04‏/01‏/2013

السينما الاوروبية الآن


 
مايكل هانيكه
محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى

اذا اتفقنا على ان معظم السينما الامريكية تستخدم ما اصطلح ديفيد بوردويل على تسميته التكثيف المتواصل، فهل السينما الاوربية وما وراءها تخالف هذه العملية وتستخدم ما اصطلح بيتر وولن على تسميته التباطؤ فى السرد والتطويل فى عرض الصورة؟

اننا لا نقدم جديدا عندما نقر بهذا، وبوردويل نفسه قال فى كتابه ( اشكال مرصودة فى الضوء) كيف ان انتونيونى اثر كثيرا على جيل الستينات من المخرجين الاوربيين باستخدامه للقطة المشهد التى كان طليعيا فى استخدامه لها.

ألم نرى بعض الشرائح الفيلمية فى الاسابيع السابقة وكانت متباطئة مثل فيلم ( ستوكر وجرترود ) وكذلك اعمال هيرتزوج؟ وألم توجد كذلك العديد من الافلام الاوربية الحالية التى لم تهتم بالتباطئ على الاطلاق حتى انها كانت تميل الى الايقاع اللاهث مثل فيلم ( المهتم ) و ( اهربى يا لولا، اهربى ) و ( ايميلى ) وهل هذه الثلاثة افلام  هى كل ما نعرفه عن السينما اللاهثة فى الخمسين سنة الاخيرة او يزيد؟

ان التباطؤ مازال صفة ملازمة لمعظم الافلام فى اوروبا وما وراء اوروبا، وهذا شيئ حقيقى فعلا فى الافلام التى نناقشها اليوم، ان الذى يستحوذ على اهتمامنا، برغم ذلك، ان هذه السينما هى سينما استشرافية ومتأملة وآثمة، وان الواقع مرتبط بافلام سنناقشها لاحقا، لكن دعونا اولا نقول المزيد عن التباطؤ.

انه من الجيد للمخرج السينمائى ان يبطئ من سرعه افلامه، لكى يمسك بلقطة ويعبر بها عن اكثر من استخدامها المباشر كجزء من عملية سرد المعلومات، ولكن الى اى مدى يسمح المخرج لنفسه بهذا التباطؤ؟

ويقترح الكاتب المسرحى والسينارست والمخرج ديفيد مامت فى كتابة ( فى اخراج فيلم ) انه اذا توجب على معاهد السينما ان تُدرس شيئا، فيجب عليهم ان يتناولوا عملية فهم تقنية الصور المنسابة وراء بعضها فى خلق التطور فى القصة فى عقل المشاهدين، ويقصد مامت بهذه الكلمات ان الصورة يجب ان تكون وحدة من وحدات السرد المعلوماتى، ويتم تقديمها بنوع من التبسيط والسرعة وبطريقة مباشرة، لكن كل المخرجين الذين نركز عليهم فى ايامنا هذه يميلون الى العمل على تجزئة السرد التتابعى بالتركيز على استقلالية الصورة.

ففى فيلم ( المخفى ) لمايكل هانيكه على سبيل المثال، توجد لقطة لجورج ( يقوم بتمثيله دانييل اوتيول ) وهو يتجه الى منزله، فالمخرج مايكل هانيكه يقدم لقطة تأسيسية ويُبقى على اللقطة لعدة ثوانى قبل ان يخرج جورج من سيارته ويتخذ طريقه الى منزله، ولا شك ان مامت سيشد شعر رأسه احتجاجا على هذا الاخراج، لكننا اذا  فكرنا ان هانيكه يريد ان يذهب الى ابعد من عملية التشويق، عندئذ فان دوافعه لتطويل لقطته تصير مفهومة، هذا المثال يُعتبر نموذجا للتوتر السينمائى الذى يقودنا الى منطقة الاستشراف.

لقطة من فيلم المخفى لمايكل هانيكه

وعلى النقيض من هذا فان افلام التشويق وكما وصفها هيتشكوك – يجب ان تضع المشاهدين فى موضع العارفين- ، فحين يمارس عاشقان الحب فى الفراش بينما الزوج يصعد السلالم، فالمشاهدون سيتسألون هل سيستطيع العاشق ان يختفى فى الدولاب قبل ان يأتى الزوج الى باب غرفة النوم. التشويق – تحديدا – يأتى من خلال المعرفة: والمشاهدون يستحوزون على مكانة العارفين، وتتوتر اعصابنا بسبب التساؤل عما اذا كان العاشقان سيُفتضح امرهما ام لا.

اما فى سينما الاستشراف فالمشاهدون لا يتمتعوا بمكانة العارفين وما يجعلنا مُستثارين ان الحالة المعروضة ليست عادية وهذا يجعلنا نتساءل ماذا سيحدث فى هذه اللقطة التى تدوم طويلا، واذا تطلع شخص ما الى شارع، فهل يوجد فى اللقطة ما يستوجب التركيز عليه سوى ما اراد المخرج الاشارة اليه من عمومية اللقطة؟.

هيتشكوك يريد مشاهدين عارفين حتى يستطيع ان يتلاعب معهم – فنحن نعرف متغيرات الاحداث فى الفيلم ولا نعرف كيف سيحل هيتشكوك الملابسات – اما هانيكه فهو يريد حس الاستشراف واستثارة الاسئلة فى عقل المشاهدين قبل تقديم  المتغيرات فى الاحداث.

ألفريد هيتشكوك

يحتوى الاستشراف بداخله على بُعد مُجرد ينبغى على المشاهدين ان يتعاملوا معه، اما التشويق فانه يضع المشاهدين فى حالة اندماج مع المشهد، ويمكن لهذا الاستشراف بالطبع ان يقود المشاهدين الى الجنون.

ويمكن لنا ان نميز بين اسلوب التشويق واسلوب الاستشراف بنفس الطريقة التى ميز بها الفيلسوف الدنماركى العظيم سورين كيركيجارد بين الرعب الظاهر والرعب الخفى. ففى الرعب الظاهر نحن نخاف ولكننا نعرف مما نخاف – مثل الحيوان البرى او رجل يحمل بندقية او طائرة تتحطم او سيارة تتجاوز السرعة – لكن الرعب الخفى ليس له موضوع، انه الرعب من الرعب، انه رعب ذاتى يكشف لنا كثيرا عن مشاعر الشخص الذى يشعر به اكثر مما يكشف عن حقيقة الرعب فى الواقع الخارجى، هذا هو الخوف وهذا هو حس الاستشراف الذى نجده فى  فيلم "المخفى" ولهذا السبب استخدم هانيكه اللقطات غير المنسابة التى تترك للمشاهد مجالا كبيرا للتأمل فى الصورة.

هذا التامل شيئا محوريا ايضا فى افلام المخرج الايرانى عباس كياروستامى الذى اراد ان يخلق افلاما بفضاءات تعكس افكار المشاهدين، ففى فيلم "طعم الكريز" نجد المشاهد الاولى تحتوى على احساس غامض بالخطر ونحن نتساءل ما الذى يريده بطل الفيلم بالضبط من الشخصيات التى يقابلها، فالفيلم يجعلنا نستشعر اهمية الموضوع.

لقطة من فيلم طعم الكريز لعباس كياروستامى

عندما نناقش الواقعية سنذكر المخرجين البلجيكيين ( الاخوان داردن ) وعزوفهما عن استخدام المونتاج الموازى لتوليد التوتر، اما الآن فنحن ننوه الى اهتمام هانيكه بالاستشراف، ونفس الحال فى تنويهنا بعباس كياروستامى الذى اكتشف اساليبا للحفاظ على حالة التخمين التى يُصدرها الى جمهوره بطريقة لا ميل فيها الى توجيهه- على عكس هيتشكوك - ولكن بطريقة ينكر علينا فيها ميزة العارفين، فاذا كانت افلام الاخوان داردن تخدم الواقعية، وافلام هانيكه تُعتبر نوعا من التشويق الاجتماعى وتتعاطى مع دراما الحياه اليومية العادية، فان كياروستامى هو المخرج الفيلسوف الهادئ.

ويقول الناقد الامريكى جدفرى شيشاير فى "الاسقاط ال 8" متحدثا عن افلام كياروستامى "تبدو افلامه وعلى غير العادة وكأنها لا تلقى بالا بالقضايا التى تطرحها على الجمهور، لكن هذا الافتقار الواضح الى شد اهتمام الجمهور ربما يخفى احساسا اعمق بالقلق والمسؤولية فى نفس الوقت".

وهذا – بشكل او آخر – نوع من الفهم الأعمق للتأمل اكثر مما نراه فى افلام هانيكه، فهانيكه يبتدع عالما ليس سهلا ويجب علينا ان نحضر فيه، ولا يهم اذا كنا لا نستطيع ان نعرف هذا العالم بدقة، اما افلام كياروستامى فهى تخلق الفضول اكثر من الاستشراف، كما ان الافتقاد الى الدراما فى افلامه تجعل الجمهور لا يرى اى شيئ يحدث على الاطلاق او من المحتمل أن العديد من الاشياء قد تحدث.

وكما يقول الكاتب والوثائقى "فيرجس دالى" فى كتابه "فيلم الغرب" عن كياروستامى، انه اقرب ما يكون الى رأى الكلاسيكيين بخصوص الشخص البصير الواعى الذى لا يصدر احكاما على الاطلاق ولكنه يفهم جوهر ما يحدث فى ظل كامل التناقضات، فعلى سبيل المثال، نرى الشخصية المحورية فى فيلم "طعم الكريز" محصورة بين امرين: فهو يريد الانتحار لكنه يحتاج الى شخص ما يلقى على جثته التراب بعد ان يكون قد مات فعلا، ونجد أن مشكلة الفيلم هى أن معظم الناس الذين يتحدث اليهم بطل الفيلم لا يريدون ان يساعدوه فى انجاز هذا الطلب، وعندما يلتقى مع الشخص الوحيد الذى يوافق على طلبه، فانه يمنحه ببساطة اجمل سبب للابقاء على حياته، وبدلا من ان يقوم كياروستامى بتقديم نقطة تحول فى حبكة الفيلم نراه  يخلق لنا فضاءا تأمليا لنفكر في انفسنا فيما وراء المفارقة التى يقدمها الفيلم، هل هذا افتقاد للاهتمام بالجمهور ام انه عكس ذلك تماما؟

ويُعتبر المخرج التركى الشاب نورى بيلج جيلان متشابها مع كياروستامى فى كثير من الاشياء، فعندما كان فى حوار مع مجلة "توكينج موفيز" وسُئل عن نهاية فيلمه "اوزاك" رد قائلا "انا اعتقد ان لا شيئ سيتغير، كما اننى على المستوى الشخصى لا افكر فى حدوث تغييرات كثيرة فى الحياه" واذا كان هذا الفيلم هوليوودى، فلابد ان يكون رد نورى ان نهاية الفيلم يجب ان تكون مختلفة، ويُضيف نورى "لكننى لا اريد ان اغير حقيقة الاشياء"، ففى فيلم "اوزاك" لدينا مرة اخرى تباطؤ كبير فى السرد كما ان الفيلم يضرب عرض الحائط بالحبكة الدرامية، لكن نورى جيلان مهتما بشكل من اشكال الواقع اكثر دلالة مما يستدعيه استخدام الحبكة الدرامية.

لقطة من فيلم اوزاك للمخرج نورى بيلج سيلان

اننا هنا نستخدم مصطلح "واقع" بمعناه الذى استخدمه المحلل النفسى جاك لاكان والذى يبتعد به عن معنى المعرفة المسبقة، حيث تمنحنا معظم الافلام نسخة سينمائية للواقع الذى يتوافق مع توقعاتنا: واحيانا يركز المخرج على الواقع الذى لا يجعلنا نحس باننا غرباء عليه، ومرة اخرى، ومثل كياروستامى، فالتباطؤ قد يبدو انه نوع من عدم الاهتمام بالجمهور، لكنه ربما يخلق اهتماما اكثر عند الجمهور، والآن دعونا نتساءل، ماذا نستطيع ان نقوله عن مشهد نرى فيه احد الشخصيات يتجول فى حديقة ثلجية؟ عن اى شيئ يدور هذا المشهد؟

وآخر مصطلح نريد ان نستوضحه اليوم هو "السينما الآثمة" وهذا الاصطلاح مرتبط بكل الاصطلاحات التى ناقشناها لتونا – التباطؤ والاستشراف والتأمل والواقع – اما مصطلح "السينما الآثمة" فقد اصبح ملمحا عاما فى السينما الفرنسية المعاصرة بجانب مصطلح "لوضاعة".

ففى افلام مثل "الفرد ضد الكل" و "لا رجعة فيه" و "مشكلة كل يوم" و "فى جلدى" و "الحياة الجديدة" و "الانسانية"، نجد المخرجين يستخدمون الصور المتطرفة ليفرضوا مواجهة مع الجمهور.

واذا امعن جدفرى شيشاير التفكير فى اسلوب كياروستامى الذى لا يهتم بالجمهورعلى حد وصفه، فماذا سيقول عن هؤلاء المخرجون الذين يقفون فى مواجهة متعمدة مع الجمهور بتجربة جمالية يقدمون فيها  صورة تحطم حُرماتهم حيث يبدو هؤلاء المخرجين كانهم لا يولون اهمية للجمهور مثل كياروستامى، هذا المزيج من الصور السريعة المفككة والصادمة التى نراها فى فيلم "من اجل اختى" و "الانسانية" وايضا فى فيلم "المخفى" بصفة خاصة الذى يقدم مشهدا يجعل المشاهدين يصرخون من الرعب، فمن الواضح ان المخرجين ينشدون الوصول الى ما اطلق عليه المخرج المسرحى انتونين ارتو "صدمة الوعى" – ذلك الوعى الذى يظهر كرد فعل غريزى لما يراه الجمهور متجسدا على خشبة المسرحى.

انتونين ارتو

عندما نرى الفتاه العارية فى فيلم الانسانية - ولا شك ان المشهد مواجهة اخلاقية - فهل نخرج من صالة السينما لاحساسنا بالتعدى على ذواتنا؟ وهل نسأل انفسنا اذا ما كان مفتش المباحث هو الذى ارتكب الفظائع؟ وهل نرى الشبه بين تلك الفتاه العارية وبين لوحة "اصل العالم" لكوربيه التى تصور امرأة عارية تماما؟

فى مثل هذه المواجهة مع الجمهور يحق للمرء ان يعتقد انها تستهدف ايقاظنا، وكما يقول ديمو فى "الاسقاط ال12 " "السينما الامريكية سينما ارستقراطية، فهى تتعامل مع الجمهور كما لو انهم حمقى ولا تقدم لهم شيئا ليفعلوه، لكنى اعتقد انه - وكنوع من الضرورة الدبلوماسية - ان نجعل الجمهور يتساوى مع المخرج فى الحكم على ما يحدث فى الفيلم.، فهذا يخلق نوعا من الديمقراطية وهذا ضرورى".

ناقشنا اليوم محاولات تتأسس على غريزة الديمقراطية فى عدد من مظاهرها، واكرر ما قاله ديمو "لسينما تخلق مشاعر تستدعى مزيدا من التأمل".

محاضرة :- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى