01‏/05‏/2014

تأملات فى الفيلم النوعى

محاضرة:- تونى مكيبن
 ترجمة:- ممدوح شلبى

 الفيلم الكوميدى

يوجد مصطلح مفيد أطلقه جيرالد ماسك، وظهر هذا المصطلح فى "كتاب السينما" حينما تحدث عما أسماه "المناخ الكوميدى" " comic climate"، إنه كل انواع الاحداث التى يمكن أن تحدث ويتحقق منها نوع من الكوميديا القائمة على تعطيل المنطق، فعندما يخطو شخص ما على قشرة موز، فإنزلاقه بهذه الطريقة قد يُؤدى إلى كسر ظهره، لكنه فى السينما ينهض على قدميه فوراً، هذا مثال عملى على المناخ الكوميدى.


الحياة جميلة
فى فيلم "الحياة جميلة" " Life is Beautiful " للمخرج روبرت بنجينى يصل المناخ الكوميدى إلى اقصى ذروته، فنحن يتوجب علينا أن نُعطل المنطق حتى نتقبل فكرة أن معسكر الموت –الهولوكوست- يمكن ان يكون مصدراً للفكاهة العفوية، والعديد من الناس اللذين أحبوا الفيلم من الجمهور العادى يؤكدون أن الفيلم عطل المنطق بإمتياز، فقد إستطاع أن يجعل المشاهدين يرون الكوميديا فى الفظاعة، تماماً مثل رؤيتنا لأحد أشخاص فيلم وهو ينزلق ويؤذى نفسه، فنحن نضحك ونحن على علم بأن هذا مُتضمن فى مناخ سينما نوعية محدد.

فى مشهد من فيلم "الحياة جميلة" يتلاعب بنجينى بعنصرين كوميديين: يمكن تسميتهما كوميديا التوقعات وكوميديا المفاجأة. ولذلك فعلى سبيل المثال، عندما يميل بنجينى ناحية حافة النافذة ويسقط إصيص الورد من النافذة على رأس احد الاشخاص الموقرين من السكان، فنحن هنا لدينا كوميديا المفاجأة: فليس من المفروض أن نكون على علم مسبق بما سيحدث، وهذا مُضحك لانه يفاجأنا. لكن شخصية بنجينى تنزل السلم بعد ذلك عاقدة العزم على تلطيف مزاج الرجل المُوقر الذى كان منشغلاً بالهرش فى رأسه بعد أن خلع قبعته، ويحاول بنجينى أن يساعده، وبينما يفعل ذلك يضع البيض - الذى تصادف أنه يحمله – فى قبعة الرجل المُوقر، وبالطبع، يضع الرجل - قليل الحظ - القبعة على رأسه وهى تحتوى على البيض.

ولعل المثالين ليسا من أمهر الحرفيات الفنية، لكنهما مثالين جيدين لكوميديا المفاجأة وكوميديا التوقعات التى جاءت بعدها مباشرة. يُعد بنجينى بشكل أو آخر من فنانى الكوميديا المرئية "الحركية"، بينما فنان كوميديا آخر مثل وودى ألن تُعد كوميدياه لفظية، ودائما هناك ثمة إختلاف قد يكون كبيراً او صغيراً بين الكوميديا المرئية والكوميديا اللفظية، وأيضا فإن العديد من ممثلى الكوميديا العظام كانوا ممثلى كوميديا مرئية بشكل أساسى مثل باستر كيتون وشارلى شابلن وكذلك بيتر سيلرز – على سبيل المثال – وخاصة فى فيلميه "طلقة فى الظلام" " Shot in the Dark " وفيلم "الحفلة" " The Party ".

وهذا ليس تقليلاً من أهمية الكوميديا اللفظية - لأننا فى هذا الجانب لن نجد وودى ألن فقط، ولكننا سنجد جروتشو ماركس وجاك ليمون أيضاً- وعلينا ان ننظر إلى الكوميديا المرئية والكوميديا اللفظية كطريقتين مختلفتين للفكاهة، فى الكوميديا اللفظية نحن أكثر ميلاً لتقدير النكتة، فنحن نضحك بإقتضاب لفترة قصيرة وبعد ذلك ننخرط فى الضحك، وهذه النقطة قد نتفق أو نختلف فيها ولكن التعميم مُفيد.

ولعل من الهام عندما نتحدث عن الكوميديا أن ننوه إلى ما كتبه فرويد تحت عنوان "النكات وعلاقتها باللاوعى" " Jokes and their Relation to the Unconconscious " حيث ميز بين الفكاهة المُغرضة وبين الفكاهة البريئة، ففى الفكاهة المُغرضة يشير فرويد إلى وجود حديث عن النكات الإباحية أو الإستهزاء العدوانى، بينما تُعد النكتة البريئة مجرد تلاعب مُضحك بالكلمات، اما النكتة المغُرضة فهى تنال عادة من أحد الأشخاص. لا تهم المصداقية عندما نحاول ان نتندر على السياسة، أليست الهجائية مُتنفساً لنا دائماً، ألسنا نحتاج دائماً إلى كبش فداء لأننا نريد فى حياتنا نمطاً معيناً من الفكاهة؟. تمتلأ افلام وودى الن – على سبيل المثال- بنكات تهكمية على نظام الطبقات والتعليم والحالة الإجتماعية وأيضاً نجد نكات جنسية (مثل رد وودى ألن على شخصية والاس شون فى فيلم مانهاتن)، وأفلامه تمتلأ أيضاً بما يمكن ان نسميه النكتة التى تتفهمها طبقة إجتماعية معينة: مثل النكتة التى نجدها فى فيلم "آنى هول" " Annie Hall " حيث تتناقش أستاذة فى الإعلام مع المارشال مكلوهان الذى يحتد عليها ويقول لها انه لا يعرف شيئاً عن رسائل الماجستير.

وهذا يمكن ان يثير التساؤلات عن الحالة "الديمقراطية" التى يعمل بها الفنان الكوميدى، وبشكل عام، كلما كان الفنان الكوميدى "حركياً" كلما كانت فكاهته أكثر عالمية: وإذا كنا ننظر الآن إلى باستر كيتون بوصفه فنان كوميدى عظيم، فهذا يكمن جزئياً فى أن تكنيكه يتجاوز حدود الزمان والمكان فهو يجعلنا معجبين ببراعته الفائقة فى الكوميديا "الحركية" كما فى فيلمه "باخرة بل الإبن" " Steamboat Bill Jr " وفيلمه "الجنرال" " The General ".

أما عبقرية وودى ألن التى لا جدال فيها، فهى تعتمد كثيراً على الإسقاطات الإجتماعية، مثل فيلميه الرائعين "آنى هول" و"مانهاتن".

لا ينبغى أن نُقصر "المناخ" على الفيلم الكوميدى، فكل الأفلام النوعية تحتاج إلى "المناخ" بشكل أو آخر، وتحتاج إلى نظام من التوقعات حتى يُعطل المُشاهد المنطق فى إستجابته للكيفية التى توظف بها الأفلام النوعية آلياتها، مثل وجود الفرض المجازى – العناصر - التى يتطلبها الفيلم النوعى، حتى تكون التوقعات التى لدى المُشاهد متوافقة مع هذه الفروض المجازية.

فيلم الرعب

وهذا مما يخلق التناقض فى فيلم الرعب، فبعض الدارسين من الطلبة سيتحدثون عن حبهم لأفلام الرعب لكنها لم تعد ترعبهم، وسوف يستمرون فى مُشاهدة أفلام الرعب على أمل أن يجدوا رعباً حقيقياً، لكنهم إذا شاهدوا ولديهم جاهزية للإستمتاع سوف يروا كيف يتوافق الفيلم النوعى مع توقعاتهم. وهذا قد يساعد فى تفسير جاذبية فيلم مثل "صرخة" " Scream " للمخرج وس كرافن " Wes Craven"، وفى تقدير فيلم يعتمد على وعى المُشاهد مثل فيلم "هلاوين" " Halloween " فالمُشاهد الواعى سيتوقع المشهد التالى ليس بسبب علاقة التوقع بالخوف أو الهلع، ولكن بنوع من التوقع أقرب إلى الإستمتاع: فالمُشاهد على علم بأن الشخصية توشك أن تُصدم، فهو كمشاهد يعرف ما سيحدث مقدماً.

أسلوب الوعى هذا يخاطر بإستبعاد الطبيعة النفسية للفيلم النوعى، فأفلام نوع معينة تقود إلى حالة فسيولوجية مثل فيلم الرعب والفيلم الكوميدى والفيلم الرومانسى على وجه الخصوص، بمعنى أن جزءاً من جاذبيتها ينشأ من خلال طريقة هذه الأفلام فى توليد رد فعل فسيولوجى (جسمانى) ملموس: مثل الضحك فى الفيلم الكوميدى، والصراخ فى فيلم الرعب، والدموع فى الفيلم الرومانسى.

هذا ما دعى ليندا ويليامز فى " Hardcor" وآخرين إلى تسميه ذلك "هيئة" الفيلم النوعى، لكن إذا كان الناس جاهزين للتفاعل مع التوقعات إعتماداً على معرفتهم المسبقة فمن أين يأتى الرعب إذن؟ وقد يكون من المفيد أن نستدعى هيتشكوك هنا وتفريقه بين التشويق والرعب.

التشويق يتطلب تنبيه مُسبق: والرعب يتطلب المفاجأة، هكذا قال هيتشكوك، ولذلك فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون لديك مشهداً وتقوم بتصويره بطريقتين مختلفتين: واحد منهما ليؤكد التشويق والثانى ليتلاعب بعنصر الصدمة، مثل مشهد لزوجة تنام على الفراش فى المنزل مع عشيقها، ويقطع المخرج بينهما وهما فى الفراش وبين الزوج الذى يدخل إلى العمارة ويصعد على السلالم ببطء. وبينما يقطع المخرج بين الموضوعين فإننا نعرف ما سيحدث بعد ذلك، وسيكون شيئاً تشويقياً حيث أننا ننتظر حدوث شيئ حتمى، لكن المخرج يستطيع عمل شيئ غير ذلك بالتركيز فقط على العاشقين فى السرير، واللحظة فقط التى نرى فيها الزوج هى اللحظة التى يفاجأهما وهما راقدين فى السرير يستريحان بعد النشوة الجنسية. وسيقود هذا – إذا صُور المشهد بطريقة جيدة – إلى إحساس فورى بالمفاجأة،

ونفس الحال مع مشهد الرعب، نحن لا نحتاج إلى الإقرار بأن الرجل هو الزوج: فالذى يُعد مُهماً هو رد الفعل الذى يظهر على وجه الزوجة من الصدمة والمفاجأة وهذا ما سيحدث أيضاً فى رد فعل المشاهدين. وهذا ما أسماه روبرت بيرد " Robert Baird " "مؤثر الغفلة": وهى لحظة صادمة ومفاجأة، وينطبق هذا أيضاً على أفلام الرعب: ومن فيلم "الفك المفترس" " Jaws " لستيفن سبيلبيرج نستطيع ان نختار مثالاً جيدا وهو الرأس التى تشق جسم القارب فجأة.

افلام الرعب المعاصرة الجيدة يجب عليها ألا تتجاهل ان العديد من المشاهدين يعرفون الحيل السينمائية التى اصبحت تقليدية، وان التشويق الذى تحدث عنه هيتشكوك يتوافق أيضاً مع التوقعات، لكن مخرج أفلام الرعب الجيد يجب عليه ان يكون قادراً بإستمرار على خلق صدمة فعالة من وقت إلى آخر، وهكذا يمنح الجمهور رد الفعل الفسيولوجى العجيب الذى يتناسب مع التسمية النوعية لفيلم الرعب.

واحد من عناصر جاذبية فيلم "مشروع ساحرة بلير" " The Blair Witch Project " بالنسبة لعديد من المشاهدين الذين راوه، هو أن عدداً من التقاليد السينمائية لم تُستخدم: إنه لا ينتمى إلى نوعية فيلم رعب- ما بعد الحداثة- التى تجعل المشاهدين عارفين مسبقاً مثل فيلمى المخرج كرافن "كوابيس جديدة" " New Nightmares " و"الصرخة" الذى يؤكد بهما الإتقان الإبداعى للفيلم النوعى، لكنه على العكس من ذلك، ففيلم "مشروع ساحرات بلير" يُعد محاولة للعودة بفيلم النوع إلى أكثر أشكاله بدائية: تماماً مثل قصة عن شبح، الإتقان فى حكيها ليس مُهماً بمقدار أهمية حكيها حول نار المدفأة فى منتصف الليل حيث المستمعون خائفون مُسبقاً، لعل العديد من أفلام الرعب تُضحى بالجو العام فى مقابل عناصر التأثير الفنية حتى يمكن ان تخلق مؤثر الصدمة الجيد العجيب داخل جو عام لا يكون مرعباً تماماً.
مشروع ساحرة بلير

فيلم "مشروع ساحرة بلير" يتغاضى عن الجو العام، وهو يشبه الفيلم الممتاز "الشر ميت" " Evil Dead " الذى سبقه بمدة طويلة، ويشبه الفيلم الأقل شهرة ولكنه جيداً جداً " المياة المفتوحة" " Open Water "، فى فيلم "المياة المفتوحة" لا يتعاطى الفيلم مع المفاجاة بشكل فعلى، ولكنه يجعل المشاهدين مدركين بإستمرار: فهُم على معرفة بما ستفعله الشخصيات للخروج من الموقف الذى يكونون فيه، إنهم مجموعة من الغواصين الذين يُمضون أجازتهم ويتوهون وسط المحيط بعد أن فشل المركب فى العثور عليهم، هل سيتم العثور عليهم، أم ان أسماك القرش ستلتهمهم؟


فيلم الخيال العلمى

ماذا نتوقع من أفلام الخيال العلمى؟ الطلاب الدارسين يذكرون عادة مجموعة المؤثرات الخاصة الجيدة لفيلم "النصل الدائر" " Blade Runner " ويذكرون فيلم "البرتقالة الآلية" " A Clockwork Orange "، الذى يقدم تصوراً عن واقع مستقبلى مرير ايضاً، حيث المستقبل يتم تقديمه بطريقة تشائمية وكعلامة تحذير لما سيأول إليه العالم، ويحق لنا ان نقول ان فيلم الخيال العلمى هو أكثر انواع الافلام النوعية "إفتراضية"، وعندما نقول انه الأكثر "خيالية" فإننا لا نقصد نفس المعنى.
النصل الدائر

نستطيع ان نؤكد بطرق كثيرة ان الفيلم الموسيقى أكثر "خيالية" وأكثر "عبثية" من فيلم الخيال العلمى، فالدافع الإنسانى والسيكولوجى والسلوك فى فيلم الخيال العلمى يكون بعيداً جداً عما نفعله فى حياتنا، كم منا صدح بالغناء ورقص فى الشارع عندما وقع فى الحب أو نال الوظيفة التى يحلم بها ؟، لكن فى فيلم الخيال العلمى لا تتطلب الخيالية دائماً إنخراطاً كاملاً فى العبث، لكنها تتطلب تغيير طفيف فى حالتنا السيكولوجية.

فى اواخر الستينات وبداية السبعينات ظهرت موجة عظيمة من أفلام الخيال العلمى الذهنية – الإجتماعية، وبدا الأمر كما لو كان رد فعل لمقولة سوزان سونتاج فى مقالها المنشور فى عام 1965 تحت عنوان "تخييل الكارثة" حيث كتبت قائلة (لا يوجد فى فيلم الخيال العلمى أى نقد إجتماعى ولا يتضمن أى تلميح إلى النقد الإجتماعى) وهو بالتأكيد ما ظهر لاحقاً فى فيلم "النمو السكانى صفر" " Zero Population Growth " وفيلم "الطعام الصناعى الاخضر"" Soylent Green " وفيلم "هروب لوجان" " Logan’s Run " وفيلم "المسعور" " Rabid " وفيلم "القشعريرة" " Shivers" وحتى فيلم "كوكب القرود" " Planet of the Apes " فكل هذه الأفلام كانت تبحث فى الكيفية التى يدمر بها الإنسان نفسه أو يدمر بها كوكبه، او معيشته فى حالة من عدم الوعى.

ويُعد فيلم "الطعام الصناعى الأخضر" واحداً من عدد من افلام الخيال العلمى الذى يتناول نظرية مالتوس فيما يتعلق بالإنفجار السكانى، وهى النظرية التى ظهرت أيضاً فى فيلم "النمو السكانى صفر" و"هروب لوجان" فكل هذه الأفلام تطرقت إلى قضية المصادر الطبيعية للغذاء أوالإشكالية الفلسفية فيما يتعلق بإزدياد عمر الإنسان. هذه الأفلام إعتمدت قليلاً جداً على المؤثرات الخاصة مقارنة بتلك الأفلام التى ظهرت فى نهاية السبعينات وبداية الثمانينات مثل "حرب النجوم" و "ترون" " Tron " و"النصل الدائر" وفيلم "فايرفوكس" " Firefox " لكن هذا التعميم غير صائب: فمن الإجحاف ان نقول أن النقد الإجتماعى لم يكن موجوداً قبل مقولة سوزان سونتاج.

كل من فيلم "إنهيار الأمن " Fail Safe " وفيلم " الدكتور سترينج لاف" " Dr Strangelove " تم عرضهما مؤخراً ومن الواضح انهما يثيران التسؤلات حول قناعات إجتماعية معينة. وفى نفس السياق توجد افلام خيال علمى نحت فى نفس الإتجاه فى الثمانينات وخاصة أفلام ديفيد كروننبرج، فالمخرج كروننبرج كان دائماً يمزج الخيال العلمى بالقضية الإجتماعية.

إنه مخرج فيلمى "المسعور" و"القشعريرة" الذى نوهنا عنهما آنفاً، فهو كمخرج أفلام خيال علمى يهمه كثيراً ان يتعاطى مع الجانب النفسى والجسدى. ما أقصده من هذا أنه مخرج عظيم للمرض والمصاعب وعادة فإنه يقدمها معاً، وبناءاً عليه يعد فيلميه"المسعور" و"القشعريرة" من أفلام القضية الجنسية، فالمرض يستشرى فى المجتمع ويخلق بداخله التوتر، وبعض النقاد رأوا الفيلمين كإرهاصات لظهور مرض الإيدز، وتسائل ناقد مثل روبين وود – وقت عرض الفيلمين- عما إذا كان كروننبرج مخرجاً محافظاً تُدلل افلامه التحذيرية على موقفه ورد فعله.

وربما يكون من المفيد جداً أن ننظر إلى كروننبرج كشخص يريد أن يستشرف ما سيؤول إليه المجتمع فى المستقبل وانه يوظف الميزانسين ويلمح به إلى الحاضر، ونستدل على هذا من خلال فيلمه الذى أخرجه فى بداية الثمانينات تحت عنوان " Videodrome " "تسجيل لفيديو" حيث يريد مخرج تليفزيونى ان ينتهز الفرصة ويقدم شيئاً غير مسبوق فى قناته ويقتنص شريط فيديو من قناة حيث الخط الفاصل بين الواقع والخيال لا وجود له.

ويظهر هذا أيضاً فى فيلم "الذبابة" " The Fly " الذى اعاد إخراجه بصيغة فكرية فى عام 1985، حيث تقود التجارب الجينية إلى تحويل الشخصية الرئيسية إلى ذبابة – كإسم الفيلم- لكن الفيلم يعرض كل مرحلة من تحوله كتطوير فى البحث العلمى، وقد تكون الشخصية الرئيسية قد فقدت آدميتها لكنها تكون الرابحة بكل المقاييس.

وفيلم "إصطدام" " Crash " قد لا ينتمى كلية إلى نوعية فيلم الخيال العلمى، لكن به أيضاً ثمة ملمح من الإستشراف لما سيؤول إليه المستقبل، وهذا الفيلم مأخوذ من كتاب لبالارد " J. G. Ballard". حيث تصبح السيارات كائنات معبودة، وتصبح الكثير من العناصر الفرعية للسيارة كرموز جنسية ذكورية وكأداوات للمتعة الحسية بدون ألم، الفكرة هى أن النشوة الجنسية تاتى من خلال الجمع بين حادث السيارة وبين تصورات عن المستقبل، ومن الأشياء التى يستطيع كروننبرج عملها، هو إخراجه لأفلام الخيال العلمى بدون ان تحتوى مادة الفيلم على عناصر فيلم الخيال العلمى: مثل الإحساس الإستشرافى الواضح، والمؤثرات الخاصة، والديكور الذى يتم تصميمه ليتناسب مع فيلم الخيال العلمى. إنه يجعلنا أيضاً نفكر فى الحدود الفاصلة بين الذكر والأنثى، حيث نراه يتفرع إلى موضوع الطلاق مثل فيلم "الحاضنة" " The Brood " أو يتفرع ليعرض الأمراض النسوية كما فى فيلم "فارعو الأجراس الموتى " " Dead Ringers " أو يتفرع إلى ألعاب الفيديو مثل فيلم "وجود" " Existenz ".

فيلم الغرب الأمريكى

يستوقفنا دائماً عندما نتامل فيلم الغرب الأمريكى ان الرجال الطيبين يرتدون الملابس الفاتحة وان الأشرار يرتدون الملابس السوداء، لعلنا نستدعى رعاة البقر والهنود الحمر وكذلك روح الإستكشاف: التحرك ناحية الغرب الأمريكى، وإكتشاف الذهب أو على الأقل البحث عن حياة معاييرها أفضل،

إن فيلم الغرب الأمريكى أيضاً من الأفلام النوعية التى تصنع أمريكا، وإذا كان جون واين فى أفلامه مثل " الحنطور" " Stagecoach " و "النهر الاحمر" " Red River " و "الباحثون" " The Searchers " يُعد واحداً من أعظم الشخصيات الأمريكية، فهذا لأنه يستحضر القيم التى تحتاج البلاد ان تعيش بها: وهى قيم صعبة لكنها عادلة، وليس فى الامر هزل ولا بد من هذه القيم.

لكن البعض وجد ان فيلم الغرب الأمريكى شاعرياً جداً، وفى نهاية الستينات عمل عدد من المخرجين ما يمكن أن نسميه "أفلام الغرب الأمريكى المُعدلة" فهى تُشكك فى العديد من التصورات حول الفيلم النوعى، فهذه الأفلام لم تعد تهتم فى الأساس بصنع أمريكا، ولكن بإنتقاد أمريكا، وإذا كان اندريه بازن " André Bazin " فى مقالته "فيلم الغرب الأمريكى " The Western’ " كان مُحقاً عندما قال ان الفيلم النوعى كان نوعاً من التصور الذهنى عن الواقع التاريخى، وأنه أسطورى جداً، حتى ان مخرجين معينين أرادوا ان يتخلصوا من طابعه الأسطورى.

وفى نفس السياق يعتبر المخرج سام بيكنباه واحداً من اعظم مخرجى الغرب الأمريكى، لأنه إذا كان فيلم الغرب الأمريكى يُنظر إليه غالباً على انه من الأفلام النوعية الجيدة التى تفصل بين الحضارة فى مقابل الطبيعة، وتفصل بين الاخلاق فى مقابل الوضاعة، وتفصل بين الهمة فى مقابل التكاسل- فإن المخرج بيكنباه أراد ان يجعل هذه الفروق تذوب وان ينقلها من الشكل الأسطورى إلى الواقع التعس اليومى، ولذلك ففى فيلميه العظيمين عن الغرب الأمريكى "الباقة البرية" " The Wild Bunch " و"بات جاريت وبيلى الطفل" " Pat Garrett and Billy the Kid " نراه مهتماً بوضعية الخارجين على القانون حيث تحتفظ الشخصيات بعديد من عناصر الشخصية فى فيلم الغرب الأمريكى ولكن بدون تحميلها نظام القيم الإيجابية.
بات جاريت وبيلى الطفل

ففى فيلم "الباقة البرية" يحصل روبرت ريان على مهمة مطاردة زميله ويليام هولدن والقبض على باقى عصابة هولدن، فالعمل الذى يؤديه ريان ليس من الأعمال البطولية- إنه يعمل أساساً فى خدمة أحد أباطرة السكة الحديد الذى يريد التخلص من هولدن- وينحاز المخرج بيكنباه لشخص خارج على القانون ودموى مثل ريان، وفى فيلم "بات جاريت وبيلى الطفل" نرى بات جاريت يخون ويوافق على الفبض على صديقه القديم بيلى الطفل، فقد قرر بات جاريت انه يريد ان ينحاز إلى المستقبل- مع بدء حلول المدنية- ويقول بيلى ان الزمن ربما تغير لكنه لا يريد ان يفعل نفس الأمر، فللمرة الثانية نرى المخرج بيكنباه ينحاز لشخص خارج عن القانون على حساب عنصر التمدن.

إذا كان العديد من المخرجين يرون ان فيلم الغرب الأمريكى من الأفلام النوعية التى تعنى بصناعة أمريكا وجعلها افضل – حيث يظهر هذا علانية فى فيلم "الحنطور" ويظهر بشكل عرضى فى فيلم "الباحثون" ويظهر بشكل أسطورى كما فى فيلم "الرجل الذى أطلق النار على ليبرتى فالانس" " The Man Who Shot Liberty Valance " ويطلب منا المخرج بيكنباه أن نتسائل عما تتأسس عليه هذه الحضارة، ففى احد الجوانب لدينا رجال دمويين يعيشون فى مجتمع عدوانى مُسلح، وفى الجانب الآخر لدينا حالة لموت هذا المجتمع البدائى بسبب ممارسات مستمرة من النفاق والخيانة.

لا شك ان صيغة المخرج بيكنباه التى تستبعد الاسطورة تتضمن نوعاً من السخرية، لكنها سخرية بلا معنى، فهو يحس بان الشخصية فى أفلام الغرب الأمريكى القديمة لديها قيم يمكن التشكيك فيها، لكنه برغم ذلك يقدم نفس الشخصية، فثمة إحساس فى فيلميه المُشار إليهما بأنه أكثر تبنياً للأسطورة وليس نافياً لها: فهو يريد من رجل الغرب الأمريكى ان يواجه ماضيه: ويريد أن يقول ان العديد من شخصيات هذه الأفلام لم تصنع أمريكا من الناحية التاريخية، لكن ثمة شيئ ما قد تم تحطيمه من خلال التحرك الأمريكى فى إتجاه تمدن مشكوك فيه، ويمكن للواحد ان يقارن هذا بأفلام سرجيو ليونى التى تتميز بحالة تنويرية أكثر وبطريقة أكثر فنية فى تطوير نوعية فيلم الغرب الأمريكى، مثل أسلوب الإسقاط الذاتى فى فيلم "الطيب والسيئ والقبيح" " The Good, The Bad and the Ugly " أو فى فيلم "كان ياما كان فى الغرب" " Once upon a Time in the West " حيث التنوير اكثر حضوراً فى هذا الفيلم النوعى.

فيلم العصابات

أحد اهم الفروق بين فيلم الغرب الأمريكى الكلاسيكى وبين أفلام العصابات يمكن ان نستدل عليه فى الفرق بين الرجولة والذكورة بإستثناء افلام الغرب الامريكى المُعدلة مثل أفلام بيكنباه، هل فيلم الغرب الأمريكى فى عمومه لا ينتمى إلى نوعية الفيلم الذكورى، وهل نوعية فيلم العصابات ينتمى من حيث المبدا إلى نوعية الفيلم الرجولى؟ دعونا نحاول ان نحدد الفرق من خلال الإستشهاد بفيلم "الوجه ذو الندبة" " Scarface "، ففى هذا الفيلم الذى اعاد إخرجه براين دى بالما عن نفس الفيلم الذى اخرجه هوارد هوكس، نجد أن القيم الذكورية يتم تقديمها بشكل مُبالغ فيه،
الوجه ذو الندبة

وهذا هو أسلوب دى بالما نوعاً ما – فهو مخرج سينمائى يتميز بالمُبالغة " operatic " وليس هذا بسبب العناوين الفرعية ولكن أيضاُ بسبب يتعلق بطبيعة مناخ الفيلم النوعى، حيث البندقية فى فيلم الغرب الأمريكى تكون محوراً للتعبير عن قوة القانون، اما فى نوعية فيلم العصابات فالبندقية تكون محوراً للتعبير عن إنتهاك القانون.هناك إطلاق نار كثير فى فيلم العصابات، وإحساس بان العنف ليس بريئاً ولكنه عنف قذر: فالناس الابرياء يُقتلون، والشخصية المحورية ليست إلا بطلاُ فردياً فى مواجهة العالم، وإن صعوده سلم الترقى الإجتماعى يتسبب فى سقوط أناس كثيرين موتى تحت أقدامه، ويمكننا أيضا ً ان نقول أنه إذا كان فيلم الغرب الأمريكى فى عمومه فيلماً عن البطولة، فإن فيلم العصابات هو النموذج اللابطولى.

عندما نفكر فى فيلم مثل "القيصر الصغير" " Little Caesar " وفيلم " White Heat " وننتقل إلى فيلم "الأب الروحى" وفيلم "اولاد طيبون" " Goodfellas " نرى ان أبطال هذه الافلام يتميزون بملامح طيبة، لكنهم ليسوا أشخاصاً بطوليين.

وعلى نفس المنوال فإن فيلم العصابات هو قصة نحذر منها، حيث نراقب شخصيات يفقدون إنسانيتهم ويصبحون جشعين ومخادعين وذوى وجهين، فشخصية الممثل آلبتشينو فى فيلم "الوجه ذو الندبة" يظهر بملامح متسامحة فى بداية وصوله إلى الولايات المتحدة الامريكية فى بداية الفيلم (رغم ان له ماضى إجرامى فى بلده الأصلى كوبا)، ولكن إذا كان فيلم الغرب الأمريكى يريد منا بشكل عام أن نتوحد مع قيم شخصياته المحورية، ففى فيلم العصابات نحن نامل دائماً أن نبعد انفسنا عن قيم هذه الشخصيات.

فى فيلم مثل "اولاد طيبون" لعلنا نُقدر أسلوب الحياة، لكننا من الصعب ان نُقدر قيم هذه الحياة، وحتى إذا كانت الشخصية من حيث المبدأ تبحث عن تأكيد رجوليتها – لكى تصبح قادرة على الكسب وتربح مبلغ كبير من المال من اجل زوجته او عائلته – فإن هذه الرجولة يتم الإفتئات عليها لأن الشخصيات يصبحون عدوانيين بصورة كبيرة مع من يحبونهم، ويسيئون إلى زملائهم بصورة متزايدة، وغالباً ما ينتهى بهم الأمر إلى تدمير انفسهم.

وهذا لا يعنى بالضرورة أن فيلم العصابات أكثر واقعية من فيلم الغرب الأمريكى، فعلى سبيل المثال، فى مقالة روبرت وارشو "رجل العصابات كبطل تراجيدى" " The Gangster as Tragic Hero’" يعتقد ان فيلم العصابات من الأفلام النوعية التى تقر حقيقة مؤكدة - الاوربيون يعتقدون ان فيلم العصابات واقعى- ألا توجد عصابات بهذا القدر الكبير فى كل ركن من اى شارع، هكذا يتصور روبرت وارشو.
يجب ان نتذكر اولاً وأخيراً وقبل اى شيئ- ان الفيلم النوعى يخلق مجموعة من التوقعات ضمن المناخ الذى يقدمه.