10‏/10‏/2015

موت السينما

 
مقالة: سوزان سونتاج
ترجمة: ممدوح شلبى
( كتبت سوزان سونتاج هذه المقالة فى 25 فبراير عام 1996 تحت عنوان "إضمحلال السينما" ويتم الإستشهاد بها كثيراً فى أدبيات التنظير السينمائى المعاصر ضمن ما يُسمى أطروحة موت السينما)
يبدو أن السينما خلال 100 عام قد إتخذت شكل الدورة الحياتية، من ميلاد حتمى ونمو متزايد للأمجاد ثم إنحسار حتمى بداية من عقد التسعينات، والأمر لا يتعلق بكونك لا تستطيع أن تتطلع بعد الآن لأفلام جديدة تُكن لها الإعجاب . لكن هذه الأفلام ليست فقط إستثنائية – مثلها مثل الإستثناءات العظيمة فى الفنون الأخرى – فهذه الأفلام يجب أن تتجاوز القواعد والممارسات التى تحكم صناعة السينما فى أى مكان فى العالم الرأسمالى، ولعل العالم الرأسمالى -كما يصح أن نقول- موجود فى كل مكان.
والأفلام العادية، تلك الأفلام التى صُنعت بهدف التسلية فقط (الأفلام تجارية) فهى فجة جداً: فالغالبية العظمى منها تفشل فى إرضاء جمهورها الذى إستهدفته. وبينما الهدف من السينما العظيمة الآن – أكثر من أى وقت آخر – أن تكون إنجازاً متميزاً، فالسينما التجارية مستقرة على شكل تفرضه سياسة صناعة السينما المغترة بنفسها والطُفيلية، فهى سينما تحاول أن تتوافق مع الفن أو تُعيد ما سبق تقديمه فى محاولة لإعادة إنتاج نجاحاتها السابقة. فالسينما وصفت فى أحد المرات بأنها فن القرن العشرين، وبينما يكاد القرن العشرين ينتهى – فالسينما تبدو كأحط الفنون.
ربما السينما لم تنتهى ولكن الذى إنتهى هو الشغف بالسينما – السينفيليا – وهى تسميه تعبر عن نوع محدد من الحب الذى تُشيعه السينما، كل فن لديه المتعصبين له، والحب الذى تُشيعه السينما كانت له خصوصية، فقد تولدت قناعة بأن السينما كانت فناً لا مثيل له: فهى جديدة فى جوهرها ومُتاحة وشاعرية ومفعمة بالأسرار ومثيرة وأخلاقية – كل هذه الصفات تتصف بها السينما إجمالاً- وللسينما أنبياءها ( فقد كانت مثل الديانة) وكانت للسينما غزوات مثل الحروب بإسم الصليب، وبالنسبة لعشاق السينما – السينفيليس- فالأفلام غطت كل شئ، فالسينما كانت كتاباً فنياً وكتاباً عن الحياة فى آن واحد.
وكما أشار العديد من الناس، فبداية صناعة السينما منذ 100 عام، كانت بداية مزدوجة، ففى عام 1895 قدمت السينما نوعيتين وحالتين مما ستستقر عليه السينما: أولهما السينما التى تستنسخ الحياة الحقيقية (أفلام الأخوان لوميير)، والسينما التى تًوصف بأنها إبتكارية وفنية وساحرة وخيالية (أفلام ميليه)، لكن هذه الإزدواجية لم تكن مُتعارضة فى حقيقة الأمر.
فأهم ما فى القضية أن جمهور السينما الأوائل، الذين شاهدوا إستنساخ الواقع بطريقة مباشرة ( كما فى فيلم الأخوين لوميير المعنون " وصول القطار إلى محطة سيوت") فقد كان هذا الفيلم تجربة عجيبة لهذا الجمهور، بدأت السينما بأحد العجائب، العجب من أن الواقع يمكن أن يُستنسخ بهذه الطريقة المباشرة، فكل ما هو سينمائى هو محاولة لتقديم وإعادة خلق هذا الإحساس بالتعجب.
كل شئ فى السينما بدأ فى تلك اللحظة، منذ 100 عام، عندما تقدم قطار إلى المحطة. والناس أسقطوا الأفلام على ذواتهم، تماماً مثل صراخ الجمهور من الإثارة، وفى الواقع فقد أخفضوا رؤوسهم بينما بدا القطار يتحرك نحوهم، وإلى أن تسبب التليفزيون فى إفراغ دور العرض السينمائى، فقد كان الناس يذهبون للسينما أسبوعياً كما أنها علمتك (او حاولت أن تعلمك) كيف تسير على قدميك، وعلمتك التدخين، وعلمتك التقبيل، وعلمتك العراك، وعلمتك الحزن.
كما تعطيك السينما نصائح حول كيف تكون جذاباً، فعلى سبيل المثال: إنه من الأجمل أن ترتدى معطفاً شتوياً حتى عندما لا يكون هناك مطر. لكن وأياً ما كان الذى تأخذه فهو جزء من تجربة أكبر عن دمج نفسك فى حياة ليست حياتك، الرغبة فى أن تنسى نفسك فى حيوات الآخرين وفى وجوههم، هذا شئ أكبر، وشكل أكثر شمولاً من الرغبة المتجسدة فى تجربة السينما، والشيء الأكبر حتى مما يتعلق بنفسك كان أن تُجرب الإستسلام أو الإنتقال لما كان على شاشة السينما. أنت أردت من الفيلم ان يختطفك- ولكى تكون مُختطفاً فهذا كان طغياناً للوجود الجسمانى للصورة.
تجربة "الذهاب إلى السينما" كانت جزءاً من هذا، ولكى ترى فيلماً عظيماً فى التليفزيون فقط لا يعنى أنك شاهدت هذا الفيلم، فالأمر ليس فقط مسألة البعد الثلاثى للصورة: التفاوت بين الصورة الكبيرة التى تجدها فى دار العرض وبين الصورة الصغيرة التى تجدها فى شاشة التليفزيون فى منزلك.
ومهما تباكينا، فبكائنا لا يمكن له أن يعيد سحر وإثارة طقوس مشاهدة الأفلام فى ظلمة دور العرض السينمائى. لقد تقزمت السينما فبدت كصور مؤذية، وكذلك يتم التلاعب بالصور ( كأن تكون سريعة فى القطعات المونتاجية)  بهدف جعل هذه الصور أكثر لفتاً للإنتباه، ولقد أنتج هذا سينما سطحية لا تتطلب كامل الإنتباه من أى أحد. 
تظهر الصور الآن فى أى حجم وعلى أسطح متنوعة: مثل شاشات العرض السينمائى وحوائط قاعات الديسكو والشاشات العملاقة فى الملاعب الرياضية، فهذا الحجم الكبير للصور المتحركة قوض بشكل كامل معايير الناس الذين كانوا ينظروا إلى السينما كفن وكمتعة جماهيرية.
فى سنوات السينما الأولى لم يكن هناك فارق أساسى بين هذين الشكلين، وكل الأفلام فى عصر السينما الصامتة – من روائع فيولاد وديفيد وارك جريفيث ودزيجا فيرتوف وبابست وموناو وكينج فيدور، وكذلك معظم السينما التى تتسم بالميلودراما والكوميديا – كانت كل هذه الأفلام تتمتع بمستوى فنى رفيع مقارنة بمعظم السينما التى جاءت بعد ذلك، ومع ظهور الصوت فى السينما، فقدت صناعة السينما الكثير من وهجها وشعريتها والمعايير التجارية المُتبعة، هذه الطريقة فى صناعة الأفلام – النظام الهوليوودى – سيطرت على صناعة السينما لمدة خمسة وعشرين عاماً ( من عام 1930 إلى عام 1955 تقريباً).
أعظم المخرجين الحقيقين مثل إريك فون ستروهايم وأورسون ويلز هُزموا من خلال النظام وفى نهاية المطاف ذهبوا إلى منفاهم الفنى فى أوروبا – حيث كان نفس نظام الجودة موجوداً منذئذ بشكل أو آخر، من خلال إتباع نظام الأفلام مُنخفضة الميزانية، وفرنسا فقط هى التى أنتجت عدداً كبيراً من الأفلام الرائعة فى تلك الحقبة، بعدئذ، وفى منتصف الخمسينات عادت الأفكار الطليعية مرة أخرى والتى إستمدت جذورها من فكرة أن السينما حرفة وكان ذلك من خلال السينما الإيطالية الرائدة والتى ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، حيث أنتجت عدداً كبيراً من الأفلام الشجية والأصيلة التى صُنعت بجدية تامة. 
فى هذه المرحلة بالذات من المائة عام فى تاريخ السينما، كان الذهاب لدور العرض السينمائى والتفكير فى الأفلام والحديث عن الأفلام قد أصبح شغفاً بالنسبة لطلاب الجامعات والشباب الآخرين، فأنت تقع فى غرام ليس فقط الممثلين ولكنك تقع فى غرام السينما نفسها، "السينفيلا" أصبحت شيئاً معروفاً لأول مرة فى عام 19950 فى فرنسا: وكانت مجلة "كراسات السينما" الأسطورية هى المنتدى (وتبعتها مجلات شبيهة فى ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا العظمى والسويد والولايات المتحدة الأمريكية وكندا). معابد السينما كانت تنتشر عبر أوروبا والأمريكيتين وتمثلت فى نوادى السينما المتخصصة سواء فى الأفلام القديمة أو أفلام المخرجين الذين إشتهروا.
كانت الستينات وبداية السبعينات سنوات مزدهرة فى الإقبال على السينما، حيث كان عاشق السينما يطمع دائماً أن يجد مقعداً قريباً قد الإمكان من الشاشة الكبيرة، فالمقعد المثالى هو الموجود فى منتصف الصف الثالث من صالة العرض.
"لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون روسللينى" هكذا قال أحد شخوص المخرج برتولوتشى فى فيلم "قبل الثورة" عام 1960 ، وكان هذا الشخص يعنى هذا.
ولنحو 15 عاماً كانت هناك روائع جديدة كل شهر، والآن يبدو الأمر مختلفاً تماماً عن هذه الحقبة، ولكى أؤكد على ذلك، كان هناك ثمة صراع بين السينما كصناعة وبين كونها فناً، بين السينما العادية والسينما التجريبية، لكن الصراع لم يجعل من المستحيل عمل الأفلام المُدهشة، فالأفلام المُدهشة كانت تُنتج أحياناً سواء ضمن تيار السينما السائدة أو خارجها، والآن فقد رجحت كفة الميزان لصالح السينما كصناعة.
إنتهت السينما العظيمة التى كانت موجودة فى الستينات والسبعينات، وفى السبعينات سرقت هوليوود وإستعارت الإبتكارات فى طريقة السرد وفى طريقة المونتاج للسينما الأوربية الجديدة والسينما المُستقلة الهامشية فى أمريكا. بعدئذ حلت الكارثة مُتمثلة فى تكاليف الإنتاج العالية جداً فى الثمانينات بحيث تضمن هوليوود السيطرة على معايير إنتاج وتوزيع الأفلام بالقوة القسرية، وكان ذلك على نطاق العالم أجمع هذه المرة.
الإرتفاع الكبير فى تكلفة الإنتاج كان المقصود منه أن يحقق الفيلم ربحاً كبيرا فى الشهور الأولى من عرضه، ويجب أن يكون النجاح ساحقاً على جميع الأفلام الأخرى – فكان ثمة ميل لنجاح الأفلام الكبيرة على حساب الأفلام منخفضة التكاليف، رغم أن معظم الأفلام التى حققت النجاح الساحق كانت رديئة وكانت هناك دائماً عدة أفلام "صغيرة" فاجأت الجميع بجاذبيتها (مثلما يحدث للكتب فى المكتبات): والعديد من الأفلام صُممت لكى تتحول مباشرة إلى أفلام فيديو.
وتواصلت عمليات إغلاق دور العرض السينمائى – فالعديد من البلدات لم يعد بها دار عرض سينمائى واحدة – كذلك فقد أصبحت الأفلام التى نشاهدها فى المنزل واحدة من العادات المستحدثة فى وسائل الترفية. 
فى هذا البلد – امريكا – فإن إنخفاض الطموحات الخاصة بالجودة، وتزايد الطموحات فى الربح جعل الأمر مستحيلاً وعصياً على المخرجين الأمريكيين الطموحين مثل فرانسيس فورد كوبولا وبول شرادر فى أن يقدموا أفضل ما لديهم، وعلى المستوى العالمى يمكن أن نرى تأثير ذلك المصير الأليم الذى آل إليه أعظم مخرجى السينما فى العقود الأخيرة.
ما الذى يتبقى اليوم لمخرج مُتجاوز مثل هانس جارجن سيبربرج الذى توقف عن إخراج الأفلام نهائياً، وماذا تبقى اليوم للمخرج العظيم جان لوك جودار الذى يُخرج الآن أفلاماً عن تاريخ السينما بنظام الفيديو؟ مع الوضع فى الإعتبار حالات أخرى لمخرجين عظام.
عولمة التمويل وتكاليف الإنتاج تسببتا فى كارثة لآخر فيلمين للمخرج أندريه تاركوفسكى صاحب التاريخ الفنى العظيم. وكيف سيجد ألكسندر سوكوروف المال ليستمر فى إخراج أفلامه العظيمة فى ظل الظروف القاسية للرأسمالية الروسية؟
وكأمر متوقع، فقد تقلص الشغف بالسينما، لكن الناس مازالوا يُفضلون الذهاب إلى الأفلام، ومازال بعض الناس يهتمون ويتمنون ان يروا شيئاً خاصاً وضرورياً من السينما، وكذلك فالأفلام المُدهشة مازالت تُنتج: مثل فيلم "العارى" لمايكل ليه، ومثل فيلم "لامريكا" للمخرج جيانى أرنيليو، ومثل فيلم "المصير" للمخرج فريد كيليمان، لكنك من الصعب ان تجد أفلاماً مُدهشة أكثر من ذلك، على الأقل بالنسبة للشباب.
الحب "السينفيلى" المتميز للسينما ليس حباً فى حد ذاته للسينما ولكنه نوع من التذوق السينمائى الخاص (ويتجلى هذا فى الإقبال الهائل على مشاهدة وإعادة مشاهدة أكبر قدر ممكن من الأفلام القديمة العظيمة).
"السينفيلا" نفسها أصبحت مُعرضة للهجوم بوصفها شئ شاذ وعفى عليها الزمن ونوع من التزيد، وبالنسبة للسينفيلا فإنهم ينظرون للأفلام كتجربة متفردة وغير قابلة للتكرار وساحرة.
تخبرنا السينفيلا أن هوليوود عندما أعادت عمل فيلم "اللاهث" لجودار فإنه لا يمكن ان يكون جيداً مثل الفيلم الأصلى، السينفيلا ليس لهم دور فى أفلام عصر الهيمنة، فالسينفيلا لا يمكنها أن تساعد نظراً لتنوع الرغبات، بداية من تبنى فكرة أن السينما فى المقام الأول هى موضوع شعرى: ولا يمكن للسينفيلا أن تساعد فى تشجيع إنتاج سينما خارج السينما السائدة، مثل الرسامين والكُتاب، فهم يريدون أن يصنعوا أفلاماً أيضاً، وهذه الفكرة لا تنتصر أبداً.
إذا ماتت السينفيلا، عندئذ فالسينما تموت أيضاً .. بصرف النظر عن كم الأفلام التى يستمر إنتاجها، بما فى ذلك الأفلام الجيدة منها.
إذا كان من الممكن بعث السينما فهذا سيكون من خلال ميلاد نوع جديد من عشق السينما.
------------------------------------
سوزان سونتاج مؤلفة رواية "عاشق البركان" ومسرحية "أليس فى الفراش"