26‏/05‏/2014

الصورة السينمائية

محاضرة:- تونى مكيبن
 ترجمة:- ممدوح شلبى
العام الماضى في مارينباد
 
عندما نفكر فى الصورة، فإنه من المفيد أن نلاحظ كبف ان مخرجين كثيرين يرون الصورة بشكل مختلف تماماً، والدليل على ذلك التعليقات المتوفرة فى "منتدى الكتاب السينمائى" والذى يضم مناقشة أشترك فيها 35 مخرجاً، فالمخرج دوسان ماكايفيف " Dusan Makajevev " يقول (الشيئ المهم أن نفهم أن لا شيئ آخر موجود فى الأفلام سوى الصورة – وأياً ما كان الموجود فى الكادر فهو كل ما لدينا) ورغم ذلك يعتقد كلود شابرول أن (الشيئ المهم فى الكادر هو ما لا تعرضه).
 
هل المقولتين مختلفتين، أم ان كل منهما يقول نفس الشيئ بطريقة مختلفة: إن الكادر هو ما نراه، وإنه هو كل ما نراه فى أى لحظة متوفرة؟ وكما يعتقد المخرج والمصور نيستور ألمندروس ( اعتقد أنك تحتاج إلى الإطار، وبمعنى آخر، إذا لم يكن ثمة محدودية فلا وجود للإختلافات الفنية، أنا أعتقد أن الكادر هو أعظم إكتشاف) ويعتقد رينيه فيرنر فاسبندر (الأمر شديد البساطة، أعتقد أن الكادر مثله مثل الحياة، فالحياة أيضاً لا توفر سوى خيارات محددة).
 
الذى نريد ان نشرحه فى هذه المحاضرة هو ان لدينا أربعة خيارات ممكنة فيما يتعلق بالصورة، اولاً، الأفلام التى تبدو انها تجعل الكادر نافذة على العالم، وثانياً، تلك الأفلام التى ترى الصورة كإطار يحوى العالم كما فى الأفلام الواقعية التقليدية، ثالثاً، الأفلام التى تستخدم الكادر بشكل رئيسى لأبعد مما تقدمه القصة، واخيراً، الأفلام التى تستخدم الكادر ليس أكثر من كونه وحدة من وحدات خطة المونتاج، وبالطبع فإن مثل هذه التعميميات تستحوز على الكثير من الصحة،
 
ولكن هذه التصنيفات قد تساعدنا جداً فى ملاحظة أنه وبرغم أن معظم المخرجين يبدون مُتفقين على ان الكادر هو كل ما لديهم، فإنهم لا يرون جميعهم أن الكادر يستحوز على نفس النمط من الصلاحية. قد تكون أفلام المخرج كن لوتش نموذجاً للكادر الواقعى، ففى فبلم مثل "كيس " " Kes " وفيلم "أمطار الحجر" " Raining Stones " وفيلم "أرض وحرية "" Land and Freedom " وفيلم "إسمى جو" " My Name is Joe " نجد انه يلتقط إحساساً عاديا يفوق الحرفية المنمقة، وكما يقول بنفسه (عمل أشياء تبدو مزيفة هو أسلوب سهل، فالمتطلبات الحرفية مثل الحصول على ممثلين وجعلهم يتفوقون على انفسهم ليس شيئاً هاماً، لكن هذا يمكن ان يكون مُسلياً، لأنه وبصرف النظر عن براعتهم فإن هذا يخلق مستواً آخر من الوعى فى عقولهم، وانا اعتقد انه من اللازم والضرورى أن نقلل من قدراتهم حتى يندمجوا بشكل كامل). من كتاب "لوتش فى لوتش" " Loach on Loach ".
 
إذا كنا فى المشهد الطويل الذى دار حول مناقشة حقوق ملكية الأرض فى فيلم "أرض وحرية" نحس أننا نشاهد ونتصنت، فهذا يكمن جزئياً فى طريقة المخرج كن لوتش التعميمية: فالأمر يبدو كما لو انه يريد أن يكون تأطيرالموضوع أقل من الإمساك به. وبالنسبة لأغراض الشرح، فسوف نضم مخرجين واقعيين آخرين من بينهم جان رينوار وروبرتو روسللينى وروبرت آلتمان، ففى مشاهد من فيلم "قواعد اللعبة" لجان رينوار نرى كيف أنه يجعل التأويلات مفتوحة، فالشخصيات بصورة مستمرة تدخل وتخرج من اليمين واليسار ومن أعلى ومن أسفل الكادر. وعندما تحدث رينوار عن المخرجين الذين يندرجون تحت تصنيفين أشار إلى أن هناك مخرجين يضعون (كاميرتهم فى بقعة معينة يتم إختيارها بدقة).
 
وهذا يوفر لك إحاطة جميلة بالموضوع: فهو يعطيك بالإضافة إلى الركائز فكرة محددة تلك التى يمكن ان تساعد رمزياً فى سرد القصة: وبعدئذ لنأخد الممثلين ونضعهم أمام عدسات الكاميرا، وهكذا عليك ان تستمر (لكننى ضد هذا، إننى احب ان أبدأ بالممثلين، احب أن أضعهم فى مود معين، فنحن – المخرجون- ببساطة دايات نستقبل مولوداً) ويُضيف (انا دائماً أحاول ألا أقطع مونتاجياً أثناء اللقطة، وهذا يفسر لماذا أسنخدم عادة لقطة المتابعة، وكذلك تحريك الكاميرا جانبياً لإستعراض المكان... إلخ، ولا يوجد سبب يدفعنى لذلك سوى كُرهى ان أقطع تمثيل الممثل أثناء تجلياته) – من كتاب "إخراج الفيلم" " Directing the Film ".
 
إذا كان رينوار غالباً يريد صورة مُكثفة بمخارج ومداخل، فهذا يخلق تناقضاً نوعاً ما. لعل هذا يساهم فى الإحساس بالواقعية من خلال رفض تجزئة الفيلم إلى أجزاء سردية، لكنه قد يُقوض الواقعية للجوءه إلى تعظيم الشكل المسرحى، ألسنا فى المسرح غالباً ما يكون لدينا إحساس بالخروج والدخول لخشبة المسرح التى تُعتبر فضاءاً محدوداً رغم ان المخرج المسرحى يوظف جوانب المسرح؟. وعلى الرغم من ان رينوار وروسللينى تم تصنيفهما كمخرجين واقعيين، لكن دعونا نستشهد بفقرة من فيلم "رحلة إلى إيطاليا" " Voyage to Italy " لروسللينى وفقرة اخرى من فيلم "قواعد اللعبة" لرينوار حتى نتوقف على إختلافاتهما الطفيفة،
رحلة إلى إيطاليا
قواعد اللعبة
 
ففى مشهد من فيلم روسللينى حيث يتقابل الزوج مع زوجته على السطح حيث حمام الشمس، نجد ان الكاميرا تتابع تحركاته من مجيئه وحتى يجلس بجانبها. عندئذ يستخدم الفيلم اللقطة واللقطة العكسية التقليدية واللقطة التى تجمعهما "لقطة الإثنين": لكنه بالرغم من ذلك يلعب على فكرة ان هذا واقع مصنوع، فهو مكان تصوير خارجى وليس ديكورا، بينما المنزل فى فيلم "قواعد اللعبة" لرينوار يبدو ديكوراً أكثر من كونه مكان تصوير، وان هوس رينوار بالممثلين - الذى سبق لنا التنويه عنه – لا يقود فى هذا المثال إلى الإحساس الواقعى بالمكان،
 
كان روسللينى على أية حال أكثر إهتماماً بالمكان من الحبكة أو الممثلين. وطبقاً لكلمات إنجريد برجمان – بطلة أفلامه- (فى هوليوود، كنت اعتمد تماماً على السيناريوهات التى تم كتابتها بدقة، فكل تفصيلة مكتوبة وكل لقطة وكل زاوبة وكل حركة للكاميرا مكتوبة فى النص الورقى....... اما مع روبرتو روسللينى فالأمر أشبه بميدان حرب حيث القائد فقط هو من يعرف ما يتوجب على الجنودعمله.) – من كتاب "إنجريد برجمان: السيرة الذاتية" " Ingrid Bergman: A Personal Biography ".
 
وعندما سُؤل روسللينى من إريك رومر وفرنسوا تريفو – فى مقالة منشورة فى مجلة كراسات السينما- عما إذا كان يعمل من خلال تصور مُسبق، فرد روسللينى رداً قاطعاً (لا شيئ على الإطلاق، فليست لدى خطة محددة، وما املكه على وجه التقريب هو ملاحظة عابرة محددة، وانا أعمل طبقاً لما أراه). فى فيلم "رحلة إلى إيطاليا" تصبح مدينة نابولى شخصية فى الفيلم على حساب شخصيات الفيلم الحقيقية- دعونا ناخذ فى إعتبارنا ما تحدثت عنه إنجريد برجمان-.
 
التباين بين رينوار وروسللينى هنا هو الإختلاف بين مشاهدة الواقع المصنوع مثل الممثل فى المثال الأول، وبين المكان فى المثال الثانى، كل من رينوار وروسللينى مخرجان يتم النظر إليهما كواقعيين، لكن واقعية كل منهما تتخذ شكلاً مختلفاً عن الآخر، وعلى أية حال، يجب علينا ان نحترس من إطلاق أحكام تعميمية كثيرة، فروسللينى عمل الكثير من الأفلام من بطولة "آنا ماجنانى" بالإضافة إلى إنجريد برجمان، حيث إختيار الممثل المناسب شيئ مهم فى الفيلم، ونحن لا نستطيع بسهولة أن نفصل فيلم مثل "سترومبولى" " Stromboli " وفيلم "رحلة إلى إيطاليا" عن الأداء التمثيلى الإستعطافى– والعدوانى احياناً – الذى قدمته إنجريد برجمان فى الفيلمين.
 
ونفس الحال مع فيلم "النهر" لجان رينوار الذى تم تصويره فى الهند، وهذا الفيلم ذكره جاك ريفت فى سياق مقالته عن فيلم "رحلة إلى إيطاليا" فى مجلة كراسات السينما، وعندما أصبح جاك ريفت مخرجاً أصبح مولعاً بكل من التمثيل والامكنة الحقيقية فى باريس كما فى فيلم "نحن" " Us " وفيلم "جنون الحب" " L’amour Fou " وفيلم "سيلاين وجولى يُبحران" Celine and Julie Go Boating " وفيلم "المصائب الجميلة" " la belle noiseuse " وفيلم "سوف نعرف" " Va Savoir ". فهو يبدو كما لو انه تأثر بكل من رينوار وروسللينى. والشيئ الذى أضافه فى أفلامه كان مسألة الوقت الحقيقى فى الواقع المصنوع، أطول أفلام ريفت يدوم ثلاثة عشر ساعة، ومعظم افلامه لا تقل مدة الواحد منها عن ثلاثة ساعات، فى فيلم "المصائب الجميلة " أعد المخرج فيلمه عن رواية لبلزاك تدور حول فنان وفتاة موديل، وهو يصور التردد ومحاولات الإقدام والتراجع ليس فقط من خلال ما تستحضره أمكنة التصوير ولكن أيضاً من خلال الزمن المُعاش.
 
هذا مزيج يجمع بين التمثيل - أو بالأحرى سلوك الشخصيات – وبين الإهتمام بالمكان مع عنصرمرور الزمن، كل هذه العناصر أساسية فى أدبيات الصورة الواقعية، وسواء كان الإهتمام بالإطار موجوداً ام لا، فثمة إهتمام بتحديد الموضوع داخل الكادر، كذلك أكد روبرت ألتمان (لا أحس بالقلق من الإطار على الإطلاق، إنها اللقطة المتوسطة التى أختار ان أعمل بها أفلامى) وعندما قال إنه يحب العدسة الواسعة، فهى العدسة التى تسمح له أن يعطى للفيلم (إحساساً بالفراغ: أنا أردت من المشاهدين ان يستشعروا التجسيم (الإستشهاد من منتدى الفيلم) وفى نفس السياق، فهذا يعنى إحساساً بأن المُشاهد يمكن ان يراقب مجموعة كبيرة من المعلومات أمام عينه.
 
ريفت وألتمان يختلفان كثيراً عن بعضهما بعضاً كمخرجين، وهما كذلك مختلفين جداً عن رينوار وروسللينى، لكن ومن أجل دواعى الشرح دعونى أقول أنهم يتشاركون نفس الإهتمام بالإطار كحرفية واقعية فى "الصورة الواقعية" وعلى النقيض من هذا، نستطيع أن ننظر إلى مخرجين آخرين يستخدمون الصورة ضمن نظرية السينما الشكلية، فهى وسيلة يستطيع من خلالها المخرج ان يرسم بالضوء وان يرى الممثلين والديكور، وحتى إستخدام الفيلم للزمن لا يتعلق بالواقع ولكن يتعلق بالمخرج الذى يحاول ان يخلق "صورة جمالية". وفى هذا السياق لا يكون الفيلم تقليداً للحياة أو شبيهاً بالمسرح، لكنه يكون أكثر صلة بفن الرسم، فقد أشار العديد من النقاد على سبيل المثال ان أفلام مايكل أنجلو أنطونيونى مُتأثرة بالتأثيرة التجريدية فى الفن التشكيلى، وان جان لوك جودار مُتأثر بفن "البوب".
 
وكما قالت روزاليند كراوس – ناقدة تشكيلية ومُنظرة- فى كتاب "اللاوعى البصرى" " Optical Unconscious " إن انطونيونى يتشارك مع التأثيرية التجريدية فى تصدير الخلفية على حساب مقدمة الصورة، ففى فيلم "الليلة" " La notte " يوجد مشهد يؤطر فيه انطونيونى المبنى بحيث يبدو ضخماً فى مقابل شكل جين مورو التى تبدو شديدة الصغر. كذلك فإن التأثيرية التجريدة موجودة أيضاً فى فيلم "الصحراء الحمراء"، فالجدران فى هذا الفيلم والتى طُليت بالألوان توحى بفن الرسم، انطونيونى سيخلق أيضاً الأطر التى تستدعى الإنتباه إلى المشهد من خلال الإيحاء بالشاشة المنقسمة داخل نفس اللقطة، عندما يلتقط توماس الصور فى المتنزة فى فيلم "تكبير الصورة"، فإن أسلوب انطونيونى فى إستخدام الكادر الفارغ لا يستدعى الإنتباه عادة إلى الكادر الفارغ نفسه فقط ، ولكنه يستدعى أيضاً حقيقة أن هذا متنزة فى مدينة لندن فى عصر يوم أحد حيث الفراغ هو السائد، ولكن أيضاً بتقسيم الشاشة إلى قسمين بوضع شجرة فى منتصف الصورة. هذا الأسلوب يجعل الأسئلة عن الكادر تتداعى إلينا.
 
إذا كان الناقد الفرنسى العظيم أندرية بازن " Andre Bazin " يؤمن بأن الصورة ما هى إلا نافذة على العالم، فإن انطونيونى بإستمرار يحجب المنظر، وعندما سؤل انطونيونى عن أهمية الرسم فى أفلامه، رد على جان لوك جودار الذى كان يحاوره منفرداً، فى فيلم "الصحراء الحمراء" (أشعر بالحاجة إلى التعبير عن الواقع بطريقة لا تكون واقعية تماماً، فلقطة للخط الأبيض الذى يقسم طريق مرصوف تهمنى أكثر جداً من السيارة التى تقترب منا). هذا تلخيص رائع للفرق بين المخرج الواقعى الذى يستخدم الكادر ليلتقط العالم، وبين المخرج المُولع بإمكانية الرسم فى الكادر، وبالطبع نحن نحتاج فقط إلى مقارنة حالة التحقيق الذى قدم بها روسللينى لمدينة نابولى فى فيلم "رحلة إلى إيطاليا"، وبين حالة إستكشاف مدينة برشلونة فى فيلم "المسافر" لأنطونيونى لكى نرى الفرق بينهما. فكاميرة روسللينى تكشف عن مدينة نابولى من خلال عيون الشخصية التى تُمثلها إنجريد برجمان: أما أنطونيونى فإنه يبحث عن حيزاً سينمائية فيما وراء حيز الشخصية.
 
كذلك فإنه يؤطر أحياناً العمارة الجودية " Gaudi architecture " ليُقلل من الزخم التشكيلى فى الكادر، فهناك ثمة إحساس بأن الشخصية حاضرة بإعتبارها جزء من محيط عام أكثر من كونها الشيئ الذى ينفرد بالصورة. وعندما سأل جودار انطونيونى (عندما تبدأ او تُنهى لقطة على شكل تجريدى لمادة او تفصيلة، هل تفعل ذلك بنفس روح الرسام التشكيلى؟)، ولعل جودار كان يوجه السؤال لنفسه، فكتاب السيرة الذاتية الذى كتبه ريتشارد برودى عن جودار وكان بإسم "كل شيئ هو السينما" " Everything is Cinema " يُورد المؤلف إستشهاداً من مدير التصوير "إد لوتشمان" الذى قال (اخبرنى جودار انه يريد ان يحصل على مدير تصوير ليعمل معه بطريقة مختلفة، مدير تصوير لا يتقابل معه إثناء التصوير فقط ولكن طوال الوقت).
 
فجودار أراد مدير تصوير يكون كاداة تحت تصرفه - ليس لكى يُصور حياة على الحافر- ولكن ليُصور التصورات العامة للمخرج، وكان مدير التصوير لوتشمان يًصور كما لو كان يستخدم الفرشاة وألوان الزيت، فى مقالة رائعة كتبتها "ألين بيرجالا" تحت عنوان "الجانب الآخر من البوكيه" " The Other Side of the Bouquet " تحدثت عن أفلام جودار فى حقبة الثمانينات وذكرت (فى هذه الحقبة بدأ جودار فى تصوير فيلم "الشبق" " Passion " بمجرد ان عاين الأمكنة، كان جودار ينظر إلى نفسه ضمن السينما التى تُحيط به كآخر ديناصور، وكفصيلة إنسانية نادرة وانه الناجى الوحيد من فصيلته... إلخ، وبالنسبة لفيلم "الشبق" توجب على جودار ان يبحث خارج السينما عن معايير حتى يستطيع ان يقيس نفسه بالمقارنة بها، وأن يبحث عن الأفلام الكلاسيكية العظيمة لكى يتبعها ثم يتمرد عليها.
 
وكذلك فى افلام جودار فى حقبة الستينات، كان هناك ثمة إحساس أن الإطار مثل "الكانافا" التى يرسم عليها الصورة، فى فيلم مثل "الإحتقار" " Contempt " وفيلم "بيرو المجنون" " Pierrot le Fou " وفيلم "الصينية" " La Chinoise " كان إستخدام جودار للألوان الأساسية يكشف عن مخرج يقوم بالتلوين، فهو القائل (هذا ليس دماً، إنه لون احمر).
بيرو المجنون
 
وفى فيلم "الإحتقار" نجد ان الشقة ليست فضاءاً واقعياً بل للتجارب فى التلوين، فجودار يلعب باللون الأبيض للحوائط والمساحات الفارغة، فى مقابل زى الحمام الأحمر الذى ترتديه بريجيت باردو ولون الكراسى الزرقاء ولون الكنبة الحمراء، التأطير عادة يحصر لحظة حتى انها تصير صورة ثابتة، تماماً كما لو اننا نتوقف امام لوحة فى معرض فن تشكيلى. توجد لقطة للسلالم عند الشاطئ حيث نرى الشخصيات تبدو صغيرة فى الجانب الأيسر من الكادر: صورة الصخرة تبدو فى الجانب الأيسر من الكادر بينما البحر يحتل الجانب الأيمن من الكادر، وكادر آخر نرى فيه بريجيت باردو مُستلقية على الفراش فى الثلث السفلى للكادر بينما الحائط الأبيض الممتد والباب يعلوانها ويحيطان بها، هناك أيضاً والطبع ثمة تأثر بفن البوب نستدل عليه فى فيلميه "صُنع فى أمريكا" " Made in USA " ومن فيلم "الصينية".
 
ومن المخرجين الذين يقدرون الرسم نجد بيتر جريناواى – عمله الاخير يُسمى "مُشاهدة ليلية" " Nightwatching " وهو نفس إسم لوحة لمبرانت " Night Watch " (الرسم محورى أيضاً فى فيلم "الشبق" لجودار) جريناواى يميل إلى التكوين الجمالى على حساب تطور القصة، الجمع بين الإثنين فى فيلم "مشاهدة ليلية" يجعل الفيلم قريباً من السينما وفن الرسم معاً، المخرج بيتر جريناواى يجمع نفس الناس الكثيرين الذين يظهرون فى لوحة رمبرانت التى تعبر مجازياً عن مؤامرة.
 
ونفس الحال فى فيلم "عقد دراوتسمان" " Draughtsman’s Contract " فهو يمزج القصة بالتكوين الفنى، فكل انواع التأويلات فى فن الرسم والتى تعملها الشخصية المحورية موجودة، لكنه اعمى عن رؤيها، فالمخرج جريناواى يركز على الإطار داخل إطار، وهو يؤكد بثقة (إننى أقاوم منذ مدة طويلة فكرة الفيلم الأوروبى الفنى الكلاسيكى الذى شاهدته وقتئذ، فالفيلم كانت له صلة وثيقة جداً بتقنية كتابة السيناريو الادبى حيث يهتم الفيلم بالمعالجة القصصية على حساب المفردات السينمائية ويتبع كل قواعد السرد التقليدى، لكننى كنت مُقتنعاً – وهذا تحدى- أننى أبتدع عالماً سينمائياً حيث الشخصيات لا تتحدث مباشرة إلى الكامير والميكروفانات – كما كنت أقول فى المقالات السينمائية الأولى – ولكنهم يتحدثون إلى بعضهم بعضاً. وكانت النتيجة ظهور فيلمه "عقد دراوتسمان" فالفيلم يضع سره بالمعنى الحرفى داخل الإطار، فالأمر يبدو كما لو ان مسيرة جريناواى الفنية أُضيف إليها شيئاً جديداً بفيلم "عقد دراوتسمان" فهو ينظر إلى السينما دائماً كوسيط لا يعبر عن الواقع –مع كامل الإحترام للحقيقة- ولكن كشكل فنى يمنحه الفرصة ليبحث عن الفن المصنوع فى تجلياته المختلفة، ورغم أن كُتباً لا حصر لها تصر على أهمية السيناريو بوصفه أهم ما فى الفيلم، فإن جريناواى يعتقد أن اهم ما فى الفيلم يكمن فى أشياء أخرى.
 
أفلام جريناولى تُشير غالباً إلى أهمية الخرائط المرسومة والإسكتشات، كما لو أن مساحة الشاشة تشبه الخريطة ويتم تلوينها أكثر من متطلبات الفيلم الواقعى، فى فيلم "الطباخ واللص، زوجته وعشيقها" " The Cook, the Thief, his Wife and her Lover " يستخدم جريناواى لقطة المتابعة مع تغيير ملابس هيلين ميرين بينما تتحرك من احد الحجرات إلى الحجرة التالية، الملابس تتناسب مع التغيير فى ألوان الحجرات، فالألوان تتغير من اللون الأبيض للحمام إلى اللون الأحمر فى الصالة، جريناواى أستاذ من نوعية خاصة، وكذلك فإنه كثراً من إنتقد الأفلام التى تكون خادمة للسيناريو، وهو يتسائل لماذا ؟.
 
السينما تختلف عن فن الرسم، وإذا لم يكن من الضرورى أن يتخذ شكلاً سردياً، فعلى الأقل يجب ان يدور فى زمن واحد، إنه نوع من التحدى وخروج عن السينما، فهذه إشارة عابر لابد منها للسير بعيداً عن فن الرسم، فلا يوجد وقت زمنى محدد عندما نتطلع إلى لوحة فنية: لكن هذا الزمن ضرورى عندما يتعلق الأمر بالسينما. حسناً إذا كان كل هذا يهدف إلى تغيير السينما جذرياً، ولكن أليس الواحد منا يجب ان يكون واعياً فى نفس الوقت بالطبيعة الخاصة للشكل (بغض النظر إذا كان هذا يتغير مع الأفلام الفنية؟).
 
أشار كافكا فى أحد المرات إلى السينما بإعتبارها تضع عيون الإنسان على شكل موحد، وان هنالك ثمة خطورة من ان يفرض المخرجون على الجمهور قصة منمقة، الا تتحطم هذه الوحدة عندما يشعر الإنسان أن الزمن - كمكون أساسى فى السينما – ليس محل إعتبار من المخرج؟ هذه القضية تهم المخرجين أكثر وهم يعبرون عن الزمن من خلال الكادر إذا فشلت القصة فى تقديمه. إذا كنا نحس ان جودار وأنطونيونى أستاذان وان جريناواى ليس كذلك، فجزء من هذا يكمن فى ان جودار وأنطونيونى يهتمان بطبيعة الشكل السينمائى، بينما موقف جريناواى المبدئى من القضايا الاساسية يُعتبر تجاوزاً لطبيعة الشكل السينمائى، وكما قال زاك كامبل لجريناوى فى "الوضوح الصعب" " Elusive Lucidity " (ما يُزعجنى فيما يتعلق بما يقال عبر الأفواه انه يُقال بوصفه موقفاً ثقافياً متميزاً لكنه ينم عن جهل عميق بالسينما...).
 
إذا كان هناك مخرجين يُصرون على أهمية الكادر على حساب القصة، فهل هناك العديد من المخرجين الذين يروا الكادر مجرد عنصر من عناصر القصة، المخرجون الذين يستخدمون الكادر كفرصة للقطة الواقعية التى تسمح لهم بدفع القصة إلى الأمام وتوليد "صورة ذات معنى"؟. وكما يقول ديفيد مامت (السؤال هو، أين أضع الكاميرا؟) هذا هو السؤال البسيط ، وإجابته هى (أضع الكاميرا فى ذلك المكان الذى من خلاله ألتقط لقطة ضرورية مؤثرة لكى تتقدم القصة إلى الأمام) ويعترف ديفيد مامت بوجود مخرجين لديهم حس بصرى كبير، ولكن، ولإنه ليس واحداً منهم، فإن دوره فى السينما هو أن يُصور بأسهل طريقة ممكنة لتعزيز القصة.
 
(إذا تصادف أن طالباً يريد ان يختصر فسوف يلجا إلى عدد من الأفعال التى ستقوده إلى هذا الإختصار أو أن يتخلى عنه، وعندئذ سيكون مُرتاحاً: فحالة من التحقق ستكون قد تحققت) أما بالنسبة لمامت، فأى تراجع معناه خسارة فى اللقطات المُصورة (لماذا يصور المخرجون اللقطة كثيراً جداً – اكثر من ستة عشر مرة- هل لانهم لا يعرفون طريقة تصوير القطة؟ (من كتاب الإخراج السينمائى) إنهم يصورون لقطات كثيرة لإنهم لا يُركزون – طبقاً لرأى مامت- وغرض المخرج أن يعرف ما يريده: فالمطلوب من اللقطات أن تحكى قصة.
 
لا نهدف من هذه المحاضرة ان نُعلى أو نُحط من شأن أحد: كل ما نسستطيعه أن نفكر فى أعظم أمثلة الحكى المرئى، حيث تتقدم قصص الأفلام إلى الامام بسرعة بسبب عبقرية المخرج فى بناء اللقطات وفقاً لأقصى قدر ممكن من التأثير الدرامى، فى مشهد من فيلم "سيكو" " Pyscho " لهيتشكوك، نراه يقطع مونتاجياً ويحرك الكاميرا جانبياً أو يجعلها تُتابع، حيث تُقرر ماريون كرين أن تحتفظ باموال رئيسها معها بدلاً من إيداعها فى البنك، هذا مثال عظيم، ومثال عظيم ثان نجده فى بداية فيلم "دوار" " Vertigo " التى تُؤسس لرُهاب شخصية سكوت من الأماكن العالية.
 
قد يكون هناك الكثير من الزخم عند هيتشكوك، لكن هذا نادراً جداً فى صوره، قال مامت ان المخرجين الذين يصورون اللقطة مرات كثيرة، لا يعرفون تماماً ماذا يفعلون، لكن المخرج أرثر بن على العكس من ذلك، فهو يقول (انا أُصور عدد كبير من اللقطات- عدد كبير فعلاً) (من كتاب الإخراج السينمائى) ومع ذلك نرى مشهداً من فيلم "بونى وكلايد" يبدو مُقتصداً تماماً، فعندما نرى بونى وكلايد فى الفيلم يُصابان بطلق نارى، نجد ان الفيلم يتجنب تصوير القاتل وبدلاً من ذلك يضعنا فى الموقف الذى تكون فيه الشخصيتين: فثمة إحساس بوجود شيئ غير مرغوب فيه. يمكن ان يكون المشهد معتمداً على المونتاج المتوازى وعلى اللقطة واللقطة العكسية بحيث نعرف نحن انهما يتعرضان للخطر من قتلة وراء الأشجار، ولكن بدلاً من ذلك نجد أن المونتاج المُقتصد الذى عمله أرثر بن يجعلنا نحس بوجود شيئ ما خطأ، لكنه لا يعطينا الإحساس بأن الشخصيتين على وشك الموت،
 
ونستطيع ان نجد مثال عظيم آخر على المونتاج بدون إهدار لقطات، هذا المثال فى لحظة ترويح من فيلم "موت فى الحديقة الفرنسية" " Death in a French Garden " للمخرج ميشيل ديفيل " Michel Deville " حيث نرى إبناً يصل إلى منزل والده فى سلسلة من القطعات المونتاجية المتوافقة، وبمصاحبة لأصوت أبواب سيارة ورنين التليفون وأبواب الشقة وهذا يسمح بإنتقالات ناعمة وسريعة، ففى فيلمى المخرجين أرثر بن وميشيل ديفيل هناك قدر كبير من الإقتصاد البصرى.
بودوفكين
 
هذه الأمثلة تتوافق أيضاً مع راى المخرج السوفيتى العظيم بودوفكين فيما يتعلق ببناء المشهد، فهو يقول (بين الحدث الحقيقى الذى يحدث فى الواقع وبين تجسيده على الشاشة هناك فلرق ملحوظ، وهذا بالتحديد ما يجعل الفيلم فناً) (من كتاب التقنية السينمائية والتمثيل السينمائى) (Film Technique and Film Acting) وهو يقترح أيضاً أن المخرج الذى يعمل مشهداً تأسيسياً يجب عليه بعدئذ أن يُمنتجه بطريقة مختلفة. المشهد فى ذاته شيئ بكرى مثله مثل الحدث، إنه يُمنتج لمجرد جعله اكثر سينمائية، وأعطى بودوفكين مثالاً لهذا الشكل بفيلم "الأب" " Daddy" فثمة سيارة تصطدم فى الفيلم، لكن المشهد فى البار الموجود فى منزل الأم يمكن ان يكون جيداً أيضاً، فهو هنا يبنى موقفاً مازال يتكرر كثيراً فى السينما، ففى احد اللحظات ينظر شخص ما كما لو كان مستعداً للعراك، ويقطع بودوفكين على التطورات فى الموقف بينما تتوقف الموسيقى، ويتطلع الناس ليعرفوا ما يحدث.
 
هذا المشهد لايزال حاضراً رغم مرور 90 عاماً على إخراجه بسبب كلاسيكيته ولإنه شديد التأثير. وعلى أيه حال فإن زميله المخرج السوفيتى سيرجى إيزنشتين كان يؤمن بأن الأفلام يجب أن تُصور ليس إعتماداً على إعادة ترتيب المشهد، لكن بجعل المشهد أكثر ديناميكية حتى أنك لا تستطيع أن تعيد ترتيب أجزاءه بسهولة مرة اخرى، وإذا كان بودوفكين يؤمن ان الصور يجب أن تُوضع معاً -مثل قطع الطوب - لبناء صرح متماسك، فإن البناء عند إيزنشتين يخالف قوانين الطبيعة. وإذا كان تصوير الجيش القيصرى يدوم مدة طويلة جداً حتى ينزلوا سلام الأوديسا فى فيلم "المُدرعة بوتمكين" " Battleship Potemkin " فهذا ليس بسبب كثرة هذه السلالم: ولكن لان إيزنشتين أراد ان يتلاعب بالمكان والزمان ليؤكد على شناعة حركة الجيش وهم يُردون الناس قتلى، ونفس الحال عندما نجد أنفسنا نتسائل من اى مكان جاء هؤلاء الناس وما هى الروابط التى تجمعهم بينما عربة الطفل الوليد تنحدر على السلالم. وبينما عربة الطفل يتم رؤيتها من خلال شخصيات أخرى، فأننا لا نكون متأكدين تماماً من المكان الذى ينظرون منه. فى فيلم يعتمد على المبادئ الأساسية التى يتبناها بودوفكين، قد نكون على معرفة بالناس وبمدى قربهم او بُعدهم أثناء تأسيس مشهد الفيلم، وبعد ذلك يتم إعادة تأسيس المشهد بهدف معرفة الروابط ، ربما بودوفكين يعجبه هذا المشهد من فيلم إيزنشتين، لكن الاكثر من هذا، أن هذا المشهد يتوافق مع نظرية بودوفكين أكثر من مخالفته لها.
 
تجارب إيزنشتين المونتاجية وصلت إلى آفاق أبعد فى أفلام الستينات والسبعينات من خلال مخرجين مثل ألان رينيه وأيضاً نك روج وجون بورمان وجوزيف لوسى وريتشارد ليستر، وبطريقة مختلفة مع المخرج روبرت بريسون من حقبة الخمسينات وما تلاها، كل هؤلاء المخرجين كانوا يبحثون فى إطار "إعادة بناء الصورة". ففى بداية فيلم "هيروشيما حبيبى" لألان رينيه، لعلنا نتسائل من أين يأتى صوت المُعلق حيث نسمع صوت إمرأة تصر على أنها رأت شيئاً ما فى هيروشيما، بينما رجل ما يُصر انها لم تشاهد شيئاً فى هيروشيما. نحن نرى جثتين متصلتين، فنخمن ان صوت التعليق يخصهما، لكن فى هذه اللحظة لا نستطيع ان نكون متأكدين بينما يقدم لنا الفيلم صوراً لها علاقة بما تقول المراة انها شاهدته: حيث نرى مستشفيات ومتاحف هيروشيما.
 
إذا اعاد إيزنشتين ترتيب مشهد بمثل هذه الطريقة فنحن لن نستطيع بسهولة أن نعيد المشهد إلى حالته الاولى مرة اخرى، اما ألان رينيه فإنه أكثر ميلاً إلى تركيب زمن مخالف للمكان حتى اننا نتسائل عن مكان الشخصيات وعمن يكونون. إذا فكك إيزنشتين المكان بهدف خلق قوة إيقاعية تعتمد على تداخل الصور التى تجعل الحدث أكثر مباشرة، فإن أسلوب ألان رينيه يميل إلى جعل الحدث أكثر بُعداً، مشكلة الزمن أنه دخيل على الصورة حتى انه لا وجود لتوتر حاضر وبسيط والذى من خلاله يمكننا أن نتعامل مع الفيلم، ألان رينيه طور هذا الأسلوب إلى مستوى أكثر تعقيداً فى فيلمه التالى "العام الأخير فى مارينباد" " Last Year at Marienbad " حيث فكرة أن هذا العام والعام الماضى وذكريات الشخصيات لا يتم التوافق بينهم.
 
ويدين نك روج وآخرين إلى هذه الإبتكارات، ففيلم "توقيت سيئ" " Bad Timing " يبدا بمحاولة إنتحار، ويربط الفيلم الأجزاء المختلفة للقصة حتى نستطيع ان نفهم الدوافع التى تسببت فى محاولة الإنتحار، لكن هذا ليس نوعاً من الفلاش باك ذلك الذى نراه فى فيلم "تعويض مًضاعف" " Double Indemnity " فنحن نجد ان أهم أحداث الفيلم تتم فى الماضى، ونسمع صوت تعليق من الزمن المضارع، لكن الفيلم يتحرك فى الأزمنة بين"الفلاش باك" و"الفلاش فوروارد" حتى نفهم أيضاً دوافع العاشق الذى يظن البعض انه هو الذى قادها إلى هذا الفعل بينما مفتش المباحث يقوم بالتحرى والتحقيق.
 
فى فيلم "نقطة بيضاء" " Point Blank " لجون بورمان، نجد الشخصية المحورية "لى مارفن" فى الفراش مع شقيقتها السابقة "انجى ديكنسون" ومع سلسلة من دورات الكاميرا يتم تصوير الفراش حيث نرى العشاق الآخرين يدخلون إلى مجال رؤيتنا: مارفن فى الفراش مع أختها السابقة: ديكنسون فى الفراش مع الصديق السابق لمارفن، ومع كل دورة للكاميرا يظهر لنا تكوين لعاشقين آخرين.
 
وفى فيلم "لانسيلوت والمال" " Lancelot du Lac and L’argent " يعود المخرج بريسون إلى الجدال الذى دار بين بودوفكين وإيزنشتين، لكن هذه القضية مرت أيضاً على هيتشكوك، وقال الكثير عن اسلوب هيتشكوك إنه يمكن ان يساعدنا، ومن المفارقات أن نفهم شيئاً عن عبقرية بريسون، فالنقاد أشاروا إلى ان هيتشكوك مخرج عظيم فى تقديم العلاقات، وعبقرى فى جعل المُشاهد يستنتج حدث بدون معرفة التفاصيل التى تجعله على معرفة يقينية. أفلام الإثارة القائمة على التحقيق البوليسى تعتمد دائماً على معرفة الدلائل حيث يكتشف المُحقق الجانى من خلال شكوك لها أسباب، لكن الشكوك المسببة عادة تكون طوال الوقت، أما هيتشكوك فهو أكثر من الجميع عكس هذا، فهو يريد على ما يبدو أن يحيد الحدث فى علاقته بإكتشاف الدليل، ونستدل على هذا من فيلميه "التجريبين" "الحبل" " Rope " و"النافذة الخلفية" " Rear Window " ففى الفيلمين نجد الدليل الذى يتوفر لشخصية جيمس ستيوارت ليس فعالاً، وفى فيلم "الحبل" نجد ان إثنين من تلاميذه السابقين لديهما جثة فى صندوق فى الشقة أثناء وجبة الإداء التى تتناولها شخصيات كثيرة. هل سيكتشف ستيوارت ما يحدث؟ الجمهور يعرف مسبقاً، لكن متى يعرف ستيورات؟.
 
وفى فيلم "النافذة الخلفية" نحن لسنا أكثر فطنة من جيفريز، ومع ستيوارت فى نفس الفيلم ليست معرفتنا بالشقة محدودة فقط - كما فى فيلم "الحبل" – ولكن أيضاً بسبب أن رجل ستيوارت مكسوره وانه يستخدم كرسى متحرك، فى الفيلم نحن نجمع أجزاء القصة كما يفعل هو، ونكون حبيسى وجهة نظره وإستنتاجاته من مشاهدته لما يجرى فى الشقق المجاورة، وفى حالات اخرى، وكما أشار "جيل دولوز" " Gilles Deleuze " فى كتاب "سينما1" تحت عنوان صورة الحركة، هيتشكوك يستخدم ما أطلق عليه دولوز إسم التشتيت (demark) :وهى تفصيلة يتم فرضها على الجمهور وتُجبر الجمهور أن يلاحظ شيئاً هامشياً، مثل طاحونة الهواء التى تدور فى الإتجاه المعاكس للرياح فى فيلم "مراسلة خارجية" " Foreign Correspondent " والمفتاح الذى لا يناسب القفل فى فيلم "إتصل بميم للقتل" " Dial M for Murder " وكوب الحليب البراق فى فيلم "الشك" " Suspicion ".
 
يستخدم هيتشكوك هذه العلاقات لتطوير السرد وللمعرفة النفسية، ولكن بريسون يهتم بنوع آخر مختلف من الأدلة، فى نهاية فيلم "لانسيلوت والمال" مشهد القتال يُقدم بإختصار بينما نحن نرى السهام تُطلق والخيول تنطلق إلى الغابة بدون فرسانها، والفرسان يعانون من إصابات قاتلة، بينما لو كان ذلك فى فيلم آخر، فهذه اللحظة يمكن أن تُقدم بينما أحد السهام يتم إطلاقه، وأحد الفرسان يُصاب فيسقط من على الحصان الذى يواصل الجرى بدون راكبه، الفارس يُجرح، هذه الأشياء يتم تقديمها فى سلسلة من اللقطات الغير متوائمة، حيث الفعل وأثره يتم تجاوزهما لكننا نظل قادرين على فهم ما يحدث. لكن الشواهد المُقدمة فى هذا المشهد المختصر للعراك تكون أقرب إلى الحدث عند إيزنشتين أكثر من الحبكة عند هيتشكوك، نحن نعلل مانراه حتى نولد معنى: ليس أن نُخمن دافع ثانى وما يترتب عليه من فعل، مثلما نجد فى الصورة المبنية، بريسون يدفع بمشاكل معينة للأدلة أبعد كثيراً من كل من إيزنشتين وهيتشكوك ويصل إلى إعادة للبناء بشكل متشدد.
 
ما قدمته فى هذه المحاضرة ليس أكثر من محاولة رؤية الصورة والكادر فى عدد من مظاهرهما المتعددة، ولكى نتوصل إلى أنه ورغم ان الكادر هو كل ما لدينا، فهناك العديد من الطرق التى يمكن من خلالها خلق الصور وربطها معاً، وبناءاً عليه نحن ننظر إلى الأربعة خيارات. إذا كان روسللينى ورينوار وآخرين ينشدون الصورة الواقعية كنافذة على العالم، فإن أنطونيونى وجودار وجريناواى يتبعون غالباً فكرة إن الإطار هو "كانافا" أكثر من كونه نافذة، بينما مخرجون آخرون يرونه وحدة من وحدات الحبكة، ووحدة معلوماتية يجب أن تتوافق مع باقى الوحدات المعلوماتية الأخرى لخلق قصة شديدة القوة بأقل قدر ممكن من الزخم البصرى مثل هيتشكوك وأرثر بن. أما إيزنشتين وبريسون فهما يتبنيان فكرة أن الصورة هى مكون من مكونات المونتاج أكثر من بن وهيتشكوك (بصرف النظر ان لهيتشكوك تجارب سينمائية وأنه إستخدم اللقطة – المشهد فى فيلميه "الحبل" و "تحت برج الجدى " " Under Capricorn " لكن توظيف الصورة يخالف تصوراتنا العادية عن الحقائق الطبيعية اكثر من التصديق عليها. ثم لدينا مخرجين مثل ألان رينيه وروج اللذان يتلاعبان بالازمنة ويجعلانا غير متاكدين أين نحن فى الإطار الزمنى،.
 
هذه المحاضرة على أية حال كانت تعميمية، وبالطبع فإنها مجرد إجتهاد منى – لرؤية الإطار الذى يوظفه المخرجون بطرق مختلفة، فرؤيته كنوافذ على العالم تشبه النظارة والتى لا تحتاج فقط ان تكون شفافة ولكن أن تكون فنية ومُلونة ومثل الموزاييك أيضاً.