17‏/07‏/2014

أشكال السينما الواقعية

محاضرة:- تومى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
سارقو الدراجات
فيلم "سارقوالدراجات" مثل فيلم "بايسا"" Paisa " وفيلم "العام صفر فى ألمانيا" وفيلم "امبرتو دى" هى أفلام محورية فى حركة الواقعية الإيطالية الجديدة فى نهاية الخمسينات، وهذه الأفلام لا تتفق بشكل كامل مع الواقعية الحالية، لكن عندما تبنى أندريه بازن عقيدة الواقعية فى السينما فى مجلد – ما هى السينما المجلد 1 – فإن واحداً من الأفلام الرئيسية التى إستعان بها لتعزيز وجهة نظره كان فيلم "سارقو الدراجات".
وهذا على الأقل لان هذا الفيلم يتحدث عن الحقائق الإجتماعية المباشرة ولا يتبع تقاليد السينما الروائية السائدة، إنه أيضاً يستخدم ممثلين غير محترفين، ويمنحنا إحساساً قوياً بالمكان، لكن شريط الصوت بالطبع كان مصنوعاً وكانت الحبكة القوية موجودة: فالفيلم عن شخص يفقد دراجته ويحاول بيأس أن يستعيدها، فبدون الدراجة لا يستطيع ان يعمل، وبدون عمل لا تستطيع أسرته ان تأكل.
لكن دعونا لا نتعصب كثيراً فيما يتعلق باى الأفلام هى الأكثر واقعية من الأخرى، فبداية وقبل اى شيئ دعونا بدلاً من ذلك أن نشرح انواع الفيلم الواقعى، فيلم "سارفو الدراجات" لفيتوريو دى سيكا يعتبر مثالاً عظيماً لواقعية الموقف، وهى الواقعية التى تخلق دوافع وممكنات للشخصية بصرف النظر عن المجتمع المحيط .
حتى ان العقبة التى تكون فى طريق الشخصية لا تكون عقبة روائية ولكنها عقبة إجتماعية، وهذا يتيح للقصة أن تتناول الصعوبات التى تواجهها الشخصيات فى حياتها فيما له صلة بالمشاكل التى تزعجها، ويتم التأكيد على هذا بلقطات إستعراضية واسعة لتعطينا إحساساً بالمكان.
مخرج سينمائى مثل كن لوتش- وبسبب كل وسائله الفنية وإستخدامه التوكيدى للموسيقى وتلاعبه القوى على جانب التعاطف،  ومباشرته السياسية التى تضر أحياناً بالموقف الروائى، - فإنه يلتزم بواقعية الموقف هذه ويبرع فيها، وكثيرا ما تتشابه أفلام كن لوتش مع هدف فيلم "سارقو الدراجات": فالشخصية المحورية فى فيلم "إنها تمطر أحجاراً" " Raining Stones " تحاول أن تحصل على ما يكفى من المال ليشترى لإبنته رداءاً ، وفى فيلم " Ae Fond Kiss " تحاول شخصيتان من خلفية أخلاقية مختلفة أن يقيما علاقة، وفى فيلم " Sweet Sixteen " يدخر الولد ليشترى لأمه كارافان، وتحس أن الموقف نتاج نظرة قريبة على الوسط الإجتماعى، وإذا كان الديكور أقل حضوراً، فذلك حتى لا تنحصر القصة فى شكل ثابت، فانت يجب أن تحس بالمتغيرات فى حياة الشخصيات والقرارات الصعبة التى يواجهوها فى البيئة التى يعيشون فيه لنفهم مقدار صعوبة ما يحدث.
إنها تمطر أحجاراً
وهناك على سبيل المثال مشهد شديد الروعة من فيلم " Sweet Sixteen " حيث الولد ذى الخمسة عشر عاماً يجب عليه ان يختار: هل سيترك عالمه وصاحبه وينخرط فى مجتمع العصابة، ام انه سيكون صادقاً مع صاحبه الذى سيبقيه دائماً فى حالة من الفقر؟ ولجعل مثل هذا النوع من المواقف فعالاً فأنت فعلاً تحتاج ان تخلق صداقة حقيقية وبؤس حقيقى فى المحيط الإجتماعى الذى تتمنى الشخصية ان تهرب منه.
رغم أن اندريه بازن تحدث نوعاً ما عن الواقعية التى قد تحطم القصة، وراى علامات منها فى فيلم دى سيكا، لكن واقعية الموقف عند كن لوتش تدعم القصة وتساعد فى تزويد القصة بالقوة لأن الخيارات والعقبات التى تصادف الشخصية تتجسد كمشاكل مركبة حقيقية.
وتتميز أفلام كن لوتش بأنها أمينة على واقعية الموقف أكثر من العديد من الأفلام الأخرى حتى أن البعض يقول أن أفلام لوتش هى أفضل أفلام واقعية الموقف، لكن الفيلم النوعى الجيد غالباً ما يستفيد من توظيف واقعية الموقف، فواقعية الموقف موجودة وتكشف عن حضورها فى فيلم العصابات البرازيلى التشويقى "مدينة الرب" " City of God " وموجودة فى الفيلم الفرنسى " La Balance "، وتعتمد واقعية الموقف بصورة أقل على المبالغة فى القصة والحدث، وتولى الإهتمام لخصوصية الوسط الإجتماعى، وبالتالى فهى أفلام واقعية موقف.
فى مشاهد كثيرة من فيلم "قواعد اللعبة" " La Regle du Jeu " الذى اخرجه جان رينوار فى نهاية الثلاثينات، وكذلك فيلمه "البؤساء" " La Marseillaise " وفيلمه "جريمة السيد لانج" " The Crime of Monsieur Lange " فنحن لدينا ما سنسميه الواقعية المفتوحة " open realism ": ففى المشهد إحساس اننا نشاهد تعقيدات الحياة أمام أعيننا وليس مجرد واقعية تم بناءها لتستحضر فى الأساس التعقيدات الوجودية لاحد الأشخاص مثل أفلام فيتوريو دى سيكا وكن لوتش، أو حتى الوسط الإجتماعى العادى: ففيلم "قواعد اللعبة" مسرحى جداً، حيث نرى الشخصيات تجرى فى كل الإتجاهات، ونحس بأننا مدفوعين لعمل كل انواع الخيارات التى من المتوقع أن نعملها فى حياتنا الشخصية عند مشاهدة حدث ينكشف امام أعيننا، والآن بالطبع فهذه ليست حياة حقيقية، وهناك حدود تظهر امامنا من خلال كادرات الفيلم، لكن رينوار -مثله مثل ألتمان الذى جاء بعده بسنوات – كان مخرجاً عظيماً لهذا التأطير الكثير حيث يوجد دائماً شيئ يحدث يزيد على ما نستطيع متابعته فوراً، وبسبب هذا الأسلوب لم ينل رينوار التقدير الذى حظى به زملاءه  وإستمر هذا فترة طويلة– فقد كانت مهمة الفيلم فى ذلك الوقت هى ان يُركز على ما يسترعى إهتمام المشاهدين من احداث معينة وأن يستخدم الكثير من القطع المونتاجى لكى يحقق هذا الهدف.
لكن نقاداً مثل اندريه بازن وبولين كايل أشادا كثيرا برينوار، وهو الآن يُعتبر واحداً من أهم المخرجين السينمائيين، حيث قالت بولين كايل فى " Projections 13" تحس أنك تستطيع أن تتنفس وان الفيلم يتنفس –  إنه إخراج سينمائى فى الهواء الطلق" فمع مثل هذا الإخراج السينمائى لا يُترك المًشاهد مع نوع الخيارات المحددة التى تحدثنا عنها فى واقعية الموقف، لكن يُترك فى مشاهدة الخيارات فى المشهد، فمن هو الذى يجب علينا أن نتتبعه فى المشهد ولماذا؟
إذا نظرنا إلى أفلام ألتمان مثل فيلمه " M*A*S*H, Nashville " وفيلم "حفل زواج" فسوف نلاحظ وجود صورة محتشدة بالناس تطلب منا أن ننتبه لكن هذا الإنتباه ليس إلزامياً، وهذا لا يتعلق فقط باللقطة المشهد – على الرغم من ان رينوار وألتمان كانا من مخرجى اللقطة المشهد – ولكن هناك مخرجى "لقطة مشهد" آخرين يقودونا بمهارة داخل اللقطة.
لعلنا نتذكر هنا المخرج بول توماس اندرسون وإفتتاحية فيلمه "ليالى بوجى" " Boogie Nights " حيث يقدم لنا فى اللقطة الاولى كل الشخصيات الرئيسية فى الفيلم بطريقة لافتة، لكننا نكون واعين كمشاهدين إلى اهمية المعلومات التى تُقدم لنا وكيف تم تقديمها.
وهذا هو ما يُطلق عليه المونتاج داخل الكادر، بدلاً من المونتاج من لقطة إلى أخرى من اجل التخصيص، فالمخرج يحرك الكاميرا من معلومة هامة إلى أخرى، بينما حركة الكاميرا عند رينوار وألتمان ليس بها نفس الإحساس التخصيصى.
الواقعية المفتوحة، على الرغم من ذلك، لا تتعامل فقط مع الإحتمالات المتعددة فى الصورة، لكنها تتعامل أيضاً مع المستويات المتعددة للصوت، وكثيراً ما كان شريط الصوت فى أفلام ألتمان مركباً بهذه الطريقة حتى اننا نسمع محادثات عديدة فى نفس اللحظة ويجب علينا أن نقرر اى محادثة هى الاكثر اهمية.
ومع كل هذه القدر من الإبداع فى الصورة والصوت، ما هو هدف الواقعية المفتوحة؟ فواقعية الموقف – رغم ذلك – يمكن ان تخدم هدفاً سياسياً بشكل كبير، ولا شك أنك فى افلام كن لوتش تحس بأن القصة مُحملة برسالة من اليسار السياسى بحثاً عن حقوق اكثر وفرص أفضل للفقراء.
هذا ما توفره واقعية الموقف، اما الواقعية المفتوحة فربما تبدو غير سياسية وبلا هدف، ولكن مثلما قال رينوار "لكل إنسان أسبابه" وان مهمة المخرجين أن يبحثوا عن هذه الأسباب لكن بدون دمقرطة المجتمع كثيراً، اما دى سيكا ولوتش فالدمقرطة تلازم تجربة المُشاهدة كثيراً.
احد الأسباب التى دعت بولين كايل أن تُقدر رينوار كثيراً انه كان شخصية منفتحة فهو يسمح لكل شخص أن يقول ما يعبر عنه، وبمقارنة فيلم "امبرتو دى" لفيتوريو دى سيكا بأفلام رينوار قالت كايل أن دى سيكا "إرتكب خطأً عندما تعمد جعل صاحبة الأرض فى فيلم "امبرتو دى" قاسية، انا لا اعتقد ان رينوار يمكن ان يرتكب مثل هذا الخطأ، فهو سيجعلنا نعرف اسباب قسوتها". 
وهذا ليس معناه ان نقول أنه لا توجد لحظات مفتوحة فى فيلم دى سيكا وكن لوتش ( فكايل توضح أن دى سيكا كان أكثر إنفتاحاً فى افلام أخرى) لكن مخرجين معينين يتعاملون بشكل أساسى مع طرح احادى، ورينوار والتمان يظلان أعظم مخرجين فى الشكل المفتوح على الرغم من وجود مخرجين آخرين يذهبون بعيداً فى التاويلات الشكلية " formalist " ومن بينهم هو هسياو هسين فى تايوان فى افلامه "وداعاً أيها الجنوب" وفيلم "ازهار شنغهاى" ..إلخ، وكذلك المخرج الإيرانى عباس كياروستامى فى فيلمه "خلال أشجار الزيتون" و "ستحملنا الرياح جميعاً"، وسوف نتحدث أكثر عن عباس كياروستامى لاحقاً.
بعض أفلام لارس فون تريير، وكذلك فيلم "إحتفال "" Festen " للمخرج توماس فينتربرج يمكن ان تُوصف بانها واقعية راديكالية، وهى نمط من الواقعية تفتقد إلى حالة الوعى التى نراها عند لوتش ودى سيكا، وتفتقد إلى الشكل المنفتح الذى نراه عند رينوار وألتمان، على الرغم من انها تحتوى على عنصر من الشكلين، فالمخرج توماس فينتربرج يتناول دراما عائلية ويجعلها راديكالية من خلال التكنيك.
إذا كان ألتمان مخرجاً عظيماً للشكل المفتوح حيث تلتقط الكاميرا اجزاءاً متعددة من المعلومات فى وقت واحد، فإن فينتبرج يميل اكثر إلى إلتقاط أجزاء صغيرة منفصلة من المعلومات بأسلوب مُصطنع بحيث لا يلتزم بالتقاليد السينمائية للزمن والمكان لأنه يهتم جداً بالمباشرة فى الموقف.
فكثيراً ما يختار فينتربرج زاوية كاميرا بحيث تبدو كما لو كانت تستهدف المباشرة اكثر مما يوجد فى الموقف، مثل ما نراه عندما تضع الكاميرا نفسها خلف السرير بترقب أو تحوم حول الحجرة من زاوية عالية عكسية.
إحتفال
واقعية فينتربرج الراديكالية لا تاتى من فراغ، ففيلم " Festen " كان جزءاً من حركة الدوجما، وهى الحركة السينمائية التى تم صياغتها من خلال لارس فون تريير وفينتربرج فى منتصف التسعينات وكانت تستهدف العودة بالإخراج السينمائى إلى الطريقة الأصولية، وإليكم بعض من قواعدها:-
 
الافلام يجب ان تُصور فى الاماكن الطبيعية وليس فى ديكورات، والكاميرا يجب أن تكون محمولة، ويجب ان يكون الفيلم بالالوان، والأفلام النوعية غير مقبولة، والمخرج يجب ألا يكون نقابياً- ليست كل القواعد معمول بها الآن: لكن السينما بدت كما لو انها تدخل فى نوع جديد من الواقعية، فمن الواضح ان الاحداث المعروضة على الشاشة تحتل الاولوية بدون الإهتمام الشكلى الذى يفرض على الفيلم ان يبدو كما لو كان حقيقياً: ففى فيلم "البلهاء" " The Idiots " للمخرج لارس فون تريير توجد اخطاء "راكور" ويظهر الميكروفون فى اللقطة، كما تنعكس صورة الكاميرا على زجاج سيارة.
إذا أراد فيلم ان يكون واقعياً، واقعية راديكالية، هل من اللازم عليه تضمين عملية صُنع الفيلم؟ إذا كانت الواقعية تتوافق بشكل عام مع الجماليات التقليدية، مثل – الإستمرارية فى القصة، والتوافق فى اللقطات، وإخفاء الكاميرا، وتحريم النظر مباشرة إلى عدسة الكاميرا – إذن أين تكون الواقعية؟ هل الواقعية ليست اكثر من مجرد تقاليد مثل اى شيئ آخر؟ حتى مخرجى الدوجما قد يتفقون على هذا لكنهم مع القواعد العشرة يحاولون على الأقل أن يخلقوا تقاليدهم الخاصة بهم اكثر من مجرد تطبيقها او يقوموا برد فعل ضد قواعد "الصيغة التقليدية للتمثيل" " Institutional Mode of Representation " وهو المصطلح الذى صاغه بورش والذى يشير إلى المعايير التى ينبغى إتباعها.
 
ويوجد تعليق لطيف من جودار أشير إليه فى بداية كتاب ريتشارد كيللى المعنون "دوجما 95" حيث يقارن جودار بين طريقته فى الإخراج وبين طريقة مخرج هوليودى "انا أكبر منه، لكن أفلامى أصغر، لانه لا وجود للقواعد فى أفلامى، بينما هو يلتزم بالكثير من القواعد، فللمرة الاولى منذ عشرين عاماً، لدى شعور بان القواعد يجب ان تُكتشف، فالواحد لا ينبغى عليه أن يطبقها ولا يثور عليها تلقائياً، فمن الأفضل ان تكتشف ما يليق بك فى النظام وتقبل به أو تغيره، ولكن إعمل به وإكتشف المجهول"
حركة الدوجما فى الأساس هى مجموعة من القواعد التى وُجدت لكى تُكسر، لكنهم يكسرون تقاليدهم الخاصة بهم وليس فقط تقاليد السينما الامريكية المهيمنة، الدوجما لا تحتاج بالضرورة أن تكون حركة واقعية – لماذا لا يكونوا سرياليين أو واقعيى موقف او حركة سينما سياسية، على الرغم من أن حركة الدوجما تضم الثلاث؟ - ولكن هذه هى الطريقة التى قرروا ان ينتهجوها، كما لو أنهم – ويالها من سخرية – يعارضون تقاليد السينما الهوليودية مرة اخرى، وهى صناعة سينمائية عملاقة وفن مركب مقارنة بافلام الدنماركيين منخفضة التكاليف.
وفى نفس الوقت الذى كان الدنماركيون يبحثون فيه عن جماليات اكثر واقعية، فإن السينما الإيرانية كانت تعمل المثل – ولكن بدون تشدق- فالسينما الإيرانية واقعية هادئة، وهى حركة سينمائية عامة – وعلى عكس الواقعية الإيطالية الجديدة والموجة الجديدة الفرنسية وحركة الدوجما – لم تعلن السينما الإيرانية انها حركة سينمائية لكنها واصلت العمل بدأب على إلتقاط تفاصيل الحياة، رغم ان العديد من افلامها وفرت تساؤلات معمقة عن الواقعية المُقدمة – وخاصة افلام المخرج العظيم عباس كياروستامى مثل فيلم "كلوس أب" و "طعم الكريز" اللذان شجعا على طرح أسئلة فلسفية- فالواقعية تتأكد بطريقة الملاحظة والتى لا تلفت الإنتباه إلى الجماليات، إلا إذا كان من أجل أهداف الواقعية، ففى فيلم "التفاحة" لسميرة ماخملباف، فإنها تُعيد تمثيل مشاهد من حياة إحدى العائلات: حيث نرى فتاتين تهيمان فى شوارع طهران بعد أن حبسهما والدهما إثنى عشر عاماً فى المنزل.
والحقيقة ان إعادة التمثيل توحى ببعض المستجدات الطريفة فى السينما المعاصرة، فالفيلم وُصف بانه "شبه تسجيلى" فهو يقع بين الشكل الخيالى والشكل الحقيقى، لكن طريقة سميرة ماخملباف بدت اقل ميلاً إلى التعقيدات الجمالية واكثر ميلاً إلى التبسيط التسجيلى: فالمخرجة ارادت ان تعود إلى قصة فتاتين كانتا محبوستين لكى يكون فيلمها عائلى الطابع، لماذا نُعقد الأشياء ونحن نشاهد الشخصيات امام اعيننا؟ هكذا قالت المخرجة ذات الثمانية عشر عاماً.
ونفس الطريقة يتبعها والدها المخرج محسن ماخملباف فى فيلمه "لحظة براءة" " A Moment of Innocence "، وهو يعتمد على حادثة تعرض لها محسن ماخملباف فى حياته عندما انتهى به الحال إلى السجن لانه طعن شرطى، ويقرر ماخملباف عندما يقابل الشرطى مرة ثانية بعد عدة سنوات ان يتعاون مع هذا الشرطى – السابق - لكى يقدما فيلماً، حيث يقرر كل منهما ان يختارا الممثلين الذين يُعيدا تمثيل شخصيتهما عندما كانا شابين، وفى فيلمه "جابا" " Gabbeh " فإنه يقدم نوعاً من الادب المتوارث، فالفيلم يستكشف حياة غازلى السجاجيد، بينما يناقش عملية الحكى " storytelling " أثناء غزل السجاجيد.
فى افلام إيرانية عديدة يوجد مزيج غريب بين البساطة وبين تعقيدات التمثيل المتضمنة بينما نحن نتعجب كون هذه الأفلام خيالية وفى نفس الوقت تعتمد على حقيقة تسجيلية.
فيلم "الدائرة" له ايضاً نفس النكهة رغم ان الفيلم أقل إعتماداً على عكس الذات: فنحن نشعر أن مخرجه جعفر بناهى يريد من القصة ان تتحدث عن نفسها، ويريد لواقعية اندريه بازن أن تكشف لنا قسوة العالم بدون عناصر مُتكلفة، فهذه القصة عن ثلاث نساء فى إيران يمضين فترة إفراج مشروط، فالفيلم يناقش طبيعة العالم الذكورى لمدينة طهران، وهو من الأفلام ذات الهدف السياسى الحاد الذى يظهر من خلال طريقة تصويره، ومن خلال المواقف التى تكون فيها الثلاث نساء، إحداهن لا تستطيع ان تصعد إلى أتوبيس بدون مساعدة من احد اقاربها من الرجال، فالنساء عندما يظهرن فى شوارع المدينة تتعرضن للإستجواب بصورة متكررة وتتعرضن للمضايقة، وهذا لا يعنى ان الفيلم عفوياً، بحيث يبدو انه لا يحتوى على مشاهد توحى بانه يركزعلى شيئ محدد، وبان به رسالة توحى بان حقوق المرأة يجب ان تتحسن إلى الافضل.
المشاهد الإفتتاحية والختامية للفيلم توضح أن المساحة المتاحة للنساء فى إيران هى دائرة شديدة الضيق بشكل مُفزع، ولكن من العدل ان نقول ان العديد من الافلام الإيرانية توفر حساً جمالياً متعدداً، كما لو أن هذه الأفلام تتطلع إلى "جماليات المقاومة" فى حدها الادنى حتى تستطيع ان تحكى قصصها.
تحدث عباس كياروستامى فى الحوارات الصحفية التى أُجريت معه مؤخراًعن الفرص المتاحة من خلال الكاميرات الديجيتال الصغيرة وعن الطرق التى يستطيع بها المخرجون إختصار العديد من عناصر عملية الإنتاج وهذا يجعلهم يقتربون من الحقيقة، وهذا قد يبدو نوعاً من السذاجة، لكن كياروستامى يعى جيداً بالنقاشات المتصلة بفكرة أن الحقيقة يتم تغييرها من خلال الطريقة التى نصنع بها الفيلم: فيلم "كلوس أب" شبه تسجيلى وهو يتشابه مع فيلم "التفاحة" ومع فيلم محسن ماخملباف الذى ينسج قصة حقيقية عن رجل حاول ان يسجنه من خلال إعادة تمثيل الحالة. قد تكون هناك ثمة عناصر لسينما ما بعد الحداثة فى السينما الإيرانية، لكننا لا يجب أن نخلط هذا بالإنعكاس الذاتى، فمثلاً، فى إعداد فيلم "كينونة جون مالكوفيتش" وفيلم "قهوة وسجائر" بدا المخرجان انهما يريدا ان يقوما بتضمين المشكلة المحيرة للحقيقة داخل واقعية هادئة، وهذا ليس له صلة بمباشرة ما بعد الحداثة.
كياروستامى يُنهى فيلم "طعم الكريز" بطريقة تجعلنا غير واثقين إن كانت الشخصية المحورية إنتحرت ام لا، لكنه بهذه الطريقة يُلقى بالقضية الملحة على المُشاهد، فنحن نتسائل هل سينتحر طبقاً للمعلومات التى يقدمها الفيلم أم أنه لن ينتحر، إذا قال أحد الأشخاص أنه سينتحر وقال شخص آخر عكس ذلك، فهل هما يقولان شيئاً عن موقفهما الخاص من الحياة والموت؟ بهذه الطريقة تمكن كياروستامى من جعلنا نسأل ليس فقط أسئلة معقدة عن الفيلم ولكن أيضاً عن أنفسنا – وهى أسئلة فلسفية بشكل أساسى.
فى فرنسا، للمخرج العظيم موريس بيالا سُمعة انه لم يسافر، إنه معروف جيداً فى بريطانيا بسبب فيلمه "فان جوخ" وربما بسبب فيلميه "البوليس" و "لولو" والفيلمان من بطولة جيرارد ديبارديو، ولكنه عندما أخرج كواقعى – مثل فيلميه البوليس ولولو- فقد رأيناه مخرجاً يبحث عن الحقيقة وفى نفس الوقت يبحث عن الأسلوب الجمالى، حتى برغم ان هناك عدم وضوح "فلو" فى مشهد من فيلم "لولو" حتى ان الطلاب غالباً ما ينتبهون إلى هذا العيب، وكيف يتأتى لصديق ان يقدر على النزول للشارع ويعود ليصعد السلالم عدة مرات بسرعة شديدة بعد شراء السجائر والزهور؟ لكننا نلاحظ فقط "الفلو" لان بيالا يقدم المشهد فى لقطة واحدة – لقطة مشهد.
فالأمر يبدو كما لو انه يعرف ان ما يهم أولاً واخيراً فى الواقعية ليس منطقية المشهد ولكن الأسلوب الجمالى لها، ما يريد ان يفعله هو أن يؤكد على ضيق الأمكنة فى هذه المشاهد التى تدور فى المنطقة المحيطة، وهو يهتم جداً بهذا على المستوى السينمائى، حتى اننا إذا إتفقنا على ان الواقعية يجب ان تكون شديدة الصدق من الفيلم الموسيقى – على سبيل المثال- او فيلم الخيال العلمى، فإنها ولكى يتم إنجازها، فاحياناً– وللمفارقة - يكون هذا الإنجاز على حساب شيئ آخر، مثلما يقول فرناندو ميريليه - مخرج فيلم "مدينة الرب" – فى كتاب "سينما أمريكا الجنوبية الجيدة – " هذا فيلم به عدد كبير غير مسبوق من الاخطاء -الراكور- ، نحو مائتى او ثلاثمائة مشكلة، إذا شاهدت الفيلم، ستجد فى كل مشهد ان مكان الناس يتغير ولا يجب حدوث ذلك... ولكن من يهتم؟
انه اراد منا ان نُركز على العواطف الموجودة فى التمثيل، والشيئ نفسه نجده مع المخرج جون كازافيتس الذى لم ير مانعاً فى إستخدام منزله الخاص كمكان للفيلم حتى إذا لم يكن نفس نمط المنازل التى تسكن فيها شخصيات الفيلم، ومثلما يقول "راى كارنر" – كاتب السيرة الذاتية لكازافيتس فى كتاب " تيار الحب، كازافيتس فى كازافيتس" "الحقائق الهامة ليست إجتماعية ولكنها عاطفية"، فى الامثلة التى سقناها عن المخرجين الثلاثة ، وعلى الرغم من أنهم مخرجين مختلفين تماماً – بيالا وكازافيتس و ميريلى – فإنهم يستحضرون واقعية عاطفية معينة، والدليل على هذا ما قاله ميريلى، وملاحظة كارنى ومشهد بيالا.
ما هى تقاليد الواقعية، لعلنا نتساءل؟ فالإضاءة غالباً مُنخفضة، ويعتمد الفيلم الواقعى على الإضاءة الطبيعة القادمة من النافذة –مثما نرى دائماً فى أفلام كن لوتش – واللغة عامية -وغالباً دارجة- والكاميرا محمولة، وتصرفات الشخصيات لا تسترعى إهتمامنا ولكنها تستثير لدينا حس المُراقبة، مثل المشهدين الطويلين للمخرج بيالا، حيث نرى الممثلة إيزابيل هوبير وجيرارد ديبارديو يناقشا فكرة الإنتقال إلى مكان صغير المساحة، فيثبت بيالا اللقطة ليؤكدعلى المكان الضيق، والطريقة التى يُضاء بها المشهد تاتى من الخارج. وإذا انتقل المخرج للخلف وللامام بين الشخصيتين بأسلوب اللفطة – واللقطة العكسية، واتاح أيضاً لقطة إنتقالية وجيزة التى قد تسمح بفترة زمنية تسمح للشخصية ان تعود إلى الشقة، عندئذ فإن المشهد سيكون منطقياً، لكنه ربما يكون أقل نجاحاً فى تقديم الحالة الجمالية والعاطفية.
هذه فصة عن شقتين وما يترتب عليهما من فروق طبقية، فبالنسبة لشخصية إيزابيل هوبير فهى تفقد ثراءها مؤخراً وتاتى إلى شقة ديبارديو الفقيرة، وديبارديو ينهى المقابلة ويتخبط فى الحياة بظروفه الصعبة الخالية من اى ترفيه، هوبير إعتادت على الحياة فى أعلى مستوياتها وعندما نراها تخانق على هذه المساحة الضيقة فى هذه الكادرات الضيقة أيضاً فإننا نرجع بفكرنا إلى المشاهد التى كانت فيها فى شقتها السابقة وحالة الراحة المصاحبة لإتساع مساحتها.
 
ومن الواضح ان مشهد بيالا يحتوى على "الفلو" ولكن المشهد صالح، وليست هذه الصلاحية قائمة على اساس المنطقية الزمانية والمكانية ولكن على قدرته على نقل أحاسيس حقيقية عن المازق الذى يصادف الكثير من الناس، بيالا مخرج عظيم للواقعية العاطفية، فهومخرج رائع فى جعل المُشاهد يفهم تفاصيل الحياة الحقيقية بعاطفة أكثر من منطقية الظرف المكانى، معظم المخرجين سيجعلون هذا المشهد منطقياً مكانياً، لكن القلائل يقدرون على إلتقاط التوتر فى العلاقة القائم على الإختلافات الكثيرة، عندما تعود الشخصية الثالثة بالازهار والسجائر، نلاحظ أنه لا يهم ما تمثله الازهار من لفته رائعة، فالمطلوب ان يدخل إلى اللقطتين المحتشدتين اللتين أسسهما بيالا واللتين توحيان بان مزيداً من التوتر سوف يحدث.