23‏/02‏/2014

السينما والأيديولوجيا



مُحاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
فيلم معركة الجزائر

تزامنأ مع عرض فيلم "أنثى بيضاء عزباء" نشرت مجلة "إمباير" مقالاً علقت فيه على التناقض بين الشقق الفاخرة التى تعيش فيها الشخصيات وبين الوظائف التى يعملوها والتى لا توفر رواتب تُبرر معيشتهم فى مثل هذه الشقق الفاخرة، ففى هذا الفيلم نرى شخصية بريدجيت فوندا وهى فتاة فى بداية حياتها المهنية ولكنها تعيش فى شقة واسعة جداً فى حى راقى، وبالطبع فإن الفيلم يوحى بأنها تحتاج إلى أحد ليعيش معها فى الشقة لكى يغطى نفقاتها، لكننا نظن أنها تحتاج إلى أكثر من واحد لكى تستطيع أن تدفع الإيجار الباهظ لهذه الشقة التى تقع فى أرقى أحياء نيويورك، لكن الفيلم لا يهتم بأمر الإيجار، هل هذه قضية أيديولوجية؟

 فى أحد المرات قال مخرج روسى – كما هو مُسجل فى كتاب "بكرة الطاقة" لمارك ليتواك- إنه أحس بالأيديولوجيا فى كل مرة تقوم الشخصية بفتح ثلاجة الطعام فى أحد الأفلام الأمريكية. وبصرف النظر عن هذه النظرة الخاصة (الصادرة عن شخص ليس لديه أكثر من قطعة من الجبن) فإذا كان الأمر هكذا، دعونا نسميه أيديولوجية مُتضمنة، تلك الأيديولوجيا التى لا تظهر بشكل صريح ومُعلن إلا من خلال تصورات ثقافية ما.

العديد من الأفلام تحتوى على أشكال من الأيديولوجيا المُتضمنة، وأحياناً يتطلب الأمر سنوات طويلة حتى يستطيع الفرد التفريق بين ما هو مُتضمن وما هو مُعلن، فبينما كان فيلم "مولد أمة" فيلما كبيراً إعتماداً على نجاحه الساحق المثير للجدل عندما عُرض فى عام 1915، لكنه الآن يُثير القلق لمجرد عرضه بسبب الموقف الحالى تجاه جماعة "كو كلو كلان".

لكن عندما تم عرض الفيلم كان للأمريكيين موقفا سياسياً غير مُعلن يتوافق مع الفيلم (بالرغم من وجود أراء عديدة مُعارضة بالطبع) لكن الأمريكيين منذئذ أصبحت لديهم سياسة مُعلنة تدفع نحو المُطالبة بالمُساواة، وخاصة فى السنوات التى شهدت صدور قوانين إجتثاث التمييز العرقى فى الولايات المتحدة الأمريكية فى أواسط الخمسينات وحتى أواسط الستينات من القرن العشرين.

إن تحليل فيلم، أو بالأحرى أيديولوجيا أى عمل فنى تقليدى يمكن أحيانا أن يكون شديد التعقيد، فالنقاد غالباً يُوظفون السيميائية وتأويل الإشارات لفهم ما يرمى إليه العمل الفنى، ففى سلسلة من المقالات الصحفية للكاتب رولاند بارت والتى جمعها لاحقا فى كتاب تحت عنوان "الأساطير" نجده يبحث فى الأيديولوجيات المُتضمنة التى تتخلل ثقافات معينة، ففى مقالة بعنوان "خمر وحليب" يتحدث بارت قائلا "الخمر بالنسبة للفرنسيين نوع من الاستحواذ حيث يبدو كما لو كان يخصهم وحدهم، تماماً مثل الثلاثمائة وستين نوعاً من الجبن التى ينتجوها، هذه ثقافتهم" وينظر بارت إلى الخمر بوصفه مركز أسطورة الشعب الفرنسى. هذا الملمح الثقافى يمكن أحياناً أن يكون أمراً أساسياً ومُلحاً فأى فرد يتكون لديه وعى بالتصور الثقافى لأنه يتداعى إليه من خلال ممارساته الشخصية، والأمر شبيه بما وجدناه فى تعليق المخرج الروسى فى كتاب "بكرة الطاقة".

ونعود الى فيلم "أنثى بيضاء عزباء" فالبعض يقول أن الشقة لا يجب أن تكون واقعية لأن المكان مجرد خلفية وأشبه ما يكون بديكور المسرح فمثل هذا الفيلم لا يحتاج إلى الحياة الحقيقية، والمتحذلق فقط هو من يهتم بالتناقض بين مستوى رفاهية الشقة وبين الراتب المتواضع التى تتحصل عليه بطلة الفيلم، فما يهم هو أن المساحة سينمائية: فالشقة كبيرة بدرجة كافية لتُتيح تنويع زوايا الكاميرا وتسمح بلقطات المُتابعة، لكن آخرين ربما يرون أن هذا جزءاً مهماً جداً من المشكلة: فما لديك هنا هو قصة مُفتعلة تُحكى بواسطة إبهار تقنى يتنافى مع حركة سينمائية مستحدثة أنكرت هذا الأمر مثل حركة الدوجما التى تحدثنا عنها آنفاً.

فالفيلم وبرغم أنه لا يريد أن يتحرى الحياة الحقيقية للشخصيات بإستثناء إستخدامه ملمحاً من هذه الحياة ليحكى لنا حدوتة نمطية عن إمرأة تستأجر شقة، فتُمضى وقتاً طويلاً جدا من الفيلم فى إدراك الحالة النفسية لرفيقها فى الشقة كما لو ان الحالة النفسية أهم من الحقيقة الإجتماعية، ولأن الفيلم نفسياً أكثر من كونه فيلماً واقعياً فإنه لا يهتم بإستجلاء طبيعة شخصية "جنيفر جاسون لييه" المريضة، أنه يهتم فقط بتوظيف ظرفها الخاص كونها إمرأة وحيدة وشخصيتها ضعيفة بهدف تحقيق الإثارة، وبناءاً عليه، فأى شخص يُشاهد الفيلم ويتصادف أن لديه بعض الشبه بالمشاكل النفسية للشخصية فإنه سيتضرر من الفيلم، وهذا الفيلم لا يحتاج إلى تحليلات وتفسيرات بارت المُعقدة، فالفيلم لا يُصدر سوى إحساس تلقائى بالتضرر على شاكله ما أحسه المخرج الروسى السابق الإشارة إليه.

نحن جميعاً لدينا مناطقنا الخاصة التى تدفعنا إلى ردة فعل أيديولوجية تلقائية، كنوع من الرفض لشيئ غير مهم والذى حلله "بارت" بمهارة، إن المثير للإهتمام بخصوص مُخرج سينمائى مثل جان لوك جودار أنه يُفضل أن يضع هذا الملمح فى بؤرة فيلمه ليضع المُشاهد فى وضعية أيديولوجية مُعلنة بعيداً عن ردة الفعل الأيديولوجية التلقائية.

وهذا يتوفر خلال عدد من المشاهد فى فيلم "فى مديح الحب" حيث نجد منتجين من هوليوود يأتوا لشراء قصة زوج وزوجة كانوا من مقاتلى حركة المُقاومة وأصبحوا الآن فى سن الشيخوخة، وتتساءل حفيدة الزوج والزوجة عن الطريقة التى تُخصص فيها هوليوود قصص الناس من أجل منفعتهم الشخصية، فهم لا تعنيهم القصة الأصلية، وهذا الأمر قاد عدد كبير من النقاد إلى الحديث عن مساجلات جودار مع الأمريكيين، لكننا بداية وقبل أى شيئ يجب أن ننظر إلى هذا الأمر بوصفه إنعكاساً للأيديولوجيا المُتضمنة التى تمارسها العديد من الأفلام.

فى أحد فقرات فيلم "فى مديح الحب" يقول أحد الاشخاص إن زوجة شندلر تعيش الآن فى الأرجنتين فى فقر مُدفع، وكان هذا تعليقاً على الفيلم الإنسانى الناجح الذى أخرجه سبيلبرج وأيضا لخصوصيته، هل يتوجب على فيلم يتناول شخصية شندلر وكيفية إنقاذه لليهود من الحياة البائسة ألا يتحدث أيضاً عن مصير زوجته وما آلت إليه فى زمننا الحاضر؟ ألا يتوجب عليه أن يلج إلى المعاناة المستمرة حتى الأن؟ فبدلاً من ذلك يُوظف الفيلم الحاضر من أجل تحقيق شعور بالرضا حيث الأقارب اليهود يذهبون لوضع الأحجار فى مقبرة شندلر، ألم يكن من الأفضل أن يتبرعوا بالأموال من أجل زوجة شندلر التى تُعانى؟ لكن هذا لم يتحقق، ففيلم سبيلبرج فى نهاية المطاف فيلم يسير على نفس نهج الأفلام المتحررة الإنسانية التى تؤدى إلى الإحساس بالرضا، هذا ما قاله جودار.

فالأمر بالنسبة لجودار، إن إستحضار الأيديولوجيا يُعد إمتداداً لجماليات الفيلم المُباشر التى ظهرت فى أفلامه الأولى، ففى أفلام مثل "اللاهث" و"عاشت حياتها" فإنه يُحطم الأعراف السينمائية، ففى فيلم " اللاهث" كان يستخدم القطع المونتاجى القافز، وفى فيلم "عاشت حياتها" كانت الشخصية المحورية تتطلع إلى الكاميرا مباشرة بالإضافة إلى وسائل أخرى، ومن الأمور الرئيسية فى كل أفلام جودار أنه لا يترك أمراً ثانوياً، فكل شيئ له أهمية فى السياق ويستحوذ على كامل الإهتمام، ويجب مناقشته.

وبالطبع سيقول البعض أن مثل هذه الطريقة تجعل الفيلم تعليمى، لكن آخرين سيقولون أن جودار يوفر عبقريته لشيئ آخر، وبالنسبة لمن يعتبروا أسلوب جودار تعليمياً فإنهم يرون التعليمية مُغالى فيها، وهذه وجهة نظر ضمن وجهات نظر أخرى بخصوص أسلوب جودار، فإذا كان فيلم سبيلبرج يحتوى على قصة لطيفة ورقيقة وواضحة مُعدة عن كتاب توماس كينيللى الذى يحمل إسم "سفينة شندلر" – على غرار سفينة نوح- فإن جودار سيوظف نصوصاً عديدة من سيمون وييل إلى شاتوبريان فى محاولة لإيجاد أسلوب جامع مانع لموضوعه بتوفير صيغة تعليمية ظاهرة والتى تبدو متوافقة مع وجهة نظره، لكنه أيضا يستحضر العديد من الإستشهادات التى من الصعب إنكارها.
قائمة شندلر
علنا نسمى فيلم سبيلبرج فيلما أيديولوجياً معلناً بما يتضمنه من كل أنواع التصورات عن الإنسانية والقضية اليهودية والألمان (لماذا يتحدث الألمان باللغة الإنجليزية فى عموم الفيلم فيما عدا الكلمات التى تحتوى على شتائم مهينة؟) وبالنسبة للبعض فإن نوع الأيديولوجيا المُتضمنة أكثر استفزازاً من الأيديولوجيا المُعلنة.

 فليل من سيدعى أن فيلم جيلو بونتيكورفو عن معركة إستقلال الجزائر المُسمى "معركة الجزائر" أنه فيلماً حيادياً وغير مًنحاز، لكن أيديولوجيته المُعلنة لا تُعد شيئاً بالنسبة إلى أسلوب جودار شديد الوضوح، وهذا الأسلوب يدين بالفضل إلى السينما السياسية لبعض المخرجين السوفييت فى عشرينات القرن العشرين بالإضافة إلى مخرجين من الستينات والسبعينات كانت لديهم رؤية سياسة فعالة مثل فرانسسكو روسى الذى أخرج فيلمى " سلفاتور جيليانو" و " قضية ماتية" وكوستا جافراس الذى أخرج فيلمى "زد" و"حالة حصار" ففى هذه الأفلام لا نجد مقولات سياسية ولكننا نجد الرأى السياسى فى أسلوب السرد والمونتاج والموسيقى، ففيلم "معركة الجزائر" يتناول سعى الجزائريين المحموم من أجل تقرير مصيرهم ولاينظر الفيلم إلى الجزائريين كإرهابيين بل كمناضلين يكافحون من أجل قضية، كما ان الفرنسيين ينظرون إليهم بإعتبارهم شعب يناضل من أجل وطنهم.

أراد بونتيكورفو بفيلمه – الذى أخرجه قبل أن تحصل الجزائر على الإستقلال- أن يكشف كيف يمكن للوعى الوطنى أن يتحقق، فجعل فيلمه بمثابة رسماً بيانياً لهذا الوعى واستهدف بشكل أساسى معنى الوطنية، فمن خلال شخصية "على لابوانت" ذلك الشخص الذى إرتكب جرائم مدنية والذى أصبح قائداً فى حركة المقاومة السرية، ورغم ان هذه التجربة الخاصة فى النضال من أجل الاستقلال تفشل، إلا أن الفيلم ألقى الضوء على هذه المرحلة التى شهدت إضطراباً أدى إلى وعى عم الشعب الجزائرى كله بعد عدة سنوات، ففى عام 1960 نزل غالبية الشعب الجزائرى إلى الشوارع للإطاحة بالحكم الفرنسى، وبعد عامين حقق الجزائريون الإستقلال لبلدهم.

ومثله مثل عدد من الأفلام التى أخرجها فرانسسكو روسى وكوستا جافراس كان فيلم "معركة الجزائر" بمثابة بحث وإستقصاء فى الموقف السياسى، كما لو انه أراد أن يتنصل من تأثير السينما الهوليوودية التى كانت تقدم دائما أفلاماً تتحدث عن الرجال العظام فى التاريخ كما فى فيلمى "قلب شجاع" و" الوطنى" على سبيل المثال، فتعظيم دور الفرد يتطلب النظر إلى الحياة التى أفرزت مثل هذا الفرد الذى يتصادم مع أمته، فكل انواع القضايا السياسية والإجتماعية مُلفقة، فتقديم هذه القضايا لا يستهدف إستكشافها، فهى عادة قضايا مُصطنعة، تماماً مثلما فندها كولين مكأرثر فى كتابه "بريجادون والقلب الشجاع والاسكتلنديين".

ففيلم "معركة الجزائر" الذى يتميز بأيديولوجية مُعلنة، يبدو كما لو أنه يستكشف قضية لا أن يخلق أبطالاً كما يؤكد على حتمية تقرير مصير أمة، كيف يمكن لفيلم أن يستكشف وقائع بدلاً من التسليم بالقدر المحتوم: فعندما ترصد حقائق أحد المواقف بمنطقية سيكون لديك شيئ من الممكن تحليله وفهمه: بينما فى مفهوم القدر لن يكون لديك سوى إبهامات ميتافيزيقية لن تكون مُفيدة لمن يسعوا إلى تطبيق السياسة فى حياتهم، إذا كان ويليام والس "إسم بطل فيلم قلب شجاع" شخصاً مُختاراً، فماذا بوسع الأسكتلنديين أن يفعلوه إذا أرادوا أن يغيروا أمراً سياسياً فى وقت آخر؟ هل يتوجب عليهم أن يجلسوا فى إنتظار شخص مختار آخر؟ بالطبع لا، وبناءاً عليه نستطيع أن نرى كيف أن نوعاً محدداً من السينما الأيديولوجية – تلك التى تتعاطى مع الحقائق ولا تهتم بالأبطال- يمكن أن تكون شديدة النفع.

وعلى نفس المنوال إستخدم فرنسيسكو روسى شخصية سلفاتور جليانو فى الفيلم الذى يحمل إسمه ليس عبر حضوره بل كبطل غائب، فهو يمضى حياته مختبئاً فى التلال، وهكذا تحددت ملامح سلفاتور من خلال حديث أهل البلدة عنه وليس من خلال رؤيتنا له، فهو يتمتع بسُمعة طيبة حتى أن الناس يتحلون بالشجاعة بسبب سيرته ويهربون من الإضطهاد، وفى فيلم "زد" يتناول كوستا جافراس حادثة موت عرضية لأستاذ طب وسياسى ليكشف عن كل أنواع المؤامرات السياسية التى أحاطت بالموت.
 
لقطة من فيلم سلفاتور جليانو

فى الأمثلة السابقة "معركة الجزائر" و"سلفاتور جليانو" و"زد" يتعاطى مخرجوها الأيديولوجيا المُعلنة ولكن بدون مُغالاة وبدون تشدد، أنهم يُحرضون على التغيير بطريقة غير مباشرة وبأسلوب مُركب، إنهم يقدمون أفلامهم بمهارة لكى يشرحوا الوقائع ويجعلوها مفهومة حتى يستطيع الناس أن يتخذوا المواقف السياسية بناءاً على ما عرفوه.

عندما عرضتُ فقرة من فيلم "انا أنت هو هى" للمخرجة شانتال أكرمان الذى أخرجته فى منتصف السبعينات، ضحك الطلبة وقالوا لى ما هى العلاقة بين إمرأة تنقل قطع أثاث غرفتها وبين القضية النسوية، هذه نقطة هامة ولكن دعونا نقول - واضعين فى الإعتبار ما قاله عديد من المفكرين عن القضية- أن هناك نمطين من القضية النسوية، النمط الأول دعونا نُسميه القضية النسوية غير المحددة والنمط الثانى هو القضية النسوية المحددة، فى النمط الأول لدينا قصور فى الإحاطة بها، أو كما تقول هيلين سيكسوس "مراراً وتكراراً – ونفس الحال معى- شعرت بأننى ممتلأة بطاقة نورانية كادت أن تتفجر – تتفجر إلى أشكال أكثر جمالاً من تلك الأشكال القميئة الموضوعة فى إطارات، وانا أيضاً لم أقل شيئاً ولم أُظهر شيئاً ولم أفتح فمى، ولم أعيد رسم نصف العالم الذى يخصنى، كنت أحس بالعار وكنت أحس بالخوف وإبتلعت عارى وخوفى"  

فى كثير من الأحيان وبسبب العار والخوف تقترح سيكسوس مع أخريات، أن النساء لا يعيدون رسم نصف العالم الذى يخصهن، هذه المحاولة لإعادة رسم العالم بطريقة غير مُحددة وبنوع من الضعف أصبحت بمثابة تلخيص لتاريخ الأدب: نجد هذا فى كتابات فرجينيا وولف ومارجريت دوراس، وفى الروايات الأولى لمارجريت آتوود مثل رواية "تسطيح" وفى كثير من روايات دوريس ليسنج، وأيضا تم تقديم هذه الحالة فى السينما الفرنسية مثل أفلام " حُب ممتاز" و"رومانس" و "من أجل أختى" للمخرجة كاثرين برييلا، وأيضا أفلام المخرجة لايتشيا ماسون مثل فيلم "بيع" وبالطبع فى أفلام دوراس وآكرمان.

فى فيلم "أنا أنت هو هى" تُمثل آكرمان بنفسها الشخصية الرئيسية، وهى إمرأة شابة تُمضى أيامها فى شقتها حيث تُحرك قطع الأثاث وتأكل كميات كبيرة من السُكر، ولا تحدث فى حياتها أى أمور هامة إلى أن تشرع فى مطارحة غرام إمرأة أخرى قرب نهاية الفيلم، إن الفيلم يدعونا أن نتأمل الطريقة التى تُمضى بها إمرأة وحيدة وقتها حينما تكون مُحبطة وناعسة وليس لحياتها معنى هام، وهى القضية التى طورتها آكرمان فى فيلمها التالى " جين ديلمان". لا تبدو آكرمان مُهتمة بالتشدد فى القضية النسوية، وبالإضافة إلى نوعية الإستكشاف الذى إقترحته سيكسوس ونوهنا عنه آنفاً، لا يهم إذا رأى بعض النقاد النهاية القاسية لفيلم "جين ديلمان" كلحظة غرائبية فى دراما الإنتقام حيث نرى الشخصية الرئيسية - التى يحمل الفيلم إسمها - تطعن رجل حتى الموت، ويظل هذا الفعل غير مُبرر بالنسبة لنمط القضية النسوية الثانى حيث للقضية النسوية أهداف واضحة.

ففى القضية النسوية المحددة ثمة نمط محدد من التشدد دائما يتم تقديمه، ففى عدد من أفلام التسعينات مثل فيلم " Terminator 2" و" Alien 3" وقُبلة فبل النوم الطويلة" و"تيتانك" هناك قضية نسوية واضحة يُعبر عنها نساء يُثبتن جدارتهن فى عالم الذكور، أو يبدين كذكور، هذه هى حقبة المرأة التى ترتدى زى الرجال وتُظهر إنحرافها، أو كما فى أفلام "الإغواء الأخير" و"مجموعة أدلة" و"غريزة أساسية" حيث تكشف النساء عن أرجلهن (وأحيانا أكثر من ذلك) حتى ينلن ما يُردنه، فى هذه الأفلام التى تناول القضية النسوية المُحددة، تعرف المرأة ماذا تريد وتقرر أن تحصل عليه، إن أفضل لكمة جاءت من قبضة يد كيتى وينسلت فى فيلم "تيتانك".

فى هذه الأمثلة لا ترسم النساء النصف الذى يخصهن فى العالم كمخلوقات يتفوقن على المحيط الذكورى ويثبتن لأنفسهن أنهن متساويات مع الرجال أو يتفوقن عليهم، وهذا يكشف ظاهرياً أن لديهن الحق المتساوى لكن البعض قد يقول أنهن قلما يتسامين بغرائزهن الخاصة وإمكانياتهن ووعيهن الذاتى ليتعاملن بنجاح فى عالم الرجال، وهذا لا يعنى أن النساء ضعيفات وأن الرجال أقوياء، ولكن أليس من الأفضل لو كان لدينا رجال يستكشفون جانبهم الأقل عدوانية بينما النساء يستكشفن كوامن ضعفهن، بدلاً من إضطرار كل من الرجال والنساء إلى طرح أنفسهم بعدوانية فى العالم ويرسمون – دائماً بلون أحمر- نصف العالم الذى يخصهم؟ إن الأفلام الناعمة دائماً تحاول أن تستكشف الأيديولوجيا النسوية بطريقة مُعلنة ولكن بغير تشدد، أما الأفلام الأخرى فهى تميل لأن تكون القضية النسوية مُتضمنة ولكن بتشدد.

ذا كان الفيلم يحتوى على أزمة ذكورية مثل فيلم "السقوط" فمن من الممثلين ينجح فى تجسيد رمز الذكورة، هل هو مايكل دوجلاس الذى سيمثل الدور؟ فى سلسلة من الأفلام إبتداءاً بفيلم "الجاذبية القاتلة" ومروراً بفيلم "حاسة أساسية" و"حرب الزهور" و"إظهار" وإنتهاءاً بفيلم "جريمة كاملة" لعب مايكل دوجلاس أدوار رجال لا يعرفون كيف يتعاملون مع المرأة سواء جنسياً او طبقياً و لا يعرف حتى الفروق بين الجنسين، ففى فيلم "جريمة كاملة" لعب دوجلاس دور أحد الأثرياء الذى ينظر إلى عشيق زوجته الذى ينتمى إلى الطبقة الدنيا بإعتباره مُبتز ووضيع، بينما فى فيلم "السقوط" يتشاجر مع أسيوى صاحب متجر على سعر الكوكا كولا وعلى طريقة نطق اللغة الإنجليزية لهذا الأسيوى البائس، والذى نجح مايكل دوجلاس فى تجسيده هو إحباط الرجال مما آلت إليه رجولتهم، رغم أن الأفلام فى غالب الأمر تُشيد بالرجولة ، فالمُشاهد يجب عليه أن يكون على وعى تام أن ما نُشاهده هو رجل مُستريح لا يستطيع أن يتوائم وأن أحلامه لا يمكن أن تتحقق.

ونفس الحال فى بداية فيلم "السقوط" يفقد دوجلاس وظيفته فى الصناعة النووية ويجد نفسه فى أزدحام مرورى مروع، فينتهى به الحال إلى السير على قدميه عائداَ إلى بيته، وعلى طول الطريق يُصادف أنماطاً متنوعة مثل النازيين الجدد وأصحاب المحلات الكوريين وأحد المتعجرفين ولاعبى جولف مُسنين، إن ما ينجح فيه الفيلم هو ما يمكن أن نسميه الاستياء من التميز حتى أن مايكل دوجلاس ينشغل بالعجائز الذين يتدربون على لعبة الجولف بدون أريحية وبغياب من العقل، لكن إحساس التميز – دوجلاس خير من يجسده- فليس من المعقول أن يُؤدى الدور أمريكى أسود أو أى ممثل آخر ينتمى لأقلية أمريكية، فمايكل دوجلاس (من ناحية ينتمى سياسياً إلى الليبرالية كما انه من الناحية الأخرى ينتمى إلى الجيل الهوليودى الثانى) يعرف أن الموقف المميز للشخصيات التى يُمثلها فى هذه الأفلام ستكون مُلفتة للنظر.

وأيضاً يمكن أن يُفسر هذا لماذا تنجح هذه الأدوار أحياناً، إن هذا يتشابه على نحو ما مع الموقف الأيديولوجى الذى تبناه ماركسيين محددين فى الماضى: العمل الذى يفتقر إلى الوعى يُصور أوجه القصور فى المجتمع بصورة أفضل من الوعى السياسى، ففى هذه الحقبة التى إمتدت من عام 1987 إلى عام 1997 لعب مايكل دوجلاس أدوار الرجل الأبيض العظيم الذى ينكسر والغير قادر جنسياً والأنانى والمغرور، فالشخصية تميل فى غالب الأحيان أن تكون مُنحنى هابط للتميز ينتهى إلى حالة سُخط، كما فى فيلم "جاذبية قاتلة" و"إظهار" أو درجة من السيطرة الذاتية تتلاشى، كما فى فيلم "غريزة أساسية" وفيلم "السقوط".

فى فيلم "جاذبية قاتلة" يلعب دوجلاس شخصية رجل مُتزوج سعيد "يلعب بذيله" عندما تخرج زوجته إلى البلدة، وهو لا يعتقد أن المرأة تحتاج إلى شيئ من الإرتباط العاطفى، وفى فيلم "السقوط" يلعب دور رجل مُتزوج غير سعيد ينفصل عن زوجته وللمرة الثانية لا يستطيع تصديق سوء حظه، وعلى الرغم من أننا نقول أن ثمة درجة من التجهيل الأيديولوجى فى هذه الأفلام التى مثلها دوجلاس: وهذا ليس نفس الشيئ عندما يُقال أن الجمهور من المتوقع أن يتعاطف كلية مع شخصيته.

فى عدد من هذه الأفلام نرى دوجلاس شخصية متناقضة تُلمح إلى: أنه زير نساء كما فى فيلم "جاذبية قاتلة" وفيلم "إظهار" وأنه شُرطى سعيد فى فيلم "غريزة أساسية" (كنيته الرامى الرصاص - شوتر) ويمكن أن يكون قاتلاً كما فى فيلم "جريمة مُتقنة" مايكل دوجلاس شخصية مُراوغة من الصعب التعرف عليه على المستوى الأخلاقى، لكن هذا لا يعنى أيديولوجيا مُعلنة، فنواقصه يتم إبرازها إلى حد وصفه بأنه رجل أبيض مُتعجرف، إنه من غير الممكن وصفه بأنه مثل أى إنسان حيث يصادفه الحظ السيئ أحياناً، فهو لا تستحوذ عليه الأفعال الطيبة، بل أحط الغرائز.

كانت هذه مُحاولة أيديولوجية منى لتحليل أفلام مليكل دوجلاس بهدف إدراك إلى أى مدى حالت شخصيته بينه وبين تعبيرها عن كل الناس، فهو مجرد رجل أبيض من الطبقة المتوسطة.