14‏/10‏/2014

الفيلم السيريالى مولهولاند درايف

 ترجمة:- ممدوح شلبى
 
بعد الفيلم الغريب "قصة ستريت" فإن المخرج ديفيد لينش، أستاذ السيريالية التى تُذهل العقل، أخرج فيلم مولهولاند درايف الذى نال الإستحسان، وهو فيلم إثارة يغلفه الغموض ينتمى إلى نوعية أفلام الجريمة الجديدة وهو يعتمد على عرض الأحلام، والحقيقة أن الفيلم يمكن النظر إليه على أنه نسخة جديدة من فيلم " توين بيكس" فكلا الفيلمين يتشابهان فى الموتيفات والتيمة وكذلك العناصر الفنية، مثل البناء السردى اللاتصاعدى والإستخدام المكثف للون الأحمر وتقديم الأغانى القديمة.

 
بداية الفيلم تسترعى إنتباهنا بمشهد رقص سيريالى سريع من نوع رقصة "جيترباج" تحذر الجمهور من ان الفيلم لن يكون فيلماً عادياً من أفلام أمسيات السبت التى يمكن أن تستمتع بها مع أسرتك، وكلمة "جيترباج" نفسها مُشتقة من الإرتعاش الهذيانى، وقد تخدم هذه الرقصة كتمهيد للتغيرات السيكولوجية والعاطفية التى ستُصيب المُشاهد إثناء مشاهدة الفيلم.
 
وبعد مشهد قصير يشبه الحلم، نرى وسادة حمراء، وهذه هى المرة الأولى التى يظهر فيها اللون الأحمر الذى سيتكرر ظهوره كثيراً فى الفيلم، وليست غلبة اللون الأحمر هنا هى التى تُدكرنا بإستخدامه المتكرر فى فيلم "توين بيكس" ولكننا أيضاً فى هذا الفيلم لدينا غرفة نوم حمراء شبيهة بنفس غرفة النوم فى فيلم توين بيكس.
 


ومن ملامح أسلوب ديفيد لينش الأخرى، ان السرد الروائى اللاتصاعدى يصبح الآن راسخاً مثل مشهد الفتاة المُصابة التى تهرب من محاولتها لإرتكاب جريمة وهى الآن تتجول بدون هُدى، مع إنتقال مونتاجى إلى مشهد آخر- ذلك المشهد الذى يظهر فيه رجل وكابوسه، تيمة الحلم هنا أصبحت محورية فى هذا الفيلم وتتخذ شكلاً مُرعباً، هذا الرجل يمر بتجربة مرعبة يعيشها فى أحلامه ويقظته- الرجل الذى يظهر فى خلفية العشاء يُعيد إلى أذهاننا القاتل بو فى فيلم توين بيكس، إنه من المستحيل أن نتجاهل حقيقة أن معظم الشخصيات تعيش حالة حلمية خاصة بهم، فالرجل مسكون ومُنهك من مخاوفه وكوابيسه، والممثلة الطامحة "بيتى" تعيش حلمها بأن تكون نجمة سينمائية، وريتا تلك الفتاة المجهولة تعانى من فقدان الذاكرة الذى أصيبت به بعد حادثة سيارة، وهى تعيش الآن فى حالة حلمية رغماً عنها.
 
فى ظل إصرار المخرج على رفض تفديم تفسيرات منطفية للرمزية فى الفيلم، فالأمر يبدو وكأنه من العبث أن نحاول الوصول إلى تأويل واحد نتفق عليه بخصوص الفيلم، إن رفض ديفيد لينش يمكن بالتأكيد أن يُقرأ على أنه رغبة منه بأن يجعل مُشاهديه يصلون إلى تاويلاتهم الخاصة بشكل فردى، وهذا فى حقيقة الأمر ملمح رئيسى فى تأويل الأحلام.
 
الشخصيات الثلاثة الرئيسية فى الفيلم لديهم منظورهم الحلمى الخاص، فبالنسبة لريتا، الحلم هو منزل عمتها كما انها تُشير إليه بإعتباره مكان الأحلام (ربما الأمر نوع من الكوميديا السوداء من جانب ديفيد لينش)، وبالنسبة للشخص المجهول فالحلم يمثل الكابوس والرعب، وبالنسبة لريتا فهذا الأمر بمثابة تجربة تعيشها كفاقدة للذاكرة، ويبدو المُشاهد كما لو أنه منوط به البحث عن وسائل ممكنة للهروب من السيريالية فى الفيلم.
 


وكمحاولة لإيجاد طريقة لريتا لكى تتعافى من فقدان الذاكرة، فإن المرأتين تذهبان للعشاء فى وينكيس حيث ترى ريتا إسم "ديان" على شارة النادلة فتتذكر فجأة إسم ديان سيلوين ويصبح العشاء عنصراً محورياً فى الفيلم، وربما يمكن إعتباره موتيفة قوية للفيلم.
 
وبعد أن تحصل الشخصية الغامضة كاميلا رودس على الدور التمثيلى فى الفيلم بدلاً من بيتى التى كانت ترغب فيه، نجد المرأتين تذهبان إلى منزل إمرأة ما تُسمى ديان سيلوين ليكتشفا - ويالها من فاجعة بالنسبة لهما - ان المرأة عبارة عن جثة مُتعفنة راقدة على سرير، وبعد عودتهما إلى المنزل وممارسة الجنس، تبدا ريتا فى ترديد كلمة "سيلينشيا" وبعض التعبيرات الاسبانية الاخرى فى كابوسها الذى ينتابها، وهذا المشهد شديد الصلة بنهاية الفيلم.
 
ثم يركبان تاكسياً إلى المسرح حيث يحضران حفلاً موسيقياً سيريالياً ويسيطر اللون الأحمر على المشهد مرة ثاتية، وهو من الممكن ان يكون رمزاً للدم أو الخوف أو النار، وتُخرج بيتى علبة مربعة زرقاء من حقيبتها، وستظهر علاقة هذه العلبة بمفتاح أزرق سنراه لاحفاً، ويعودان إلى المنزل، فتختفى بيتى فجأة، وتفتح ريتا العلبة وعندئذ تسقط على الأرض، ربما ترمز العلبة إلى البوابة التى تقود إلى العالم الحقيقى، كما سنلاحظ ، وربما ترمز أيضاً إلى الحقيقة المخفية، بينما المفتاح قد يكون أحد الوسائل التى يستطيع بها المرء أن يفتح بوابة هذا العالم.
 
 
المشهد التالى يكشف عن المرأة الميتة المُشار إليها سابقاً – هذه المراة على قيد الحياة الآن وهى تبدو شبيهة تماماً ببيتى، إنها تستيقظ بواسطة راعى بقر غامض والذى يمكن إعتباره بمثابة وسيطاً او جسراً بين العالمين، يبدأ المُشاهد الآن فى الظن بأن كل ما حدث كان حلم بيتى – التى أصبحت الآن ديان سيلوين- وأننا فى النهاية نعايش الحقيقة. أ
 
أول شيئ يُدهشنا هو التباين بين بيتى وديان "فهما شخصية واحدة" بيتى ممثلة ساحرة وطموحة وممتلئة حماساً، بينما ديان بلا لون، فهى شاحبة وتبدو كما لو كانت منهارة وفاقدة للطموح، إنها يمكن أن تكون رمزاً للممثلة الفاشلة، أو ببساطة هى شخصية "ميتة" كما ظهرت فى القسم الأول – الموت كرمز للسقوط من الجنة، ويتم تصوير كاميلا الآن بواسطة ريتا وتظهر المرأتان كما لو كانت بينهما علاقة حميمة.
 


فيلم "مولهولاند درايف" يتشابه مع فيلم "الإمبراطورية الأرضية" فكلا الفيلمين يحتويان على هلاوس لممثلتين تتعاملان مع حياتهن المهنية وحياتهن العاطفية، وكل منهما إتخذت الطريق الخطأ، تبدو كاميلا وهى تمازح آدم كيشر، الذى ظهر بوصفه المخرج فى تجربة الاداء التمثيلى الأولى، كما انها تحاول ان تصد عواطف ديان الموجهة لها. وعندما تصل ديان إلى أسوأ حالاتها فإنها ترتب أمراً مع قاتل محترف –ظهر فى الحلم أيضاً – لكى يقتل كاميلا، لم يكن لهذا المشهد ان يكون هاماً إذا لم تظهر فيه شارة النادلة المكتوب عليها إسم بيتى، وهذا مثال على الإزدواجية بين شخصيتى بيتى وديان، والمشهدان المتوازيان يمكن رؤيتهما كانعكاسات مرآة لكل منهما.
 
رمز المرآة فى تفسيرات الاحلام يعبر عن الكيفية التى يريد بها أحد الأشخاص أن يراه بها شخص آخر، أو ببساطة الكيفية التى يود احد الأشخاص ان يراه الناس بها، إنه أيضاً هام لتفسير المشهد حيث حلمت ديان بها كممثلة ناجحة، ومن الواضح انها ليست ناجحة.
 
فى هذه المسألة حدثنا سيجموند فرويد فى كتابه -تفسير الاحلام- عن مفهوم تحقيق الرغبة، الفيلم يتبنى بقوة التصور عن الاحلام بوصفها تجسيد لرغبات لم تتحقق، حلم ديان يمكن رؤيته كمحاولة لرؤية نفسها ناجحة وانها حققت ما تريد.
 
الرجل الذى يعانى من الكابوس فى القسم الاول من الفيلم نراه أيضاً فى العشاء، لكنه فى المكان المضبوط الذى يخبر فيه محدثه أنه يقف - إنها نظرية الإنعكاس مرة أخرى- فبالنسبة لشخص بلا مأوى، فهو يعبر عن تفسيرات لا حصر لها، أما بالنسبة لى فالأمر الأكثر اهمية أن نراه كشكل يجسد الشر الذى تمثله ديان، أو الشر الموجود فينا جميعاً.
 
 
وعندما تعود إلى المنزل، تعانى ديان من هلاوس تتعلق بزوجين مُسنين ، يمثلان لها الضمير والإحساس بالذنب، وتقتل نفسها، المشهد الاخير يحدث فى مسرح، جيث تتداخل صورة للمرأتين مع الخلفية، ربما المسرح كله يمثل مخيلة ديان، صورة المرأتين تظهر لمدة وجيزة، كما لو انهما آخر ما تراه ديان، وتلاشى الصورة فى النهاية كحياتها التى تنتهى بينما المرأة الغامضة ذات الشعر الأزرق تهمس "سيلنشيو".
 
هناك الكثير من الجدل حول معنى الفيلم وهناك أراء متعددة تتعلق بالعالمين، سواء كان الأمر مجرد حلم غريب ليس له علاقة حقيقية بالواقع، أم أن القسم الاول من الفيلم كان مجرد تصور من ممثلة فاشلة، فالفيلم بالتأكيد يشحذ التفكير.