19‏/03‏/2014

السينما الروائية بين القصة والشخصية والجو العام

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
أيام الجنة


دعونا ننظر إلى مصطلح السينما الروائية من زاوية كل من القصة والشخصية والجو العام، وأيضاً دعونا نفرق بين الحبكة وبين القصة ، وبين القصة وبين التيمة، وعلى الرغم من أن كُتب السيناريو تُصر على أن القصة هى أهم شيئ، حتى أن أستاذ الحكى ألفريد هيتشكوك يؤمن أنه ينتمى إلى تصنيف مخرجو القصة، إلا ان المخرجين ينقسمون إلى مخرجى قصة ومخرجى شخصية.

 عندما ناقش الناقد أندرو ساريس مفهوم السرد عند مارتن سكورسيزى فى أفلامه فى السبعينات، هل كان من الأفضل له أن يستشهد بهيتشكوك الذى تُمثل أفلامه أفضل نماذج فيلم القصة، ويبحث عن مخرج آخر يكون مهتماً بالشخصية؟

 والآن لعلنا نتسائل، ماذا عن الجو العام؟

أشار الناقد ستانلى كوفمان فى "أمام عينى" إلى أن تيرانس مالك لم يستطع الإمساك بفيلم "أيام الجنة" لأن تيرانس مالك لا يفهم أساسيات الشخصية والقصة.
ولكن هل كان هذا بسبب أن مالك كان أقرب إلى أن يكون مخرج جو عام حيث "المود" بالنسبة له أهم من القصة والشخصية؟ وكما قال الفيلسوف والناقد ستانلى كافيل فى "العالم المرئى" (أعتقد أن أى شخص أولى إهتمامه بفيلم "أيام الجنة" يتمنى أن يفهم ما هو الحد الأقصى للجمال وفيما يخدم........" من الواضح أنه لا يقصد كل النقاد، ما نلمح له هنا أننا نحتاج أن نستوضح الفيلم من جميع جميع جوانبه بدلاُ من ألقاء أحكامنا المُسبقة عليه.
فيلم شين


يتبادر إلى ذهنى ما قاله الناقد والرسام مانى فاربر فى "فضاء سلبى" (فكرة التفكير فى فيلم بطريقة تتناسب مع الطريقة التى يقصدها المخرج معناه أن نكون عادلين أكثر فى تناول العمل الذى بين أيدينا وهذا كل ما نملكه لتقدير المخرج على إنجازه)، والتفريق بين القصة والشخصية والتيمة يمكن أن يساعدنا هنا.

فى مشهد من فيلم "شين" " Shane " للمخرج جورج ستيفنز الذى أسس قصة قوية تقود الأحداث حيث يأتى إلى مزرعة العائلة شخص غريب غامض ولكنه ودود، وبعد ذلك بوقت قليل وبينما الغريب مازال فى المكان، يصل شرير الفيلم الذى يريد أن يستولى على المزرعة، وعندما يسحب "شين" الزناد بسرعة عندما يسمع ضوضاء حادة، فهذا يوضح ملمحاً من شخصيته، لكن هل نحن مهتمون أكثر بأفعاله السابقة أم بتصرفاته القادمة؟
الإهتمام بكشف أفعاله السابقة قد يُلمح إلى إهتمام أكبر بالشخصية، أما أفعاله القادمة فإنها تُشير إلى القصة، فإظهار الغريب على أنه شخص غامض أقل أهمية مما لو أظهرنا قدرة هذا الرجل الغامض على الفعل، فما نعرفه عن "شين" أنه بارع فى إستخدام البندقية وهذا يجعلنا نتسائل متى يستخدم مهاراته فى البندقية.

هذه هى دعامة فيلم الغرب الأمريكى: البطل المتردد الذى يحتاج أن يفعل ما يتوجب على الإنسان فعله، وما يجب عليه أن يفعله هو تقديم نفسه جيداً فى قصة قوية. فيلم "شين" تم عمله فى عام 1954 وبعض النقاد يقولون أن عرض الفيلم جاء قبل أربعة سنوات من ظهور بول نيومان فى فيلم "القناص الأشول" حيث أصبح فيلم الغرب الأمريكى سيكولوجياً، وحيث أصبحت الشخصية أكثر أهمية: فى فيلم "إنتهى الوقت" يُشير الناقد توم ميلن إلى الشخصية المحورية مثل شخصية "بيللى" الطفل المُضطرب عاطفياُ ونفسياُ.

الكثير من أفلام الغرب الأمريكى أصبحت متطورة نسبياً بسبب تحولها من الإهتمام بالقصة إلى الإهتمام بالشخصية، ففى فيلم "مكابى والسيدة ميللر" وفيلم "بات جاريت وبيللى الطفل" هناك غوص فى طبيعة الشخصية يطغى على القصة، حيث قال المُنظر العظيم أندريه بازن فى "ما هى السينما" -المجلد الثانى-، أن فيلم الغرب الأمريكى كان أكثر الأفلام النوعية أخلاقية، وهذا لأن فيلم الغرب الأمريكى كان يعتمد على القصة، فالأشخاص كانوا إما أبيض أوأسود، وعندما أصبحت الشخصيات رمادية وُلدت الشخصية فى فيلم الغرب على حساب القصة الأخلاقية:ً فأفلام الغرب الأمريكى الكلاسيكية تعتمد على القصة أما الأفلام الحديثة منها فهى تعتمد على الشخصية، ولا يعنى هذا أن أفلام الغرب الأمريكى قبل عام 1958 لم يكن بها أفلام تعتمد على الشخصية، ففيلم "النهر الأحمر" كان فى عام 1948 وفيلم "الباحثون" كان فى عام 1956، والفيلمان من الأفلام التأملية التى تعرض لنا تصرفات شخص شديد الخطورة.

فإذا كان فيلم "شين" من الأمثلة الممتازة لكلاسيكيات فيلم الغرب الأمريكى الذى يعتمد على قصة جيدة، عندئذ ماذا عن الفيلم الذى يعتمد على شخصية قوية؟ إ
ذا كان مارتن سكورسيزى قد نظر إليه النقاد والمخرجون فى السبعينات بوصفه فنان جيله، هل تم هذا بسبب شغفه بالشخصية على حساب القصة وهل هذا هو المسؤول جزئياً عن براعته؟ العديد من شخصيات أفلام سكورسيزى تشبه "الأطفال المُضطربون عاطفياُ ونفسياُ " مثل شخصية ترافيس بيكل فى فيلم "سائق التاكسى" الذى يعبر عما يجول فى عقله بصوت عالى، وحيث قدم سكورسيزى لقطات متعددة لبيكل بمفرده حيث كل لقطة ليست وحدة من وحدات السرد بمقدار ما هى وحدة من وحدات الإحاطة السيكولوجية بالشخصية. 
قطعات قصيرة

 شخصية بيكل دائماً لا تُحسن الظن فى المواقف الإجتماعية، حتى أن الجمهور لا يهتم بماذا يفعله بيكل ولكن لماذا يفعل ما يفعله، وحتى التصرفات المتطرفة التى تحدث قرب نهاية الفيلم تتركنا فى حيرة تامة نتيجة للشخصية المركبة التى يقدمها لنا سكورسيزى، بينما بعض النقاد لاحظوا تشابه هذا الفيلم مع فيلم "الباحثون" - حيث نرى شابة يتم إحتجازها من قبل شخصيات دنيئة بينما بيكل يريد أن يحميها منهم – سكورسيزى يهتم بتصويرالأمكنة التى تنتمى للمدينة، ويكشف عن اعداد من الشخصيات الدنيئة التى يتصل بها بيكل كما يهتم بالتفاصيل الفرعية، كل هذا يدل على أن سكورسيزى مهتم بالشخصية أكثر من إهتمامه بالفصة التى تعيش الشخصية فى سياقها.

ورغم ذلك فكثيرون قد يقولوا ان فيلم "سائق التاكسى" من أفلام "الجو العام"، حيث نرى لقطات النيون فى بداية الفيلم وموسيقى الجاز التصويرية التى ألفها برنارد هيرمان، هكذا كان سكورسيزى يعمل على إعادة التأطير ليؤسس "موداً" معيناً، وبالمقارنة مع أفلام ديفيد لينش فإن أفلام سكورسيزى تبدو أفلاماً واقعية فإهتمامه بالمشاكل المُباشرة يطغى على سلوك الشخصيات مهما كان شكل هذا السلوك.

وبناءاً عليه، تخيل لو أن ترافيس بيكل "بطل فيلم سائق التاكسى" قد تحول إلى شخصية أخرى، هذا بالضبط ما يحدث للشخصية الرئيسية فى فيلم ديفيد لينش "الطرق السريعة المفقودة" ففيلم لينش يُعتبر مثالاً واضحاً "للمود" إذا فكرنا فى طريقة الفيلم فى إختلاف"نبرة" القسم الأول عن "نبرة" القسم الثانى، ففى القسم الأول نجد ان شخصية بيل بولمان هو الشخص الغيور والزوج المُوسوس، وفى القسم الثانى نجد بلتزار جيتى هو العاشق الذى لديه علاقة عاطفية، القسم الأول بطيئ يتحسس جنون العظمة والقسم الثانى يستكشف الإثارة حيث "جيتى" يغار من زوج عشيقته- إنه مجرم خطير.

وبينما ألفريد هيتشكوك يقتل الشخصية المحورية فى القسم الأول من فيلم "سيكو" أما لينش فهو يقدم شيئاً مختلفاً، فعلى حين يكشف لنا هيتشكوك أنه مخرج قصة حيث يذهب إلى أبعد من تركيزه على الشخصية ليواصل إهتمامه بالسرد، فإن ديفيد لينش يلغى الشخصية الرئيسية – على حسب ظنى – لكى يذهب إلى أبعد مما تقدمه القصة والشخصية وذلك لخلق جو عام شديد التكثيف، فديفيد لينش يهتم جداً بالسرد المتسارع والصوت المعبر، فالأمر أشبه ما يكون بإطلاق العنان للسرد وبترك الصوت يردد الصدى بغرابة، فما يضيع منا من القصة نعود ونكتسبه من خلال الجو العام.

وروبرت ألتمان مخرج آخر إدعى انه يهتم قليلاً بالسرد، فهو يقبل بالضرورى من هذا السرد، وبقول (ما أتحدث عنه فعلاً هو إستبعاد السرد الأفقى من الفيلم والإحتفاظ بشيئ يحدث، هذا يجدى مع عدد من المشاهدين، فالمعلومات التى يحصلوا عليها من الفيلم تمحى كل المعلومات التى جمعوها فى حياتهم الحقيقية........) وهذا أيضاً شيئ يدعوا إلى السخرية التامة، واضحين فى الإعتبار كيف أثر فيلم "قطعات قصيرة" " Short Cuts " بقوة على السرد المعاصر، حيث إستخدم النقاد مصطلح مثل "الإخراج المُتجزأ" و"خطوط السرد المتلاحمة" و"السينما شديدة الترابط" لتوضيح ولع السينما الحالية بتعدد أساليب السرد.

فالولع فى السنوات الحالية ليس بالقصة لكن بالحبكة، ومن أرسطو إلى ديفيد بوردويل كان المحللون يفرقون بين القصة وبين الحبكة بوسائل عديدة، فعلى سبيل المثال يعتبر بوردويل وتومسون فى "فن الفيلم" أن القصة هى جميع الأحداث بما فى ذلك ماضى القصة والإرهاصات التى نتوقع أن تحدث، بينما الحبكة هى (أحداث محددة ومعينة يقدمها الفيلم فى السرد).

وبالإشارة إلى الفرق بينهما، نستطيع أن نرى كيف أصبحت الحبكة أهم شيئ فى الأفلام المعاصرة، ففى فيلم مثل "خيال صرف" وفيلم "أموريس وبيروس" وفيلم "21 جرام، فإن المدينة أصبحت مكاناً لحبكة مُركبة، حيث يتم تجهيل المشاهدين ببعض المعلومات لخلق أقصى قدر من الغموض عندهم بينما المخرج يقدم لنا القصة فى شكل بانورامى، وربما لا تتعمد هذه الأفلام إخفاء المعلومات عمداً كما فى العديد من أفلام "الفيلم نوار" لكن الأمر يبدو كما لو ان المخرج يُجهدنا عن طريق عرض القصة فى سياق حبكة مُركبة.

تقديم المدينة بهذا الأسلوب يُشبة الحبكة المركبة فى فيلم "نفس المشتبه فيهم" وفى فيلم "الملكات التسعة" وكذلك الأفلام الميتافيزيقة المثيرة حيث نجد انفسنا داخل وجهة نظر الشخصية مثل فيلم "الإشراقة الخالدة لعقل بليد" وفيلم "ماتريكس" وفيلم "تذكار" وكذلك فيلم "الحاسة السادسة" وفيلم "نادى العراك" حيث الحبكة التى يقدمها المخرج تغنيه عن القصة.

فى فيلم "الملكات التسعة"، على سبيل المثال، تخيل أن المعلومات الشحيحة يتم تقديمها لنا فى بداية الفيلم، حيث تتآمر الشخصيات على شخص آخر؟ الفيلم يتبع ترتيبات زمنية، لكن أهم معلومات السرد التى يمكن أن تُقدم لنا فى بداية الفيلم يتم حجبها إلى نهاية الفيلم كنهاية للحبكة.

لكن هل عمل حبكات قوية يقود غالباً إلى تيمات ضعيفة؟ تذكروا أننا ّفى بداية المحاضرة فرقنا بين القصة والتيمة، ربما إذا بذلنا مجهودنا فى خلق مُشاهد يتفاعل مع الأحداث ويستعمل عقله حتى لا ينقطع تركيزه عن متابعة الحبكة ومتابعات التغيرات، فهذا المُشاهد لا يُوضع فى موقف المُتابع لتطور تيمة الفيلم، عندما تحدث الروائى الشهير ميلان كونديرا عن الفرق بين القصة والتيمة فى "فن الرواية" قال (عندما تستبعد الرواية تيماتها وتكتفى بالحديث عن القصة فإنها تًصبح سطحية).

هل ينطبق نفس الشيئ على السينما؟ هل إذا إهتم أحد الأفلام بمحاولة التلاعب بالجمهور فإنه يخاطر بفقدان ترابط التيمة؟ فعلى سبيل المثال، عندما يستخدم فيلم تحولاُ مُلفتاً فى نهاية أحد الأحداث، هل يفقد شيئاً جوهرياً فى الأحداث التالية؟ هل التحولات فى فيلم "إشراقة خالدة لعقل بليد" تقضى على إستكشاف التشوش الذهتى للشخصية: هل نهاية فيلم "نادى العراك" يلقى جانباً بإستكشافه مفهوم "الكاريزما" والفكرة الرائعة التى تقول بأن الشخصية المحورية يعانى من فصام الشخصية؟ وعلى نفس المنوال هناك أفلام لا يوجد بها شيئ يحدث ومع ذلك ففى نهاية هذه الأفلام نحس بالرضا التام؟

إذا رأى المشاهدون أن فيلم مثل "جبل بروكباك" و فيلم "ستوجد دماء" فيلمان ناضجان، هل هذا يكمن جزئياً لأنهما يستكشفان مواضيعهما بدون الإعتماد على التلاعب فى السرد، وبدون ما أسماه أدم مارس جونز "ضد تغيير الحقيقة الزمنية" حيث بساطة السرد تُسحب منا؟ هذه بالطبع نقطة نقاشية لا نهاية لها، وواحدة من الموضوعات التى يمكن أن نعود لها لاحقاً فى هذا الكورس الدراسى، وينبغى علينا ان نختبرها بأنفسنا هذا الأسبوع.

 ناقشنا اليوم بصورة مختصرة تركيز فيلم "شين" على القصة، وناقشنا اهمية الشخصية فى فيلم "سائق التاكسى" وناقشنا أهمية الجو العام فى فيلم "الطرق السريعة المفقودة" وناقشنا السرد الأفقى فى فيلم "قطعات قصيرة" كما نوهنا عن الفرق بين القصة وبين الحبكة، وبين القصة وبين التيمة، آملاً أن نستطيع فهم هذه الافكار بالتفصيل أثناء مشاهداتنا لمقاطع الأفلام التى سنعرضها لمدة ساعتين.الآن