى فى فيلم "الطيب والسيئ والقبيح" " The Good, The Bad and the Ugly " أو فى فيلم "كان ياما كان فى الغرب" " Once upon a Time in the West " حيث التنوير اكثر حضوراً فى هذا الفيلم النوعى.

فيلم العصابات

أحد اهم الفروق بين فيلم الغرب الأمريكى الكلاسيكى وبين أفلام العصابات يمكن ان نستدل عليه فى الفرق بين الرجولة والذكورة بإستثناء افلام الغرب الامريكى المُعدلة مثل أفلام بيكنباه، هل فيلم الغرب الأمريكى فى عمومه لا ينتمى إلى نوعية الفيلم الذكورى، وهل نوعية فيلم العصابات ينتمى من حيث المبدا إلى نوعية الفيلم الرجولى؟ دعونا نحاول ان نحدد الفرق من خلال الإستشهاد بفيلم "الوجه ذو الندبة" " Scarface "، ففى هذا الفيلم الذى اعاد إخرجه براين دى بالما عن نفس الفيلم الذى اخرجه هوارد هوكس، نجد أن القيم الذكورية يتم تقديمها بشكل مُبالغ فيه،
الوجه ذو الندبة

وهذا هو أسلوب دى بالما نوعاً ما – فهو مخرج سينمائى يتميز بالمُبالغة " operatic " وليس هذا بسبب العناوين الفرعية ولكن أيضاُ بسبب يتعلق بطبيعة مناخ الفيلم النوعى، حيث البندقية فى فيلم الغرب الأمريكى تكون محوراً للتعبير عن قوة القانون، اما فى نوعية فيلم العصابات فالبندقية تكون محوراً للتعبير عن إنتهاك القانون.هناك إطلاق نار كثير فى فيلم العصابات، وإحساس بان العنف ليس بريئاً ولكنه عنف قذر: فالناس الابرياء يُقتلون، والشخصية المحورية ليست إلا بطلاُ فردياً فى مواجهة العالم، وإن صعوده سلم الترقى الإجتماعى يتسبب فى سقوط أناس كثيرين موتى تحت أقدامه، ويمكننا أيضا ً ان نقول أنه إذا كان فيلم الغرب الأمريكى فى عمومه فيلماً عن البطولة، فإن فيلم العصابات هو النموذج اللابطولى.

عندما نفكر فى فيلم مثل "القيصر الصغير" " Little Caesar " وفيلم " White Heat " وننتقل إلى فيلم "الأب الروحى" وفيلم "اولاد طيبون" " Goodfellas " نرى ان أبطال هذه الافلام يتميزون بملامح طيبة، لكنهم ليسوا أشخاصاً بطوليين.

وعلى نفس المنوال فإن فيلم العصابات هو قصة نحذر منها، حيث نراقب شخصيات يفقدون إنسانيتهم ويصبحون جشعين ومخادعين وذوى وجهين، فشخصية الممثل آلبتشينو فى فيلم "الوجه ذو الندبة" يظهر بملامح متسامحة فى بداية وصوله إلى الولايات المتحدة الامريكية فى بداية الفيلم (رغم ان له ماضى إجرامى فى بلده الأصلى كوبا)، ولكن إذا كان فيلم الغرب الأمريكى يريد منا بشكل عام أن نتوحد مع قيم شخصياته المحورية، ففى فيلم العصابات نحن نامل دائماً أن نبعد انفسنا عن قيم هذه الشخصيات.

فى فيلم مثل "اولاد طيبون" لعلنا نُقدر أسلوب الحياة، لكننا من الصعب ان نُقدر قيم هذه الحياة، وحتى إذا كانت الشخصية من حيث المبدأ تبحث عن تأكيد رجوليتها – لكى تصبح قادرة على الكسب وتربح مبلغ كبير من المال من اجل زوجته او عائلته – فإن هذه الرجولة يتم الإفتئات عليها لأن الشخصيات يصبحون عدوانيين بصورة كبيرة مع من يحبونهم، ويسيئون إلى زملائهم بصورة متزايدة، وغالباً ما ينتهى بهم الأمر إلى تدمير انفسهم.

وهذا لا يعنى بالضرورة أن فيلم العصابات أكثر واقعية من فيلم الغرب الأمريكى، فعلى سبيل المثال، فى مقالة روبرت وارشو "رجل العصابات كبطل تراجيدى" " The Gangster as Tragic Hero’" يعتقد ان فيلم العصابات من الأفلام النوعية التى تقر حقيقة مؤكدة - الاوربيون يعتقدون ان فيلم العصابات واقعى- ألا توجد عصابات بهذا القدر الكبير فى كل ركن من اى شارع، هكذا يتصور روبرت وارشو.
يجب ان نتذكر اولاً وأخيراً وقبل اى شيئ- ان الفيلم النوعى يخلق مجموعة من التوقعات ضمن المناخ الذى يقدمه.