04‏/12‏/2013

حرفية مونتاج

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
 
1

قد لا يبدو الامر بسيطا عندما نختار المشاهد الاكثر اهمية لمطاردة سيارة، لكن البعض سيستدعى فى ذاكرته لقطات المطاردة فى فيلم (الوظيفة الايطالية)، لكن فيلم (هوية بورن) يقدم مطاردة قصيرة جميلة، وتُعد لقطات مطاردة البوليس الفرنسى لجاسون بورن خلال باريس فى احد جوانبها - بمثابة الفقرة الاكثر تكلفة (set-piece ) - وهى لحظة اساسية فى مشهد روائى يتخلل افلام الاكشن – لكن هذه المطاردة ايضا تُعد مثالا عظيما على المونتاج المتقاطع او المونتاج المتوازى، والمفصود به ان المخرج يقطع بين مشهدين تدور احداثهما فى مكانين مختلفين تماما ولكنهما يدوران فى نفس اللحظة، ولا يحق لنا ان نصف حديث شخصين فيما بينهما بالمونتاج المتوازى، فمحدودية المكان لا تسمح لنا باستخدام هذا المصطلح، لكن هذا المصطلح – على اية حال- يُستخدم بصرف النظر عن محتوى المشهد سواء كان عاليا او منخفضا. 

ويقدم هيتشكوك مثالا ممتازا للمشهد المنخفض لكنه يحتوى على مونتاج متوازى مُشوق جدا عندما يعرض لنا شخصية جريس كيللى فى فيلم (النافذة الخلفية) وهو يدخل الى الشقة عبر الطريق، بينما شخصية جيمس ستيوارت القعيد ينظر، وبينما يقطع الفيلم ذهابا وايابا بين كيللى الذى نراه على مسافة بعيدة فى شقة الجيران - بينما القاتل يعود - وملامح ستيوارت تعبر عن التوجس، وهكذا يتعامل الفيلم مع درجة من التشويق التى تتشابه مع مطاردة سيارة، فالمثالان يُعدان امثلة هامة للمونتاج المتوازى.

وتُعد الفقرات المونتاجية فى افلام مخرجى المونتاج السوفييت من الامثلة الرائعة ايضا، ويشمل ذلك ايزنشتين وبودوفكين، المخرجان الذان لم يُثورا السينما فقط ، لكنهما كانا حاضرين بفاعلية فى الثورة نفسها: وساعدا الشعب السوفيتى على الاحاطة بثورة 1017 الروسية، كان المونتاج المتوازى فى فيلم ( اضراب) لايزنشتين فعالا فى عرض التباين بين مشاكل العمال وبين الحياة الرغيدة لمُديرى المصنع، كما يعد فيلم (المدرعة بوتمكين) اكثر عبقرية حيث تتلاعب مشاهد سلالم الاوديسا بالزمان والمكان لتوليد احساس سُخط شعبى عارم ضد القوزاق.
 
نريد ايضا - بالطبع – ان نقول بعض الكلمات عن ذلك الاستخدام الخلاق والمُعقد تكنيكيا للمونتاج المتوازى،: اقصد مشاهد المطاردة، وافضل مثال هو المشهد (عالى التكلفة) الذى يتم عمله بالمونتاج المتوازى، ولدينا امثلة مهمة من بينها فيلم (بوليت) وفقرة المطاردة بين القطار والسيارة فى فيلم (الوصلة الفرنسية) بالاضافة الى فيلم (ديفا) وفيلم (ان تعيش او تموت فى لوس انجلوس) وفيلم (رونان)، لكن مثال باريس فى فيلم (هوية بورن) يُعد مثالا مهما.

وبداية ربما نلاحظ ان هذا المشهد مثله مثل العديد من مشاهد المطاردة التى تحدث فى مدينة، والفيلم اختار ان يفعل هذا لسببين، اولهما ان يخلق عدد اكبر من العقبات امام بطل الفيلم، وايضا يعبر عن الفوضى الناتجة من المطاردة، كما يكشف الفيلم عن الشخصيات الثانوية اثناء تواجدهم - العرضى - فى هذه الفوضى.
 
هوية بورن
 
 وبمقارنة فيلم بوليت بفيلم الوصلة الفرنسية، نجد ان مطاردة ستيف مكوين تعطينا احساسا ببراعة الشخصية التى وراء عجلة القيادة (ننوه الى ان ستيف مكوين فى حياته الحقيقية كان سائقا ماهرا ومتزنا فى سباقات السيارات) لكن مشاهد المطاردة تسمح للمدينة ان تكون هى العقبة من وجهة نظر ستيف مكوين وليس بالضرورة ان تكون مزعجة لسكانها المقيمين، ربما نلاحظ فى فيلم فريدكين ان شخصية بوبى دويل التى مثلها هاكمان كانت اقل اثارة للاعجاب وهو وراء عجلة القيادة، لكن هذا جزء من نسيج مشاهد المطاردة لفريدكين، فهذه المشاهد لم تكن عن عبقرية قيادة بوبى للسيارة، لكنها كانت عن الفوضى التى يخلقها الموقف فى الشوارع والانفاق.

ويبدو فيلم (هوية بورن) كأنه يمزج بين مشاهد المطاردة المبدعة فى الفيلمين المشار اليهما، حيث شخصية جيمس بورن - التى مثلها مات ديمون بنفس طريقة ستيف مكوين الرصين - يُظهر نفسه كسائق عظيم، وبصرف النظر عن ان مشاهد المطاردة تُلمح الى ان الفوضى سببها تلك المهارة، واذا كان فيلم الوصلة الفرنسية يتناول فوضى المدن، فان فيلم هوية بورن يذهب فى نفس اتجاه فيلم بوليت، افترضوا ان بورن يقرر ان يهرب من البوليس فى بداية مشاهد المطاردة حيث نسمع صوت العجلات السريعة وتبدأ الموسيقى: المزج لا يضعنا فى العالم الواقعى للمدينة ولكنه يضعنا فى العالم الذاتى لشخصية بورن.

اذا كان فيلم الوصلة الفرنسية فى معظم فقرة المطاردة يتجنب الموسيقية المُصاحبة ويكتفى بأصوات المدينة، فان فيلم هوية بورن اراد ان يستفيد من الموسيقى كعنصر اثارة فى افلام الاكشن ولصالح بطل الفيلم، لاحظوا الموسيقى والزوايا المائلة والطرق الجانبية التى تظهر عرضا اثناء التقدم بالسيارة فى طرق وعرة، وعلى الرغم من ان هناك لحظات تتخلل فقرة المُطاردة تكشف عن المارة وهم يظهرون فى حالة فزع - على سبيل المثال عندما يقود بورن خلال تقاطع طرق اثناء عبور الناس، او الصعود فوق الرصيف وقفز الناس فوق مقدم السيارة – فان هؤلاء الناس يظلون مجرد خلفية للمشهد.

وكلك وعلى الرغم من ان الفيلم يقطع بالتوازى بين المُطارد والمطاردين، فالبوليس يظهر كمجموعة غير متجانسة لا يستحقون لقطة مقربة بينما اللقطة المقربة تكشف عن يد بورن الذى يُزيد السرعة، ومع المحافظة على تهميش ملامح البوليس وسكان المدينة فان الفيلم يظهر على انه فيلم اكشن.

وقد يكون من المفيد عندما نشاهد مشاهد المطاردة ان نرى كيف تركز هذه المشاهد على الشخصية المحورية، وكيف تهتم هذه المشاهد باظهار المكان العام للاحداث، فالمدينة فى فيلم هوية بورن هى باريس بشكل مؤكد، كما يعرفنا الفيلم قليلا عن الباريسيين، واذا كانت مشاهد المطاردة فى فيلم الوصلة الفرنسية من المشاهد المعقدة، فهذا بسبب تعقيدات المدينة، وهذا يستدعى تذكيرنا بمدينة نيويورك.
 
2

يُعد فيلم الثور الهائج من الامثلة العظيمة للقطع المونتاجى عندما تكون له صلة بالشخصية، فنحن فى الفيلم لا نفكر فى اسلوب القطع المونتاجى الا بمقدار اولويته فى القصة، لكن اسلوب السرد بشكل عام هو الذى يُلقى الضوء على الشخصيات، ففى احد الفقرات نلاحظ ان المشهد فجأة يتوقف عن متابعة اشتباك ويكشف عن جاك فى غرفة الملابس يفيق من احد النوبات، لكنه فى الحقيقة يتمرن استعدادا للجولة التالية، ونظرا الى ان كل هم جاك ان يربح المال، فالجمهور ربما يدرك ان اكبر مشاكل جاك انه يتصارع مع نفسه: فبالاضافة الى اشياء عديدة فانه يتمتع بشهية كبيرة، وما يبدو فى مصطلح السرد كأنه غير ضرورى، نجده فى مصطلح الشخصية منطقى تماما.
 
الثور الهائج

وهذا يقودنا الى مناقشة حول المونتاج والزمن، هل المونتاج بتعامله مع الزمن يُصعد من الشخصية ام يُصعد من القصة؟ وغالبا عندما تتعامل الافلام مع الزمن فيما له علاقة بالقصة، فما نحصل عليه هو قصة تُروى فى ترتيب زمنى متباين، ومن الامثلة على ذلك افلام مثل (تذكار) و (لا رجعة عنه) و (قلب الخيال) وبينما يصرح كريستوفر مولان مخرج فيلم (تذكار) (بعد مشاهدة الفيلم لمرتين او ثلاثة ستكون قادرا على معرفة ما يجرى بدقة)، واذا بدا فيلم (تذكار) من الافلام التى تعبر عن وجهة نظر الشخصية – من داخل عقله – فالفيلم برغم ذلك يظل مفهوما بدون لبس.

 فالغموض فى نهاية المطاف يتعلق بالقصة وليس بالشخصية، وعندما يطلب جاك لاموتا فى فيلم ( الثور الهائج) من اخيه ان يضربه على رأسه بقوة، او عندما يصبح جاك لاموتا مهوسا بجنون العظمة تجاه زوجته، عندئذ لا نجد قطع مونتاجى يمكن ان يكشف لنا المشكلة، المشكلة بلا شك داخل عقل جاك لاموتا، فالامر لم يكن ان القصة تُركت مُعلقة حتى وقت لاحق فى الفيلم.
 
فيلم (تذكار) وغيره من الافلام تبدو شبيهة بمتاهة كبيرة حيث الصورة المهمة يتم تقطيعها مونتاجيا الى عدد من اللقطات ثم يتم اعادة ترتيبها وعلى الجمهور ان يُشاهد ما يدور بتركيز بينما المخرج يُعيد وضع ترتيبها مرة اخرى فى سياقها الطبيعى.

 هل ينطبق نفس الأمر ولكن بطريقة مختلفة قليلا على أفلام مثل (قتال فى النادى الليلى) و (افتح عينيك) و (نفس المشتبهم فيهم) حيث يبدو فعلا ان غموض الشخصية من غموض القصة؟ فقبل كل شيئ هناك قصة تُحكى ولها الأولوية على حساب استكشاف شخصية.

 هذه الافلام ليس لها نهايات مفتوحة على الرغم من ان هذه الافلام تتطلب مُشاهدا منتبها ويقظا، ولكن هناك افلام اخرى لا يهم فيها انتباه المُشاهد، وهدف هذه الافلام لا يمكن ان يكون واضحا، ومن أمثلة ذلك افلام (العام الاخير فى مارينباد) و (بُعد نظر) و (خدعة العنكبوت) و (المُمتثل) و (على مزاج الحب) هذه الافلام لا تستخدم الذاكرة والوقت كثيرا ولكنها تستكشفهما.

 لا يمكن العثور على اجابة يقينية فى الفيلم، فالحقيقة ان رينبة كلير مخرج فيلم (العام الاخير فى مارينباد) لا يعتقد ان شيئا يحدث فى مارينباد، بينما المؤلف آلان روب- جريل يُصر ان الامر ليس كذلك، واذا لم يتفق المؤلف والمخرج فالنتيجة هى تشوش الفيلم وهذا ما حدث لفيلمهما.

 كيف يستطيع المشاهد فهم الفيلم؟ لكن قد تكون وجهة نظر رينية كلير، انه يريد للذاكرة ان تتنشط وفى نفس الوقت ان تتقدم القصة فى الزمن، وهذا جعل الفيلم شديد الصعوبة لنرسم عنه صورة مُكتملة، فالاحاطة البانورامية للاحداث تنقطع بصورة تامة.

 افلام كثيرة لم تكن راديكالية ومتطرفة مثل (العام الاخير فى مارينباد) لكن هذه الافلام ايضا تتلاعب بالازمنة وتضع القصة فى ترتيب زمنى متداخل حتى تستطيع ان تلعب على توقعات المُشاهد: فافلام مثل (الثور الهائج) و (المواطن كين) و (علاقة فاجابوند وماتى) تستكشف الحياة، وتفعل ذلك عن طريق القطع المونتاجى بين أطر زمنية مختلفة فى محاولة لعمل احاطة ضمنية بكينونة الشخصيات خلال السنوات.

3

ما هو الفرق بين تصعيد قصة وبين دفع موضوع، وهل عنصرا واحدا من عناصر اهتمامنا بالواقعية التى تتضمنها القصة ضمن اهتمامات اكثر، أهم من تنمية السرد واشباع رغبات الجمهور؟ من وجهة النظر هذه فان فيلم (الحثالة) لآلان كلارك قد يكون فيلما واقعيا مثاليا كما انه يختبر طبيعة اللوائح من خلال خصوصية مركز حبس للمراهقين، وايضا وفى نفس الوقت يبدو الفيلم انه يخالف الواقعية فى الشكل، واذا كان الناقد الواقعى العظيم اندريه بازن يعتقد ان الواقعية تكمن فى اللقطة – المشهد – عندئذ ماذا نفعل بواحدة من احد اساسيات المونتاج، وهى اللقطة واللقطة العكسية المُستخدمة فى هذا الفيلم؟

فيما يمكن اعتباره اكثر مشاهد الفيلم اهمية، تستكشف شخصية آشر مشكلة اللوائح مع احد السجانين، بينما الفيلم يوفر سلسلة من اللقطة واللقطة العكسية (الكونتر) المتبادلة، ونلاحظ ان هذا يختلف مع معظم مشاهد الفيلم الاخرى التى تستخدم ايضا اللقطة واللقطة العكسية، بينما آشر توجه اسئلتها الى السجان حول طبيعة القوة، وعندما تقول آشر انه لا يوجد لدى الشخصية الفرصة لعمل لائحة تعبر عن روح الشخصية، ورغم اننا نلاحظ ان السجان يستطيع ان يفهم المقصود من النقاش، لكنه فى نقطة محددة لا يستطيع قبول الفلسفة المتخفية فى النقاش بدون المخاطرة بانهيار العديد من اشكال التعامل على السجناء.
 
الحثالة

 غالبا تكون اللقطة واللقطة العكسية احد وسائل التعبير عن الصراع، فهما من الناحية التكنيكية يمكن ان يخلقا توترا بين الشخصيات فى الشكل كما فى المضمون، ويمكن ان يعبرا عن صراع الارادات، لماذا يمكن تذكر المشهد الذى يدور بين نيكولاس وكروز قرب نهاية فيلم (رجال قلائل جيدون) فذلك لانه يُرقى الطريقة النمطية لتقديم الشكل فى علاقته بالمضمون.

 وعلى الرغم من وجود اعداد من مشاهد اللقطة واللقطة العكسية فى فيلم (الحثالة) وهى تتميز بالابتكارية اكثر من المشهد الذى نناقشه هنا، فهذه المجموعة من اللقطات تحقق الموائمة فى المشهد ببعض الطرق، فيوجد المشهد المبكر فى الفيلم حيث يتم استجواب العديد من السجناء من قبل رجال الادارة، ويُؤطر كلارك لقطة الصبى من زاوية منخفضة بين اثنين من السجانين، وعندئذ يُصور رجال الادارة من زاوية مرتفعة خلف الصبى مع تأطير مُبدع على شكل مثلث يعبر عن القمع بينما الكاميرا تميل الى اسفل لتصوير رجال الادارة يتطلعون الى أعلى.

 ويبدو هذا الاسلوب مخالفا للاسلوب التقليدى الذى يُصور رجال الادارة دائما بزاوية مرتفعة، فالزوايا المنخفضة تعبر عن المقهورين، ولكن يبدو ان كلارك غير مهتم بمشكلة القوة فى وضعية اللوائح، وبينما السجناء يُجبرون على الوقوف، فان رجال الادارة يجلسون، ويستخدم الفيلم اللقطة واللقطة العكسية فى هذا المثال ليستكشف ديناميكية القوة التى لا تكون فى قوة الفرد بل فى قوة اللوائح.

 فى المشهد الذى يجمع آشر مع السجان حيث يتبادل المخرج اللقطة واللقطة العكسية، فان طبيعة القوة تتعلق ايضا باللوائح، لكن ديناميكية القوة تكمن فى الافكار وليس فى الاجسام الضخمة، وعندما نشاهد فى وقت مبكر من الفيلم ان المساجين يقفون بينما رجال الادارة يجلسون، فان الحارسين الذين يقفان امام المساجين يكبحان حركتهم باجسامهم الكبيرة، فالمخرج كلارك يقدم التأطير بمهارة كبيرة.

 وفى مشهد آخر تبدو القضية اقل رسمية واقل تجسيدا فالاهمية كانت للبساطة والحالة النفسية، فالسجان – بالمعنى الحرفى - هو حارس تم الفبض عليه، وبينما هو يسمح بمساحة للنقاش عن اللوائح، فعلى العكس من ذلك تظهر لنا بصمة اللوائح فى روح السجان.

 يقدم كلارك بساطة فى الشكل من خلال بساطة تبادل اللقطة واللقطة العكسية، وبينما آشر تقدم نقاشا مقنعا من وجهة نظر شخص صغير عقلانى مهتم ببناء الذات وخصوصة الفرد، وهو نقاش خطير لانه من وجهة نظر شخص يقضى حياته ناكرا الفردية لانه يُطيع اللوائح، فاذا وافق على نقاش آشر فماذا يتبقى له؟ 

 فى المشهد الآخر للقطة واللقطة العكسية الذى ذكرناه من فيلم (حثالة) نجد ان الشكل يعبر عن السجن، وفى المشهد الذى ذكرناه اخيرا فان غياب الشكل يُفسح مكانا لتبادل اللقطات التى سمح بها مأمور الاصلاحية التى يعمل بها السجان، الذى نود الاشارة اليه هنا، ان القضية ليست فى مشهد افضل من مشهد، ولا حتى ان يكون احد المشاهد اكثر سينمائية من الآخر، لكن القضية هى ان نفكر فى اللقطة واللقطة العكسية باعتبارهما تكنيك يخدم متطلبات مختلفة فى ظروف مختلفة وايضا فى نفس الفيلم.
 
4


لماذا يقدم المخرج مشهدا باسلوب الفلاش فورورد؟ فهذا ما فعله المخرج نيكولاس روج فى فيلم (لا تنظر الآن) الذى صوره فى مدينة فنيسيا الايطالية، أول وأهم الاسباب ان روج يحكى قصة حزينة، ودونالد ساذرلاند لديه وجهة نظرة ثانية، وينخرط فى افكار المستقبل، لكن لماذا يستخدم الفلاش فورورد فى مشهد يدور بين زوجين فى الفراش؟ مشهد الفلاش فورورد لا يبدو انه يستشرف شيئا: فلا يوجد احساس ان اى من الشخصيتين الموجودتين فى المشهد يفكران فى احداث المستقبل.
 
لا تنظر الآن

 وبرغم ذلك يجب علينا ان نتذكر ان فيلم (لا تنظر الآن) وحتى اذا كان يُنظر له على انه فيلم رعب كبير، فهو أولا واخيرا فيلم عن الحزن، ما فعله روج هنا انه استخدم بناء استشرافى لكن من اجل مساعدتنا على فهم علاقة تحطمت بسبب وفاة ابنة الزوجين، انها المرة الاولى التى يمارس فيها الزوجان الجنس بعد وفاة ابنتهما وان هذه هى المنطقة الأولى للعيش معا - التى من الواضح وجودها الآن بينهما.
 
اذا كان فرويد يعتقد ان الجنس أمر اساسى لهويتنا، فان فيلم (لا تنظر الآن) يقدم الجنس على انه المنطقة المشتركة التى يلجأ اليها الزوجان عندما يجدان نفسيهما منخرطين فى حزن شديد الوطأة.

 على الرغم من ان شخصية دونالد ساذرلاند تقول اشياءا مثل (لاشيئ يبدو على ما هو عليه) و (العقل اللاواعى يتحرك اسرع من العقل الواعى) فانه برغم ذلك رجل ينتمى للحياة العقلانية، بينما جولى كريستى من جانب آخر تجد نفسها تنتقل نحو حالة الدعة عندما تفكر فى رحابة ما بعد الحياة: لديها وجهة نظر ايضا، وساذرلاند عقلانى بصرامة على الرغم من طاقة الاستشراف لديه.

 الآن، اذا كان الفيلم يستخدم اسلوب مونتاج خشن ومُحبط ليعبر عن جمالية تميل الى اللاعقلانية، كما فى مشهد الجنس بشكل خاص فانه ايضا يساعد بشكل خاص فى توحيد الشخصيتين خلال ممارسة الجنس، وايضا يهتم الفيلم باظهار المعقولية من خلال التركيز على ما بعد الممارسة الجنسية.

 انه من المثير للاهتمام كيف ان السينما الامريكية تقتقد مثل هذه المشاهد لممارسة الجنس بالنسبة لزوج وزوجة، فبالنسبة لمن هم من المفترض انهم اخلاقيون فى هوليوود فهم يقدمون هذه المشاهد لعلاقات قبل الزواج، واحد اسباب التركيز على ما قبل الزواج هو ان السينما السائدة تركز على الأبهة وتستخدم التوتر ولذلك فالشخصيات وهى تتحرك فى اتجاه التجربة الجنسية فانها تحقق ما هو مُتوقع منها، بينما ممارسة الجنس بين زوج وزوجة يؤدى – ربما - الى حالة فكرية من خلال الفلاش فورورد وباظهار دونالد ساذرلاند وجولى كريستى يلبسان بعد ممارسة الجنس، فهذا تجسيد – اذا سمحتوا لى – لحداثية الفيلم او بالاحرى لرفض الفيلم للأبهة.

 افلام روج بما فى ذلك (توقيت سيئ) و (المسرحية) و (الرجل الذى سقط على كوكب الأرض) كلها تستخدم المونتاج المُجزأ لتخلق تأثير الغربة مع زمن يفتقد الناس فيه الى ما هو مُشترك، ان الغرابة فى هذا المشهد هى الطريقة التى توفر اللا غربة للحفاظ على الاحساس الانسانى القوى.

 فيلم (لا تنظر الآن) هو فيلم رعب – فالمشاهدون وجدوه مرعبا جدا- لكن هذا الفيلم جاء تعبيرا عن الدفء الانسانى واحساس الفقد على انسان عزيز، هذا المشهد يظل من المشاهد الاساسية فى السينما (ان هذا الفيلم – على سبيل المثال – تم سرقته من قبل المخرج ستيف سودربرة فى فيلمه (بعيدا عن النظر) وتم اخراجه بطريقة تقليدية جدا).
 
محلضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى


28‏/11‏/2013

نظرية السينما الشكلية

الابدية ويوم

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
الشكليون هم اؤلائك الذين يعتبرون السينما وسيطا للمعالجة الفنية، فالمخرج يحتاج ان يتجاوز فوضى الواقع وان يحول المادة الفلمية الى شكل سينمائى نقى وان هذا التشكيل يسمح للفيلم ان يكون فنا.

 وهذه بعض العبارات الشكلية حتى نفهم هذه النظرية، يقول بيلا بيلاس فى كتاب (نظرية الفيلم) على سبيل المثال، (المخرج يجب عليه ان يستخدم كل وسائل التعبير المتاحة فى فن السينما لكى يتجاوز ضبابية الواقع المشوشة ولكى يستطيع اظهار الحقيقة) ومن جانب آخر يعتقد سيرجى ايزنشتين كما ورد فى كتاب (فهم السينما) ( ان العمل الفنى - فى مفهومه العلمى – هو عملية ترتيب الصور فى مشاعر وعقل المُشاهد)

 ويستشهد الناقد الشكلى رودولف آرنهيم فى كتاب ( السينما كفن) بمشهد من فيلم المدرعة بوتمكين الذى يكشف عن (اسد حجرى ينهض ويزأر. المشهد مصنوع من ثلاثة تمائيل مختلفة للأسود، التمثال الأول لأسد يزأر، والتمثال الثانى لأسد ينهض، والتمثال الثالث لأسد يقف وفمه مفتوح للزئير، الطريقة التى اعطت الحياة للحجر بمساعدة المونتاج كانت شيئا عظيما)

 فهذه الاستشهادات تؤكد على نحو ما بان الفيلم يحتاج ان يُؤلف، ورغم ان بعض الشكليين يميلون اكثر الى التقليل من اهمية توجية الجمهور ويولون الاهمية للقصة، فان آخرين يفعلون العكس.

ويعتقد ارنهيم (انه فى الفيلم الجيد، يجب على كل لقطة ان تساهم فى الفعل) واعطى مثالا بحالة تُخالف هذه القاعدة، عندما يقطع المخرج على لقطة مأخودة من مستوى ارتفاع شخص يتحدث مع شخص آخر الى لقطة مثلها للشخص الآخر، قبل ان يقطع على لقطة من اعلى للشخصين.

 وفى نفس السياق، وعلى الرغم من ان بودوفكين وايزنشتين يُعدان من الشكليين الروس الا انهما اختلفا فى عدد من النقاط الرئيسية، فايزنشتين كان يرى ان السينما ديناميكية، ويعتقد فى اطروحته عن (الكينو فيست) – ان الصور المتداخلة قد تجعل المشاهد يثور، اما بودوفكين فى كتاب (تقنية الفيلم والتمثيل السينمائى) فيعتقد ان المخرج السينمائى يجب عليه ان يولى الاهمية القصوى للسرد (عملية التحليل والتفكيك الى عناصر، يمثلان معا نقطة البدء فقط، ويجب ان تُتبع بتجميع كل الاجزاء معا)

ويوجد مثال فى اول مشاهد الاقتتال فى فيلم (الأم) لبودوفكين، فهو يُزيد التوتر باستخدام لقطات مقربة عديدة ليس فقط للوجوه ولكن ايضا للايادى والاشياء المتوفرة فى المشهد بهدف سرد القصة بطريقة درامية.

الدرجة التى قد يتلاعب بها المخرج مع الحقيقة يختلف فيها المُنظرون، لكن لا احد منهم وصل الى ما وصل اليه اندريه بازن - اشهر مُنظرى الواقعية – عندما قال فى مقالة (ما هى السينما) فى المجلد الثانى (التسجيل السينمائى البسيط للواقع ليس ردة جمالية، بل على العكس، هناك تقدما فى التعبير، وتطويرا ناجحا للغة السينما فى تأكيد اسلوبيتها)

ومن المؤكد ان معظم الشكليين الحاليين مثل نويل بورش وبول شريدر وديفيد بوردويل وكرستن تومسون يعتمدون على اندرية بازن ليشرحوا ويفسروا افكارهم الخاصة، ففى كتاب (الاسلوب المتجاوز فى السينما) على سبيل المثال، يبدو شريدر انه يميل بوضوح الى هواجس بازن الدينية، بينما بوردويل فى كتاب (اشكال مرصودة فى الضوء) يبحث فى استخدام اللقطة المشهد خلال تاريخ السينما- وهى احد الركائز الاساسية فى الواقعية البازينية- لكنه يوظفها لاهداف مختلفة.

فاذا كان بازن يؤكد على رحابة الشكل، فان بوردويل يعتقد ان (قبل ان يرغب المخرجون فى نقل الافكار والمزاج العام، او اثارة المشاعر والتيمات او تصدير ايديولوجيات و قيم ثقافية، عليهم ان يكونوا منتبهين لبعض الامور الدنيوية) هذه الامور الدنيوية يُسميها فى مقالة (التدرج فى العمق) بانه (يجب عليهم ان يجعلوا صورهم واضحة) لتوجيه اهتمام المُشاهد بدقة.
هيروشيما حبيبى
نريد فى محاضرة اليوم ان ننظر الى افكار النظرية الشكلية التى من الممكن ان تساعدنا على فهم الافلام التى سنناقشها، وايضا نعرض التباين الذى تحتويه النظرية الشكلية.

 كان فيلم (هيروشيما حبيبى) من افلام الستينات التى تميزت بابتكارات مونتاجية، فرينية كلير اراد باسلوبه المونتاجى لا ان يتلاعب بهدف توليد عقيدة ايديولوجية – كما يحب ان يسميها ايزنشتين وبودوفكين- ولكن ان ينتقد قناعات سياسية محددة.

وبعد فيلم رينية كلير ظهرت سلسلة من الافلام التى تستخدم المونتاج بطريفة جديدة نسبيا، وبالطبع كانت هناك افلام مبكرة اهتمت بالمونتاج والذاتية ابتداءا بفيلم (مدام بوديه المُبتسمة) لجيرمين دولاك فى العشرينات، الى فيلم (انسجام وقت العصارى) لمايا ديرين فى الاربعينات، لكن رينية كلير تميز باشكالية ذاتية عميقة فى افلامه مثل (العام الماضى فى مارينباد) و (ميوريل) و ( احبك..احبك).

وبعد ذلك ظهر مخرجون عديدون تأثروا باسلوب رينية كلير، ومن بينهم جوزيف لوزى- مخرج فيلم (الحادث) وجون بورمان - مخرج فيلم (نقطة بيضاء) ونيك روج بشكل خاص فى افلامه (مسرحية) و(الرجل الذى سقط على كوكب الارض) و (توقيت سيئ) فهذه الافلام جميعها انتهجت اسلوب مونتاج جديد يختلف تماما عن عقيدة مخرجي المونتاج الأوائل الذين كانوا يميلون الى استبعاد الذاتية.

فايزنشتين – على سبيل المثال – كان مهتما بالحشود وكان يحب النمطية كما نلاحظ فى فيليمه ( اضراب) و (المدرعة بوتمكين) على سبيل المثال، ومثلما اوضح جيمس موناكو فى كتاب (كيف تقرأ فيلما) ( الممثلون يتم اختيارهم للادوار ليس بسبب كفاءاتهم الشخصية ولكن بسبب الانماط التى يمثلوها) ولكن افلام المونتاج - المُنوه عنها- تفعل العكس، مثل فيلم (هيروشيما حبيبى) و ( حادث) و ( توقيت سيئ) وايضا فيلم ( نقطة بيضاء) فهذه الافلام مهتمة بكيفية التقاط خصوصية احد الاشخاص فى عالمه الخاص.

ونستطيع ان نرى هذا بوضوح فى فيلم (هيروشيما حبيبى) حيث يخدم الفلاش باك المُتكرر افكار واحاسيس الشخصية المحورية، ففى احد المشاهد نراها تبدأ فى الحديث عن ماضيها لحبيبها اليابانى، فينقل رينية كلير بحساسية الى تاريخها الشخصى.

نحن نصنف ايزنشتين وبودوفكين ورينية كلير ونك روج على انهم شكليين مونتاجيا، وهم صنعوا افلامهم بابتكارية اعطوا الاهمية الأولى فيها الى المونتاج، لكننا ايضا نستطيع ان نتحدث عن الميزانسين فى النظرية الشكلية، وعن المخرجين الذين استخدموا اللقطة المشهد الدقيقة فى افلامهم مثل ميكلوس جانكسو وثيو انجلوبولوس وبيلا تار.

مثل فيلمى (الجولة) و ( المزمور الاحمر) لميكلوس جانكسو، وافلام (نظرة اوليسيس) و ( الابدية ويوم ) و (العُشب الباكى) لانجلوبولوس، وكذلك افلام (اللعنة) و (تانجو الشيطان) و (هارمونيات ريكمستر) لبيلا تار، فالمخرج يتلاعب من خلال التخصيص الدقيق حيث تحوم الكاميرا حول الفضاء السينمائى لتخلق نسيجا دقيقا لامتاع المُشاهد.

فى كل فيلم من هذه الافلام نحس بوطأة القطع، مثل هذه الطريقة تُعيد لكلمة مونتاج بُعدها المحسوس، هذه لقطة – مشهد - وليس من الضرورى ان تعبر عن الواقعية افضل تعبير، طبقا لرأى بازن: الذى قال انها افضل ما يعبر عن طبيعة شكل الفيلم اكثر حتى من الروابط الوثيقة بين فن الرسم والواقع.

وثمة دليل من فيلم (العُشب الباكى) لانجلوبولوس حيث يُجلى القرويين من منازلهم الغارقة، كما نجد اللقطة المشهد ايضا فى المشهد الافتتاحى من فيلم (تانجو الشيطان) حيث تظهر لنا مزرعة وحيوانات فى مسار جانبى ، فهذه اللقطة المشهد تحل محل اللقطة التأسيسية لتصوير المكان بنفس فضاءه الحقيقى، وتحقق مزايا التجريد، كما يمنحنا بيلا تار احساس عميق بنسيج الصورة فى علاقة مع ما تعرضه لنا اللقطة المشهد، وكما يقول بوردويل فى كتاب (اشكال مرصودة فى الضوء) (زخم الحكى فى فيلم انجلوبولوس يتبدد دائما من خلال اللادرامية) هذه هى اللادرامية التى تأتى من خلال فن الرسم.

لكن لادرامية الشكليين يمكن ان تخدم ايضا نمطا معينا من سينما تعبر عن الروحانيات، وفى الحقيقة فان انجلوبولوس وبيلا تار قد يكونا جزءا من هذه الطريقة السينمائية، لكن الاسس الرئيسية وضعها روبرت بريسون وكارل دراير، ومن المخرجين الحاليين برونو ديمونت.
مثل هذه الافلام التى تميل الى الروحانيات تقول عنها سوزان سونتاج فى كتابها (ضد التأويل) (انها فن انعكاسى، حيث يظهر شكل العمل الفنى بطريقة مؤكدة) وتُضيف (المؤثر الفنى الذى يجعل المُشاهد واعيا بالشكل، يؤدى الى اطالة او تأخير العواطف)
سوزان سونتاج
وفى بداية السبعينات يعتقد بول شريدر فى كتابه (اسلوب الفيلم المتجاوز) ( طورت السينما فى السنين الاخيرة اسلوبا مُتجاوزا يوظفه عديد من الفنانين من مختلف الثقافات للتعبير عن المقدسات).
يمكن لهذا الاسلوب – واضعين فى الاعتبار رأى سوزان سونتاج – ان يُخرجنا من احساس الزمن حيث نعيش اليوم بيومه، ومن الاولويات العملية فى تيار السينما السائدة، ويضعنا فى بُعد سينمائى آخر حيث يتحقق شكل من اشكال التنازل: التنازل عن التمنيات التى تضعنا فيها معظم الافلام، وبدلا من ذلك ننشغل بفهم جماليات الآخر

فى حالة بريسون، فهو على العكس من ذلك، لا يستخدم اللقطة المشهد مثل بيلا تار وانجلوبولوس ولكنه يستخدم اللقطات القصيرة، فهى لقطات وصفية تترجم المعلومة الروائية على ما يبدو باسلوب لا درامى قدر الامكان، وهو يصف ممثليه بانهم مثل الموديلات، انهم يشرحون القصة: ولا ينخرطون دراميا فى المشهد.

يمكننا ان نرى ذلك فى فيلمه (النشال) حيث تتفاعل الشخصية المحورية مع الآخرين فى مجموعة من المشاهد بدت باردة لدرجة اننا نتفاجأ عندما تعترف الشخصية بالحب فى النهاية، او كما فى فيلمه (يوميات قسيس ريفى) حيث نرى القسيس يستمع بلا مبالاة الى احد الاشخاص يتحدث عن طبيب مات لتوه، فالقسيس تستقطبه افكاره الخاصة فنسمعها كصوت تعليق، هكذا قدمها بريسون.

عندما قال بريسون فى كتابه (ملاحظات للسينمائى) ان لديه مشكلة مع التمثيل، كتب (التمثيل يكون فى المسرح، فهو فن اجتماعى) وهذا ربما يقبع جزئيا فى فهم المسرح على انه وسيط اجتماعى جدا، وكذلك فان التمثيل يُركز غالبا على دراما المشهد من خلال تراكم التفاصيل التى تُتيح لبريسون ان يستكشف روح الشخصية، هذا هو الممثل طبقا لموديل بريسون، وليس لهذا الممثل شيئا يفعله مع نمط ايزنشتين.

 بريسون فنان شكلى يستبعد الدراما من خلال خطابية المشاهد، اما برونو ديمونت الذى تأثر بشكل واضح بالاستاذ وارسل له فى احد المرات خطاب اعجاب، فانه بدلا من اسلوب بريسون نراه يُطيل المشاهد، رغم انه ايضا ينكر على المُمثل انخراطه الانفعالى المعتاد.

فى احد لقطات فيلمه (الانسانية) نرى شخصية فرعون ينظر الى الرسومات، ويُبقى ديمون اللقطة مدة اطول من اللازم، لكنه ايضا مثل بريسون يرفض شكل المشهد الدرامى، فليس مسموحا للمثل ان يُمثل، والاكثر من ذلك ان الكاميرا فى افلامه تُراقب ما يدور.

اذا كان ايزنشتين وبودوفكين ينشدان منظورا شكليا لتصعيد الدراما او لتوليد قناعة ايديولوجية، بخلق دراما تتجاوز التمثيل وتستخدام التمثيل النمطى، فانهما يتوقعان من المونتاج ان يحقق درامية المشهد.

الشكليون الذين ذكرتهم يتبنون وجهات نظر متباينة مثل بريسون وديمونت. هنا الحد الادنى من التمثيل لا يخدم المجتمع ولا الدراما لكنه يُعلن عن الروح.

النظرية الشكلية بالطبع فضاءا رحبا لقدرتها على توحيد ايزنشتين الشيوعى ببريسون الكاثوليكى.

القضية التى ناقشناها اليوم كانت عن اشكال من الحالات الانسانية التى تستطيع النظرية الشكلية ان تحتويها.

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى



21‏/11‏/2013

نظرية فيلم التحليل النفسى


خدعة العنكبوت

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى


كيف نكون مُلتحمين بالفيلم، او طبقا لمصطلح مُنظرى التحليل النفسى، كيف نكون مُعشقين فى النص؟ واحد القضايا التى يحب منظرى التحليل النفسى تناولها هى طبيعة السينما من الناحية الرسمية فى علاقتها بالطبيعة الذاتية للعقل البشرى.
وعلى سبيل المثال، يستخدم المحلل النفسى العظيم جاك لاكان- الذى ينتمى الى مدرسة ما بعد الفرويدية - يستخدم مصطلح ( العوز) ليصف حالة الرغبة التى لا يمكن اشباعها.

 هل السينما تخلق عالما سينمائيا يُنكر هذا العوز وتُولد بدلا منه الوفرة والاشباع ضمن تجربة المشاهدة المعروفة لنا بوضوح؟

 هذه ليست فقط مسألة التوقع فى الفيلم الروائى، حيث تنتهى الاحداث نهاية سعيدة وحيث شرير الفيلم يلقى الهزيمة فيلتأم شمل الحبيبين، انها ايضا تتضمن الطريقة التى تُمنتج بها اللقطات لخلق عالم سلس يستطيع المُشاهد ان يميزه.
فعندما نسمع طلق نارى من خارج الكادر – على سبيل المثال – فاننا نتوقع ان تتحرك الكاميرا او ان يقطع الفيلم على ما يحدث حتى نعرف بسرعة مستجدات الحدث، واذا قدم لنا الفيلم لقطة تأسيسية لشخصيتين فى محادثة، فاننا نتوقع ان الكاميرا ستنتقل الى اللقطات المقربة حتى نستطيع ان نعرف بدقة التعبيرات على وجهى الشخصيتين.

 وكما يقول روب وايت فى (كتاب السينما) تعليقا على البُعد السيكولوجى فى كتابات استاذ السيمياء كريستين ميتز (بينما يجلس المُشاهد قابعا.. فانه يتناسى الحالة الحقيقية له كمجرد شخص يجلس فى دار السينما مع آخرين، كما يتناسى الاساليب الفنية للفيلم الروائى مثل حركة الكاميرا والمونتاج والاضاءة والميزانسين... ألخ، ويترك المُشاهد نفسه مستسلما الى نوع من التصديق لافكار فاسقة وماكرة وجشعة) هذا التصديق يلعب (الدور الرئيسى فى المُشاهدة، ويوفر للمُشاهد الاحاطة بتطورات القصة فى الفيلم)

ولكى نفهم لماذا يُنظر الى هذا الامر باعتباره احد القضايا بالنسبة الى منظرى التحليل النفسى، فاننا نحتاج ان نتحدث قليلا عن فكرة لاكان عن ( مرحلة المرآة) ونعرض ايضا لرحلة افلاطون الشهيرة الى الكهف فى كتابه ( الجمهورية).

 فى مقالة ( مرحلة المرآة كملمح تكوينى فى الانا طبقا لطريقة التعبير عنها فى ممارسة التحليل النفسى) يناقش لاكان كيفية ادراك الطفل لصورته فى المرحلة السنية بين ستة اشهر وثمانية عشر شهرا.
(عندما يكون عمر الطفل قصيرا، فان الشمبانزى يتفوق عليه فى الذكاء رغم ان الطفل يستطيع ادراك صورته فى المرآة) وهذا الادراك الوهمى يمنح الرضيع احساسا زائفا بالتفوق.
تُصدق الأنا نفسها بانها مركز العالم، وهنا نص كلمات لاكان ( التصور البهيج للصورة الزاهية التى تتكون لدى الطفل عن نفسه فى مرحلة الرضاعة، تتلازم مع عجزه عن الحركة.... قبل ان يتم توكيدها من خلال جدلية اثبات الذات من خلال الآخرين، وقبل ان تُثبت اللغة له صورته كموضوع) 


فى الكتاب السابع من (الجمهورية) يتحدث افلاطون عن قبو تحت الارض مملوء بالناس المقيدين بالسلاسل منذ الولادة ولا يستطيعون ان يتحركوا ولا حتى ان يحركوا رؤوسهم، وهناك حائط فى مقابل الكهف، ونظرا لوجود نيران كبيرة مشتعلة فى الاعلى، فان الناس يرون ظلال ناس يعبرون ويُلقون امام الحائط، ويعتقد افلاطون ان هذا هو واقعهم، انهم ظلال وليسوا اناس من عظم ولحم.
 
ويستطرد افلاطون ( قلت لهم ان الحقيقة قد لا تكون شيئا سوى ظلال الصور) وعندما يتصادف ان يتم اطلاق سراح السجناء من الكهف، يستطرد افلاطون ( يشعر الواحد منهم بآلام لا تُطاق، ويتأذى من النور ولا تكون لديه القدرة على رؤية الاشياء على حقيقتها- تلك الاشياء التى كان يراها فى السابق كظلال)
 
دوار


ويستمر افلاطون فى القول ( ألا يتخيل الفرد ان الظلال التى رآها فى السابق اصدق من الاشياء التى تتراءى له الآن؟) ويأتى الرد ( اصدق تماما)

نستطيع ان نعرف من الاستشهادات التى اخذناها من لاكان وافلاطون كيف اهتم منظرى التحليل النفسى بالادراك الثانوى الذى يتحول الى ادراك زائف، ألا تمنحنا السينما غالبا احساسا زائفا بالتفوق وتُبقينا فى حالة من الأسر المتنامى؟ أليست – فى احيان كثيرة – تتركنا معتقدين بأن الظلال اكثر حقيقة من الواقع؟

كم مرة تداعت السينما الى اذهاننا؟ وطبقا لرأى جان لوى بودرى وآخرين ينتمون الى ( النظرية المادية) فان الكهف يصبح هو السينما ( باستجداء السينما ان تقدم الحلم الذى تعبر عنه) ويواصل حديثه فى مقالة تسمى ( المادية) قائلا ( نحن واعون بتحطيمنا لرمزية الكهف عبر التعامل مع السينما ( الخيال) كحقيقة منذ زمن طويل من خلال بنية السينما المادية)

 وفى مقال آخر عنوانه ( التأثيرات الايديولوجية لاسس المادية السينمائية) يقول بودرى ( الاسقاط والانعكاس يحدث فى مكان مغلق، والذين يمكثون فيه- وسواء كانوا واعين بحقيقة الامر ام لا- ( لكنهم ليسوا واعين) يجدون انفسهم مقيدين بسلاسل او مقبوض عليهم او مسجونين)

 من الواضح ان بعض النقاد لديهم مشكلة مع هذا الموقف المتطرف من مُنظرى نظرية المادية السينمائية، ويقول روب وايت فى (كتاب السينما) ( لكى يضحدا الرأى الذى يتحدث عن ارتداد المُشاهد السينمائى الى عالم الطفولة......... احتاج ميتز وبودرى الى ادعاء ان القدرة على نقد الضمير وبداهة المنطق يتم تعطيلهما كجزء من عمل المادية السينمائية، فى حين انهما يوظفان هذه القدرة النقدية فقط ليصلا الى هذا الاستنتاج)

 يؤمن ديفيد بوردويل انه وعلى الرغم من ان النظرية المادية لم يعد لها حظوة فى الثمانينات، وانها فشلت ليس لان العديد من اطروحاتها لم يستطع احد اثباتها (كما يعتقد) ولكن لان النظرية تحولت الى اهتمامات جديدة كانت مُنتقدة ايضا، ويقول بوردويل فى مقالة عن مابعد النظرية، ان كما هائلا من الاعتراضات على هذه النظرية لم تتناول وهن منطقها) هكذا كان بوردويل وآخرين شديدى التحامل على هذه النظرية.

على اية حال ليس هذا مكان احلال نظرية مكان نظرية، فأكثر النظريات منطقية هى التى ستفوز فى ايامنا هذه، نحن نكرر شعارنا، النظرية هى التطبيق، هل يستطيع مُنظرى نظرية التحليل النفسى ان يحدوثنا بافاضة عن الطريقة التى نمارسها فى مشاهدة السينما؟ دعونا نوضح ذلك من خلال فيلمى ( النافذة الخلفية) و( دوار) لهيتشكوك، ومن خلال فيلم (خدعة العنكبوت) لبرتولوتشى، وفيلم ( الازرق المخملى) لديفيد لينش، فالافلام الاربعة يمكن اعتبارها افلام تحليل نفسى.

فشخصية (جف) القعيد فى فيلم النافذة الخلفية يشبه السجناء فى كهف افلاطون، بينما الناقدة النسوية لورا مولفى فى مقال مشهور لها عن التحليل النفسى - نتعرض له تفصيلا فى محاضرة عن نظرية فيلم النوع - تحدثت عن (دوار) كفيلم حيث النظرة هى محور الحبكة بعد ان فندت الاستخدام السياسى للتحليل النفسى. 
 
النافذة الخلفية

 واستشهادا بكريس ويجستاف فى مقالة منشورة فى مجلة سايت اند ساوند، فان برتولوتشى استغرقته نظرية التحليل النفسى قبل وقت قليل من اخراجه لفيلم ( خدعة العنكبوت) كما استشهد ميشيل شيون بكل من فرويد ولاكان فى كتابه عن ديفيد لينش، فهذه الافلام الاربعة فعلا افلاما تنتمى الى التحليل النفسى.

 ويبدو ان فيلم النافذة الخلفية لهيتشكوك يطبق نظرية التحليل النفسى فى السينما قبل ان تتشكل هذه النظرية، ففيلم هيتشكوك كان فى عام 1954، بينما نظرية التحليل النفسى السينمائية لم تظهر قبل نهاية الستينات، فهيتشكوك يأخذ شخصية فيلمه المسلوب الحركة ويقوده الى معرفة اكبر بما يحيط به.

 فبينما باقى شخصيات فيلم النافذة الخلفية يمارسون حياتهم باجسامهم السليمة، فان ( جف) الذى مثله جيمس ستيورت يتقوقع فى وضعية ليست بعيدة عن رأى ميتز عن المُشاهد السينمائى التى نوهت عنها قبل فليل، ربما ( جف) يرى الواقع وليس الظلال لكن عجزه الجسمانى يدفعه الى حالة التلصص على العالم، ويتكون مفهومه عن العالم من خلال هذا العجز.

لكن هذا لا يقود بالضرورة الى الفهم الوضوح للعالم، فهذا من الممكن ان يخلق وجهة نظر مهتمة بالعالم الحقيقى، ويستخدم الناقد ريموند دورجانت – فى مجلة سايت اند ساوند – مصطلح الوساوس ليصف بها طريقة التأويل التى مارسها العديد من النقاد الذين تناولوا فيلم هيتشكوك، لكن هذا الوصف ينطبق ايضا على الطريقة التى يضع فيها هيتشكوك جمهوره. 

فى فيلم النافذة الخلفية، عدم قدرة ( جف) على الحركة تقوده الى فضول يستبد به، فيعمل تفكيره فى ربط الاحداث التى تتم فى الشقق المجاورة، المزج بين الادراك الحسى وموهبة هيتشكوك فى التركيز على الطبيعة السلبية لهذا الادراك الحسى تقود الى تشويق روائى وفى نفس الوقت يضع قيودا تسمح بقدر ضئيل للمشاهدة.

ويستطيع ( جف) قرب نهاية الفيلم ان يحل لغز الجريمة، لكن هذا يتطلب ان تذهب ليسا ( جراس كيللى) الى شقة القاتل، ويأتى الكثير من التشويق بسبب رهافة ليسا وعجز (جف) عن عمل اى شيئ، ويرى جان دوشيه - من مجلة كراسات السينما- ان الفيلم كناية على السينما، لكن هذا الكناية تنطبق ايضا على رأى كل من ميتز وبودرى عن الجمهور مسلوب الفكر.

وايضا قد تقول الناقدة النسوية مولفى ان وجهة نظر (جف) فى ليسا يمكن اعتبارها نظرة ذكورية تلك التى اعتادت السينما السائدة على تقديمها، وهذه النظرة الذكورة بارزة بوضوح فى فيلم آخر لهيتشكوك هو فيلم دوار، حيث تُحول نظرة الحب من سكوتى ( جيمس ستيورت) لمادلين ( كيم نوفاك ) الى معبودة.
 
الازرق المخملى

لكن هذا ليس الا استشكال العبادة، اذا كان (جف) يبحلق فعلا وليس تمثيلا، فان بحلقة سكوتى مريضة لكل معارفة القادرين على الحركة ( يجب علينا ان نستدعى عجزه النفسى عندما يصل الى ذروته ) انه مُضلل ادراكيا.

 حتى انه يقع فى الحب مع مادلين، وتُسيطر الاحداث الغير منطقية على الحبكة فى النصف الاول من الفيلم، وتراجيديتها تسيطر على النصف الثانى، انه من الواضح ان الجمهور فى الفيلمين يتم التلاعب به من خلال المخرج، ولكن هل هذا التلاعب يقود الى معرفة ( الى فهم عظيم للعالم) ام الى نوع من الاعتقال المتنامى المُتضمن فى مرحلة المرآة التى تحدث عنها لاكان وكذلك فى كهف افلاطون؟

يبدو فيلم ( خدعة العنكبوت) لبرتوليتشى اكثر تحديا من رائعتى هيتشكوك، ومن الواضح ان برتولوتشى تأثر بماركس كما تأثر بفرويد وتأثر ايضا بتقنية المسافية التى اسسها بريخت، هذا الفيلم - عن الادراك الذاتى - اُعد عن قصة قصيرة لبورجس.

تدور احداث الفيلم فى بلدة ايطالية، حيث يعود آثوس ماجنانى الابن ليكتشف الكثير عن والده الذى استشهد بسبب الشيوعية فى نهاية الثلاثينيات اثناء ذروة الفاشية، ويكسر برتولوتشى القواعد السينمائية التى تتبناها السينما التقليدية عن ايهام المُشاهدين، ويبدو فيلمه انه يكشف بوضوح ان الظلال هى الظلال على المستوى الواقعى، وان الناس ليسوا كما يتم تصويرهم على مستوى السينما.

وفى نهاية الفيلم يجد الجمهور نفسه مشوشا مثل بطل الفيلم، ويبدو كما لو انه خرج من الكهف بنفسه غير قادر على التمييز بين الحقيقة وغير الحقيقة ( لا شك ان برتولوتشى كان يعرف اسطورة افلاطون: انها تُناقش فى الفيلم من خلال تصوير الماضى الذى اتبعه برتولوتشى فى فيلم خدعة العنكبوت وكذلك فى فيلم المُمتثل، ومرة ثانية نجد توظيفا للتحليل النفسى ولكن فى اتجاه آخر غير الاستشكال.

فى فيلم (الازرق المخملى) يدخل جيفرى بومونت الى عالم الجريمة بدون ارادته، وعندما تسأله احداهن انها لا تعرف ان كان مخبرا ام مجرما بينما جيفرى ليس اى منهما، لكنه يصبح فضوليا بعد العثور على أذن مفقودة، ويتطلب الامر منه بعض الشجاعة ليمثل انه مخبرا.

ويذكرنا هذا بما كتبته الناقدة النسوية مولفى حينما تحدثت عن التلصص والسادية الموجودة فى فيلم (دوار) فتقول ( لقد اختار ان يكون شرطيا بحرية تامة لانه كان محاميا ناجحا - بكل ما يُصاحب ذلك من مطاردة وتحرى) فى فيلم ديفيد لينش يتم الخلط بين المجرم وبين المخبر، بين اللاشعور وبين عالم الجريمة، كما لو ان ديفيد لينش اراد ان يعمل فيلم اثارة به قدر اقل من الاثارة ( فحبكة الفيلم عادية) ولكن به قدر اكبر من استشكال الرغبة حيث جيفرى الشاب ليست لديه القدرة على فهم اسباب فضوله.

حاولنا فى هذه المحاضرة الا نتوسع فى توضح الاضطهاد الذى تعرضت له المادية السينمائية، ولكن ان نوضح الاساليب التى تستكشف بها الافلام القضايا النفسية ضمن اطار سينمائى خالص، وهناك العديد من الافلام شديدة التطرف عما ناقشناه اليوم، لكن فيلم النافذة الخلفية ودوار وخدعة العنكبوت والازرق المخملى تنتمى جميعها الى تصورات غنية عن السينما والتحليل النفسى، وهو ما ناقشناه اليوم بالتفصيل.

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى



20‏/10‏/2013

النظرية الواقعية والسينما

لارس فون ترير

محاضرة:- تونى مكيبن

ترجمة:- ممدوح شلبى

عندما سُئل مخرج الواقعية الايطالية الجديدة روبرتو روسللينى عن الواقعية، فقال فى احد المرات ( انا مخرج ولست منظرا فنيا، ولا اعتقد ان بمقدورى ان اعطى توصيفا دقيقا للواقعية)، وربما لا يستطيع اى احد آخر، لكن روسللينى اضاف فى حوار منشور فى كتاب ( الواقعية والسينما) ان الواقعية ( استجابة للحاجة الحقيقية لرؤية الناس على طبيعتهم بنوع من الشفافية وبدون الحاجة الى اصطناع استثناءات: وهذا يعنى التسليم بان الاستثناء ياتى خلال استقصاء الواقع).

ويوافق على ذلك اندريه بازن، ذلك الناقد الذى جعل الواقعية معروفة للجميع، ففى مقال تنظيرى بعنوان ( الثورة فى لغة الفيلم ) يرى بازن بان الواقعية من الناحية الرسمية بلغت سن الرشد، ( عمق الميدان - ليس مجرد مكسب فى حرفة المصور السينمائى كما هو الحال مع المرشحات او اسلوب الاضاءة)، فالوضوح فى عمق الميدان – طبقا لرأى بازن- يسمح للمخرج ان يحافظ على خلفية ومقدمة اللقطة فى حالة من الوضوح المتساوى فالوضوح فى عمق الصورة مكسبا محوريا فى تاريخ لغة الفيلم).

وثمة رؤى نقدية مرجعية ظهرت فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية كانت تدعو الى الواقعية، فقد قال سيجفريد كروكر انه اذا نحن وافقنا على ان فيلم – نانوك الشمالى- وفيلم المدرعة بوتمكن وفيلم بيزة، هى اعمال فنية، فيجب علينا ان نُسلم ايضا بان هذه الافلام غارقة بعمق فى حياة الكاميرا).... ( فهذه افلام يمكن تعريفها بانها أفلام فنية)، هكذا قال سيجفريد كروكر فى كتاب ( نظرية الفيلم ).

( من الضرورى ان نضع فى الاعتبار انه حتى المخرج الاكثر ابداعا ليست لديه القدرة على الانفصال عن الطبيعة المُجردة بمثل ما يفعل الرسام او الشاعر: فابداعه يتجلى من خلال اظهار هذه الطبيعة نفسها ثم تجاوزها) فالابداع لا يلتقط العالم ببلادة: ولكن الابداع يأتى من خلال الملاحظة الدقيقة، ويُصر اندريه بازن بان ( الواقعية فى الفن يمكن تحقيقها بطريقة واحدة فقط وهى الاجتهاد الفنى ) فالقضية هى ان الفن يكشف العالم ولا يخفيه.

هذا هوالاجتهاد الفنى الذى لا علاقة له بالافلام الهوليودية البراقة، ولا علاقة له بالالتزام الايديولوجى لصناع الافلام السوفييت فى العشرينات، ولا يهم ان بازن استحضر ويليام واير وارسون ويلز كما استحضر كروكر ايزنشتين، فهما يريدان ان يستخرجا من الافلام ما يحتاجان اليه لتعزيز انحيازهما للواقعية: فبالنسبة بازن فهو يرى ان واير وويلز مهتمان بعمق الميدان فى افلام مثل – اجمل ايام حياتنا- و المواطن كين، وبالنسبة لكروكر فان الواقعية موجودة فى فيلم – المدرعة بوتمكن.

وثمة مُدافع آخر عن الواقعية فى سنوات ما بعد الحرب، انه سيزار زافاتينى، وهو اهم كاتب سيناريو فى حركة الواقعية الجديدة الايطالية، لقد رأى فى الواقعية اظهارا لانعدام العدالة الاجتماعية ( اذا كان هذا الحب للواقع ) هكذا كتب فى مقال عنوانه – بعض الافكار حول السينما – ( فهذا من اجل ملاحظة الطبيعة البشرية مباشرة، ولابد ان تطوع الواقعية نفسها لضرورات السينما على النحو الذى تبدو عليه من تنظيم الآن، ويجب ان تتنازل وان تعانى وان تنتظر، وهذا يعنى ان النظام الرأسمالى للسينما مازال له تأثير متعاظم يتجاوز الوظيفة الفعلية للسينما ).

هذا التثوير ليس فقط فى الشكل والمضمون ولكن ايضا فى المجتمع: وعلينا ان نستدعى فى اذهاننا الانحياز الجمالى الراديكالى للمجتمع الذى انتهجه زافاتينى فى كتابته لسيناريو فيلم – سارقو الدراجات-

ان المثير للاهتمام فى الواقعية وبعض الاراء التى تدعو لها، هو كيف انها تحقق اهدافا متعددة: فبالنسبة للكاثوليكى بازن فانها تشبه اللاهوت، وبالنسبة لروسللينى فالواقعية شكل جمالى يبلور الواقع، وبالنسبة لزافاتينى: فالواقعية تكشف عن الظلم الاجتماعى فى العالم.

ان النظرية الواقعية مثلها مثل النظرية الشكلية تُعتبر فضاءا رحبا يتسع لكل الرؤى الانسانية. وكما قال روسللينى ( اجد كل ما هو مُذهل وغير طبيعى ومؤثر فى الناس... ) وهذا بدون شك ليس الفن من اجل الفن – تلك الاشكالية التى طالما شغلت عقل الشكليين، وعلى ايه حال ففى اللحظات الاولى من فيلم - العام صفر فى ألمانيا - يوفر روسللينى نوعا من الحقيقة ( وهو ما يسميه بازن الصورة - الحقيقة ) وهى حقيقة مُتضمنة داخل اهتمامات اوسع من الواقع المادى الذى يصوره روسللينى بدقة.

ألم تنادى النظرية الشكلية بمثل هذه النظرة التى تتجاوز الواقع؟ هذه النظرة موجودة فى الموسيقى الافتتاحية للفيلم، وفى لقطات استعراضية تمسح المدينة وتتماشى مع اللحن الاساسى للفيلم. ولكن ماذا تخدم هذه الافتتاحية المتكلفة: وهل يمكن ان نتخلى عن النظرة الشكلية من اجل الواقعية التى تُدقق فى التفاصيل؟ فروسللينى فى الفيلم يتابع صبى ألمانى يقوم بنبش القبور ويسرق بعض الفحم ويشق طريقه الى منزله عبر الشوارع الممتلئة بالانقاض، التفاصيل هنا مهمة بالنسبة لروسللينى الذى يريد ان يستكشف رعونة الصبى فى مقابل الواقع الفظيع: كيف مزج روسللينى الامرين ليخلق فعلا فظيعا، فهذا الصبى يتأثر بافكار مدرس نازى لا يؤمن بالضعف، فينتهى الامر بالصبى الى قتل والده، ولكن هل ضميره يتركه بعد هذا الفعل المروع؟ وهل وجد روسللينى ( ما هو مذهل وغير طبيعى ومؤثر .... ) فى فعل الصبى؟

وفى مقال عن الفيلم منشور فى مجلة (Esprit) يؤمن بازن بان روسللينى اخرج فيلمه بهذه الطريقة لكى يتجنب تقديم ما تحرص معظم الافلام على تقديمه ( انه من السهل ومن الطبيعى ان نلج عبر السيناريو والتمثيل الى التجاويف العميقة لضمير الصبى )، وبدلا من ذلك فان الفيلم يلتقط ببراعة مشاعر الصبى من خلال مشاهد من البيئة، ( جماليات روسللينى انتصرت فى الخمسة عشر دقيقة الاخيرة من الفيلم اثناء طلب الصبى لعلامة تدل على التأكيد والموافقة...) وكما يُضيف بازن ( يسير الصبى ويسير باحثا هنا وهناك وسط الحطام، لكن الناس واحدا وراء الآخر يتخلون عنه ).

النقطة التى ناقشها بازن هى ان العديد من المخرجين سوف يُصرون على الاقتضاب فى تعبيرهم عن ازمة ضمير الصبى- اما الواقعية فانها تسمح بالتطويل: فالبطء يسمح لعملية الادراك الذاتى ان يتحقق، وهذه هى الطريقة التى انجز بها روسللينى (ما هو مذهل وغير طبيعى ومؤثر ....) بصرف النظر عن افتتاحية الفيلم التى بدت مُتكلفة جدا.

 اثرت الواقعية الجديدة على السينما العالمية فى الخمسينات، ففيلم ( المنسية ) لبانويل عرض اطفال الشوارع فى المكسيك، وثلاثية (آبو) لستياجيت راى تابعت الحياه الشبابية لبطلها الفقير، كما ركز فيلم ( باب الحديد ) ليوسف شاهين على هذا المحيط الذى يُعنون به فيلمه، فهذه الافلام مالت الى الواقعية: وكان من الممكن اخراج هذه الافلام بدون فريق سينمائى مُكلف وبدون ديكورات منمقة: فالشارع اكثر اقناعا من الناحية الفنية، وكانت عناصرالنظرية جيدة فى تقديم الواقع الذى تكرست له.

كان العديد من النقاد وعلى مدى سنوات يُشيرون الى اراء بازن بوصفها ضحالة فيما يتعلق بلغة الفيلم، لكن الافكار التى اسسها بازن مع آخرين كان لها تأثير هائل، وهذا الامر يبدو صحيحا ايضا بالنسبة للاتجاهات المعاصرة فى الواقعية: فحركة الدوجما تبدو متأثرة جدا بالنظرية الواقعية، وهى الحركة التى اسسها كل من لارس فون ترير وتوماس فينتربرج فى منتصف التسعينات فيما اسماه ( بيان الدوجما 1995 ) ثم انضم اليهما اثنان من مخرجى السينما النرويجية، هما سورين كراجاكوبسون و كريستيان ليفرينج.

 هل كانت الدوجما حركة سينمائية هامة ام كانت مجرد مزحة؟ يقول فينتربرج ( كتابة قواعد الدوجما استغرق خمس وعشرين دقيقة، وكانت هذه القواعد مجرد نكتة كبيرة) لكننا ايضا لا ينبغى ان نقلل من خطورة حركة الدوجما وما وراءها، فكل من لارس فون ترير وفينتربرج وضعا عشرة قواعد من اجل العودة الى السينما الواقعية حتى تتحدى السينما الهوليودية التافهة.

 واليكم بعض من هذه القواعد ( التصوير لابد ان يكون فى الاماكن الطبيعية ) ( الصوت لابد الا ينفصل عن الصورة ) ( الكاميرا لابد ان تكون محمولة ) ( الفيلم لابد ان يكون بالالوان ) ( المخرج لابد الا يكون نقابيا ) والفيلم ايضا يجب ان يكون بمقاس 35 مللى، لكنه غالبا كان يُصور بنظام الفيديو ثم يُحول الى نظام السلولويد، وكثير من هذه القواعد تم اهمالها فى الافلام الاولى التى وُزعت من خلال حركة الدوجما فى نهاية التسعينات مثل افلام – البلهاء - الوليمة - ميفان – وبرغم ذلك لم يتوقف التأثيرالهائل لهذه الحركة.

كل المخرجين كانوا يفكرون فى العودة الى البساطة حتى ان ستيفن سبيلبرج فكر فى اخراج فيلم دوجما، وكانت مجرد مصادفة ان مخرجين عديدين كانوا يبحثون عن البساطة وعن جماليات اكثر الحاحا، ففى فرنسا ظهر فيلم ( الحياة المخملية للملائكة ) فى عام 1998، وهو نفس العام الذى وُزع فيه فيلمى – البلهاء والوليمة- لحركة الدوجما، وفى العام التالى عُرض فيلم روزيتا فى مهرجان كان، من اخراج الاخوين داردن وهو يحكى عن شابة تبحث عن عمل وتم تصويره بكاميرا محمولة وحصل على السعفة الذهبية، وفى نفس العام حقق فيلم ( مشروع ساحرة بلير) نجاحا كبيرا، وهو فيلم رعب منخفض التكاليف تم تصويره بكاميرتين فيديو، وكان جمهور السينما من مختلف الاتجاهات يريد، على ما يبدو، ان يُضحى بالسينما باهظة التكاليف لصالح الاتجاه الى السينما منخفضة التكاليف، كذلك ظهر مخرجون يرحبون باخراج الافلام بنظام الفيديو بديلا عن نظام السيلولويد، وكان هذا حقيقيا ليس فقط بالنسبة للارس فون ترير ولكن ايضا بالنسبة لعديد من المخرجين الذين اعتادوا لسنوات على عمل الفيلم السينمائى.

آنيس فاردا

اخرجت آنيس فاردا فيلم ( جامعوا المحاصيل وانا ) وهو فيلم تسجيلى استخدمت فيه فاردا تكنولوجيا الفيديو فى حواراتها مع الناس: وكانت لقاءاتها حميمية وبدون تكلف، وكذلك فيلم ( الفن والشعر وفيزياء الجسيمات ) للمخرج العظيم كن مكمولن، الذى يستكشف فيه موضوعات الفيلم بدون الحاجة – كما يقول المخرج – الى القلق على التمويل والقانونية والعناصر الفنية التى تهتم بها معظم الافلام السينمائية - وقد استعان بالكاتب والناقد جون برجر للتحدث مع عالمين من علماء فيزياء الجسيمات، وكان يعرف ان الامر لن يكون مناسبا بالطرق الاخرى ( كان الامر سيكون مستحيلا اذا صورنا جون بيرجر فى بيئة مفتعلة او سابقة النجهيز، فهو كان مُستعدا للحضور بدون استعداد وبدون افكار مسبقة ).

هذه الموضوعات اخذتنا بعيدا جدا عن نظريات الواقعية، لكن ما نناقشه اليوم بشكل اساسى هو الرأى الكلاسيكى عن الواقعية التى وضع نظريتها بازن مع اخرين، وكذلك المستجدات فى لغة الفيلم التى لم يستطع بازن ان يعايشها لانه مات فى عام  1958.
وبالنسبة لبازن – فى مقالاته عن تطور لغة الفيلم – فان الفيلم كان مازال كلمة منطوقة، ومُؤخرا ظهرت كتابات د.ن.رودويك فى كتاب ( الحياة الافتراضية للفيلم ) وريتشارد كومبس وريموند دورجنات فى مقالة عن سينما الدوجما فى مجلة ( فيلم كومنت ) وكريس بتيت فى نفس المجلة، والكتاب الرائع عن سينما الديجيتال الجديدة لهولى ويليس، كل هؤلاء الكتاب كانوا مهتمين بنفس القضايا التى طرحها بازن ولكن بطرق جديدة.

وعلى سبيل المثال، اذا كان بازن يعتقد ان عمق الميدان كان امرا حيويا، فان الصورة الديجيتال تفتقد عادة الى الدقة فى وضوح الخلفية وبناءا عليه بحثوا عن الواقعية فى امور اخرى، وكما يعتقد كل من كومبس ودورجنات فثمة تناقض فى هذه النظرية الجمالية، فهى تبدو انها تركز على التفاصيل، لكنها تفتقد الى الكيفية التى تسمح لها للقيام بهذا، كما ان ادبياتها اصبحت قديمة.

(وطبقا لرأى سينمائى ينتمى للدوجما مثل دود مانتل، فان خشونة التقنية هى غالبا ما نتطلع اليه) ومع رأى كهذا اصبحت الواقعية مسيطرة على وسائل الانتاج كما ان المخرج لا يُخفى محدودية الميزانية، ان استجابتنا الى الصورة وثيق الصلة ليس فقط بما يظهر امام الكاميرا ولكن ايضا بالكيفية التى يتم بها تقديم المعنى.

عندما اصر رودويك على ان تقنية الديجيتال لا تُمكن من الاستمرارية، فجزء من هذا يكمن فى الافتقاد الى عمق الميدان، فاذا ابقيت على لقطة لعدة دقائق وكان لديك عدة خطوط متعددة من المعلومات، فهذا يجعل اللقطة المشهد اكثر قدرة على نقل المعلومات اذا ما كان عمق ميدان غير واضح وهو كل ما لديك، وربما وجدت تقنية الديجيتال حلا غير مسبوق لهذه المشكلة عبر نظام الهاى ديفنيشن، لكن الواقعية الحالية تبدو انها تقدم شيئا مختلفا تماما عما نادى به بازن، تلك هى الفروق التى من المفيد ان نناقشها.

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى


17‏/10‏/2013

اشكال الفيلم التسجيلى

فيلم نانوك الشمالى

محاضرة:- تونى مكيبن

ترجمة:- ممدوح شلبى

العديد من المخرجين ليسوا سعداء بمصطلح تسجيلى، وعندما طُلب من المخرج الفرنسى التسجيلى العظيم كريس ماركر ان يقول رأيه عن الشكل فى كتاب ( تخييل الواقع) رد قائلا ( انا لا اشعر اننى انتمى الى عالم الفيلم التسجيلى) وفى حوار مع مخرج آخر هو بافل بوليكوفسكى، قال انه اذا كانت معظم الافلام التسجيلية تدعى انها (تسجل الواقع فقط ) فأين يمكن لافلامه ان تذهب؟ واصر على انه ( لا اضع حدودا فى المعالجة الفنية لموضوعاتى). 

المهم هنا الا نفكر فى الفيلم التسجيلى باعتباره مجموعة من القواعد التى تحدد شكل الفيلم، لكن باعتباره سلسلة من الامكانيات المقبولة عندما نكون فى عالم الحقيقة وليس فى عالم الخيال، فالبحث عن الحقيقة يمكن ان يتخذ اشكالا شتى.

ولكى نغطى نقاشنا فان ما نريد ان نبحثه هو تنوع اشكال الفيلم التسجيلى، فيمكن ان نتناول الفيلم التسجيلى من وجهة نظر الاخبارية، او التحقيقية او الروائية او من وجهة النظر الشخصية.

 هذه المصطلحات فضفاضة، والفيلم التسجيلى قد يستخدم الاشكال الاربعة او بعضها او يستخدم شكلا واحدا، وفى مراحل مختلفة من تاريخ السينما كان احد المصطلحات اكثر انتشارا من البقية، فعلى سبيل المثال، فى الستينات اعتمدت حركتين سينمائيتين على صيغة التحقيق، وهما حركة سينما الحقيقة فى كندا وفرنسا، وحركة السينما المباشرة فى الولايات المتحدة الامريكية،

المؤسسان الرئيسيان فى كندا وفرنسا كانا ميشيل برو وجان روش، وفى الولايات المتحدة الامريكية كان المؤسسون الرئيسيون هم ريتشارد ليوكوك واخوان مايسل و دى أ بنيباكر وفريدريك وايسمان، وكانت الفكرة التى انبثقت منها حركة السينما المباشرة الامريكية ان السينما يجب الا تكون مُفتعلة قدر الامكان، واذا كانت كثير من افلام حركة سينما الحقيقة الفرنسية والكندية تبدو مُفتعلة، فعلينا ان نقر بارتباط ذلك بالموضوع.

ويصر مخرج السينما المباشرة وايسمان فى فيلميه ( المدرسة الثانوية) و ( الرعاية الاجتماعية والاسكان الشعبى) على تجنب توجيه اسئلة للموضعات، ولا يستخدم الموسيقى ولا يستخدم التعليق المُصاحب، وهو يحرص بالتأكيد على عدم تقديم نفسه على الشاشة.

اما مخرج سينما الحقيقة جان روش، على العكس من ذلك، يسمح باظهار وجهة نظره فى الموضوعات، ففى فيلم ( وقائع فصل صيف) يجعل المشاهدين واعين بحضوره وحضور المخرج الثانى للفيلم ادجار مورين، فعندما تظهر سيدة فى حالة انهيار امام الكاميرا، فان المخرجين يقران بان يأس هذه المرأة استحوز عليهما.

وقبل ظهور هذين الحركتين فان الافلام التسجيلية كانت موجودة منذ مدة طويلة، ففيلم (نانوك الشمالى) لروبرت فلاهيرتى ظهر فى العشرينات، وفيلم (رجل من آران) ظهر فى الثلاثينيات، وكلا الفيلمين كانا واقعيان جدا.

وكما يقول محررا كتاب (تخييل الواقع) - مارك كوسينز وكيفين مكدونالد - فيما له صلة بفيلم نانوك الشمالى لفلاهيرتى ( تصوير الفيلم كان بعناصر من الواقع، اما مونتاج الفيلم فكان مثل الفيلم الروائى) وكانت الافلام قبل ذلك ترى ان ( يجب ان يبتعد الفيلم التسجيلى عن الواقع وان يتعامل مع العناصر الدرامية وحرفية الفيلم الروائى) حتى يصبح الفيلم ناجحا.

اراد مخرجو السينما فى الستينات ان يكون الفيلم التسجيلى بنفس القدر من الاهمية ولكن من خلال فهم منهجى للواقع الذى يصنعون عنه الفيلم، سواء بتجريب نموذج السينما المباشرة، او بجعل المشاهدين واعين بان ثمة شخص وراء الكاميرا له علاقة بالموضوع كما فى حركة سينما الحقيقة.

وعلى اية حال، ينبغى علينا الا نرى تلك العقائدية كنوع من التقييد: فمن المفارقة ان اصرار منظريهم على ان صناعة الفيلم التسجيلى يجب ان تتحرر من القواعد، جعل بعض المخرجين يضعون بانفسهم قواعدهم الخاصة بحرية، وعندما نشاهد الافلام التسجيلية ابتداءا من السبعينات فان الاختلافات تبدو كبيرة.

هناك افلام المغامرات الشخصية لفيرنر هيرتزوج، حيث يضع المخرج نفسه فى مواقف خطيرة مثل فيلم (البركان) حيث ذهب مع المصور الى جزيرة صغيرة كان سكانها يرحلون عنها، فأى شخص آخر كان سيهرب من البركان الذى اوشك ان يثور: اما هيرتزوج فقد اراد ان يكون شاهدا.

وفيلم (الشمس) لكريس ماركر فكان عبارة عن مقالة فى ادب الرحلات استخدم فيها ماركر صوت المُعلق الذى يمثل الضمير ليوائم بين الثقافة اليابانية والثقافة الافريقية، وافلام نك برومفيلد مثل (كرت وكوتنى) كانت منفرة جدا، فهى مليئة بحضوره الشخصى، وكان هذا نتيجة لان المنتجين اصروا على ظهوره امام الكاميرا ضمن شروط العقد.

والآن دعونا نعود الى ما نوهنا عنه بخصوص الاربعة انواع للفيلم التسجيلى وهم، التحقيقى والروائى والاخبارى والشخصى.

 فاذا كانت افلام وايسمان واخوان مايسل وآخرين هى افلام تحقيقية، فماذا عن الافلام الاخبارية؟

افلام تسجيلية كثيرة مثل سلسلة (العالم فى حرب) وافلام آدم كارتس التسجيلية التى تشمل ( قرن الذات) و ( قوة الكوابيس) و(الحقيقة المزعجة) و ( الذهب الاسود) وغيرها، وكل تلك الافلام (الدى فى دى) عن اخراج الافلام حيث يتلاقى الاخبارى مع الدعائى، فهى تستقطبنا اثناء العملية الاخبارية، وتمنحنا المعلومة المجردة كما لو كانت موسوعة علمية.

من الواضح ان درجة من الموضوعية مفتوحة لنقاشنا، لكن دعونا نقارن بين فيلم ( قوة الكوابيس) لكورتس وبين فيلم (فهرنهايت11/9) لمور، فبينما كان كورتس يلهب عقل المشاهدين بالحقائق، فان خفة ظل مور تجعل فيلمه اكثر اريحية، فشخصية مور تفرض نفسها فى الصيغة الاخبارية.

فعلى سبيل المثال عندما قطع مور الى فقرات من فيلم ( حملة التفتيش) بعد ان تسائل لماذا سُمح لعائلة بن لادن بمغادرة البلاد، فاى شخص من مشاهدى الحلقات التليفزيونية يعرف ان الشيئ الاول التى يحدث بعد ارتكاب جريمة هو اجراء مقابلة مع اقرب الجيران، ان الصيغة الاخبارية تفسح الطريق للشخصى.

اذا كانت افلام مور تستشكل عند الكثيرين، فهذا يكمن فى الطريقة التى يتبعها باستمرار فى تحويل الفيلم الى شيئ شخصى، ومع ذلك ففيلم المهم والقوى ( سيكو) يسلك الطريق السهل حيث يتنقل مور بين لندن وباريس وهافانا مُشيدا بانظمة الرعاية الصحية فى هذه البلدان والتى تتناقض مع انظمة الرعاية الصحية فى الولايات المتحدة الامريكية.

وعندما يمزج مور بين الشخصى والاخبارى السياسى فانه يجعل المشاهدين منتبهين الى فنياته اكثر مما يقدمه من معلومات.

وحتى الحزب الديموقراطى نفسه، والذى أمل مور ان يفوز فى الانتخابات على خلفية فيلمه فهرنهايت 11/9 ، فانهم انصرفوا عن فيلمه.
وفى نفس السياق، هل فيلمى ( المحرقة ) و ( جامعو المحاصيل وانا) ينتميان الى الافلام الشخصية؟ فبالنسبة للبعض يُعد سبب ضعف فيلم المحرقة الذى يدوم اكثر من تسع ساعات والذى يوثق للهولوكست، ان المخرج كلود لانزمان بالغ كثيرا فى الاسئلة، لكن من المفهوم ان مغالاة المخرج فى الحوارات كان محاولة منه للاحاطة بالملابسات الكاملة لمعسكرات الموت.

الشخصى هنا لا يكمن فقط فى الحضور القميئ للمخرج لانزمان، ولكن ايضا فى الذكريات المحفورة فى الشخصيات التى حاورها فى الفيلم، فاحدهم وهو ممثل للحكومة البولندية اثناء الحرب، نراه ينهار ويبكى مُصرا على انه لا يستطيع ان يعود الى الذكريات التى انطمرت، ويواصل لازمان اسئلته مع متحاور آخر شديد الحساسية عله يتذكر ما حدث، وعلى هذا المنوال فان الشيئ الشخصى للمخرج لازمان ينتهى غالبا باستخراج العنصر الشخصى للشخصيات التى يحاورها.

ونفس الحال مع المخرجة الفرنسية أنيس فاردا التى تقدم منظورا شخصيا فى فيلمها ( جامعو المحاصيل وانا) لكن فاردا انسانة ضعيقة، تكشف عن علامات تقدمها فى السن من خلال لقطات مقربة ليديها وشعرها الهش عندما تندهش من صغر حجم المعدات.

كما انها تمشى على اطراف اصابعها وسط الموضوعات التى تصورها، وتُظهر اعجابها ومودتها وحنانها تجاه الناس الذين تحاورهم، ومن بينهم اناس بلا مأوى وعمال باليومية ومحامين وعاطلين، جميعهم مرتبطون بمهنة الجمع سواء من المزارع او من صناديق القمامة فى المدينة، ان فاردا تستحضر الشخصى عبر تقديمها لتجربتها الخاصة الحميمية مع موضوع الفيلم.

ان الافلام الشخصية ربما تكون انجح اشكال الفيلم التسجيلى المعاصرة، وخاصة بسبب ظهور تقنية الفيديو.

واذا كان مخرجو السينما المباشرة فى الستينات قد استفدوا من التقنية الجديدة التى يصفها دى أ بنيباكر بقوله ( التسجيل على اشرطة فيديو، ومعدات تصوير اسهل وعدسات متطورة تسمح بتصوير الضوء الطبيعى وعدسات زووم ) تسمح بألتقاط ادق التفاصيل: وغالبا فان تقنية الفيديو قادت المخرج الى ان يفعل العكس. استخدم هيتزوج وفاردا وماركر تقنية الفيديو كوسيط غنى للتعبير الشخصى.

ولكن ماذا عن الروائى؟ ذكرت فى بداية المحاضرة انه حتى فى السنين الاولى للسينما التسجيلية كانت قواعد الفيلم الروائى مستخدمة، ولكن فى العقدين الاخيرين فالفيلم التسجيلى اصبح اكثر اهمية واكثر رواجا كوسيط اخبارى اكثر مما كان عليه فى الستينات.

سواء كان من خلال همهمة على وفورمان فى الغابة فى فيلم ( عندما كنا ملوك) او البحث عن اثنين من لاعبى كرة السلة الموهوبين فى فيلم (احلام صعبة) او اختبار الصعوبات اثناء اولمبياد ميونخ عام 1972 فى فيلم (يوم من ايام سبتمبر) او البقاء البطولى على قيد الحياة لمتسلق جبال فى فيلم ( لمس الفراغ) او تاريخ نيويورك فى فيلم ( مرة فى العمر) فان الافلام تُمتع المشاهدين بادخالهم فى دراما القصة.

واذا كان الغرض فى فيلم ( الحقيقة المزعجة) يكمن فى تداول الاخبار، وكان فيلم جامعو الحاصيل وانا) لفاردا يكشف عن علاقتها الشخصية بجامعى المحاصيل والناس الذين اتصلت بهم، فان الروائية هى اثارة قصصية وهذا هو المطلوب.

ويرى الخرج آلان باركر ان فيلم ( يوم من ايام سبتمبر) به مساحة من الاثارة الجيدة، لكن مثالا استثنائيا للسينما التسجيلية الروائية يمكن ان نجده فى فيلم ( الخط الازرق الرفيع) وفيه نرى ايرول موريس يتحرى عن سوء تطبيق العدالة بعد الحكم بالسجن على راندال آدامز بسسب جريمة كان موريس واثقا بانه لم يرتكبها.

من خلال حوارات مع عدد من الناس لهم علاقة بالموضوع، والتى تُثبت بشكل قاطع ان آدامز لا يمكن ان يكون قد ارتكب الجريمة، فموريس لا يقدم فقط شكلا روائيا لكنه يقدم ايضا عملا قضائيا: فالحكم القضائى على آدامز تم الغاءه استنادا الى الدليل الذى اظهره الفيلم.

الشكل الروائى لهذا الفيلم لم يحقق فقط تطلعات الفيلم التسجيلى الروائى، ولكنه اثبت ايضا انه بمثابة وثيقة قانونية.

كم عدد الافلام التسجيلية الروائية التى تخدم الحقيقة وفى نفس الوقت لا تخلو من مُتعة؟ فيلم ( يوم من ايام سبتمبر) على سبيل المثال، يُعد واحدا من الافلام التسجيلية الرائعة وهو يمنح ايضا البصيرة بسهولة وبدون طنطنة.

انه يعطى الانطباع بان الشرطة الألمانية ليست لها كفائة بدلا من البحث فى التعقيدات التى احاطت بالموقف، لكن هذا ربما أبطأ الفيلم التسجيلى واوقف تدفق السرد فى الفيلم.

وثمة سؤال يستحق ان نسأله عندما نفكر فى الفيلم التسجيلى الروائى: هل يجب ان يبحث عن الحقيقة ام يهتم بالايقاع المتسارع المثير؟

هذا مجرد سؤال من اسئلة كثيرة تتعلق بالفيلم التسجيلى وسوف نظل نتسائل عنها طوال الساعتين القادمتين.

محاضرة:- تونى مكيبن

ترجمة:- ممدوح شلبى

25‏/09‏/2013

النظرية السيميائية والسينما

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
 
ما نريد ان نستكشفه فى هذا الاسبوع ليس فقط تعقيدات السيميائية التى تتأسس بشكل اساسى على علم الاشارات، ولكن ايضا ان نستوضح بعضا من تطبيقاتها، وعلى الرغم من ان بيير باولو بازولينى كتب مقالة ساحرة فى اواسط الستينات عنوانها "سينما الشعر" مزج فيها  الافكار السيميائية مع رؤية اندريه بازن المنحازة للواقع، لكن كريستيان ميتز كان اول من قام بالتنظير السيميائى وكانت خلفيته الاكاديمية هى علم اللغويات.
ارادت السيميائية ان تكون عكس الرأى الذى ينحاز الى الصورة الواقعية باعتبارها السائدة، وبينما كان اندريه بازن يؤمن بان السينما اقرب الى الحقيقة، فان ميتز وبيتر وولن واساتذة تحليل سينمائى آخرين مثل رولاند بارث وامبرتو اكو اوضحوا انه اذا لم تكن القضية قضية لغة فانها على الاقل مثل اللغة.
ولم يكن ميتز مهتما بكيف يكون الفيلم قريبا او بعيدا عن الواقع، لكنه اراد ان يفهم شفرات الفيلم، وكما قال جيمس موناكو فى كتابه ( كيف تقرأ فيلما) ( تحاول السيميائية ان تصف القوانين والانساق التى تحكم الظاهرة الثقافية، وهى تفعل ذلك باستخدام النموذج اللغوى، وبناءا عليه فالسيميائية فى السينما تنظر الى الفيلم بوصفه لغة).
ودعونا نستشهد بمقالة قصيرة لبارث فى كتاب ( الميثولوجيا عند يوليوس قيصر ) وهذه المقالة مكتوبة قبل وقت طويل من ظهور السيميائية كنظرية سينمائية،  لكنها مع ذلك تبدو وثيقة الصلة بالسيميائية، فبارث لم يكن مهتما بالحقيقة فى السينما او بمصداقية شكل سينمائى او آخر بقدر اهتمامه بما يقوله نسق الاشارة للفيلم.
ومن بين ما كتبه بارث ( كل الوجوه تتفصد عرقا بصفة دائمة.... ولقطات الكلوس اب التى تكشف هذا العرق  تُلمح الى ان وراء هذا العرق شيئا ما، فكل الناس تعرق لان كل الناس يتجادلون واحيانا يتجادلون مع انفسهم) والشخص الوحيد الذى لا يتفصد عرقا هو يوليوس قيصر ( .... اداة الجريمة تظل جافة لانها لا تعرف كما انها لا تفكر .... )

وامبرتو اكو يوضح هذا الامر بتشبيه ممتع للصراع بين الغرب الامريكى والهنود الحمر باعتبارهما اعداء، فامبرتو اكو يكشف ثمانية وعشرين كلاشيها من بينها ( ظهور الهنود الحمر فى الفيلم فى مجموعة صغيرة فوق التلال المحاصرة، والقيام باعمال حراسة فى امكان منعزلة تماما لا تحتاج مثل هذه الحراسة ) و ( الهجوم وتطويق العربات، ولكن تظل منطقة ما فى هذا التطويق بحيث يمكن ان يهرب منها الواحد وراء الآخر ) فالرموز والكلاشيهات دائما مترابطان.

ويشير كل من بارث واكو الى ان المخرجين يستخدمون الآلة الكاتبة فى كتابة السيناريوهات، وشرح تعقيدات الشخصية ودوافعها او محاولات الهنود فى التعريف بانفسهم، كل هذه الامور ليست ذات صلة بنظام الاشارات التى تجعل المشاهدين يفهمون الامور بسهولة.
وهنا توجد ثلاثة مجموعات من الاصطلاحات التى ربما تكون مفيدة فى التوضيح قبل ان ننتقل الى باقى الموضوع، اولا اصطلاحان ( الدال والمدلول ) وثانيا اصطلاحان ( المعنى الظاهر والمعنى الضمنى ) وثالثا اصطلاحان ( السينتاجماتك والباراديجمتك  )
الاصطلاحان الاولان يميزان بين الدال وبين ما يدل عليه، ويسمى هذا فى اللغة بالتصنيف، فهناك فرق كبير بين كلمة وردة وبين الوردة الحقيقية.
ان هذا من الممكن ان يُسمى شيئا آخر واذا نحن وافقنا جميعا على ان الوردة هى التيوليب فهذا جيد لانه لا توجد علاقة جوهرية بين الدال وما يدل عليه، وفى اللغة التى تعتمد على الكتابة لا يهم اذا كانت الكلمة تحمل معنا آخر فالمهم هو المعنى المقصود الذى تستحضره الكلمة.
لكن السيميائيين يشيرون الى ان الامر مختلف فى السينما، فصورة الورة والوردة الحقيقية تربطهما رابطة واضحة، فالفرق بين الاشارة وما تشير اليه قليل جدا، وبينما يتكلم سوسير عن الدال كصورة صوتية والمدلول كتصور وان الاثنين يصنعان الاشارة، فالسينما اقرب ما تكون الى رأى اندريه بازن الذى يتحدث عن ( حقيقة الصورة) بينما يميل بازولينى الى السيميائية فيما اطلق عليه ( اللغة المكتوبة للواقع ).
والاصطلاحان الثانيان هما (المعنى الظاهر والمعنى الضمنى) وهما يوضحان الفرق الحقيقى بين ماهية الشئ وبين ما يُلمح اليه.
فالوردة زهرة تنمو فى الطبيعة لكنها ايضا تحمل العديد من التلميحات، فعندما نرى شخصا يسير فى الطريق وفى يده وردة فاننا لا نفكر فى الوردة باعتبارها زهرة تنمو فى الطبيعة ولكننا نفكر فى ان هذا الشخص سوف يذهب ليقابل حبيبته، ودعونا نعود بفكرنا الى مقولة بارث.
لو انه وجد كل تلك الوجوه التى تتفصد عرقا شيئا سخيفا، فهذا يكمن فى ان المعنى الضمنى يطغى على المعنى الظاهر، هل كل الرومان يتعرقون بغزارة فى درجات حرارة اعتادوا عليها جيدا: ام انها الطريقة البلهاء للسينما لاعطاء معنى ضمنى يعبر عن ضمائرهم الخربة، كما يقول بارث؟
المجموعة الثالثة من الاصطلاحات هى الباراديجمتك والسينتاجماتك، وهما مفيدان فى فهم طبيعة شكل الفيلم، فعندما نشاهد لقطة، سواء بوعى او بدون وعى، فاننا نكون على علم بان اللقطة من الممكن ان تكون مختلفة جدا عما شاهدناه.
اذا كانت اللقطة مأخوذة من زاوية منخفضة للشرير وهو يطارد بطلة الفيلم خلال الشوارع، فاننا نكون على علم بتوفر خيارات اخرى متاحة للمخرج، فهو يستطيع استخدام لقطة الكلوس اب او لقطة مأخوذة من زاوية عالية او لقطة وجهة النظر لبطلة الفيلم عندما تلتفت لتواجهه، هذا مختلف عن السينتاجمتك حيث تكمن اهميته فى العلاقة بين اللقطة المختارة وبين كل اللقطات المختارة الاخرى.
 هذا هو الفرق بين الميزانسين وبين المونتاج، فالمخرج يجب عليه ان يختار كيف يصور مشهدا معينا – الباراديجمتك – لكنه يجب عليه ايضا ان يراعى ان يتوافق هذا المشهد مع التيمة الفنية لكل الفيلم – السينتاجماتك – وكما يقول جيمس موناكو فى كتاب – كيف تقرأ فيلما – ( اى الخيارات نعمل: السينتاجمتك .... كيف تُمنتج الفيلم: الباراديجمتك .......كيف نُخرج الفيلم.
الاصطلاحان باراديجمتك وسينتاجماتك مفيدان جدا فى فهم الاطار، والاصطلاحان – المعنى الضمنى والمعنى الظاهر- مفيدان لفهم المحتوى، عندما تحدث بارث عن يوليوس قيصر فانه اهتم بالحديث عن المحتوى، ولكى نفسر محتوى فيلم فانه من المفيد احيانا ان نتفكر فى الكيفية التى تقدم فيها السينما المعانى الضمنية بصرف النظر عن ان السينما لديها القدرة على تقديم المعنى الظاهر بصورة جيدة فيما له صلة بالواقعية.
السيميائيون يستعيرون الاصطلاحات من الفلاسفة – مثل س اس بيرس – ومن اللغويين مثل سوسير، ومن نظرية الادب استعاروا الكثير لتوضيح ان ادوات الفيلم مثلها مثل اللغة، ومن بين هذه الاصطلاحات الادبية، السياق والعلامة والكنية والكناية والرمز، هذه المصطلحات ليس من السهل التمييز بينها دائما، كما ان دلالة بعض من هذه المصطلحات متداخل، لكن تطبيقات هذه المصطلاحات اكثر اهمية من تعريفها.
ولنأخذ مثال الكناية وكيف يوظفها المخرجون فى علاقة مع الالوان، الكناية تعنى كيفية تعميم الوصف على الكل، ويُفرق عالم اللغويات رومان جاكوبسون الكناية عن الاستعارة بالقول ان الاستعارة تتطلب استبدال اما الكناية فهى تتطلب سياقا.
وبشكل عام فان السينما اطار يتعامل مع الاستعارة، وتفسح المجال لنفسها لتتعامل مع الكناية، وغالبا فان المخرجين يستخدمون تيمة اللون لاعطاء معنى اوضح لمشاعر الشخصيات ضمن امكانيات السرد، وعلى سبيل المثال فان فيلم - بعيدا عن الجنة – يخلق كناية واضحة من خلال اللون كما فى شخصية جوليان مور وزوجها اللذان يواجهان ازمات متعددة.
اذا قدرنا على التعرف على تشاؤمية ديفيد ثيوليس اولم نستطع ان نهرب تماما منها فى ( العارى ) فهل هذا لان المخرج مايك لى اصر على استخدام نظام ألوان باهتة حيث اللون الاحمر على سبيل المثال تم حذفه من الباليتة؟ هذا تحديد للكناية، حيث يمثل الميزانسين ملمحا للشخصية دون فصل ذلك عن ضرورات الواقع.
السياق من الممكن ان يكون طريقة مفيدة جدا للمخرجين الذين يريدون ان يعملوا بدقة كبيرة، او يعملون بميزانية منخفضة ويتجنبوا التكلفة العالية للتصوير ليحققوا اهدافهم، ونستطيع ان نلاحظ مثالا على السياق فى بداية فيلم -الالوان الثلاثة- فالازرق يعبر عن اصطدام سيارة ويتم تقديمه بصورة اساسية من خلال صوت من خارج الكادر ومن خلال رد فعل شاب على الحدث.
وهذا مُستخدم ايضا فى افلام بريسون مثل فيلم – النقود – حيث يركز بريسون اللقطة على اليد التى تدفع الرجل، ونستمع الى صوت من خارج الكادر لرجل يصطدم بمائدة، فى مثال الكناية هناك اثراء لفهمنا للفيلم اذا اردنا ان نعى استخدام اللون فى الفيلم، لكن امثلتنا عن السياق تتركز على فهمنا لاحداث الفيلم، فى فيلم العارى وفيلم بعيدا عن الجنة،  فان الالوان تُضيف الى التيمة التى يتكون منها الفيلم.
والكنية غالبا تُستخدم بالتبادل مع الكناية، ولكن يمكن توظيفها بشكل مفيد فيما يتعلق بموضوع او مادة توازيها او فى السمات الشخصية، انها الجزء الذى يستطيع ان يِشير الى الكل وغالبا فانها تحدد الشخصية دون اللجوء الى التفاصيل.
وفى نوعية فيلم الجريمة الابيض واسود المعروف باسم – الفيلم نوار – فان هذه النوعية تستهويها الكنية: ودعونا نتذكر سوار القدم لباربارا ستانويك الذى ترتديه فى فيلم – تعويض مُضاعف – انه يلمح الى معانى جنسية، او نتذكر السجائر التى تُدخنها ريتا هيوارث واورسون ويلز فهذا يعبر عن الاحباط والملل من جانب ريتا هيوارث فى فيلم – سيدة من شنغهاى – لاورسن ويلز، وفى فيلم – اضراب – لسيرجى ايزنشتين فان للسيجار الفاخر ملمحا سيميائيا يستمدها من الواقع، لكنه من الممكن ايضا ان يصبح اختزالا مفيدا للمخرجين الذين يسعون لتوضيح احساس الرضا عن النفس.
بعض  من افلام النوع تصلح كأمثلة على الاشارات اكثر من الافلام الخرى، فافلام الغرب الامريكى تبدو انها توظف العلامة ، فكل ما نحتاج ان نراه هو وادى مونيومنت - فى فيلم الباحثون لجون فورد وهو نفس الوادى الذى ظهر فى اعداد كبيرة من افلام الغرب الامريكى – فهذا الوادى يجعلنا نفترض اننا فى الغرب الامريكى، ان افلام النوع تمتلأ بصور العلامات مثل الفارس الوحيد على ظهر حصان وقبعة ستاتسون والمنزل المحاط بارض.
اذا اقتنعنا بان افلام الغرب الامريكى هى اكثر افلام النوع التى تستخدم العلامات، فهل هذا يكمن فى اعداد الصور التى تحدد لنا مكاننا فى العالم؟ وبناءا عليه، ومثل الكنية ولكن بطريقة مختلفة، فان العلامة تشير الى الوسط والبيئة التى يضعنا فيها المخرج.
دعونا نفكر فى كم الافلام التى تعرض برج ايفل ونوتردام لتوضح ان المكان هو باريس، او الافلام التى تكشف عن الاتوبيسات الحمراء او ساعة بيج بن لنعرف على الفور اننا فى لندن، العلامة تختصر المدينة بعرض جزء منها، وبناءا عليه فان الامر ينسحب على الكناية  لكن العلامة تبدو اوسع فى معناها واقل ألفة من الكنية.
ولكن اين نرى الرمز وسط كل هذه المصطلحات؟ فى فيلم – نهاية العالم الآن – فان ذبح جاموسة الماء يبدو انه يرمز الى ذبح الكولونيل كورتز ، فالقطع المونتاجى يتم عليه، لكن من الناحية السردية يقدم لنا الفيلم معلومات كافية تخبرنا ان الجيش الامريكى يعتقد ان كورتز يتحمل المسؤولية ويجب التضحية به للحاجة الى قائد عسكرى: اننا فى الحقيقة لا نحتاج الى الرمز وغالبا فان توظيفه يبدو مفتعلا.
لقطة من فيلم نهاية العالم الآن لفرانسيس فورد كوبولا
 
اذا لم يكن عنصر السرد محوريا فى الفيلم، فيمكن للتفاصيل ان تبرز ثراء الموضوع، ولكن فقط اذا ظهرت بدون مباشرة، وبعض المخرجين والنقاد يتحفظون على الرمز، وعندما سأل احد الاشخاص اندريه تاركوفسكى اى اللقطات رمزية، فقيل للسائل التعيس ألا يكون ابلها، ويصر ايريك رومر على انه ضد الرمز من الناحية المبدئية، ويقول فيلسوف السينما الكبير جيل دولوز فى حوار منشور فى – نظامان للجنون – انه لا يؤمن بالمستويات المختلفة فى استقراء الافلام.
اذا اصبح الرمز مباشرا بصورة فجة، فهل يعبر عن التأكيد المفتعل للمخرج؟ ففى تصوير رجل يمشى فى الشارع ومعه وردة فى يده فاننا نفترض انه سيقابل حبيبته، وهذا الترميز كافى: انه جزء من العلاقة الضمنية مع العالم باسره، ولكن عندما يقطع المخرج على امواج هائجة ليرمز الى شبق الحبيبين، او يقطع الى امطار غزيرة بعد فراق الحبيبين، الا يستطيع المخرج ان يصور الشبق والألم ببساطة دون ترميزهما ايضا؟ ان كل الحيل السيميائية – فى نهاية الامر - سلمت نفسها الى نوع من النمطية.
هل نريد ان نرى فيلما باريسيا آخر يقدم لنا باريس بلقطة لبرج ايفل، او رجل اعمال يتم تقديمه لنا بسيجار سميك؟ وخلاصة القول، اذا كانت السيميائية مفيدة، فهذا يكمن فى جعلنا واعين الى جودة او رداءة توظيف المخرج لبناء الصورة، واستخدامه للاطار وعمليات المونتاج.

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى


21‏/09‏/2013

الصوت فى السينما بين الذاتية والموضوعية


لقطة من فيلم ستحملنا الريح جميعا لعباس كياروستامى
 
محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
 
 الصوت يستدعى فى اذهاننا صورة، اما الصورة فلا تستدعى فى اذهاننا صوتا، هكذا كتب روبير بريسون فى كتابه "ملاحظات للسينمائى"، واستشهادا بمايكل شيون فى كتابه "الصوت - رؤية" فان روبير بريسون كان واحدا من صناع افلام قليلين من الماضى الذين اهتموا بالصوت.
 
"بالنسبة للكثير من الافلام التقليدية فهذا التجاهل – لمناقشة طبيعة الصوت او الضجيج  فى نظرية الفيلم – يتناسب مع الحضور الضئيل للصوت فى الافلام نفسها.... والاستثناءات المذكورة فى السينما الكلاسيكية دائما تكون هى نفسها، فاقصى جهدهم انحصر فى وضع القواعد: مثل كتابات تاتى وبريسون واثنين او ثلاثة آخرين".


ان شيون – بدون شك- لديه وجهة نظر، وهناك القليل من النقاد المؤهلين اكثر ليفهموا الموضوع: فشيون واحدا من اوائل المنظرين للصوت فى الافلام وهو موسيقيا ايضا.


وعلى ايه حال، فان ما نريد ان نستوضحه اليوم هو نماذج من الاستخدام الجيد لعنصر الصوت فى السينما، سواء كان الصوت محيطى او موسيقى صادرة من مصدر فى اللقطة او موسيقى تصويرية او الصوت العالى او الانفجارات وما الى ذلك من امثلة، ولكى نكون على مستوى الفهم لهذه الايضاحات، فاننا سنتعامل مع اصطلاحات مؤقتة لتساعدنا على طول الطريق: وهذه المصطلحات هى الصوت الذاتى والصوت الموضوعى، والصوت البؤرى والصوت المحيطى.


عندما قال المخرج المكسيكى كارلوس ريجاداس فى حوار لمجلة سايت اند ساوند (فبراير 2002) ان هناك صوت موضوعى وصوت ذاتى، فقد استشهد بعباس كياروستامى كمثال للصوت الموضوعى، واستشهد باندريه تاركوفسكى فى استخدامه للصوت الذاتى، وقد يرى البعض ان هذين المصطلحين تصنيفيين جدا، وبرغم ذلك فانهما احد وسائل فهم عمل المخرجين خلال تعاملهم مع شريط الصوت.


ومن الاسباب التى جعلت عباس كياروستامى يتجنب - وليس دائما - استخدام الموسيقى التصويرية فى افلامه مثل فيلمه "كلوس اب" و "طعم الكريز" و "ستحملنا الريح جميعا"، ان هذه الافلام يُنظر اليها على انها واقعية، والمقصود بالموسيقى التصويرية، انها الموسيقى التى نسمعها فى الفيلم دون ان يكون لها مصدر فى اللقطة مثل قرص مدمج او موسيقى فى الراديو، اما افلام تاركوفسكى فانها تكتسب اهميتها من استخدام الموسيقى التصويرية، وعندما استخدم كياروستامى الموسيقى التصويرية فى فيلم "اين منزل الصديق؟" فقد كان ذلك فى فقرات رئيسية فى الفيلم، كما استخدمها باقتضاب كبير فى فيلم "وتستمر الحياة" واستخدمها كذلك فقط فى نهايات افلامه "خلال اشجار الزيتون" و "طعم الكريز" و "ستحملنا الريح جميعا".


اما عند تاركوفسكى فالموسيقى التصويرية عنصر اساسى فى افلامه، وكما قال فى "النحت فى الزمن" "الموسيقى يمكن ان تُضيف الى المادة المُصورة حالة شعرية تتولد من تجربة المؤلف، ففى فيلم السيرة الذاتية "المرآة"، على سبيل المثال، يتم تقديم الموسيقى باعتبارها جزء من مادة الحياة، ومن التجربة النفسية للمؤلف، وبناءا عليه، فهى عنصر محورى فى حياه بطل الفيلم الشعرية"


وفى فيلم "حنين" هناك تللك اللحظة التى نستمع فيها الى صوت كورال فى شريط الصوت بينما بطل الفيلم ينظر الى يسار الكادر وتبتعد الكاميرا عنه حتى يخرج من الكادر ثم نراه يظهر مرة اخرى فى نهاية هذه اللقطة المتحركة امام المدفأة كما لو ان بطل الفيلم شخصين، فبدا الامر كما لو انه كان ينظر فى بداية اللقطة الى نفسه وها هو يظهر فى نهاية اللقطة.
لقطة من فيلم حنين لتاركوفسكى
 
الموسيقى تُضيف الى الرؤية الذاتية احساسا باننا لسنا فى عالم واقعى ولكننا فى عالم ميتافيزيقى، وهذا يوضح لماذا يستخدم تاركوفسكى الموسيقى فى افلامه دائما رغم بعض التحفظات، "يجب ان اقول بقناعة تامة اننى لا اعتقد ان السينما تحتاج الى الموسيقى على الاطلاق"، لكنه يعترف بان الموسيقى "دائما ما تجد لنفسها مكانا فى افلامى وانها تكون مهمة وجميلة"، وقد تكون موجودة فى افلامه على هذا النحو لانه، يستطرد "اود منها الا تُعبر بسطحية عما يدور على الشاشة".


وفى مشهد من فيلم "حنين" لانجد الموسيقى متوافقة مع المشهد، - انها لا تقول لنا كيف نحس – لكنها تكسر الهدوء، انها تجعلنا نتساءل ما هذا العالم الذى نتواجد فيه حيث نرى رجلا يبدو انه ينظر الى نفسه ليس عبر مرآة ولكن عبر زجاج جانبى.


ورغم اننا لا يجب ان نقر ان استخدام الموسيقى التصويرية يتلازم دائما مع الذاتية، فانها غالبا ما تكون احد العناصر التى تخفف من احساس الموضوعية فى المشهد، وفى فيلم "سولاريس" لتاركوفسكى نجد ان الموسيقى والصوت يجعلانا نعرف اننا لسنا فى عالم موضوعى، رغم ان  اصطلاح (ذاتى) مفرط فى التبسيط  ليصف الحالة التى يستحضرها المخرج.


واذا فكرنا فى المشهد الذى يعرض لنا الشخصية المحورية وهو يدخل الى حجرة فى المحطة الفضائية ويرى زوجته الاخيرة وهى تجلس على طاولة، فان الصوت والصورة يأخذانا الى عالم آخر، ومرة ثانية وكما فى فيلم "حنين" فان الكاميرا تبدو كما لو انها تراوغنا، مثل اللحظة التى يتجه فيها كريس كيلفين ناحية زوجته لمجرد ان يدور حولها فنرى زوجته خلفه.


وبينما الفيلم يقترب من وجه الزوجة، فانه يقطع على سلسلة من اللقطات والحركات الجانبية للكاميرا التى تصور لوحات بروجل، بينما الصوت المصاحب يتكون من اصوات لغناء الطيور ونباح الكلاب، كما نستمع الى موسيقى ولكنها قليلة، وعندئذ يقطع الفيلم على صبى صغير على تلة من الثلوج، وبعد ذلك نعود الى كريس وزوجته فى المحطة الفضائية، وبعد عدة لحظات نرى عوامة تطفو، ثم نرى زوجة كريس تسبح فى الفراغ، ان هذا ليس الكون الحقيقى ذلك الذى يخلقه تاركوفسكى، والقصة بلا شك تتوقف عند قدرة الكوكب على توليد تجسيدات الخطيئة: مثل اعادة الموتى الى شكل من اشكال الحياة – فكريس يستعيد زوجته الاخيرة – وبناءا عليه فان موضوعية الصوت فى افلام تاركوفسكى لا محل لها فى رؤيته.

 
ومما لاشك فيه ان المخرج المكسيكى ريجاداس يُصنف افلامه على انها تاركوفسكية، فهو مخرج يهتم بالسينما بوصفها قضية ميتافيزيقة وبوصفها طريقة لاستكشاف مسائل تتجاوز حياتنا العادية، وبرغم ذلك فهو يستخدم الصوت ليستحضر نوعا من التناقض بين الذاتية والموضوعية، ومثالنا على ذلك، مشهد المترو فى فيلم "معركة فى الجنة".
لقطة من فيلم معركة في الجنة لكارلوس ريجاداس
 
ففى هذا المشهد نرى بطل الفيلم يوقف صوت الساعات المنبهة التى يبيعها فنستمع الى اصوات الناس الذين يمشون فى المترو حتى يصبح هذا الصوت هو الاكثر وضوحا، فبينما ينسحب احد الاصوات فان الصوت الآخر يعلو تدريجيا حتى يسود المشهد، فالمخرج يتلاعب بمستويات شريط الصوت فى المشهد، فقد استخدم كل من تاركوفسكى وريجاداس الصوت لاستدعاء معان جديدة فى المشهد.


ولدينا مخرج آخر اشتهر باستخدامه لشريط الصوت بطرق غير تقليدية، انه بالطبع ديفيد لينش الذى استرعى انتباه شيون حتى انه ألف كتابا كاملا عنه بعنوان ديفيد لينش، ان افلام لينش تنحو الى تحرير شخصياته من الاحكام المسبقة، مثلما نجد فى تحولات الشخصية فى فيلم "الطريق السريع المفقود" و "محرك مولهولاند" لكنه قدم هذا ايضا من خلال التمثيل الصامت.


عندما غنى دين ستوكويل اغنية روى اوربيسون "الازرق المخملى" وجدنا انفسنا مأثورين بين الموسيقى المؤداة وفى نفس الوقت مع الموسيقى التى بدت انها نابعة من شخصية ستوكويل، وهذا الامر بدا واضحا اكثر فى المشاهد الصامتة فى فيلم "محرك مولهولاند" حيث المغنى الذى يقلد الاغنية يُغمى عليه على خشبة المسرح وتستمر الاغنية كما لو انها تخرج من جسده وتحلق حوله.
 
وفى المثالين السابقين نلحظ استخداما مبسطا للتمثيل الصامت يصبح استخداما مركبا للصوت، ومرة ثانية، كما فى تاركوفسكى وريجاداس فان الصوت ليس موضوعيا لكننا لا نستطيع ايضا ان نسميه ذاتيا على الرغم من انه ينتمى الى الذاتية اكثر من الموضوعية.


وثمة مثال أخر اكثر وضوحا على استخدام الصوت الذاتى نراه عند المخرج مارتن سكورسيزى، فمشاهد حلقة الملاكمة من فيلم "الثور الهائج" تعكس الضربات المُوجهه وضربات الخصم، بينما موسيقى برنارد هيرمان التصويرية فى فيلم "سائق التاكسى" تلتقط ببراعة حالة الجنون العقلى لشخصية بيكل، فمن الواضح ان استخدام سكورسيزى للصوت ليس سهلا.
 
لقطة من فيلم سائق التاكسى لمارتن سكورسيزى

فالموسيقى التصويرية التى نسمعها فى فيلم "سائق التاكسى" تبدو شديدة الصلة بمشاعر بيكل، ونحن نسمع هذه الموسيقى ايضا من مصدر فى المشهد الذى يرقص فيه هارفى كيتل مع ايريس الصغيرة، وفى فيلمى "أليس لم تعد تعيش هنا" و "لون المال"، يتحرك سكورسيزى بحرية بين الموسيقى التصويرية والموسيقى الصادرة من المشاهد، ففى الفيلمين نرى الشخصيات تستمع الى الموسيقى فى السيارة، وفى فيلم "لون المال"، على سبيل المثال، نرى بول نيومان يرفع صوت الموسيقى وهنا تصبح هى الموسيقى التصويرية للفيلم.
 
هذا الاستخدام المتكرر للصوت الذاتى فى الامثلة التى سقناها لا يعنى عدم وجود للصوت الموضوعى فى افلام هؤلاء المخرجين، فريجاداس كان حساسا جدا الى اصوات المدينة وشذرات حوارية تصدر من خارج الكادر واصوات صخب المدينة، ولسكورسيزى توظيفا واقعيا لعنصر الصوت فى افلام مثل "الشوارع القذرة" و"سائق التاكسى"، ومن الافضل لنا ان ننظر الى الذاتية والموضوعية  كطرفى نقيض، فالبعض مثل لينش كان غالبا يعمل مع طرف واحد، اما سكورسيزى فكان افرب الى الرأى الوسطى.

 
وايضا عندما نفكر فى مخرجين مثل الاخوين داردن وكياروستامى وموريس بيالا وكن لوتش، فيبدو لنا الامر كما لو ان شريط الصوت موضوعى، ولكن على الرغم من ذلك لابد ان نعترف بان هذا التصنيف تعسفى عندما نفكر فى الطريقة التى يستخدم بها كياروستامى الصوت فى المشاهد التى يتم تصويرها فى سيارات.


ففى فيلم "طعم الكريز"، على سبيل المثال، يبدو الصوت واقعيا فى المشاهد المبكرة حيث نرى السيد بديع يسأل اسئلة ويتلقى اجابات ويستمع باهتمام الى المناقشات التى تدور حوله بينما يقود سيارته فى ضواحى طهران، وعلى ايه حال، ففى لحظات لاحقة عندما يركب معه فى السيارة احد الركاب، فان الصوت يصبح قريبا بينما السيارة تبتعد، وفى المحادثة الاولى بين شخصية بديع والمحنط التركى- تم تصويرها فى لقطة عامة - لكن الصوت كان قريبا جدا، فالصوت موضوعى باساليب مختلفة، لكننا لا نستطيع ان نسمع محادثة تتم بعيدا عنا مالم تساعدنا المعدات الصوتية.



وعلى ايه حال، فالامر يبدو مجحفا ان نتناول الصوت فى افلام لينش وتاركوفسكى على انه صوت ذاتى، وسوف نتحدث قليلا عن هذا الامر لاحقا عندما نناقش الصوت البؤرى والصوت المحيطى.

وكذلك فالعديد ينظرون الى رومان بولانسكى كمخرج يستهويه الصوت الذاتى كما فى فيلم "التنافر" وفيلم "طفل روزمارى" وفيلم "النزيل"، لكن مهندس الصوت والتر مورش تحدث عن القاء بولانسكى محاضرة فى منتصف الستينات حيث "تحدث باحتفاء عن اصالة الصوت نفسه، وثمة مثال استخدمه تعلق بتنقيط  صنبور الماء وان هذا يخبرك عن شخص، وعن الشقة التى يعيشوا فيها وعلاقتهم باشياء عديدة"، صوت "المحادثات" هنا قد يكون موضوعى والموسيقى صادرة من المشاهد، ولكنها يمكن ان تلمح الى الحالة النفسية لبطل الفيلم.

ونفس الامر يمكن ان يقال عن الصوت فى بداية فيلم "النافذة الخلفية" لهيتشكوك، هناك اصوات موضوعية صادرة من الحى ونحن نسمعها، لكن هذه الاصوات تُسمع من خلال شخصية جيفرس الذى يعانى من الملل بينما يجلس وساقه موضوعة فى الجبس، واذا كانت الضوضاء الموضوعية فى فيلم بولانسكى تُلمح الى حالة الملل، فان فيلم هيتشكوك – فى هذه الحالة- يمكن ان يدل على الملل.


استخدام الصوت فى المشهد الاول من فيلم "النافذة الخلفية" يبدو مختلفا تماما عن طريقة استخدام هيتشكوك للصوت فى الخمسين فيلم الاخرى التى اخرجها، ففى المشهد الذى يتبع فيه سكوتى مادلين خلال شوارع سان فرانسسكو من فيلم "دوار" فان الموضوعية تبدو انها تفسح المكان للذاتية: فاللحن الرئيسى للفيلم والذى ألفه برنارد هيرمان يعبر عن وقوع سكوتى فى الحب، ان عمل لحن اساسى يعكس مشاعر الشخصية هو من الامور الشائعة فى السينما، فالامر لا يعدو ان يكون تأليف لحن اساسى يهدف الى التعبير عن هذه المشاعر.



وهناك ألحان اساسية لافلام تبدو انها مؤلفة لتتوافق مع الشخصية، كما فى تيمة فيلم "دكتور زيفاجو"، وكذلك تيمة هارى ليم فى فيلم "الرجل الثالث"، واحيانا يمكن لاغنية ان تعبر عن افكار ومشاعر شخصية رغم ان نص هذه الاغنية مختلف تماما، فاغنية وارن زيفون - ذئاب لندن - اُستخدمت فى فيلم "لون المال"، واغنية - جامبن - لجاك فلاش استخدمت فى فيلم "شوارع قذرة"، واغنية - وُلد ليكون حرا - استخدمت فى فيلم "إيزى رايدر".



وفى مناسبات اخرى يتم تأليف الاغنية خصيصا للفيلم ولكن كلماتها لا تنبع من نص الفيلم مثل اغنية - للاعلى ننتمى - فى فيلم - "الشرطى والجنتلمان" - واغنية - عين النمر- فى "فيلم روكى 3 ".



فى نهاية فيلم "الشرطى والجنتلمان"، عندما يدخل ريتشارد جير الى المصنع ويسحب دبرا وانجر بعيدا، فان اغنية جنيفر وارن وجو كوكر تعبر عن سعادة وانجر بعودته، بينما روكى يعود الى التدريبات على خلفية اغنية عين النمر التى ربما تكون اكثر ما نتذكره فى هذا الفيلم، انها اللحظة التى تعكس ارادة الشخصية وعزيمته بصورة جيدة.



وفى بعض الحالات تكون الموسيقى صادرة من المشهد -كما فى مشهد حمام السباحة فى فيلم "لون المال" - واحيانا نسمع الاغنية من خارج الكادر بدون مصدر لها من المشهد - كما فى فيلم "الشرطى والجنتلمان" - لكن المشهدين متساويين فى التعبير عن حالة الشخصية: انهما يعكسان احاسيسا معينة.



وبينما الاغنية فى فيلم "لون المال" والتى يستمع اليها بطل الفيلم قد تم توزيعها قبل اخراج الفيلم بسنوات، فان الاغنية فى فيلم "الشرطى والجنتلمان" قد تم تأليفها خصيصا للفيلم ولم نرى مصدر الاغنية فى المشهد لكنها كانت تعكس ايضا مشاعر الشخصية بنفس القدر.



وثمة مثال آخر جيد للموسيقى التى لها مصدر فى المشهد وتعكس حالة الشخصية نجدها فى اغنية - كاليفورنيا تحلم - من فيلم "تشانجكنج اكسبريس" لونج كار وى، فالاغنية تبدو كما لو انها ألفت خصيصا للفيلم فهى تعكس حالة الشخصية بدقة.



ان ما يجعل الموسيقى والصوت ذاتيا فى هذه الامثلة التى سقناها، انها تعكس افكار ومشاعر الشخصيات، وبناءا عليه فيمكن وصفها بانها ذاتية سواء كانت صادرة من المشهد ام موسيقى تصويرية وسواء أُلفت خصيصا للفيلم ام اختيرت له.

ولكن ما هو الصوت الموضوعى فى السينما؟ لقد ألمحنا الى كياروستامى على الرغم من اننا شككنا فى طريقة توظيفه فى افلامه، مثل فيلم "طعم الكريز" بسبب بعد مسافة السيارة عن المحادثة التى تدور فيها، ومع ذلك فالصوت فى هذا الفيلم ينتمى الى الصوت الموضوعى لسبب واضح وهو ان الصوت لا يخدم الذاتية، وفى فيلم "كلوس اب" لكياروستامى ايضا فموضوعية الصوت اكثر وضوحا.

 
ففى اول مشاهد الفيلم حيث يدخل الصحفى الى التاكسى مع اثنين من الشرطة، نسمع صوت السيارات التى تعبر الشارع بوضوح، وحتى عندما يتحدث الصحفى مع سائق التاكسى فى السيارة، فان صوت المحادثة يتداخل مع صوت السيارات العابرة واصوات الابواق وحتى اصوات صفارة انذار، فهذه الاصوات التى تأتى من خارج الكادر ليس لها اهمية، لكنها تعطى للمشهد احساسا قويا بالصوت المحيطى، فالعالم مستمر فيما وراء الشخصيات التى يتم التركيز عليها.
وعندما استخدم هيتشكوك الصوت المحيطى فى فيلم "النافذة الخلفية"، فانه لم يطغ على الصوت البؤرى للشخصية، بل كان الاكثر وضوحا، ونفس الحال نراه فى استخدام بولانسكى للصوت، فهيتشكوك وبولانسكى ارادا ان يستخدما الصوت المحيطى الذى يعبر عن الاجواء التى يعيش فيها الشخص بصرف النظر عن ان موضوعيتها امر ثانوى.

وعلى ايه حال، فثمة مخرجين شاركوا كياروستامى اهتمامه بنمط الموضوعية فى الصوت والذى يبدو مخالفا لافكار ومشاعر الشخصيات، هؤلاء المخرجون من بينهم موريس بيالا وكن لوتش والاخوين داردن، ففى فيلم "فى حبنا" لبيالا هناك مشهد افتتاحى فى بار يتابع ساندرين بونير لكنه لم يغض النظر عن الضوضاء من خارج الكادر، وبينما نسمع نقرات الكؤوس فى البار، فان النقاشات تبدو مقتضبة والشخصيات التى تظل خارج الكادر توجه حديثها الى ساندرين بونير، وبهذه الطريقة يملأ المخرج بيالا الفراغ باصوات عفوية لا يمكن لها ان تعبر عن الحالة النفسية للشخصية، وفى فيلم "لولو" يفعل نفس الشيئ مستخدما الصوت بطريقة تخالف شريط الصوت للشخصيات، وعلى هذا النحو يضع الشخصيات فى اجواء موضوعية وليس فى اجواء ذاتية، وفى احد مشاهد البار حيث تتعرض الشخصية المحورية للطعن، فان شريط الصوت لا يحتوى على شيئ يُشير الى انه يعبر عن الشخصية: فلا توجد موسيقى او اصوات معبرة فى شريط الصوت.

وثمة مثال جيد على الصوت الموضوعى نجده فى فيلم "ارض وحرية" الذى يتأسس على نقاش حول حقوق الارض، فبدلا من ان يتحول النقاش ليصبح نقاشا واحدا بين شخصيتين او ثلاثة اشخاص يتناقشون مع باقى الشخصيات التى تستمع ويتم تصوير لقطات لردود افعلها، فان المخرج كن لوتش يصور النقاش بطريقة يجعل فيها الناس يتحدثون واحدا وراء الآخر، وحيث الشخصيات الثانوية فى الفيلم لديهم اراء هامة فى الموضوع، وحيث الشخصية المحورية التى مثلها ايان هارت لم يكن له سوى قول مقتضب فى الموضوع، وثمة مقتطفات منها تم ترجمتها.

فى مثل هذه الامثلة، من بيالا ولوتش، فان الاحساس بالمكان وارتباط هذا بالشخصية يبدو واضحا اكثر من الامثلة التى يوظف فيها الصوت الصادر من المشهد  ليعكس وجهة نظر الشخصية. وهذه الفكرة عن الصوت الموضوعى وصلت الى آفاق ابعد بفضل الاخوين داردن، واذا كانا واقعيان بمثالية فهذا يكمن فى اقترابهما جدا من ابطال افلامهما دون ان يخلقا شريط صوت يعكس وجهة نظر هؤلاء الابطال.

فعندما تذهب روزيتا – فى الفيلم الذى يحمل اسمها – تذهب لشراء بعض الفطائر، فان الكاميرا تُعبر عن وجهة نظرها لكن الاصوات من خارج الكادر تظل ثابتة: حيث نسمع اصوات الدراجات البخارية السريعة واصوات مرور السيارات، وفى مشهد لاحق فى الفيلم فان هذا يصبح عنصرا اساسيا: فالصديق الذى تخونه يركب دراجة بخارية ونسمع صوتها من خارج الكادر حيث يحاول ان يجعلها تدرك خطيئتها، ويظل الصوت ثابتا على اصوات من خارج الكادر للمشهد السابق، ويكتسب اهميته من علاقته بالحالة النفسية لروزيتا، لكن هذا الصوت لا يتحول الى صوت ذاتى: انه يظل واقعيا باصرار فهو لا يعكس وجهة النظر كما فى افلام هيتشكوك وبولانسكى، وفى فيلم "الطفل" للاخوين داردن فان اصوات خارج الكادر لها حضور مستمر نظرا لولع الاخوين داردن بالصوت الواقعى، فبينما يدفع برونو بعربة الطفل الخالية حول البلدة، فان صوت السيارات لا يعكس افكار برونو، انه شريط صوت مختلف جاء ليكشف عن العالم وليس ليعبر عن وجهة نظر برونو.

ان هذا التنوية عن الاصوات من خارج الكادر لا يحتاج دائما الى استدعاء الواقعية، وسبق لنا ان تحدثنا عن المصطلحين الاخرين وهما الصوت البؤرى والصوت المحيطى – فالصوت البؤرى يخص الدرجة التى يكون فيها الصوت فى وسط فضاء الشاشة السينمائية -  اما الصوت المحيطى فهو يخص الدرجة التى يكون فيها الصوت معبرا عن وجهة نظر ابعد كثيرا عن الشخصية –

فى مشهد من فيلم "الفيل" حيث يخرج لاعب كرة القدم من ارض الملعب، فان المخرج جاس فان سانت يترك موسيقى بيتهوفن تُسمع همسا فى شريط الصوت واصوات متنوعة  تُسمع من بعيد ثم تقترب: انها عن اناس يدردشون فى متنزة واصوات لعزف على جيتار.

الصوت هنا لا يبدو انه يستدعى بواقعية فضاء خارج الكادر، انه يلمح الى عالم من الحساسية فيما حول الشخصية، ونستطيع ان نجد نفس الامر ايضا فى فيلم "اوزاك" لنورى بيلج جيلان فى مشهد المنتزة قبل ان يتقدم احد الشخصيات الرئيسية بطلب لوظيفة فى احواض السفن، كما نجد نفس الامر ايضا فى فيلم "الام والابن" لالكسندر سوكوروف، فى اللحظة التى يتنهد فيها الابن امام شجرة، فهذا يسمح بأكثر من اصوت خارج الكادر الحيادية.

وفى الامثلة السابقة يصبح الصوت حاضرا بصورة ملحوظة وقريبا الينا كمشاهدين، لكنه يختلف عن اسلوب استخدامه عند هيتشكوك وبولانسكى، وايضا شديد الاختلاف عن اسلوب استخدامه عند الاخوين داردن وكن لوتش، واذا كان هيتشكوك وبولانسكى يستخدمان صوتا محيطيا لساعة منبهة او صوت تنقيط صنبور، فانهما يفعلان كل ما من شأنه ان يضعنا داخل عقلية شخصياتهما المحورية.

وعندما استخدم الاخوان داردن وكن لوتش الاصوات البعيدة فانهما فعلا ذلك للتأكيد على استقلالية الشخصيات عن هذا المحيط، فعندما يسير برونو فى الشارع فى فيلم "الطفل" ومعه عربة طفل فارغة، فالاصوات الصادرة عنه وعن عربة الطفل واضحان ومسموعان اكثر من اصوات عبور السيارات المحيطة به، وفى فيلم "الفيل" وفيلم "اوزاك" وفيلم "الام والابن"، فان الصوت المحيطى يصبح مسموعا عن قرب.

والامر لا يبدو كما لو ان الصوت يغزو الشخصية (كما فى المرضى المصابون بحساسية للضجيج)، ولا يبدو ايضا انه صوت لا تأثير له، انه طبقا لتعبير جيل دولوز، هو اشارة جنينية، اشارة صوتية من الممكن استيعابها عرضا دون التفاعل معها. (انه لا يرهص بفعل، انه ليس اكثر من صوت يتم سماعه..... وبناءا عليه فموقف الصوت انه ليس متنا وليس اشارة)، وبتعبير آخر، فان الصوت يسمح للشخصيات ان يكونوا منتبهين الى ما هو مسموع، ولكن ليس لانهم يريدون ان يكون لهم استجابة له، ولكن لانه يسمح لهم ان يأخذوا الصوت على محمل خاص، واحيانا يكون هذا الامر واضحا من خلال الشخصية كما فى فيلم "اوزاك"، واحيانا يتم فصله عن الشخصية كما فى فيلم "الفيل"، ولكن فى المثالين، وفى فيلم "الام والابن" ايضا، فان الصوت يجعل العالم حميميا ورقيقا ومترابطا.

ربما استخدامنا للصوت البؤرى والصوت المحيطى يشبه المصطلحان اللذان استخدمهما شيون – الصوت الخاص والصوت العام– او كما قال "فى اللقطة المشهد الثابتة، نستطيع ان نُطيل فضاء خارج الشاشة المُتخيل من خلال شريط الصوت" ويُضيف "ان الصوت الخاص  يخص الشخصية ويشمل اى اصوات يسمعها هذا الشخص، وعلى الطرف الآخر فاننا نطلق اصطلاح الصوت العام على المشهد الذى يحدث فى غرفة – على سبيل المثال- نحن لا نسمع الاصوات فى الغرفة فقط – بما فى ذلك اصوات من خارج الكادر – ولكننا نسمع ايضا اصوات من الردهة ونسمع حركة السيارات فى الشارع القريب ونسمع صوت صفارة انذار بعيدة وهلم جرا" واذا كان ديفيد باردويل قد استخدم مصطلح الكثافة المشهدية ليصف التفاصيل المتوفرة فى الميزانسين، عندئذ فهل يمكن لنا ان نستخدم اصطلاح الكثافة الصوتية بالنسبة للافلام التى تخلق شريط صوت مُركب؟.

ومما ناقشناه، فان مسألة الصوت العام او الصوت الخاص من الممكن ان يكونا ذاتيين او موضوعيين، ويمكن لهما ان يقودا الى اكشن ويمكن لهما ان يمنعا هذا الاكشن.

فى سينما الاكشن يعبر الصوت البعيد عن التهديد: ودعونا نتذكر قيلم رعب حيث تتشقق افرع شجرة، او فيلم حرب حيث من الممكن سماع صوت الاقدام، ان الشخصيات تتنبه بمقدار ما يستدعيه الاكشن، ويركز المخرج جهده على الصوت المحيطى لاهميته فى البعد السردى، ولكى نستطيع ان نفهم هذا الاستخدام المتعمد للصوت، دعونا نستعين بمثال من فيلم "طارد الارواح الشريرة" فان السيدة ايلين بارستين تنزل السلالم وتسمع صوت ابنتها تصرخ من خارج الكادر، عندئذ فانها تصعد السلالم عائدة وتفتح باب غرفة النوم وتنظر مذعورة الى سرير ابنتها الذى انقلب رأسا على عقب بفعل قوة غير منظورة.

وعلى الرغم من ان الفيلم يتعاطى مع قوى فيما وراء عالمنا العادى، فان اختيار اللقطة وعلاقتها بما هو خارج الكادر يظل جيدا ضمن مشاهداتنا العادية، فهناك اصوات غير اعتيادية يتم سماعها من خارج الكادر، وتنتبه الام فورا الى هذه الاصوات، هذا مثال لما اسماه شيون "صوت خارج الكادر المؤثر"، فهذا الصوت الذى لا نرى مصدره يثير الاسئلة - ما هذا؟، ماذا يحدث؟ - والذين يُجيبون يكونون خارج الكادر وهذا يُحرض على الذهاب الى هناك لالقاء نظرة – ولكن ماذا يحدث عندما لا تنتبه الشخصية الى الصوت الصادر من خارج الكادر؟ وهناك اسباب عديدة لذلك، احدها ان يكون الصوت شديد التكثيف بحيث لا يستطيع الشخص ان يفهم شيئا.

فى فيلم "مدينة سلفيا" تجلس الشخصية الرئيسية فى مقهى وتستمع الى محادثات متنوعة الامر الذى يتحول الى مجرد ثرثرات وجو من الهرج والمرج الجماعى، ليس هناك صوت مُلح يسترعى انتباهه مثل الصوت الذى يسترعى انتباه بيرستين، وايضا فانه يبدو غير مبال تماما بالصوت، ان هذا الصوت ليس ضوضاء الخلفية المفزع الذى يظهر فى فيلم "الطفل" حيث تبدو الشخصية غير مهمتة به، لكنه تدفق سلس لمحادثة فى المقهى تسمح للشخصية ان تحتمى وراء تصوراتها ورؤاها الخاصة.

ثمة صوت عام فى هذا الفيلم، كذلك فقد اراد المخرج جوسى لويس جورين ان يخلق احساسا بالاحباط من فصل الصيف فى مدينة صغيرة – هذا الفيلم تم تصويره فى مدينة ستراسبرج – ان وظائف الصوت فى هذا الفيلم ليست اساسية وليست قليلة الشأن ايضا، ويتشابه الامر مع فيلم "اوزاك" وفيلم "الفيل" وفيلم "الام والابن"، انه صوت عام محيطى واستخدامه فى هذه الافلام لا يستهدف شيئا محددا، لكنه يعطى الفرصة لعديد من التصورات، كأن نتساءل ما علاقة الصوت بشخصية معينة.

واذا كانت السينما السائدة غالبا ما تخلق صوتا بؤريا استنادا الى اهمية الصوت فى التعبير عن الحدث، او تخلق صوتا محيطيا ليس لأكثر من التعبير عن الاحاطة، فان تقنية عرض الصوت فى دار العرض السينمائى يركز بدلا من ذلك على التكثيف فى الصوت المحيطى.

وقيل ان شيون لم يحتج على التغييرات التكنولوجية فى الصوت الدولبى وانه احس ان الصوت الدولبى يجعل معظم الافلام اكثر اهتماما بتقديم ما وراء اطار اللقطة – دخول شخصية روى باتى فى فيلم  Blade Runner  كان من الممكن تنفيذه بصوت الشخصية نفسها او وقع اقدامها اذا كان الفيلم تم تسجيله  فى الاستوديو، ولكن هذه الشخصية – وكما ظهرت فى الفيلم – فان ظهورها فى اللقطة يتزامن مع سماع صوتها - وهذا يعنى – اننا دائما فى زمن المضارع المستمر، ومن جانب آخر، ففى السينما التقليدية فان الصوت القادم من خارج الكادر يستدعى توافقه مع مركز الصورة ، وبناءا عليه يمكن ان نسميه صوتا فعالا - وكما يقول شيون "ان وصول تقنية الصوت الدولبى اتاحت مستويات عديدة ومسارات كثيرة للصوت، فأمكن تخصيص احد المسارات لنستمع من خلاله الى ضوضاء واضحة متزامنة مع الحوار، ومنذئذ استطاعت اصوات الفوضى ان يكون لها حضور وملامح وليس مجرد ظهور نمطى" وعلى اية حال، فالبعض قد يناقش قناعات شيون فيما يتعلق بتصميم الصوت واستجابة الجمهور له، قد اصبحا اكثر مدعاة للبحث.

قال ليسلى شاتز – مصصم الصوت فى فيلم "الفيل" – فى حوار مع جاب كلينجر من منظمة الفبريسى "الجمهور المعاصر ينظر الى شريط الصوت على انه سريالى، فالامر بالنسبة لهم ان شريط صوت حقيقى معناه ان يكون نظيفا ومصقولا وخاليا من الضوضاء الدخيلة" ويبدو ان معظم الافلام مازالت تختصر الصوت وتوظفه بشكل اساسى للحن الرئيسى والحوار وضرورات السرد، فالافلام تجعل شريط الصوت بؤريا معتمدا على الحوار قدر الامكان.

هدفنا من هذه المحاضرة لم يكن اكثر من ايضاح ما هو الصوت فى السينما مع شرح قليل من المصطلحات التى تساعدنا على فهم علاقتنا بشريط الصوت، اذا كان شاتز محقا فى قوله ان اى شريط صوت لا يرتبط بالحدث الذى يدور على الشاشة يؤدى الى جعل المشاهدين يشعرون بالسريالية، عندئذ فمن المفيد ان نتعرف على مصطلحات يمكن ان تشرح لنا كيف نفهم الاساليب المختلفة لشريط الصوت، وكما يقول مصمم الصوت والمونتير الرائع والتر مورش فى تقديمه لكتاب "الصوت، رؤية" "نحن نبدأ فى السماع قبل ان نُولد بنحو اربعة اشهر ونصف من الحمل" فالسينما  بهذا المعنى يمكن ان تردنا الى الرحم، وان تجعل الصوت اكثر اهمية من الصورة بصرف النظر عن ان معظم الافلام تصر على فعل العكس.