17‏/08‏/2013

السينما ونظرية المُشاهدة

محاضرة :- تونى مكيبن
ترجمة :- ممدوح شلبى 

نريد من نقاشنا لطبيعة نظرية المشاهدة ان ننظر ليس الى الكيفية التى يستجيب فيها المشاهدون الى فيلم بطريقة احصائية وعلمية، ولكن بدلا من ذلك ان ننظر الى الكيفية التى يندمج فيها الجمهور ويتفاعل وينشغل بالفيلم فى اطار الممارسة المشاهدية، ولكى استطيع توضيح ذلك فسوف استخدم عديد من المصطلحات، من بينها - المسافية – الاسقاط الذاتى – التركيز – الذاتية.

وباستخدام مثل هذه المصطلحات سوف اُظهر ان الامر ليس قضية المشاهدة تلك التى احتج عليها ميتز فى اطار من التحليل النفسى، وسبق ان تحدثنا  فى هذه المحاضرات عن التحليل النفسى حيث ينظر المشاهدون الى ذواتهم المهمشة فى تجربة مشاهدة الافلام، على حين ان المخرجين يجب عليهم ان يُغيروا هذا الاحساس بالتهميش.

لا لن افعل، وبدلا من ذلك دعونا نفكر فى قضية المشاهدة ونقترب من الرأى المعارض الذى ينادى به كل من ديتوا وبيرسانى اللذان اعلنا عنه فى كتابهما "اشكال من الكينونة"، لقد قالا "ان وجهة نظر الكاميرا فيما يخص العالم الذى يقوم الفيلم بتصويره تشمل بشكل رئيسى تصورات مسبقة للمشاهدين فيما يخص هذا العالم"، وهذا لا يبدو منطبقا على المشاهدين مسلوبى الوعى طبقا لرأى ميتز، ولكنه ينطبق تماما على الجمهور البريختى الذى صُنعت من اجله العديد من الافلام فى نهاية الستينات، واننا لمسنا علاقة بين البنيوية والتحليل النفسى والايديولوجيا والسياسة، فالجمهور ما هو الا نتاج للطرح الايديولوجى وآلية الوسيط السينمائى.

ويذهب كل من دوتوا وبيرسانى فى قولهما "ان هؤلاء اللذين سيشاهدون الفيلم هم فى الحقيقة من استهدفهم الفيلم عبر الكيفية التى تنظر بها الكاميرا الينا: انها تفرض على ما نشاهده شخصية سبق اختلاقها عنا"، وهذا يتعلق بالمسافية الى حد ما، او كما يطلق عليه المنظر الادبى فيكتور شكلوفسكى "التغريب" - حيث يكون القارئ او المُشاهد واعيا بالشكل المصطنع للعمل الفنى – ولكن فى السينما الحالية فغالبا ما يندمج هذا بدرجة كبيرة بتقنية المعايشة التى يستخدمها المخرجون.

لقطة من فيلم ألعاب مرحة لمايكل هانيكه
وفى السنوات القليلة الماضية فان المخرجين الذين استخدموا تقنية المسافية فعلوا ذلك لكى يُؤكدوا على فاعلية تقنيات المعايشة التى يستخدموها، فقد اراد كل من مايكل هانيكه فى فيلميه "ألعاب مرحة" و"المخفى" وكذلك جاسبر نوى فى فيلميه "الفرد عكس الكل" و "لا رجعة فيه"، ارادا من المُشاهد ان يتوحد مع الفيلم حتى يستطيعا ان يفصلاه مرة اخرى فى اللحظات المهمة.

وهذا ليس نوعا من الادراك الذاتى للوسيط الذى يظل متجردا، لكنه اقرب الى السجادة التى تُسحب من تحت اقدامنا: ان معايشة المُشاهد لم يتم تجنبها، إنها شيئ اساسى، ونستطيع ان نلحظ ذلك فى احد مشاهد فيلم "ألعاب مرحة" حيث يبدو ان العائلة التى تذهب لتنتقم من الدخلاء على المنزل يتم تقديمها باعادة لقطات سابقة من الفيلم فقط.
وفى فيلم "المخفى" نرى اللقطات تُعاد فى مناسبات عديدة، وتتركنا غير متأكدين هل ما نراه حقيقى ام ان اللقطات هى ما تشاهده الشخصيات، وفى فيلم "الفرد عكس الكل" فثمة تنبيها يستمر 30 ثانية يظهر فى لحظة معينة فى الفيلم ويعطينا الفرصة لكى نغادر صالة السينما، فالفيلم سينتهى على هذه الفظاعة والتشويش.

لقطة من فيلم المخفى لمايكا هانيكه
وفى فيلم "لا رجعة فيه" يقلب جاسبر نوى النظام الزمنى لدرجة ان الفيلم ينتهى نهاية سعيدة بمصطلح الحبكة – كما لو انه انتقل من المأساة الى السعادة – لكن النهاية تراجيدية بمصطلح التسلسل الزمنى للقصة، فثمة امرأة حامل يتم اغتصابها بوحشية بينما يذهب حبيبها واحد الاصدقاء ليبحثا عن المُغتصب، فالفيلم ينتهى على واقع انها حامل بينما القصة تنتهى فى السجن.

هذه الامثلة لتقنية المسافية تبدو مختلفة تماما عن استخدامها فى افلام الستينات والسبعينات، حيث حاول اشهر المخرجين ان يخلقوا مشاهدين لديهم ادراك ذاتى من خلال تقويض تقنيات المعايشة، ففى فيلم "عطلة نهاية الاسبوع" لجودار، يقدم المخرج مجموعة كبيرة من عناصر المسافية حتى يتجنب اندماج المُشاهد على المستوى السردى والتمثيلى.
 

لقطة من فيلم عطلة نهاية الاسبوع لجان لوك جودار
وسواء كانت اللقطة تصور بطلة الفيلم وهى تُخبر حبيبها عن خيالها الجنسى، حيث صُورت المرأة فى ظل الضوء، او كانت لقطة متابعة طويلة تكشف عن سيارت مُحطمة على طول الطريق، او لقطات رد فعل للشخصيات على الاحداث التى تبدو مختلفة عن الاحداث التى نراها فعلا، فجودار بدا انه يريد ان يخلق اكبر قدر من الادراك لدى المُشاهد.

وعلى الرغم من ان جودار فى بداية مشواره الفنى لم يكن خائفا من تبنى نظام افلام النوع - مثل نوع فيلم العصابات فى فيلم "اللاهث" ونوع الفيلم الموسيقى فى فيلم "المرأة هى المرأة" او نوع افلام الحرب فى فيلم "العساكر" – فقد كان يستخدم ويستعير بنية فيلم النوع ثم يستهزأ بها بدلا من التعاطى مع تقاليدها فى توليد استجابات عاطقية قوية.

والمخرجون المعاصرون مثل مايكل هانيكه وجاسبر نوى سيستخدمان عنصر التطفل فى نوع الافلام المنزلية كما فى فيلم "ألعاب مرحة" او نوع فيلم دراما الانتقام كما فى فيلم "لا رجعة فيه" لكى يولدا ردود افعال قوية ومؤثرة عند المُشاهد وبعد ذلك يطلبان من المُشاهد ان يتسائل عن اسباب ما يحدث.

وبينما جودار وبانويل وبازولينى وانطونيونى ارادوا مُشاهدا واعيا وأملوا فى استجابة قوية دون ان يستخدموا تقنية المُعايشة، فان اغلب الجيل الجديد من المخرجين يريدون من تعايش الجمهور ان يولدوا ادراكا من جانب المشاهدين لهذا التعايش.

اذا كانت معظم الافلام والنظريات التى ظهرت فى الستينات والسبعينات جعلت المُشاهد واعيا ببناء الصورة، ومن ثم فقد استخدموا المسافية البريختية، فهل غالبية المخرجين الحاليين مهتمين ايضا بتقنيات التغريب؟ فالحقيقة انهم يقدموه داخل عملهم الفنى ويهتمون فى نفس الوقت بمعايشة المُشاهد على المستوى الانفعالى، هل هذا قالب حلوى حقيقى ام سينمائى؟ او هل المخرج يولى اهتماما اقل ببنية الصورة (الوسيط) بينما يتركز اهتمامه الاكبر على بنية الاحاسيس؟

ان السينما الحالية تبدو انها تمزج بين جودار وهيتشكوك وهى تبحث عن اسقاط لذاتية المشاهد واندماجه، فهى لا تبحث فقط عن مُشاهد يُحلل الفيلم، ولكن ان تكون له ايضا ردودا عاطفية لما يراه، وعندما سأل المخرج جاسبر نوى الجمهور بعد مشاهدة فيلمه "الفرد عكس الكل" عما اذا كانوا قد بكوا، فهذا مخرج اراد من المُشاهد ان يتحرى فى ردوده العاطفية: حتى يتسائل هذا المُشاهد من اين تأتى تلك الدموع.

ونفس السؤال سأله المخرج لارس فون تريير لرجل وامرأة بخصوص فيلميه "انكسار الامواج" و"الراقص فى الظلام"، حيث اصر على ان كل شيئ  فى فيلميه كان غريزيا لكنهما وفى نفس الوقت كانا يحملان معنا فى كل لقطة، فهناك ثمة مُعايشة وثمة ادراك بتقنية التعايش، فهل يستطيع المخرج توليد دموع غير الدموع المُهندسة التى يتحدث عنها كولين مكارثر فيما كتبه تحت عنوان "بريجادون، القلب الشجاع والاسكتلنديين" مستعيرا تعبير توم لوتز "الدموع التى توشك ان تطفر" ام يتبنى المخرج ما قاله سلوفاك زيزيك مستعيرا مقولة المخرج كرزيستوف  كيسلوفسكى "الخوف من الدموع الحقيقة"؟

هذه هى الطريقة التى يستطيع المخرجون بها توليد عواطف بدون الاعتماد على ميكانيكية تواتر الدمع التى تحدث عنها مكارثر عندما ذكر اشكالا من الموسيقى المصاحبة والتركيز - اللحظة العابرة التى  تصبح فيها الشخصية مركز اهتمامنا - التى تقود عواطفنا بفجاجة، كيف يتجنب المخرجون التركيز، والذى يشمل عادة لقطات مقربة كثيرة وموسيقى مصاحبة وموسيقى ذاتية مصاحبة، ويتجهون الى اطلاق العنان لعواطف الاسقاط الذاتى: ليخلقوا علاقة سببية مع الدموع الحقيقية ؟

وبالنسبة لكيسلوفسكى فالمشكلة ظهرت عندما كان يعمل فيلمه التسجيلى الجميل "الحب الاول" وهو عن شاب وشابة يصبح لهما طفل، فقد انزعج كيسلوفسكى بسبب تصوير الأب وهو يحمل الطفل بين ذراعيه عندما وُلد، وكان كيسلوفسكى يعتقد ان ثمة شيئ ما خطأ، وطبقا لكلمات زيزيك "الفجاجة لمثل هذا التصرف الذى لا يليق بعلاقة حميمة"، كيف يجد الانسان ان الاقتراب الصواب من الناس يكشفهم – وفى نفس الوقت - يسمح لهم بالاحتفاظ بكرامتهم؟ وغالبا فان التركيز يريد ان يمحو اى تأثير للاندماج العاطفى فى المشهد، وبناءا عليه فان كولين مكارثر يستشهد بعبارة لوتز المفيدة "الدموع التى توشك ان تطفر" ليصف كيف يتحقق ذلك عمليا.

الشيئ الرئيسى فى عدد من الافلام التى تتبع نظرية المشاهدة والتى تحدثنا عنها، هى كيف تجعل الجمهور يتعايش ولكن وفى نفس الوقت - وانت تفعل ذلك - ان تسأل اسئلة اكبر مما يجيب عليه التعايش بسهولة: انها يجب ان تفعل اكثر من جعلنا نبكى او نقفز او نهلع او نصرخ.

ففى فيلم "من اجل اختى" لكاثرين برييلا على سبيل المثال، نرى فى نهاية الفيلم ان هناك فعل فظيع من العنف رغم ان الفيلم بدا حتى هذه اللحظة يتعاطى مع العلاقة بين اختين بنوع من البطء، ان فعل العنف يصيب المُشاهد من الناحية النفسية عن طريق زيادة الايقاع، فهى صدمة نفسية وليست اكثر من ذلك حيث تبدو الغرابة في تصرف الشقيقة الصغرى.

ويبدو الامر كما لو ان العديد من المخرجين المعاصرين (بما فى ذلك مايكل هانيكه وجاسبر نوى ولارس فون  تريير وبرييلا وكذلك جاس فان سان وديفيد لينش وديفيد كروننبرج) مهتمون بالتلاعب بالوسيط السينمائى على نفس طريقة ايزنشتين وهيتشكوك، ومهتمون فى نفس الوقت ببريختية جودار، انهم يريدون من المشاهدين ان يتسألوا عن صدماتهم ودموعهم، لكنهم ارادوا هذه الصدمات وهذه الدموع.

وفى كتاب "العالم المُشاهد" لستانلى كافيل- الذى نُشر فى بداية السبعينات – ينظر الى افلام مثل "سيكو" و "مارنى" ويرى ان هيتشكوك "يُعيد تفعيل هوسه المستمر بالتفسيرات النفسية الزائفة حتى يبتعد عن استقطاب وعى الجمهور"، ويذهب الى القول ان فيلم "سيكو" هو النسخة المُثلى لهوس هيتشكوك "انه – فى التحليل النهائى - منطقى جدا بالنسبة لعالم نفس، فهو يربط ما يحدث بحياتنا، وهو يعرض نموذجا واحدا حيث قدرتنا على الشعور وقدرتنا على تهذيب غرائزنا لم يعودا نتاجات انسانية للحب والكراهية، فنحن نعول الآن على النظريات فى الحب والكراهية".

وبالنسبة لرغبة هيتشكوك فى تقديم تفسيرات زائفة: فهو بالطبع يتبنى عكس ذلك: فهو خلال الفيلم يتلاعب بعواطفنا بصورة مباشرة بقدر امكانه، ولهذا بدت التفسيرات ضعيفة مقارنة بالعواطف التى تظهر فى بداية الفيلم.
اما المخرجون الحاليون فانهم يريدون ان يؤكدوا على ذاتيتنا من خلال مزيج من الاندماج العاطفى وفى نفس الوقت يجبرونا على ادراك هذا الاندماج، انهم يريدون لكل فكرة ان تحتوى على استجابة عاطفية، وربما بهذا المزج يمكن استحضار الذاتية، وهذه الذاتية - كمصطلح- سبق لميشيل فوكو استخدامها بطرق مختلفة، وأحد هذه الاستخدامات ألتقطه منه جيل دولوز – وهذا من الامور المهمة – فقد قال دولوز "النضال من اجل الذاتية يطرح نفسه مثله مثل الحق فى الاختلاف والتباين والتوحد"، هذا النوع من الذاتية لا يتضمن التوقعات والنوايا اذا ما قارناها بالفردية، لكنها بدلا من ذلك ذاتية عاطفية تسمح لنا باستبعاد الصراعات الافتراضية من دائرة التركيز اثناء عملية مشاهدة الافلام، او انها لهذا السبب الصارم ذاتية تحذيرية حتى لا نقع فى التضليل طبقا لنموذج "ميتز ولاكان".

ان ما نستخلصه هنا ان العديد من المخرجين لم يخافوا من اغراق المُشاهد فى التجربة الفيلمية، لكن ما نريده هو ان نسأل انفسنا عما اذا كان المخرجون يخلقون افكارا طازجة واحاسيساً بتكثيف علاقتنا بالصورة، ام انهم يخلقون تجهيلا ليس مطلوبا مما ادعاه بافلوف عن الاسقاط؟ وهل هذا فارق بين الصورة القابلة للتأويل وبين الصورة التى تكشف عن افكار جديدة فى استجابتنا اليها؟


محاضرة :- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى