12‏/05‏/2014

السينما الأمريكية الحالية

محاضرة:- تونى مكيبن
 ترجمة:- ممدوح شلبى
 
تذكار
لم يستطع اى كاتب ان يلتقط بذكاء ما يدور فى السينما الامريكية الحالية أكثر مما فعل ديفيد بوردويل فى كتابه "الطريقة التى تتحدث بها هوليوود" " The Way Hollywood Tells It " فقد صاغ فى هذا الكتاب عبارة "التكثيف المستمر" لكى يصف كيف ان العديد من الأفلام الأمريكية أصبحت أسرع وتيرة، وأكثر تعقيداً من الناحية السردية، وتُوظف مجموعة كبيرة جداً من اللقطات أكثر مما كان عليه الحال فى السابق، بينما وفى نفس الوقت فإنها تلتزم بكل قواعد الإستمرارية، وأصر بوردويل على ان كل فيلم تم صُنعه فى الولايات المتحدة الأمريكية يتبع هذه القواعد بإستثناء وحيد وهو أعمال ديفيد لينش.
 
وبعد فترة قصيرة من ظهور الكتاب، جاء مقال مارك لوسون فى صحيفة الجارديان البريطانية الذى أعلن فيه ان عصراً ذهبياً جديداً تمر به السينما الأمريكية ينافس حقبة الأربعينات وحقبة السبعينات. وبينما رأى بوردويل أن "التكثيف المستمر" يخلق مشاكل، فإن لوسون رأى عكس ذلك، فبوردويل يقول "إن الرؤية البصرية البديعة فى افلام التسعينات تتحقق من خلال حبكات أفلام مثل فيلم "إذهب" " Go " وفيلم "تذكار" " Memento " وفيلم "جاكى براون" " Jackie Brown " فهى افلام ماكرة يتم تقديرها ليس بسبب واقعيتها ولكن بسبب براعتها المستحدثة" ويقول أيضاً "ان معظم المخرجين يريدون كعكة ويأكلونها، وانهم يقدمون أسلوباً لا يتجاهل إستثارة خيال المًشاهد.
 
ولكن هل أسلوب التنوير يحتل الأولوية وغالباً "يغرق فى عرض لا مبرر له؟" وينهى بوردويل كتابه بمزيج من التفائل والتشائم، لكن بعض التحفظات التى قدمها بوردويل تعامل معها لوسون كنقاط إستحسان. ويقول لوسون على سبيل المثال "السبب الرئيسى لهذه النهضة أن كل مستويات السينما –من الناس الذين يضعون ميزانية الافلام إلى الناس الذين يدفعون ثمن تذاكر السينما – اصبحوا أقل خوفاً من مستوى الأفلام الذهنية والافلام المعقدة" ويقول أيضاً "الآن أصبح من المُفضل أن يكون المنتج والمخرج والممثل من المتعلمين – وبعدئذ من خريجى المعاهد السينمائية – وبعد ذلك ممن حصلوا على درجات علمية أعلى، وهذه السينما تعتمد على جمهور سينمائى أكثر تعليماً أيضاً".
 
نريد ان نتناول فى هذه المحاضرة ما يحدث فى السينما الأمريكية، بصرف النظر عن أن المخرجين والجمهور أصبحوا أكثر تعليماً، وبصرف النظر عما إذا كان هذا المستوى من التعليم مفيداً دائماً. الكثيرون الآن قد ينظرون إلى فيلم "كازينو رويال" " Casino Royale " كمثال على هذه النهضة فى السينما والتى تتطلب مًشاهداً متعلماً، فالفيلم يبدو أقل حرفية وأقل تحدياً وأقل إبهاراً من افلام جيمس بوند السابقة.
 
كازينو رويال
فيوجد فى هذا الفيلم فتاة واحدة فقط وهى تجعل جيمس بوند أكثر ضعفاً من اى فتاة ظهرت مع جيمس بوند من قبل، وكذلك فشرير الفيلم ليس هو الشرير – فوق العادة – الذى يتم التندر عليه فى سلسلة الأفلام التى تحمل إسم "أوستن باور" فى السنوات الاخيرة ، لكن هذا الشرير هو شخص خاسر على كل المستويات وهو يحتاج ان يُكون ثروة ليؤمن حياته. هذا فيلم من أفلام جيمس بوند الذى يبدو انه يسير على نفس النهج الجمالى والاخلاقى لسلسلة أفلام بورن " Bourne " وهو يبدو أقرب إلى التعقيدات الفلسفية لفيلم سيريانا " Syriana " مما فى افلام جيمس بوند الأخرى التى قام ببطولتها روجر مور وبروسنان والتى تميزت بالرواج العالمى، وهذا الفيلم أيضاً يعتبر مثالاً على "التكثيف المستمر " الذى تحدث عنه بوردويل، وخاصة أحد عناصره – وهو ما أسماه جيف كينج "جماليات التأثير" حيث الأولوية تكمن ليس فى سرد قصة جيدة ولكن فى إستجابة الجمهور للأحداث المُصورة المُتفجرة.
 
دعونا نستدعى انهيار مبنى "الإمباير ستات" فى فيلم "يوم الإستقلال" " Independence Day "، وتدمير المدن فى فيلم "ارماجيدون" " Armageddon " وأندلاع البركان فى فيلم "البركان " " Volcano "، فالشخصية والقصة يتواريان فى مقابل المؤثرات الخاصة، ففى مشاهد المُطاردة فى بداية فيلم "كازينو رويال" فى موقع مبنى مدغشقر، يتم تسجيل كل ضربة وكل سقوط فى لقطات مقربة وبمصاحبة مؤثرات صوتية،
 
وعلى اية حال، فإن أفلام "جماليات التأثر" تهدف إلى إحاطة المُشاهد بالمؤثرات الخاصة وتقنية الصوت الدولبى، ولكن هل "جماليات التاثير " المعروضة فى فيلم "رويال كازينو" تخدم هدفاً مباشراً؟. دعونا نفكر قليلاً فى احد تجليات "جمالات التأثير" التى بدت شديدة الإسراف: ففى مشهد من فيلم "السرعة" " Speed " حيث نرى اتوبيساً بدون ركاب يصطدم بطائرة بدون ركاب ومن ثم يقدم هذا المشهد إنفجاراً كبيراً لكنه إنفجار خالى تماماً من الأهمية، وإذا كان مشهد المُطاردة فى فيلم "كازينو رويال" فعالاً، فنحن نريد فعلاً أن نعرف أسباب ذلك،
 
وإذا كان هذا الفيلم قد حظى بأفضل إستقبال من جميع أفلام جيمس بوند التى ظهرت قبله لسنوات، فهذا يكمن فى "جماليات التأثير" التى تعاطت مع المستوى الإنسانى. فالصوت الدولبى والإقتصاد الكامل فى المؤثرات الخاصة والذى يستهدف تاثيراً جسمانياً حسياً فورياً، جعلنا ندخل فى عمق تجربة جيمس بوند بدون مبالغة أو خوف باعثه إهمال هذه المؤثرات الخاصة، فعندما يُسأل جيمس بوند هل يحب خمر المارتينى مُخففاً أم مُركزاً، فإنه يُجيب "هل تعتقد أننى سالعنك" فبعد سنوات من إستبعاد المبالغة والمؤثرات الخاصة التى تُبهر العين، أصبح جيمس بوند أكثر قُرباُ من الواقع فهو كثراً ما تبدر منه زلات ويتعرض لإصابات. ومن البديهى ان كل من بوردويل ولوسون يشيدان بفيلم "كازينو رويال" ففى حالة بردويل فإنه يعتقد أن "التكثيف المستمر" و"جمايات التأثير" كانا شديدى الروعة، بينما لوسون يُضيف أن قدرة الجمهور الواعى على فهم السرد المعقد والغير تقليدى فى محتوى فيلم أكشن، يعنى ان فيلم جيمس بوند لم يعد يحتاج إلى تصنيف الناس على أساس "طيب وشرير" ولكن الفيلم يتناول بذكاء القوى التى تسيطر على العالم. 
 
وعلى الرغم من ان بوردويل يقول ان كل مخرجى أمريكا تقريباً يتعاطون مع عوالم موحدة، فإنهم يجعلون أسلوب السرد مُتجزءاً، ويتحدث كريستوفر نولان كذلك عن التوجه الذهنى الواضح فى فيلم "تذكار"، فنحن قد نرى الفيلم ثلاث مرات حتى نستطيع ان نفهم كل تعقيداته، ومن الأفضل ان يتجه الواحد مباشرة إلى النسخة الدى فى دى ويشاهد الفيلم بالترتيب الزمنى للاحداث. ولكن هل افلام المخرج ديفيد لينش مفهومة وخاصة فيلمه "محرك مولهولند" " Mulholland Drive "؟ بشخصيته الرئيسية التى تتحول إلى شخص آخر أو تتحول إلى نسخة ثانية لنفس الشخص، فالفيلم يُسهب فى تقديم الشخصيات التى لا تقدم الكثير او القليل لمحور القصة التى تظل مُبهمة دائماً، فيلم ديفيد لينش يُعد تجربة سينمائية غير مسبوقة وهو عصى على الفهم،
 
وإذا طبقنا طريقة بوردويل - التى تتعاطى مع معظم الأفلام الأمريكية - لكى نفهم هذا الفيلم، فإنه عندئذ سيفقد الكثير من تميزه الفائق. فلكى نفهم الفيلم أكثر علينا ان نحاول أن نفهم الأحاسيس التى يستثيرها فينا كمشاهدين أكثر مما يفعله الفيلم فى طريقة السرد، فالأمر أشبه بعلاقة الفرد بالأحلام: فبدلاً من محاولة الفهم المنطقى للاحداث علينا ان نعرف الأحاسيس التى يولدها الفيلم، فعندما نحلم، ألسنا نتعامل من خلال الاحاسيس، حيث الأحداث هى التى تعكس هذه الأحاسيس، بينما فى الحياة نحن نتعامل بطريقة عكس هذا: فالعواطف نحن نستبعدها بشكل تام عن الاحداث وإن كنا بعدئذ نربط بها الاحاسيس؟ فمنطق الحلم فى فيلم ديفيد لينش يجعلنا نمزج حياة اليقظة مع منطق الحلم.
 
التعامل السهل مع القصة يمكن ان يقتصر على الأفلام الأقل تعقيداً فى المشاعر، ويستخدم بوردويل مصطلح "التلغيز" ليصف حالة الفيلم الذى يحجب المعلومات لكنه "لا يوحى بانه يفعل ذلك"، وللناقد آدم مارس- جونس راى وجيه – سبق لنا ان أشرنا إليه فى محاضرة "السينما الروائية بين القصة والشخصية والجو العام" يتحدث فيه عن السينما التى تكون ضد منطق عقارب الساعة، فهذه الأفلام تحتوى على بلبلة تجعلنا نشكك فى كل السرد وفيما نصل إليه من إستنتاج، ففيلم مثل "اللعبة " " The Game " وفيلم "نادى العراك" " Fight Club " وفيلم "الحاسة السادسة" " The Sixth Sense " وفيلم "تسع ملكات" " Nine Queens "كل هذه الأفلام التى تولد بلبلة تقلب الفيلم رأساً على عقب وتستدعى منا ان نُعيد قراءة المعلومات التى شاهدناها وكنا نعتقد انها مسلمات حتى هذه اللحظة، ثم نكتشف أنها كانت مجرد نتاج لذاتية الشخصية، او أنها كانت تتلاعب بجانب آخر من جوانب الشخصية. ديفيد لينش على الرغم من ذلك يبدو انه لا يريد تلغيزاً ذكياً فى حبكة غامضة، لكنه يريد إدماجاً للشخصية والقصة فى الجو العام حتى يتركنا نتعامل مع مشاعرنا الذاتية تجاه ما نراه، ولكى نفعل ذلك فمن الأفضل لنا ان نحاول فهم كيف يولد ديفيد لينش إطارات فارغة وكيف يتلاعب بترتيب الحوار والموسيقى والصوت فى الفيلم حتى ان ذلك الصوت يصبح أكثر العناصر اهمية، وحيث لقطاته المقربة لا تؤكد المعنى لكنها تستثير الأسئلة، وحيث لقطاته التأسيسية لا تؤسس المشهد لكنها تخلق إحساساً غريباً فى المُشاهد الذى ينظر إلى شيئ ما ولا يعرف يقيناً إذا كانت اللقطة هى لقطة وجهة نظر أم لا.
 
وأفلام ديفيد كروننبرج الاخيرة مثل فيلم "تاريخ العنف" " A History of Violence " وفيلم "وعود شرقية" " Eastern Promises " تبدو أفلاماً غريبة لعدة أسباب، فالفيلمان تقريباً من أفلام التنبؤ وهو يستخدم التقاليد القديمة فى بناء اللقطات وفى الشخصيات وفى حبكتى الفيلمين، فهما يحتويان على قصتين مبهمتين لكنهما قريبين إلى ما يُسمى فى التراجيديا الإغريقية باللحظة الكاشفة " peripety " – وهى تحول مفاجئ وغير متوقع للأحداث والموقف مثل إكتشافنا ان اوديب هو من تنطبق عليه اللعنة فى مسرحية اوديب-
 
تاريخ العنف
فى فيلم "تاريخ العنف" تعتقد زوجة جون ستول ان زوجها شيئ معين، وبعدئذ فى منتصف الطريق تكتشف انه شخص آخر تماماً، لكن بمقارنة هذا الفيلم بافلام الإثارة التى - تسير عكس عقارب الساعة – يبدو لنا الفيلم قديماً، وكما لو انه يستغنى عن الحبكة مُبكراً جداً.ً ديفيد كروننبرج على أية حال مشهور بتناوله للأمور الفلسفية المعقدة، وهناك ثمة إحساس غامض بصعوبة الفيلمين، كما لو اننا كنا نتوقع مزيداً من السرد عما نجده فى الفيلمين ومزيداً من الصور الفلسفية عما تعودناه مع كروننبرج، كما أنه يستخدم لقطات رد الفعل واللقطات التأسيسية ويقدم شخصية الشرير بوضوح لا لبس فيه، ويستخدم أيضاً نفس أسلوب المخرج ترانتينو فى التصوير والحوار الذى يرهص بالاحداث القادمة، وفى نفس الوقت فإنه يقدم لنا تحليلاً شديد الدقة عن جرثومة العنف التى إستشرت فى حياتنا.
 
فى العديد من أفلامه الاولى التى قدمها فى إطار نوعية أفلام الخيال العلمى المرعبة مثل فيلم "القشعريرة" " Shivers " وفيلم "المسعور" " Rabid " وفيلم "الحاضنة" " The Brood " نحس انه كان يريد أن يكشف عن تاريخ المرض. وفى فيلم "تاريخ العنف" يفعل ذلك فيما له صلة بالعنف قائلاً (العقد الإجتماعى تم إلغاءه فى امريكا) وان ثمة (نوعية من الهلوسة فى الحياة فى الولايات المتحدة الأمريكية) ويعرض فى فيلم "تاريخ العنف" تجربة قاسية لثقافة البندقية فى امريكا، ويترك المُشاهد يصنع كعكته ويأكلها، هل أسلوب ديفيد كروننبرج اكثر تقليدية وأكثر راديكالية من الأفلام العديدة التى تُعد امثلة على أفلام "التكثيف المستمر" ؟ وهل يحتاج المُشاهدون أن تُقدم إليهم التعقيدات الفلسفية ليس فقط على المستوى التقنى والسردى ولكن أيضاً على المستوى الإجتماعى الفلسفى؟ وبالنسبة للبعض، فإن مثل هذه الأسئلة ليست شائعة فى الكثير من السينما الأمريكية: حيث تكمن الطزاجة فى مكان آخر: فهى تكمن فى الأسلوب.
 
هل اهم شيئ فى إستجابتنا لأفلام ديفيد لينش وكروننبرج ألا نُلقى بالاً بوعى المُشاهد ولكن ان نهتم بحالة الفهم الساخر فيما له علاقة بعديد من الأفلام التى تلعب على البعد الكوميدى؟ صاغ الناقد سكوت فونداس مصطلح "الفاصل الجنسى" " detail fetishism’ " ليصف أفلام مثل فيلم "روشمور" " Rushmore " وفيلم "ديناميت نابليون" " Napoleon Dynamite " فهذه الأفلام تهتم اكثر بالميزانسين أكثر من إهتمامها بالشخصيات التى لا تعدو ان تكون احد أبعاده. تُعد أفلام "حديقة عامة" " Garden State " و"أبناء رويال تيننبوم" " The Royal Tenenbaums " و "الحياة المائية" " The Life Aquatic " و "انا قلب عائلة هاكابى" " I Heart Huckabees " و "إعداد " Adaptation " أمثلة لنوعية من السينما جعلت المُشاهد واعياً ليس عبر عمل فيلم يعتمد على قصة مُلغزة ولكن بدلاً من ذلك السماح لهم ان يتبنوا موقف الذى لا يعنيه الأمر والذى يجعل المُشاهد على معرفة دقيقة أين موقعه من الاحداث طوال الوقت.
 
ففى الدقائق القليلة الأولى من بداية فيلم "أبناء رويال تيننبوم" يولد المخرج وس أندرسون إحساس بالضيق العام والذى يدين فيه قليلاً إلى أفلام الأخوين "كوين" " Coens’ " وكثيراً إلى المُباشرة فى الفقرات الإعلانية. هذا النوع من السينما مُضحك، ويُعد وس اندرسون أستاذاً له، ولكن عندما تحدث لوسون عن ذكاء الجمهور المُعاصر، وانتقد بوردويل هذه التعقيدات الفلسفية، ولعلنا نفعل الأسوأ بمشاهدة الأفلام الموصوفة بانها "فواصل جنسية" ونرى أين تكمن المشكلة، دعونا نشاهد كيف يقطع اندرسون مونتاجياً إلى ازمنة سابقة وأزمنة مستقبلية فى أسلوب تصوير اللقطة واللقطة العكسية والتى تحصر الشخصية فى الكادر، او إلى الطريقة التى يمحو بها العمق والزخم من الصورة، هذه سينما تعنى بالإدراك فعلاً، ولكن هل هى فعلاً أكثر فلسفية من الصورة السينمائية التى تقدم "عمق الميدان" ومن أسلوب اللقطتين الذان يسمحان للممثلين والميزانسين ان يتعايشا؟