17‏/10‏/2013

اشكال الفيلم التسجيلى

فيلم نانوك الشمالى

محاضرة:- تونى مكيبن

ترجمة:- ممدوح شلبى

العديد من المخرجين ليسوا سعداء بمصطلح تسجيلى، وعندما طُلب من المخرج الفرنسى التسجيلى العظيم كريس ماركر ان يقول رأيه عن الشكل فى كتاب ( تخييل الواقع) رد قائلا ( انا لا اشعر اننى انتمى الى عالم الفيلم التسجيلى) وفى حوار مع مخرج آخر هو بافل بوليكوفسكى، قال انه اذا كانت معظم الافلام التسجيلية تدعى انها (تسجل الواقع فقط ) فأين يمكن لافلامه ان تذهب؟ واصر على انه ( لا اضع حدودا فى المعالجة الفنية لموضوعاتى). 

المهم هنا الا نفكر فى الفيلم التسجيلى باعتباره مجموعة من القواعد التى تحدد شكل الفيلم، لكن باعتباره سلسلة من الامكانيات المقبولة عندما نكون فى عالم الحقيقة وليس فى عالم الخيال، فالبحث عن الحقيقة يمكن ان يتخذ اشكالا شتى.

ولكى نغطى نقاشنا فان ما نريد ان نبحثه هو تنوع اشكال الفيلم التسجيلى، فيمكن ان نتناول الفيلم التسجيلى من وجهة نظر الاخبارية، او التحقيقية او الروائية او من وجهة النظر الشخصية.

 هذه المصطلحات فضفاضة، والفيلم التسجيلى قد يستخدم الاشكال الاربعة او بعضها او يستخدم شكلا واحدا، وفى مراحل مختلفة من تاريخ السينما كان احد المصطلحات اكثر انتشارا من البقية، فعلى سبيل المثال، فى الستينات اعتمدت حركتين سينمائيتين على صيغة التحقيق، وهما حركة سينما الحقيقة فى كندا وفرنسا، وحركة السينما المباشرة فى الولايات المتحدة الامريكية،

المؤسسان الرئيسيان فى كندا وفرنسا كانا ميشيل برو وجان روش، وفى الولايات المتحدة الامريكية كان المؤسسون الرئيسيون هم ريتشارد ليوكوك واخوان مايسل و دى أ بنيباكر وفريدريك وايسمان، وكانت الفكرة التى انبثقت منها حركة السينما المباشرة الامريكية ان السينما يجب الا تكون مُفتعلة قدر الامكان، واذا كانت كثير من افلام حركة سينما الحقيقة الفرنسية والكندية تبدو مُفتعلة، فعلينا ان نقر بارتباط ذلك بالموضوع.

ويصر مخرج السينما المباشرة وايسمان فى فيلميه ( المدرسة الثانوية) و ( الرعاية الاجتماعية والاسكان الشعبى) على تجنب توجيه اسئلة للموضعات، ولا يستخدم الموسيقى ولا يستخدم التعليق المُصاحب، وهو يحرص بالتأكيد على عدم تقديم نفسه على الشاشة.

اما مخرج سينما الحقيقة جان روش، على العكس من ذلك، يسمح باظهار وجهة نظره فى الموضوعات، ففى فيلم ( وقائع فصل صيف) يجعل المشاهدين واعين بحضوره وحضور المخرج الثانى للفيلم ادجار مورين، فعندما تظهر سيدة فى حالة انهيار امام الكاميرا، فان المخرجين يقران بان يأس هذه المرأة استحوز عليهما.

وقبل ظهور هذين الحركتين فان الافلام التسجيلية كانت موجودة منذ مدة طويلة، ففيلم (نانوك الشمالى) لروبرت فلاهيرتى ظهر فى العشرينات، وفيلم (رجل من آران) ظهر فى الثلاثينيات، وكلا الفيلمين كانا واقعيان جدا.

وكما يقول محررا كتاب (تخييل الواقع) - مارك كوسينز وكيفين مكدونالد - فيما له صلة بفيلم نانوك الشمالى لفلاهيرتى ( تصوير الفيلم كان بعناصر من الواقع، اما مونتاج الفيلم فكان مثل الفيلم الروائى) وكانت الافلام قبل ذلك ترى ان ( يجب ان يبتعد الفيلم التسجيلى عن الواقع وان يتعامل مع العناصر الدرامية وحرفية الفيلم الروائى) حتى يصبح الفيلم ناجحا.

اراد مخرجو السينما فى الستينات ان يكون الفيلم التسجيلى بنفس القدر من الاهمية ولكن من خلال فهم منهجى للواقع الذى يصنعون عنه الفيلم، سواء بتجريب نموذج السينما المباشرة، او بجعل المشاهدين واعين بان ثمة شخص وراء الكاميرا له علاقة بالموضوع كما فى حركة سينما الحقيقة.

وعلى اية حال، ينبغى علينا الا نرى تلك العقائدية كنوع من التقييد: فمن المفارقة ان اصرار منظريهم على ان صناعة الفيلم التسجيلى يجب ان تتحرر من القواعد، جعل بعض المخرجين يضعون بانفسهم قواعدهم الخاصة بحرية، وعندما نشاهد الافلام التسجيلية ابتداءا من السبعينات فان الاختلافات تبدو كبيرة.

هناك افلام المغامرات الشخصية لفيرنر هيرتزوج، حيث يضع المخرج نفسه فى مواقف خطيرة مثل فيلم (البركان) حيث ذهب مع المصور الى جزيرة صغيرة كان سكانها يرحلون عنها، فأى شخص آخر كان سيهرب من البركان الذى اوشك ان يثور: اما هيرتزوج فقد اراد ان يكون شاهدا.

وفيلم (الشمس) لكريس ماركر فكان عبارة عن مقالة فى ادب الرحلات استخدم فيها ماركر صوت المُعلق الذى يمثل الضمير ليوائم بين الثقافة اليابانية والثقافة الافريقية، وافلام نك برومفيلد مثل (كرت وكوتنى) كانت منفرة جدا، فهى مليئة بحضوره الشخصى، وكان هذا نتيجة لان المنتجين اصروا على ظهوره امام الكاميرا ضمن شروط العقد.

والآن دعونا نعود الى ما نوهنا عنه بخصوص الاربعة انواع للفيلم التسجيلى وهم، التحقيقى والروائى والاخبارى والشخصى.

 فاذا كانت افلام وايسمان واخوان مايسل وآخرين هى افلام تحقيقية، فماذا عن الافلام الاخبارية؟

افلام تسجيلية كثيرة مثل سلسلة (العالم فى حرب) وافلام آدم كارتس التسجيلية التى تشمل ( قرن الذات) و ( قوة الكوابيس) و(الحقيقة المزعجة) و ( الذهب الاسود) وغيرها، وكل تلك الافلام (الدى فى دى) عن اخراج الافلام حيث يتلاقى الاخبارى مع الدعائى، فهى تستقطبنا اثناء العملية الاخبارية، وتمنحنا المعلومة المجردة كما لو كانت موسوعة علمية.

من الواضح ان درجة من الموضوعية مفتوحة لنقاشنا، لكن دعونا نقارن بين فيلم ( قوة الكوابيس) لكورتس وبين فيلم (فهرنهايت11/9) لمور، فبينما كان كورتس يلهب عقل المشاهدين بالحقائق، فان خفة ظل مور تجعل فيلمه اكثر اريحية، فشخصية مور تفرض نفسها فى الصيغة الاخبارية.

فعلى سبيل المثال عندما قطع مور الى فقرات من فيلم ( حملة التفتيش) بعد ان تسائل لماذا سُمح لعائلة بن لادن بمغادرة البلاد، فاى شخص من مشاهدى الحلقات التليفزيونية يعرف ان الشيئ الاول التى يحدث بعد ارتكاب جريمة هو اجراء مقابلة مع اقرب الجيران، ان الصيغة الاخبارية تفسح الطريق للشخصى.

اذا كانت افلام مور تستشكل عند الكثيرين، فهذا يكمن فى الطريقة التى يتبعها باستمرار فى تحويل الفيلم الى شيئ شخصى، ومع ذلك ففيلم المهم والقوى ( سيكو) يسلك الطريق السهل حيث يتنقل مور بين لندن وباريس وهافانا مُشيدا بانظمة الرعاية الصحية فى هذه البلدان والتى تتناقض مع انظمة الرعاية الصحية فى الولايات المتحدة الامريكية.

وعندما يمزج مور بين الشخصى والاخبارى السياسى فانه يجعل المشاهدين منتبهين الى فنياته اكثر مما يقدمه من معلومات.

وحتى الحزب الديموقراطى نفسه، والذى أمل مور ان يفوز فى الانتخابات على خلفية فيلمه فهرنهايت 11/9 ، فانهم انصرفوا عن فيلمه.
وفى نفس السياق، هل فيلمى ( المحرقة ) و ( جامعو المحاصيل وانا) ينتميان الى الافلام الشخصية؟ فبالنسبة للبعض يُعد سبب ضعف فيلم المحرقة الذى يدوم اكثر من تسع ساعات والذى يوثق للهولوكست، ان المخرج كلود لانزمان بالغ كثيرا فى الاسئلة، لكن من المفهوم ان مغالاة المخرج فى الحوارات كان محاولة منه للاحاطة بالملابسات الكاملة لمعسكرات الموت.

الشخصى هنا لا يكمن فقط فى الحضور القميئ للمخرج لانزمان، ولكن ايضا فى الذكريات المحفورة فى الشخصيات التى حاورها فى الفيلم، فاحدهم وهو ممثل للحكومة البولندية اثناء الحرب، نراه ينهار ويبكى مُصرا على انه لا يستطيع ان يعود الى الذكريات التى انطمرت، ويواصل لازمان اسئلته مع متحاور آخر شديد الحساسية عله يتذكر ما حدث، وعلى هذا المنوال فان الشيئ الشخصى للمخرج لازمان ينتهى غالبا باستخراج العنصر الشخصى للشخصيات التى يحاورها.

ونفس الحال مع المخرجة الفرنسية أنيس فاردا التى تقدم منظورا شخصيا فى فيلمها ( جامعو المحاصيل وانا) لكن فاردا انسانة ضعيقة، تكشف عن علامات تقدمها فى السن من خلال لقطات مقربة ليديها وشعرها الهش عندما تندهش من صغر حجم المعدات.

كما انها تمشى على اطراف اصابعها وسط الموضوعات التى تصورها، وتُظهر اعجابها ومودتها وحنانها تجاه الناس الذين تحاورهم، ومن بينهم اناس بلا مأوى وعمال باليومية ومحامين وعاطلين، جميعهم مرتبطون بمهنة الجمع سواء من المزارع او من صناديق القمامة فى المدينة، ان فاردا تستحضر الشخصى عبر تقديمها لتجربتها الخاصة الحميمية مع موضوع الفيلم.

ان الافلام الشخصية ربما تكون انجح اشكال الفيلم التسجيلى المعاصرة، وخاصة بسبب ظهور تقنية الفيديو.

واذا كان مخرجو السينما المباشرة فى الستينات قد استفدوا من التقنية الجديدة التى يصفها دى أ بنيباكر بقوله ( التسجيل على اشرطة فيديو، ومعدات تصوير اسهل وعدسات متطورة تسمح بتصوير الضوء الطبيعى وعدسات زووم ) تسمح بألتقاط ادق التفاصيل: وغالبا فان تقنية الفيديو قادت المخرج الى ان يفعل العكس. استخدم هيتزوج وفاردا وماركر تقنية الفيديو كوسيط غنى للتعبير الشخصى.

ولكن ماذا عن الروائى؟ ذكرت فى بداية المحاضرة انه حتى فى السنين الاولى للسينما التسجيلية كانت قواعد الفيلم الروائى مستخدمة، ولكن فى العقدين الاخيرين فالفيلم التسجيلى اصبح اكثر اهمية واكثر رواجا كوسيط اخبارى اكثر مما كان عليه فى الستينات.

سواء كان من خلال همهمة على وفورمان فى الغابة فى فيلم ( عندما كنا ملوك) او البحث عن اثنين من لاعبى كرة السلة الموهوبين فى فيلم (احلام صعبة) او اختبار الصعوبات اثناء اولمبياد ميونخ عام 1972 فى فيلم (يوم من ايام سبتمبر) او البقاء البطولى على قيد الحياة لمتسلق جبال فى فيلم ( لمس الفراغ) او تاريخ نيويورك فى فيلم ( مرة فى العمر) فان الافلام تُمتع المشاهدين بادخالهم فى دراما القصة.

واذا كان الغرض فى فيلم ( الحقيقة المزعجة) يكمن فى تداول الاخبار، وكان فيلم جامعو الحاصيل وانا) لفاردا يكشف عن علاقتها الشخصية بجامعى المحاصيل والناس الذين اتصلت بهم، فان الروائية هى اثارة قصصية وهذا هو المطلوب.

ويرى الخرج آلان باركر ان فيلم ( يوم من ايام سبتمبر) به مساحة من الاثارة الجيدة، لكن مثالا استثنائيا للسينما التسجيلية الروائية يمكن ان نجده فى فيلم ( الخط الازرق الرفيع) وفيه نرى ايرول موريس يتحرى عن سوء تطبيق العدالة بعد الحكم بالسجن على راندال آدامز بسسب جريمة كان موريس واثقا بانه لم يرتكبها.

من خلال حوارات مع عدد من الناس لهم علاقة بالموضوع، والتى تُثبت بشكل قاطع ان آدامز لا يمكن ان يكون قد ارتكب الجريمة، فموريس لا يقدم فقط شكلا روائيا لكنه يقدم ايضا عملا قضائيا: فالحكم القضائى على آدامز تم الغاءه استنادا الى الدليل الذى اظهره الفيلم.

الشكل الروائى لهذا الفيلم لم يحقق فقط تطلعات الفيلم التسجيلى الروائى، ولكنه اثبت ايضا انه بمثابة وثيقة قانونية.

كم عدد الافلام التسجيلية الروائية التى تخدم الحقيقة وفى نفس الوقت لا تخلو من مُتعة؟ فيلم ( يوم من ايام سبتمبر) على سبيل المثال، يُعد واحدا من الافلام التسجيلية الرائعة وهو يمنح ايضا البصيرة بسهولة وبدون طنطنة.

انه يعطى الانطباع بان الشرطة الألمانية ليست لها كفائة بدلا من البحث فى التعقيدات التى احاطت بالموقف، لكن هذا ربما أبطأ الفيلم التسجيلى واوقف تدفق السرد فى الفيلم.

وثمة سؤال يستحق ان نسأله عندما نفكر فى الفيلم التسجيلى الروائى: هل يجب ان يبحث عن الحقيقة ام يهتم بالايقاع المتسارع المثير؟

هذا مجرد سؤال من اسئلة كثيرة تتعلق بالفيلم التسجيلى وسوف نظل نتسائل عنها طوال الساعتين القادمتين.

محاضرة:- تونى مكيبن

ترجمة:- ممدوح شلبى