ترجمة :- ممدوح شلبى
بداية اقول اننا
ولاسباب تتعلق بتحقيق الهدف من هذه المحاضرات فاننى سأفصل البنيوية عن السيميائية
رغم ان النظرتين مترابطتين جدا، وبالطبع وكما قال جيمس موناكو فى "كيف تقرأ فيلما" "How to Read a Film" ان السيميائية نتاج البنيوية وان الاثنين – وهذا حقيقى – برزا من فكرة ان اكثر
الاشكال اهمية هو المعنى الكامن فى البناء، وبينما الفلسفة الوجودية وعلم الظواهر
يعتمدان كثيرا جدا على الادراك الذاتى، فالبنيوية والسيميائية يهتمان اكثر باسباب
تكوين هذا الادراك. وبناءا عليه فالافتقاد الى الادراك ليس شيئا ذاتيا بقدر ما هو
شأن ثقافى. وربما نتساءل ما هو افضل اسلوب لنفهم سلوكنا، هل هو عبر الذاتية ام عبر
النظر الى الابنية التى انتجت هذا السلوك ؟ - البنيوية تتبنى الرأى الاخير.
وكما اشار المنظر
السينمائى ستيفن هيث "يجب ان تُفهم البنيوية على انها عملية او شبكة من العمليات
حيث يتحدد للافراد مكانهم داخل مجتمع" ويؤمن هيث باهمية المسألة اللغوية "اللغة
تلعب دورا هاما – فالناس تستحضر من الكلمات صورا"، وهذا – بشكل او آخر – نوع من
الدمج بين افكار ليفى ستراوس – البنيوى الانثربولوجى – والمفكر الماركسى لوي ألثوسير
– الذى تحدث فى "تقصى الحقائق" "interpellation" – عن كيف
ان الموضوع يتشكل بواسطة الابنية وان هذا اكثر
اهمية من الشخص نفسه ومن دوافعه. وهذه النقطة سنعيد بحثها لاحقا فى محاضرة عن
الايديولوجية.
نريد الآن ان ننظر
الى الافلام التى توظف مبادئ البنيوية كطريقة للهروب مما يُسمى "الانماط السائدة فى
السينما" ففى السينما السائدة يصير الشخص اكثر اهمية من البناء، وكما قال ديفيد مامت - السيناريست الهوليودى التقليدى والذى يحظى
بشهرة وتقدير – "القصة الجيدة تحتاج الى بطل له هدف واضح". فهل البنيوية تتبنى
هذا الرأى ام تسعى للاختلاف، وهل يعتقد البنيويون ان مامت يوفر ادراكاً زائفا بوصفه
الحقيقة؟ فالناقد الذى يتبنى نظرية البنيوية سيعيد كتابة ما قاله مامت على النحو
التالى "إذا اردت فى اللحظة الراهنة ان تصنع فيلما لتكسب منه مالا وتستهدف سوق
الانتاج الكبير، فعليك ان تقدم بطلا له هدف قوى".
سنستكشف فى هذه
المحاضرة الافلام التى تُخالف رأى مامت بعدد من الاساليب، فبعض الافلام تحررت من "الانماط
السائدة فى السينما"، وبعض الافلام الآخرى اكثر راديكالية وترفض كل من الشخصية
والقصة، والمخرجون الذين اهتموا بالبنية الاجتماعية لكنهم لم يهتموا بالعمل ضمن
نظرية فنية مستحدثة تتوازى مع رؤاهم الفكرية، يشملون كوستا جافراس وجيلو
بونتيكورفو وفرانسيسكو روسى، وهؤلاء كانوا من جيل الستينات والسبعينات الذين لم
يتعاطوا مع صراع الشخصيات ولكن تعاطوا مع الواقع بما فيه من قوى وقوى مضادة.
فى فيلم "سلفاتور
جيليانو" "Salvatore Giuliano" للمخرج فرانسيسكو روسى، تغيب الشخصية المحورية التى لا تظهر فى الفيلم،
بينما روسى يصور المكان والشخوص المحلية ليرى لماذا حول الصقليون جيليانو الى بطل،
فلم يكن روسى معنياً بالشكل البطولى لجيليانو لكنه كان معنيا بالتمييز الطبقى الذى جعل
منه بطلاً فى نظر الناس، لكن افلام روسى اللاحقة مثل "قضية ماتيه" "The Mattei Affair" و "الجثث
المشهورة" "Illustrious Corpses" اهتمت بالشخصيات اكثر لكنه ظل مغرما بالبناء الاجتماعى.
اما افلام المخرج
اليونانى كوستا جافراس مثل "زد" "Z" و "حالة حصار" "State of Siege" فهى توفر سينما لها قوانينها التى
تتسق مع النظرية البنيوية، ويرى النقاد افلامه قريبة من تلك الافلام التى ظهرت فى
نهاية السبعينات وبداية الثمانينات حيث كانت شخصيات الصحفيين ورجال الصليب الاحمر
هم من يتحرون الحقيقة، مثل افلام "اعراض صينية" "The China Syndrome" و "تحت النار" "Under Fire" و "سيلك وود" "Silkwood " و"سنة
العيش فى خطر" "The Year of Living Dangerously" وايضا مثل فيلم "المفقود" "Missing" لكوستا جافراس نفسه والذى قام ببطولته
جاك ليمون.
جاك ليمون فيلم ( مفقود ) |
لكن فى نهاية
الستينات كان فيلم "زد" قطعة من الفن التحليلى الدقيق التى لا تهتم كثيرا بالشخص
الذى يتحرى الحقيقة، فلا اهمية لجان ترينتينان كقاضى فى الصليب الاحمر، فالمجتمع آنذاك
كان هو الذى يتحرى عن الشخص، انه يكمن فى الطريقة التى يتعاطى فيها المجتمع مع
الناس الذين يتعارض موقفهم مع موقف الصفوة الحاكمة. وهذا يتشابه مع فيلم "الجثث
المشهورة" لروسى، وربما ايضا مع فيلم "رؤية المنظر" "The Parallax View" للمخرج آلان. جى. باكولا،
فللمرة الثانية نحن ليس لدينا بطل له هدف، ولكن لدينا تحقيق مطول بلا نهاية، ولايهم
ان فيلمى باكولا وروسى ليس بهما شخصيات محورية.
The Battle of Algiers
وفى فيلم "معركة
الجزائر" "" لبونتيكورفو، نستطيع ان نقول ان للفيلم هدف ولكن لا يوجد بطل، انه مثال
للسينما السياسية التقليدية التى تروى تفاصيل ميلاد امة، فالفيلم يقطع من لقطات
كفاح الجزائريين من اجل هويتهم القومية لنرى الجيش الفرنسى يقرر ملاحقة جيش
التحرير، وبناءا عليه، فالفيلم يختبر وجهات النظر المختلفة فى محاولة لفهم دوافع
كل من الطرفين، وفى فيلمه "احتراق" "Burn" يؤسس بونتيكورفو للشخصية المحورية ويليام
ووكر الذى جسدها مارلون براندو ولكن الشخصية لا تتسم بالبطولة، انه نصاب استعمارى
يلعب مع مختلف الفصائل لكى يُعظم من أرباحه، فلم يكن بونتيكورفو مهتما بشخصية
مارلون براندو ومطابقتها للسيرة الذاتية لووكر كما هو الحال مع نوعية من الشخصيات
التى تعبر عن مواقف محددة، فبونتيكورفو ناقش النسق الاستعمارى الذى يستطيع فيه شخص
مثل ووكر ان يصبح ناجحا.
إن الافلام التى
اشرت اليها اعتبرت القضية السياسية اكثر اهمية من الاشخاص، ومن هذا المنطلق جاءت
هذه الأفلام متسقة مع الخطاب البنيوى الذى يؤكد على ان الفرد اقل اهمية من البناء
الذى يحتويه، وهناك مشهد جميل من فيلم "جثث مشهورة" حيث يُقال للشخصية المحورية
ان المفكرين المستقلين - مثل سارتر - جميعهم ممتازون لكنهم لا يفهمون طبيعة
المجتمع: ليس المجتمع هو الذى يُوجد من اجل الشخص، ولكن الشخص هو الذى يُوجد من
اجل المجتمع، وصيغت هذه المقولة ضمن الرأى المحافظ،، بينما – وبالطبع - فالمفكرون
مثل الماركسى ألثوسير يوافقون على ان المجتمع تشكل جماعياً رغماً عن الفرد، لكن دور
الفرد ان يغير ذلك المجتمع.
والآن عندما ينوه
روبرت فيليب كوكر عن فيلم "احتراق" فى كتابه المعنون "العين مختلفة" "The Altering Eye" ويقول ان
فيلم "احتراق" -على سبيل المثال - يتضمن تحليلا راديكاليا للتاريخ المعاصر والماضى،
لكنه يُضيف "بدا الفيلم غير مؤذيا فى نهاية السبعينات، وعُرض الفيلم فى شبكة
تليفزيون امريكية فى ليلة سبت بعد ان تم حذف عدد قليل من مشاهده، ولا شك ان البعض
سيصر على ان هذا يُثبت اخيرا وجود افلام راديكالية".
لا يوجد فيلم من هذه
الافلام التى نوهت عنها استطاعت ان تقدم ما سماه المُنظر السينمائى جيل دولوز "المعنى
الذى يكمن فى الدال" او كما فى وصف جودار "الاشارة تجبرنا على رؤية موضوع عبر
دلالاته"، سنتحدث عن هذا مطولاً فى النظرية السيميائية، وخاصة، ان الغرض من نقاشنا
الآن الحديث عن روسى وبونتيكورفو وكوستا جافراس باعتبارهم من الناحية الرسمية
مخرجين تقليديين، فهم قد يكونوا قدموا موضوعات هامة لكنهم لم يجدوا نظرية جمالية
توفر حلولاً جديدة لافكارهم، وبالطبع هناك مخرجون آخرون استطاعوا ذلك مثل جودار و"المخرجان
ستروب" "the Straubs" وجانكسو وجلاوبر روشا.
فكيف استطاعوا ان
يجعلوا المعنى متضمنا فى الدال، فهل كانوا يجبرون المُشاهد على رؤية الاشارة اكثر
من الموضوع؟ فى حالة جودار فانه فعل هذا من خلال "مناقشة " الصور التى نراها،
ولذلك ففى فيلم "الصينية)" "La Chinoise" على سبيل المثال، فشخصية جان بيير ليو تتحدث عن صعوبة
الدمج بين العقيدة الماركسية اللينينية والممارسة الثورية، ويقول هناك من يقول ان
الامر يشبه اطلاق الرصاص على هدف، وفى نفس الوقت فاننا نراه يُطلق سهماً على هدف:
كما لو ان اللغة الرمزية اصبحت سطحية او عبثية، وفى فيلم "نهاية الاسبوع" "Weekend" يقدم
جودار مشهدا واقعيا اجتماعيا للتسكين العقارى، لكنه يعرض ايضا الشخصيات وقد فقدوا
اعصابهم ووضعوا سياراتهم عكس بعضها بعضاً، وقد يكون هذا مثالاً لما يسميه الشارحون
البنيويون امثال جاكوبسون وشكلوفسكى "التغريب" "defamiliarization" عندما يصرخ الصبى لوالديه ان
الجيران اتلفوا السيارة "الدوفين" فان ما يهم ليس ان نرى العنف باعتبار ان
المشاهدين يعرفون ان ما يرونه فيلما وليس الحقيقة، فلا اهمية لتقديم ذلك بطريقة
واقعية.
فهل كان الولد ليس
معتادا ان يقول ان شخص ما "خبط" السيارة بدلا من ان يقول أتلف الدوفين؟ وهل هذه
طرفة من جودار تتعلق بالنزعة الاستهلاكية المحمومة التى اصبحت جزءا من مفردات
الصبى اللغوية؟، وكما قال جودار مرة "انه ليس دما انه لون احمر". هذا مخرج
سينمائى رفض ان يتعاطى مع المسلمات: ذلك اننا نحتاج ان نستنطق سينما لتكون بمثابة
سلسلة من الاشارات لا ان تكون انعكاسا شفافا للواقع.
اما المخرج ميكلوس
جانسكو فلم يكن مباشراً على طريقة جودار، لكنه حقق درجة من المسافية من خلال مكان
وضع الكاميرا، فافلام جانكسو مشهورة بابتعادها عما تصوره، حتى ان الناقدة
السينمائية مارى كوتنا وصفته فى مقالة بعنوان "رابسودى مجرية" "Hungarian Rhapsodies’" بان افلامه تحليلا
للظلم وقالت ان "جانكسو معتادا ان يصور بلقطات بعيدة جدا وهذا ينتج عنه فكرة ان
اى تفصيلة فى حياتنا لها بُعد سياسى". وتُصر كوتنا "على عدم وجود خصوصية فى اعماله حتى بالنسبة الى مشاهد الحب او
الجنس او العلاقات العائلية، فالناس يستسلمون او يتمردون على النظام الاجتماعى"،
وفى مشهد من فيلم "الجولة" "The Round-Up" يحاول احد الاشخاص ان يهرب لكن الكاميرا تظل فى
مكانها، وتمضى لحظات حتى يُمسك به ويسير عائدا الى المكان الذى هرب منه، ولعل معظم
المخرجين كانوا سيستخدمون اللقطات المقربة لتمييز الشخصيات بوضوح، ثم القطع بين
الهروب وبين الجنود، لكن جانكسو يريد ان يكون شكل الظلم اكثر حضوراً من الشخصيات.
وهذا ينطبق ايضا على
المخرج جلاوبر روشا ففى فيلمه "انتونى داس مورتس" "Antonio das Mortes " وهذا المخرج – ربما - يستخدم
ادواتاً قادرة على الاقتراب اكثر، لكنه ايضا يعمل باسلوب المسافة العاطفية للقول ان
الشخصيات اقل اهمية من الاسطورة والتاريخ.
وفى فيلم "دروس تاريخية" "History Lessons" للمخرجان ستروب، ففى معظم الفيلم تظل الكاميرا ثابتة بينما نحن نشاهد شابا يقود سيارة خلال شوارع روما، فحركة الكاميرا مقتصرة على حركة السيارة بينما نحن نشاهد الاحداث فى حياة روما المعاصرة، وسواء كان الموضوع حقيقيا ام تمثيليا فوضع الكاميرا لا يتغير، كذلك فالصوت يجب ان يكون مباشرا وبدون عمليات توليف لاحقة، فما نراه ونسمعه ليس شيئا مصطنعا، بينما المخرجان ستروب يقدمان لقطات طويلة غير مُمنتجة، وهذه المشاهد تمزج بين السائق وبين ماضى روما فى اشكال حوارية، والغرض ليس خلق خصوصية للشخصية ولكن التحاور بين الماضى السياسى والحاضر السياسى.
اعلن المنظر البنيوى
ميشيل فوكو فى نهاية الستينات موت الانسان، وركز على ان الانسان لم يعد يعول على
وجوديته، ولكنه اصبح شخصا تتحدد هويته فى العالم من خلال بنية هذا العالم التى
تسبق وجوده وسوف يفنى الانسان ويبقى هذا العالم. وعلى المخرجين الذين يتبنون
ويعملون ضمن هذا المنظور المتشائم ان يتخلوا عن ذلك، وان يهتموا باستكشاف نظرية
جمالية لها شكل ومضمون.
محاضرة : تونى مكيبن.