09‏/06‏/2014

تأملات فى الأسلوب السينمائى

محاضرة :- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى

1
 
ثمة تعليق جميل من المخرج الفرنسى العظيم روبرت بريسون حيث قال فى كتاب "ملاحظات للسينمائى" " Notes on the Cinematographer " أن الأسلوب ما هو إلا التقنية، وعندما كتب النقاد الفرنسيين فى الخمسينات فى مجلة "كراسات السينما" أن الأسلوب هو جوهر عمل المخرج، أرادوا أن يحددوا الشيئ الذى يجعل المخرج متميزاً وأصيلاً، والآن لا يعنى الأسلوب بالضرورة أن المخرجين أسلوبيين، فبعض المخرجين لديهم أسلوب والبعض الآخر لا، والأسلوب يتصل كثيراً جداً بالرؤية ووجهة النظر والطريقة التى تُعمل بها الأشياء، وبناءاً عليه فالأسلوب يُوضح الفكرة ويُبرزها.

فى لقطة طويلة من فيلم "أولاد طيبون" " GoodFellas " للمخرج مارتن سكورسيزى، حيث الكاميرا تتلوى خلال نادى كوباكابانا حيث تتبع الشخصية المحورية، ربما نتسائل هل الأسلوب هو التنميق، هل هذا المشهد مجرد مثال  للأسلوب الفخيم أكثر منه مثال للأسلوب بإعتباره يوضيح الفكرة؟ فهذا المثال من أحد جوانبه عبارة عن لقطة أسلوبية لا يستطيع أحد إنكارها –إنها اللفطة التأسيسية المركبة إخراجياً والتى تتكون من لقطات متوسطة ولقطات كلوس أب وجميع هذه اللقطات تتم فى لقطة واحدة – اللقطة- المشهد. وبينما شخصية راى ليوتا وشخصية لورين براكو يدخلان النادى من خلال الباب الخلفى، يذهب مارتن سكورسيزى إلى أقصى مسافة ليكشف عن الشغل الذى خلف المشهد عندما تعبر الشخصيتان المطبخ ودرجة السلم التى من خلالها يتلقى ليوتا التحية من هؤلاء الناس المتأنقين.
أولاد طيبون

فالأمر يبدو كما لو أن المخرج يريد منا أن نأخذ جرعة كبيرة من نمط المعيشة، ويستخدم لقطة مفردة واحدة لفرقة "الرونتس" " The Ronettes " ليخرج من هذا المدخل وينتقل لعالم آخر، أفلام سكورسيزى دائماً تعرض لنا شخصيات اخلاقية مثل –جونى بوى فى فيلم "شوارع قذرة" " Mean Streets " وتريفيس بيكل فى فيلم "سائق التاكسى" " Taxi Driver " وجاك لاموتا فى فيلم "الثور الهائج" " Raging Bull " – ومن ثم يحاول سكورسيزى خلال تأسيس بيئة الفيلم أن يوضح بعض التصرفات التى تبرر سلوكهم، ويبدو سكورسيزى هنا أنه يريد أن يكشف عن شخص لا يستطيع أن ينال نصيبه من أسلوب الحياة الفاخرة بدون رفض أخلاقى من داخل الشخصية، يجب أن نتيقن أن هذا عالم مثير، ويجب علينا أن نشعر بالغيظ مثل شخصية لورين براكو، وان نكون مُعجبين مثل راى ليوتا.

وعلى ذلك يُوضح الأسلوب بذكاء مشاعر الشخصيات وكذلك أفكار سكورسيزى، ويجعل المشهد أكثر من مجرد أسلوب، وبالرغم من أن إستخدام اللقطات – المشهد أصبح شيئ من الحرفية الأسلوبية البديعة لعدد من المخرجين منذ أن أفتتح أورسون ويلز فيلمه "لمسة الشر" " Touch of Evil " بتأسيس دقيق لمشهد يتطور حتى يبلغ ذروته بإنفجار.

فاللمسة الأسلوبية أصبحت قاعدة فى حد ذاتها، فهى تحفز عين المشاهدين على المشاهدة والإعجاب: سيندهش المشاهدون من كيفية إنجاز المخرج للقطة واحدة مُركبة مثل هذه اللقطة، اللقطات – المشهد الشهيرة فى السينما تشمل إفتتاحيات أفلام مثل فيلم "مبتدأون جداً" " Absolute Beginners " ومثل فيلم "اللاعب" " The Player " ومثل فيلم "بعثة إلى المريخ" " Mission to Mars " ومثل فيلم "ليالى بوجى" " Boogie Nights " وكذلك اللقطة - المشهد للتهجير فى فيلم "التكفير عن" " Atonement " للمخرج دانكيرك، وسواء قدم المخرجون محض إستعراض أسلوبى أم طوروا الفكرة، فهذا أمر على الجمهور أن يقرره: وهذا المثال من فيلم "أولاد طيبون" يظل بالتأكيد واحد من أكثر مشاهد الثراء نجاحاً، لكن نقاد آخرين رأوا مشاهد اخرى فى نفس الفيلم كمنمنمات أسلوبية.

تيرى جيليام فى كتاب "جيليام فى جيليام" يعطى مثالاً بلقطة من فيلم "أولاد طيبون" ويعتقد انها بلا معنى، حيث "كاميرا سكورسيزى تتبع بالزوم بوبى دى نيرو وراى ليوتا فى وجبة العشاء، أنا لا أعرف ما هى فكرة سكورسيزى من هذه اللقطة، لكن الكاميرا لا تجعل هذه اللحظة أقوى، فاللقطة كانت شديدة التكلف"  والأكثر تكلفاً فى ظنى هو مشهد من فيلم "إنفجار" " Blow Out " للمخرج براين دى بالما، حيث يستمع جون ترافولنا إلى الآخرين، ويحاكى براين دى بالما حركة الشرائط بلقطات  360 درجة حول الغرفة، ألم يكن من الأفضل أن نركز الكاميرا على جون ترافولتا أثناء إستماعه للآخرين بدلاً من تكرار حركة الشرائط؟ نحن جميعاً لدينا أمثلتنا عن اللقطات الأسلوبية التى تبدو ذات صلة بالمشهد أو اللقطات الأسلوبية التى لا صلة لها بالمشهد. 
2

الناقد الفرنسى العظيم أندريه بازن يذكر فى كتاب "ما هى السينما؟" المجلد الأول أن "عمق الميدان ليس مجرد مكسب فى مهنة المصور السينمائى مثل إستخدام سلسلة من المرشحات أو أى أسلوب من أساليب الإضاءة، ان عمق الميدان هو المكسب الأكبر فى مجال الإخراج السينمائى – خطوة جدلية إلى الأمام فى تاريخ لغة السينما" فبالنسبة لأندريه بازن فإن المشاهد التى تُبرز عمق الميدان فى فيلم "المواطن كين" وفى فيلم "عائلة أمبرسون الرائعة" " Magnificent Ambersons " لم يكونا إستعراضاً فى الأسلوب لكنهما حققا قفزة إلى الأمام فى تطور السينما، حركة فى إتجاه السينما التى يستحسنها اندريه بازن –  السينما الواقعية .
عمق الميدان هو العمق فى اللقطة حتى نستطيع ان نرى خلفية اللقطة واضحة مثل مقدمة اللقطة.
عائلة أمبرسون الرائعة

عندما يعمل مخرج بعدسة محدودة التركيز، فإننا سنرى – على سبيل المثال – شخصيتين يتحدثان ولكننا لن نرى بوضوح ما يحدث خلفهما، ويعتقد اندريه بازن أن المُشاهد يكون اكثر فاعلية فى أفلام عمق الميدان، فهذا المشاهد يجب عليه ان يقرر بنفسه أن يركز بصره على الشيئ الذى يريده، هل يجب علينا أن نولى إهتمامنا إلى الكبار فى مقدمة اللقطة وهم يناقشون حياة كين فى المشهد الهام من فيلم "المواطن كين" أم أن نركز بصرنا بدلاً من ذلك على الصبى الذى يظهر فى الخلقية؟ أم أن نتبادل النظر بين الإثنين؟.

جنباً إلى جنب مع ويليام واير وجان رينوار، فتح أورسون ويلز الطريق لإمكانية صنع أفلام أكثر واقعية، واقعية على الأقل من وجهة نظر المُشاهد، العديد من الناس بالتأكيد وعلى مر سنوات ناقشوا فيلم "المواطن كين" بوصفه فيلماً أسلوبياً أكثر من كونه فيلماً واقعياً، لكن هذا قد يكون صحيحاً فقط إذا تناولنا الفروق الواضحة بين الأسلوبية والواقعية.
إذا أخذنا فى إعتبارنا ما قُلته عن فيلم "أولاد طيبون" فكل ما يحتاج إليه مخرج الشخصية – المؤلف هو أن يقدم رؤية متميزة للعالم.

ربما فى وقت لاحق يمكن لنا ان نتحدث عن ريادية أورسون ويلز من وجهة نظر أندريه بازن – عن لمسته الأسلوبية – والتى يمكن إدراجها ضمن أسلوبه كمخرج – مؤلف: فأورسون ويلز يتميز بطريقة غريبة فى المزج بين الواقعية والتعبيرية، فهو مخرج يريد عمق الميدان لكى يوفر خياراً واقعياً للمشاهد فى الكادر، لكنه تعبيرى أيضاً حيث العالم الذى يعرضه به صفة الكابوس ولا يمكن تصوير هذا العالم بأحسن من زوايا كاميرا مائلة وظلال ولقطات طائرة - من خلال جهاز الكرين –كما تكشف أفلامه عن إستلهامه للتعبيرية الألمانية فى العشرينات: من مخرجين مثل فريتز لانج – مخرج فيلم دكتور مابوس " Dr Mabuse " وفيلم "المقامر" " the Gambler " وفيلم "متروبوليس" " Metropolis "، وكذلك المخرج إف. دبليو. مورنو " F. W. Murnau " مخرج فيلمى "فاوست" " Faust " وفيلم "سيمفونية الرعب" " Nosferatu "، وكذلك المخرج روبرت وين –مخرج فيلم "طاقم الدكتور كاليجارى" " The Cabinet of Dr Caligari ".

فى فيلم "عائلة أمبرسون الرائعة" يكشف أورسون ويلز عن الشخصية المحورية وأمه وهما ذاهبان إلى غرفتى نومهما فى قصر أمبرسون، الإضاءة خافتة فى البداية، وظلال الشخصيات هو ما نراه مسيطراً على المشهد، وعندما يستخدم الفيلم عمق الميدان "البازينى" فإن الأسلوبية تتوضح أكثر، فى أحد اللحظات توجد لقطة للأم فى المقدمة يتم تصويرها من زاوية مُنخفضة، بينما فى خلفية اللقطة نرى ونسمع العمة، فثمة إنحياز فى التكوين لهذه اللقطة، وتحدث ديفيد بوردويل فى كتاب "أشكال مرصودة فى الضوء" " Figures Traced in Light " عما أسماه "مقدمة الكادر المفروضة بالقوة" و"عمق الكادر الذى يكاد يظهر" ، كما أشار إلى ان تلك اللقطات تستخدم عمق الميدان لكنها تُركز على الحدث الموجود فى مقدمة الكادر دون الإهتمام بما يحدث فى الخلفية.

ربما الفصل بين الواقعية والأسلوب يكون أكثر أهمية واكثر إفادة، عندما تطرقنا للحديث عن فيلم "أولاد طيبون"، هل قدم المخرج رؤية أم مجرد إستعراض أسلوبى؟ إذا كان بمقدورنا تحليل فيلم سكورسيزى وإظهار كيف أن أسلوب الكاميرا المحمولة الثابتة " steadicam "  فى ولوجها إلى النادى كان ذا صلة بالفكرة، هل نستطيع عمل نفس الأمر مع فيلم أورسون ويلز؟ ربما نجد أن أورسون ويلز إختلف أسلوبه كثيراً بعد فيلم "المواطن كين" فقد تبنى المبادئ التى وضعها أندريه بازن، وربما لم يكن لفيلم "سيدة من شنغهاى" " Lady from Shanghai " أن يتحقق بتسلسله الأسلوبى المُذهل إلى النهاية، ولا فيلم "لمسة الشر" باللقطة –المشهد الإفتتاحية التى تم تنفيذها من خلال جهاز "الكرين"، ولا فيلم "المحاكمة" " The Trial " الذى يوظف أمكنة حقيقية للتصوير – مثل محطة القطار المهجورة فى باريس- ولكنه يصورها بطريقة غير واقعية شديدة المرارة.

وبالطبع، فبدون مثل هذه الأفلام – ومع أفلام أكثر واقعية فى إختيار الأمكنة – فربما لم يكن بمقدورنا ان نحصل على تيمة "ويلزية" قوية بل شيئ آخر مختلف تماماً، إذا إعتبرنا أن سكورسيزى مُغرم فى التحليل النهائى بالأوساط الإجتماعية البراقة، فأورسون ويلز يُعتبر مخرجاً عظيماً للعوالم التى تتدمر ذاتياً، ولشخصيات لديهم صفات تقودهم إلى بيئات ضائعة ومزعجة ومليئة بالمشاكل كما فى فيلم "المواطن كين" أو أحياناً يتم خلق هذه البيئات بواسطة الآخرين كما فى فيلمى "سيدة من شنغهاى ولمسة الشر" أو أحياناً يكون الأمر بين بين مثل فيلم "المحاكمة"، ألا يعوق الأسلوب الواقعى التقليدى القدرة على إستكشاف البيئات الضائعة؟
 
3

دعونا نفترض أن شون بن واحد من أعظم الممثلين المعاصرين، وأن كلينت ستوود مخرج سينمائى متوسط – بصرف النظر عن تقدير الفرنسيين له – دعونا أيضاً نفترض أن شون بن قادر جداً على التمثيل الصعب، وكما أشار الناقد ديفيد تومسون "يركز شون بن إمكانياته لتمثيل أشبه ما يكون بالمخاض العسير، وأشبه بحصوة كلى كبيرة تتخذ طريقها للخروج، إنه يعمل شيئاً لا يريد عمله فعلاً"، هذه بالطبع كلمات قاسية جداً، لكن بالنظر إلى حركة الكاميرا المتكلفة فى فيلم "نهر ميستك" " Mystic River " عندما يكتشف شون بن أن إبنته قُتلت، إن أداء شون بن المتصنع والإنفعالى مع التصوير المتكلف، يؤدى إلى نوع من التزيد الإنفعالى فى الفيلم.
نهر ميستك

إذا كان لدينا كاميرا ثابتة بشكل ما، أو أن أداء شون بن يعبر عن الحزن بهدوء، عندئذ قد نستجيب للأداء، أو نستجيب للكاميرا وهى توضح العاطفة بدون أن نحس أن الأداء يجبرنا على عدم التعايش معه.
طريقة التمثيل فى هذا الفيلم تتوافق مع تكنيك كاميرا كلينت ستوود التى تؤكد نفس المعنى الذى يجسده  الممثل كيفن باكون "المحقق" بتمثيله لحالة العجز عن الكلام، فى هذه اللحظة من الفيلم لا يعانى كيفن باكون من إفتقاده لشون بن على الرغم من أنه صديق الطفولة، لكن الأمر أكثر من هذا: كلينت إستوود يبدو أنه يوجه شون بن كما لو أنه يوجه نفسه، فنحن نعرف جميعاً كيف أن تمثيل كلينت ستوود دائما ما يكون داخلى ومتحفظ فى تعبيراته.

هل نستطيع أن نقول رأياً تعميمياً: كلما كانت الكاميرا أكثر تعبيراً كلما توجب أن يكون التمثيل أكثر تحفظاً؟ إذا إستدعينا فترة الخمسينات وطريقة تمثيل جيمس دين ومارلون براندو ومونتجمرى كليفت، فسنجد مكاناً كبيراً للأداء المؤثر فى التمثيل إذا كانت الكاميرا متحفظة عاطفياً، ولكن إذا كانت الكاميرا جزءاً من التعبير فإن الأداء التمثيلى يتطلب التعبير المتحفظ، عندما قال هيتشكوك عبارته الشهيرة "الممثلون مثل الماشية"، كان يعبر عن الحاجة إلى التعبير العاطفى الذى يصنعه المخرج أكثر من التعبير العاطفى الذى يصنعه الممثل.

تبنى المخرج الإيطالى العظيم مايكل أنجلو انطونيونى نفس الطريقة عندما كان يوجه ديفيد هيمنجز فى فيلم "تكبير الصورة" " Blow Up "، قال هيمنجز أنه قيل له "ليس من المفروض أن تعبر عاطفياً": فالكاميرا ستفعل ذلك نيابة عنك، عندما يجتمع التمثيل الإنفعالى والكاميرا الإنفعالية – كما نرى فى فيلم كينت ستوود – فإن أعظم الممثلين سيبدو مُفتعلاً، حيث يجتمع فى الفيلم ممثل قوى مع زخرفة إخراجية.

من المؤكد أن هذا التزيد ليس مشكلة فى كثير من الأحيان، فأحياناً يتطلع المخرج إلى أداء ميلودرامى كبير داخل أسلوب ميلودرامى – مثل الشخصية التى مثلها أورسون ويلز فى فيلمه "لمسة الشر" او هارى ليم فى فيلم "الرجل الثالث" لكارول ريد- وهذا يمكن أن يخلق نوعاً من الغرابة المقصودة أو جو عام شديد الغموض، وبالطبع هناك حالات نجد فيها أسلوب كاميرا متقشف وتمثيل متقشف – مثل أفلام جيم جارموش فى أفلام أكيرا كوروساوا- وهذه الطريقة يمكن أن تقود إلى إحساس ممتع بالإيجاز.

ولكن فى المشهد المُشار إليه من فيلم كلينت ستوود نجد ان ممثلاً جيداً يبدو مُفتعلاً لأن كاميرا كلينت ستوود – ودعونا نستبعد الموسيقى- كانت تؤدى دور التعبير، إذا إستدعينا أداء ريتشارد بيرتون وإليزابث تايلور الميلودرامى فى فيلم "من يخاف فيرجينيا وولف" " Who’s Afraid of Virginia Woolf " أو الدور العظيم لجينا رولاند فى فيلم "إمرأة متأثرة" " A Woman Under the Influence " نستطيع ان نفهم أن المخرجين يسمحان للأداء التمثيلى المسرحى أن يجد له مكاناً فى السينما.

الكاميرا فى كل مثال وعلى الرغم من انها بعيدة عن تشبيهها بعمل الإنسان، فهى على الرغم من ذلك تمنح الممثل الحرية فى تأكيد التعبير بدون مبالغة، إذا كان شون بن أعظم ممثل فى جيله – كما يقول العديد من الناس- عندئذ دعونا نتسائل هل جزءاً من هذه العظمة يكمن فى أنه عمل مع مخرجين يستحضرون القوة ولا يهتمون بعرض الضعف المحتمل؟.
 
4

بعد مشاهدة فقرة فيلمية من فيلم "جيرترود" " Gertrud " يطلب الطلاب أن تُعرض كل الأفلام فى الفصل الدراسى لأنهم ليست لديهم الرغبة فى المشاهدة من خلال الفيديو أو "الدى فى دى" ويبدو الأمر مفهوماً: فيلم "جيرترود" بطيئ فعلاً والتمثيل مُبالغ فيه والفكرة عصية على الفهم، عندما عُرض الفيلم فى عام 1964 تعرض إلى الإنتقاد، والآن ومع مرور الوقت وإضافة أفلام أخرى أخرجها كارل دريير – وهذه الأفلام تشمل "آلام جان دارن" " The Passion of Joan of Arc " وفيلم "فامباير" " Vampyr " وفيلم "الكلمة" " Ordet " أُعتبر فيلم "جيرترود" فيلماً عظيماً ونموذجاً للسينما الحداثية –الروحية-.
جيرترود

إذا فكرنا فيما يُطلق عليه "الصيغة التقليدية للتمثيل" " Institutional Mode of Representation " يمكننا أن نتعرف اهمية الفيلم، هذا المصطلح قدمه نويل بورش (الذى كتب مقالات مهمة عن افلام المخرج دريير) يستخدم بورش هذا المصطلح فى فيلم "الحياة لتلك الظلال" " Life to those Shadows " ليصف التقاليد السينمائية التى تم وضعها بواسطة السينما التجارية فى السنوات الأولى لتاريخ السينما، هذه التقاليد تشمل العديد من العناصر الغير موجودة فى فيلم "جيرترود"، كذلك فإن "كتاب السينما" يشرح مصطلح بورش، إنه يشمل (تقاليد الميزانسين بشكل أساسى وكذلك الكادر، ويتناول بشكل خاص المونتاج من خلال ادواته التى تربط المساحة السردية والزمن وخصوصية الشخصيات الروائية بطرق تسمح للمُشاهد أن يندمج لا شعورياً).

فيلم "جيرترود" فشل على كل المستويات، فأسلوبه كان طليعياً جداً، وكذلك فإن العمق فى اللقطة يجعل مقدمة وخلفية اللقطة يبدوان فى نفس الحالة المرئية، والفيلم يحتوى أيضاً على شخصيات تعبر عن نفسها كما لو أن الممثلين قرأوا ادوارهم قبل تصويرها بخمس دقائق.

لكن دعونا نقول أن عمل فيلم بالأسلوب الواقعى يفيد كثيراً الدراما السيكولوجية، ولكن ماذا لو أراد الفيلم أن يقول شيئاً آخر، ماذا لو أراد الفيلم أن يعبر عن خيبة الأمل من الحياة التى نحياها؟ كارل دريير كان يبحث عن عاطفة تبدو من دنيا أخرى، سواء كان من خلال لقطات كلوس أب روحانية لشخصية فالكونيتى فى فيلم "آلام جان دارك"، أو الولد نصف المجنون فى فيلم "الكلمة" الذى يريد أن يؤمن بالمعجزات وينتهى به الحال بإثبات قناعاته، أو تجسيد الشر فى فيلم "يوم الغضب" " Day of Wrath.".

الدنيا الأخرى فى هذا الفيلم نراها ونسمعها تأتى من كلمات شخصية جيرترود الغير سوية فيبدو الأمر كما لو أنها تتحول إلى بُعد آخر، وكذلك منظرها الذى يبدو أنه هذه الكلمات تنطبق عليه، وبتقليل الحيز الإجتماعى الذى قدمه كارل دريير فى فيلمه، فإن عمق الميدان - الذى نادى به أندريه بازن والذى يمكن أن يكشف عن العالم بكل ما فيه من قسوة- لم يتحقق، ففيلم المخرج كارل دريير  قدم تسطيحاً فى الصورة فجاء فيلمه سطحياً أيضاً، ففى هذا الفيلم يبدو لنا كما لو أن غياب الجانب الروحى وإفتقاد الحب فى العالم، أكثر أهمية من المشكلة الإقتصادية، وكذلك فإن اللقطات – المشهد - ليست من نفس نوع اللقطات – المشهد - التى تتحرى المشاكل الإجتماعية، لكنها بدلاً من ذلك تتأمل المشاكل الذاتية.

عندما تقول جيرترود مقولتها (هل انا شابة؟، لا، لكننى أحب، هل  أنا جميلة؟، لا، لكننى أحب، هل أنا أعيش؟ لا، لكننى أحب)، فالأمر يبدو كما لو أنها تعبر عن بُعدها الأحادى، وهو بُعد متجذر أيضاً، بُعد لا يمكن الحكم عليه، ولا يعيش من أجل أن ينجح (على الرغم من انها كانت مُغنية شديدة التأثير وناجحة فى الماضى) وهى لا تطلب أطفالاً لكنها ببساطة تريد أن تحب، إذا كان بمقدورنا أن نربط إيقاع الفيلم بعباراته، عباراته أحادية البُعد وإصراره على إهمال "الصيغة التقليدية للتمثيل" عندئذ فإن الفيلم يوفر إحساساً غريباً وواسعاً لمغزى الحياة.

والحقيقة أن بورش كتب بنفسه عن الطرق التى كسر بها فيلم "جيرترود" هذه الصيغة فى السينما: القاموس النقدى يوضح الفكرة جيداً من خلال مصطلح "إتخاذ قرار" " parti-pris " فيما يتعلق بكارل دريير. وهى فكرة جمالية ثابتة تسماح بالتحرر من التقاليد على المستوى الجمالى وهذا يسمح بالتحرر من التقاليد على مستوى آخر وهو المستوى الروحى، أحد الأسئلة التى يسألها العديد من المخرجين هو كيف نحرر الجانب الروحى إذا كانت السينما وسيطاً مُستقلاً بذاته، ولعل أندريه بازن – لو كان مازال على قيد الحياة - كان سيقول أن بريسون ودريير وأوزو وميزوجوشى وتاركوفسكى  هم بعض من المخرجين الذين يحاولون تحرير الروح عبر جماليات أصيلة.

إذا تم النظر إلى أفلام المخرج كارل دريير ضمن هذا السياق – كل أفلامه التى عرضناها لكم تتعامل مع الجانب الروحى بدلاً من الجانب الإجتماعى – عندئذ فإن فيلم كارل دريير لن يبدو شديد الغرابة بينما ستبدو أفلام الممثل توم كروز شديدة الغرابة، فأفلامه يتسلط عليها هدف يسعى لتحقيقه، وأنانية تقوده حتى أنه لا يجلس ليستريح ولو للحظة.
 
5
 
فيلم مثل "ألوان ثلاثة: الأزرق" " Three Colours Blue " للمخرج كرزيستوف كيسلوفسكى من الأفلام شديدة التأثير والمصنوعة جيداً وهو يستفز نقاد السينما التقليدية ، دعونا ناخذ جلبرت أدير كمثال، ففى مقالة عن فن السينما كُنبت لصحيفة "الصنداى تايمز" منذ سنوات قليلة، قال ان فيلم "الأزرق" وفيلم " عشاق الجسر الجديد" " Les amants du pont neuf " وفيلم "البرية فى القلب" " Wild at Heart " وفيلم "أوروبا" " Europa " وافلام أخرى هى أفلام "تُجبر المُشاهد على الخضوع"، فالناقد جلبرت أدير يعود بنا إلى السؤال الأصلى عن الأسلوب من أجل الأسلوب، وهو يعتقد أن المخرجة جين كامبين فى فيلم "البيانو" "كانت أسيرة لفكرة أنها لا يجب أن تسترخى ولو للحظة، وإنها ربما تخاطر بفقد السحر المتواصل للميزانسين فى فيلمها إذا إختارت زاوية كاميرا تفشل فى التأثير حتى على أكثر المُشاهدين نُعاساً".
ثلاثة ألوان:الأزرق

إذا نظرنا إلى الطريقة التى يستخدم بها المخرج كرزيستوف كيسلوفسكى التلاشى " fades " المُفاجئ حتى الإظلام، والسماع المفاجئ لموسيقى تحذيرية، وكذلك لقطة كلوس أب تركز على الصليب، عندئذ سيبدو فيلم "ألوان ثلاثة: الازرق" أنه يشارك المخرجة جين كامبين فى الحاجة إلى أسلوب تنويرى.

من الواضح ان هذا الفيلم الذى يتناول حياة إمرأة بعد موت زوجها وطفلها لا يوفر إحساساً ببُعد روحى احادى محدد مثل فيلم"جيرترود" الذى يتمحور حول هذا والذى ناقشناه آنفاً، لكن هل يمكن لنا ان نحتسب أن المخرج تعامل مع الجانب الروحى بالأبعاد الثلاثة –فهو يريد أن يصنع فيلماً روحانياً يتفرد عن الافلام التى تتبع "الصيغة التقليدية للتمثيل"؟ بالتأكيد، فروحانية كيسلوفسكى واضحة الإسراف، ولكن هذا قد يكون جزئياً هو الفرق بين التقاليد المتشددة "البروتستانية" المتصلة بالمخرج دريير – وكذلك إنجمار برجمان بالطبع – وبين الأسلوب "الكاثوليكى" الذى نراه فى فيلم كيسلوفسكى وكذلك أحدث أفلام المخرج كارلوس ريجاداس الذى يُسمى "معركة فى الجنة".

إنه أسلوب يزخرف الروحانية بالأبعاد الثلاثة ويريد الكاميرا أن تكون عفوية، ويستخدم اللون بشكل رمزى –فالأزرق يعبر عن الهدوء- ويتنقل بشكل أساسى بين الصوت الموضوعى والصوت الذاتى، فالمخرج يستطيع أن يتنقل بين الأصوات التى تكون واضحة فى واقعيتها وبين الأصوات المُكبرة التى توحى بذاتية الشخصية المحورية.

إذا بدا المخرج كارل دريير كما لو أنه يريد تعرية المحيط التجريدى ويحوله إلى فضاء كنيسة إسكندنافية، فإن المخرج كيسلوفسكى يريد من السينما ان تُصبح كما لو أنها كاتدرائية كاثوليكية مزدحمة أكثر من أى وقت سابق – فالسينما كانت كاثوليكية فعلاً فى أبسط مفاهيمها، وبمعنى انها إستوعبت كل تاريخ التقنية السينمائية لكى يتطور شكلها الروائى.

وعلى هذا النحو ربط أدير مجموعة من أفلام التسعينات ووصفها بأنها مرثيات عن إنهيار عقيدة سينما الفن، وأضاف أنه يؤمن بأن السينما الأسلوبية تزدهر، دعونا نفترض أننا فى حاجة إلى أن نرى الأسلوب ذو صلة بموضوع الفيلم.

فيلم "ثلاثة ألوان: الأزرق" ليس فيلماً كاثوليكياً البتة: إنه أقرب ما يكون إلى كونه فيلماً وجودياً عن الحزن لكن الكاثوليكية تحلق حول أطرافه وتساهم فى جمالياته.

وهذا يعود بنا إلى نقطتنا الأصلية عن الأسلوب وعما يخدم، وقد يكون من الظلم ان نُصيب فيلماُ فى رأسه لمجرد أنه ليس بروتستانياً بما يكفى، ولإنه لا يتناسب مع جماليات كارل دريير المُتشددة.

بعض الناس يحبون ان يمارسوا عقيدتهم بأقل قدر ممكن من العبادات وأقل قدر ممكن من التجهيزات: وهناك اناس آخرين يحبون الحد الأقصى والتجهيزات المُتكلفة، إذا كان حب السينما يشبه ممارسة العبادة بشكل او آخر، فربما يحق لنا ان نسأل ما هو نوع الأسلوب الذى نحب لعقيدتنا أن تتخذه لتفصح عن نفسها به: هل يكون مزخرفاً ام بسيطاً، وهل يكون صارخاً أم هادئاً؟.