دراسة: تونى مكيبين
ترجمة:- ممدوح شلبى
قال روبرتو روسللينى
فى أحد المرات، أن الواقعية الجديدة حركة اخلاقية أكثر من كونها حركة جمالية،
وفيما يتعلق بمخرجى الواقعية الجديدة المعاصرين مثل الأخوين داردن (لوك وجان
بيير) فهما يريانها أخلاقية وجمالية معاً.
الأمر مثل لغز
الدجاجة والبيضة حيث لا نستطيع بسهولة أن نقول ما إذا كانت الأخلاق تقود إلى
الجماليات أم أن الجماليات تقود إلى الأخلاق.
فى المشهد الإفتتاحى من فيلم "الطفل" حيث نرى
الأم سونيا التى فى سن المراهقة، تدق باب الشقة التى إستأجرها شريكها عندما كانت
فى المستشفى تلد طفلها.
وكان الطفل بين ذراعيها عندما كانت تركل وتلكم الباب -
وهذا لابد أن يقلق سكان الشقة - وقد نتسائل ما الذى يجب علينا أن نفعله بخصوص
الأطفال حديثى الولادة، وبعد مدة قصيرة، تعبر الطريق المزدحم مع طفلها حديث الولادة،
أو تجلس على دراجة بخارية ومعها الطفل وبدون خوذة، ولعلنا نفكر عما إذا كان التراحم
هو الحالة التى سيشعر بها الناس تجاه تلك المرأة المراهقة وهذا التراحم سيمنع الناس
من الحكم القاسى عليها مثلما يميل مخرجين آخرين، أم هل هو أسلوب سينمائى يعتبر أن
الحكم عليها لا يمكن تقديمه بسهولة؟
هنا لا توجد لقطات رد فعل لجيران يتطلعون بعدم رضا: ولا
توجد موسيقى تصويرية توحى بانها أم سيئة، ولا توجد حتى لقطة متوسطة طويلة تُؤطر
سلوكها داخل بيئة أوسع من إحباطها الشخصى الذى تعيشه.
منذ فيلم "الوعد" أخرج الأخوان البلجيكيان سلسلة
من أفلام توظف إحساساً مماثلاً للحياد السينمائى، والفيلمان الأولان الذان
أخرجاهما من النادر مشاهدتهما ووصفا من جانب الأخوين بانهما مختلفان عن مجمع
أفلامهما.
أخرج الأخوان داردن هذين الفيلمين بطريقة مختلفة وإلتزما
فيهما بمتطلبات الجمهور المحلى أو متطلبات السينما التجارية المفروضة عليهما.
" فالش "
Falsch "، "كان عبارة
عن مسرحية، وحاولنا أن نُقدم فيلماً لنص أدبى... ومع فيلم " Je Pense a vous " كنا مُحاطين بفريق سينمائى شديد الإحترافية وقيل لنا ماذا
تفعلان، وكنا فى حالة خجل ولم نكن نعرف حقيقة ماذا نفعل.
سمعنا ما قيل وفكرنا "لم لا؟ لم لا؟" لم نكن
نريد ان نضع موسيقى للفيلم، لكنهم قالوا لنا لابد لنا من وضع موسيقى، كان لدينا
إحساساً بأن هذا الفيلم الذى نُخرجه ليس فيلمنا" (من مجلة السينما
الإيرلندية).
مع فيلم "الوعد" وفيلم "الإبن" وفيلم
"روزيتا" وفيلم "الطفل" وفيلم "صمت لورنا" وفيلم
"الطفل والدراجة"، وهى الستة أفلام التى تأكد فيها أسلوبهما بلقطات
الكلوس أب، وتوظيف الموسيقى الصادرة عن مصدر فى الكادر، وتصوير كل هذه الأفلام فى
نفس الموقع: وهو بلدة ليج البلجيكية، سواء حول البلدة او داخلها.
كما انهما إستخدما نفس الممثلين والممثلات: جيرمى رينييه
فى فيلم "الوعد" وفيلم "الطفل" وفيلم "صمت لورنا"
وفيلم "الطفل والدراجة"، كما إستعانا بالممثل أوليفر جارميت فى كل
أفلامهما منذ فيلم "الوعد": كما شارك فابريزو رونجيون فى أدوار مُساعدة
فى فيلم "روزيتا" وفيلم "الطفل" وفيلم "الطفل
والدراجة" وفيلم "صمت لورنا".
تُركز أفلامهما على ضغط المساحة المتاحة فى الكادرات،
كما لو كان ذلك لتجنب الحُكم المُسبق على ما نراه، وبدلاً من وضع الشخصيات فى موقف
نفهمه على الفور، فإنهما يُلقيان لنا بمشاهد تتطلب منا ان نتحرى ما نراه، أين نحن:
ما الذى تفعله الشخصية: ولماذا تتصرف الشخصية على هذا النحو؟
وإذا كان بيلا تار هو المخرج الحداثى العظيم لسينما
المسافة الإبستمولوجية، فإن الأخوين داردن هما النقيض له.
إذا كان بيلا تار يوفر زاوية تعزلنا عن آنية الموقف حيث يتابع
ما هو أبعد من حدود الحوائط، ويفتح تبادلاً حوارياً هاماً بين شخوصه بينما يكشف عن
أكواب الخمر فى بار بدلاً من تركيزه على وجوه هذه الشخصيات، ويُلمح إلى العالم
الخبيث الذى يترك الشخصيات بدون قدرة على السيطرة على وجودهم، فإن الأخوين داردن
يظلان دائماً على قُرب من شخوصهما.
الناس الذين يشغلون أفلامهما هم دائماً يشرعون فى عمل
أشياء، والخطة المونتاجية فى أفلام الأخوين داردن تهدف إلى أن تقذب بنا فى الموقف،
أبطال أفلامهما قد يكونوا شخصيات مُهمشة تتورط فى أفعال غير قانونية، لكنهم يندفعون
فى أفعالهم بسبب ضرورات يسعون لتحقيقها.
الملمح الغير قانونى قد يكون الإتجار بالمهاجرين كما فى
فيلم "الوعد"، أو الصيد غير المشروع كما فى فيلم "روزيتا" أو
القتل والسرقة الذان يمثلان خلفية محورية للقصة فى فيلم "الإبن"، أو
السرقة كما فى فيلم "الطفل" لكن التركيز يكمن فى فكرة الحركة فى حد
ذاتها.
وعلى الرغم من أن برونو فى فيلم "الطفل" يقول
أن العمل للبلهاء، بينما كان يصرف نظر حبيبته سونيا عن فكرة أنه يمكن أن يحصل على
وظيفة تًدر عليه ألف يورو شهرياً، وخلال كل الفيلم نجده قلما يحصل على الفرصة
ليجلس ويهون الأمر على نفسه، إنه واحداً ممن يدورون فى الحياة كالساقية ويتعاطون
معها، إنه بائع جوال يلتقط رزقه على قارعة الطريق.
إنه
حتى لا يتمكن من الجلوس أثناء البيع والشراء، وعندما يتصادف ويشترى جعة وسندوتشاً،
فإن المال يُلتقط من يديه ويُركل إلى الخارج: الناس الذين أقرضوه مالاً يريدون
إستعادة مالهم، هذه هى سمات سينما الأخوين داردن: حيث فكرة الحركة لا تجعل أحداً
يستطيع إلتقاط أنفاسه.
الأمر يبدو كما لو أن الأخوين داردن يريدا أن يتفاديا
الأحكام المسبقة بواسطة الحركة التى هى وبمقدار ما تُعتبر كشكل حركى وسينمائى فهى
تعبر عن الشخصية.
مهما كانت أفكارنا حول شخوص أفلامهما، فهم ليسوا كسالى:
وربما نتفكر فى كل هذه الأفلام التى أخرجها آخرون والتى تُظهر فقراء عديمى
الفاعلية بعين سينمائية بليدة.
حتى أفلام مايك لى ربما تُوحى بإلقاء الأحكام المُسبقة
من خلال عدم فاعلية الأشخاص داخل القصة.
إذا لم يمنح الأخوان داردن أبطالهما الفرصة للجلوس
مُطلقاً، فإن شخوص المخرج مايك لى تعانى عادة بسبب إجبارهم على النهوض من الكنبة
أو النهوض من الفراش: من الأبوين فى فيلم "فى هذه الأثناء" إلى الأخت
فاقدة الشهية فى فيلم "الحياة لذيذة".
الناس أكثر عناداً فى أفلام الأخوين داردن أكثر من أفلام
مايك لى.
أفلام مايك لى ليست سينما حركة متواصلة على الإطلاق،
بصرف النظر عن توتر جونى فى فيلم "العارى" وحنا فى فيلم "بنات لهن
خبرة فى العمل".
الأخوان داردن لديهما إهتماماً بحياة الطبقة العاملة
وبلغة الطبقة العاملة: المقصود بالطبقة العاملة هنا، هم الناس الذين يعملون
بأيديهم وأجسامهم.
بلدة ليج هى بلدة صناعية، وهى البلدة التى وُلد فيها
الأخوين داردن، حيث عدداً من أفلامهما تدور أحداثها بالقرب منها.
شخصيات الأخوين داردن هم عُمالاً، لكنهم عادة ليست لهم
وظائف، فالوظائف كانت متوفرة فى الماضى.
الشكل الجمالى فى أفلام الأخوين داردن ليس جديداً: فى
نهاية التسعينات تم إستخدم هذا الشكل الجمالى من قبل المخرج لارس فون تريير
وفينتربرج فى الدنمارك، والمخرج ونج كار وى فى هونج كونج، والمخرج جرينجراس فى
المملكة المتحدة، لكن مخرجين قلائل إستخدموا هذه الجماليات مع شخصيات عاطلة عن
العمل.
عندما تحدث الأخوان داردن عن فيلم "روزيتا"
وعن الفتاة روزيتا الواقعة فى موقف عصيب حيث الحرب هى حرب على إيجاد فرصة عمل أكثر
من كونها حرباً على المكان، وحيث يحارب الشخص ضد شخص من مواطنيه وليس من الأعداء،
وذكر الأخوان داردن حاجتهما إلى شكل فنى يمكن به التعبير عن هذه الروح التنافسية
المحمومة.
" إنها جندية، الناجية التى تُجرب كل شيئ لكى تهرب،
معركتها هى أن تجد وظيفة" ( من مجلة ذا ليست) "أردنا أن نتابع الشخصية
كما لو أنها جندية فى حرب، هذا ما كان فى أذهاننا: كان جسمها وحركتها هى الحدود وليست
البيئة" ( مجلة ذا ليست) لكن الأسلوب ألمح أيضاً إلى المجتمع أيضاً، وكذلك
إستشهد الاخوين برواية " القلعة" لكافكا: فإن روزيتا تريد أن تعمل مثل
شخصية "كاف" الذى كان يريد أن يدخل إلى القلعة.
إنها تشعر بأنها محبوسة فى حياة وتفترض أن الآخرين
طُلقاء، ويكشف الأخوان داردن عن هذه الشابة الصغيرة الهامشية: إنها تريد أن تعمل
لأنها.... تريد أن تعمل.
إن لديها هدف وطموح بالطبع، وهما لا يتعديان رغبتها فى
ترك موقع الكارافان والخروج من الكارافان الذى تعيش فيه مع أمها. وعندما تزرع أمها
بعض الأزهار خارج الكارافان، فإن روزيتا تقتلعهم بوحشية وهى تقول إنهما لن يمكثا
فى هذا المكان فلماذا يرهقان أنفسهما بزراعة شيئ.
لكن التركيز لم يكن على آمال روزيتا وأحلامها: بل على
مقدار عصبيتها الحادة.
إذا كانت شخصيات المخرج مايك لى هادئة الأعصاب غالباً أو
كائنات أُسرية، فإن الأخوين درادن يكشفان لنا الناس الذين ينفعلون بشدة من أى شئ،
لكنهما يوضحان أن هذا مجرد جزء من الصورة.
فى أحد اللحظات من فيلم "روزيتا" حيث ترقد
روزيتا فى السرير وتُحدث نفسها كما لو كانت شخصين، قائلة "إسمك روزيتا،
إسمى روزيتا، أنت وجدت وظيفة، أنا وجدت وظيفة، أنت حصلت
على صديق، أنا حصلت على صديق، أنت لديك حياة طبيعية، أنا لدى حياة طبيعية، أنت لن
تتردى إلى ما هو مُشين، أنا لن أتردى إلى ما هو مُشين، تصبحين على خير، تصبحين على
خير".
وفى فيلم "الإبن"، يحصل النجار الذى فقد إبنه
على صبى آخر فى المركز الذى يعمل فيه، إنه الصبى الذى كان مسؤولاً عن موت إبنه،
يركز الفيلم بشكل أساسى على وجوب تنفيذ العمل، مع أوليفر"أوليفر جارميت"
الذى يضع فى العمل خبرته كنجار أكثر من مشاعر الحزن المؤلمة، لكن الأحاسيس موجودة
رغم ذلك.
هناك بالطبع ممثلون عظام أفعالهم تحتوى على صدى عاطفى
على حساب الفعل الذى يعملونه، مارلون براندو ممثل رائع لهذا النوع من الفعل: إنه
يستطيع أن يحتضن قطة أو جدار، يمسك ببندقية أو يمضغ قطعة من الخبز، ويُصر على أن
الفعل نفسه ما هو إلا بُعداً صغيراً من الشعور المُتضمن فيه.
جارميت على النقيض منه: إذا ركزنا على مشاهد العزلة فى
فيلم "الإبن" لعلنا نجد بسهولة أننا نشاهد إنساناً يحاول تعليم
تلاميذه كيفية تشكليل قطعاً خشبية بطريقه
صحيحة.
لا يوحى المشهد ببُعد إضافى، على الرغم من أن الأثر
التراكمى سيقودنا حتماً إلى التساؤل عما يشعر به تجاه هذا الصبى الذى تورط فى سرقة
قادت إلى موت إبنه.
من الواضح أن ممثلاً مثل مارلون براندو سيكون قليل
الظهور فى أفلام الأخوين داردن، ومن المعروف أن جارميت يعمل فى حياته الشخصية
كنجار وممثل: يريد الأخوان داردن أن يكون الفعل العادى العفوى فى الحياه عاطفياً
ودرامياً.
ورغم أنهما يختاران لأفلامهما ممثلين محترفين مثل سيسيل
دى فرانس فى فيلم "الطفل والدراجة" والممثل جارميت (الذى ظهر فى العديد
من مسرحيات مولييه وتورجنيف وآخرين).
إلا أنهما غالباً يعملان مع أناس جدد على السينما حتى
إذا كانوا فى طريقهم لأن يصبحوا ممثلين، مثل إيميلى ديكوين فى فيلم
"روزيتا" وجيرمى رينيه فى فيلم "الوعد".
قد تكون هناك مشاهد عاطفية كبيرة فى أفلام الأخوين
داردن، لكن هذه العاطفية غالباً ما تكون مُنبعثة من أجواء الحدث، روزيتا تتحطم
بالتأكيد فى نهاية الفيلم، وبرونو أيضاً يتحطم فى المشهد الأخير من فيلم
"الطفل".
فى فيلم "الإبن" يواجه جارميت أفعال الصبى
الصغير بينما يلاحظ الصبى أن جارميت هو أب الولد الذى قُتل، وفى فيلم
"الوعد" وخلال الفيلم سيفعل إيجور –الذى مثله رينيه- أى شئ لإرضاء
والده، لكن فى نهاية الفيلم يجد شخصية الأم أكثر صدقاً ويمكنه أن يعتمد عليها أكثر
من أبيه، ويروق له فى النهاية أن يُشكك فى مصداقية والده.
وعلى هذا النحو فالتعبير العاطفى ليس هو المهم فى معظم
الحالات: فالأهم أن تكون الأفعال هى التى تحمل عاطفة مُكثفة.
حتى عندما تكون شخصية فى حالة تأمل، فإن الأخوين داردن
يلمحان أن الفكر حالة عابرة أكثر من كونه طبيعة شخصية: إنها مشكلة آنية وليست لها
جذور سابقة، توجد لحظة فى فيلم "الطفل" حيث يستند برونو إلى حائط فى
بداية الفيلم ولعلنا نتسائل عما يدور فى خلده.
لكن العفوية التى يُجيب بها على التليفون توحى بأن كل ما
كان يفكر فيه كان الشخص الذى ينتظر أن يحادثه حتى يستطيع أن يعقد معه صفقة: وهى
الصفقة التى يتمحور عليها الفيلم، فقد قرر أن يبيع إبنه حديث الولادة، فوراء كل ما
يحدث هناك بُعداً يتجاوز الفعل نفسه.
فعلى الرغم من وجود قاعدة جمالية وراء أفلام الأخوين
داردن تقول أن الفعل لابد أن يحتوى على عاطفة، وبناءاً عليه، وسواء تصادف أن
الممثل مُحترفاً أو من الهواة، فالعنصر الهام هو تقديم فعل بشكل مُقنع بدلاً من
السماح بفعل يكون إعتماده على إحساس، هذه الطريقة لا تكمن فى تبنى مدرسة
ستانسلافسكى التى تعتمد على العاطفة، ولكنها تكمن أكثر فى إنجاز مهمة.
فى نهاية فيلم "الإبن" يجب على الولد الصغير
أن يُدرك طبيعة فعلته، ولكن هل كان هذا أقل أهمية من انه كان فى عملية تعلم لفن
النجارة؟
المخرجون الآخرون الذين يهتمون أكثر بالأحاسيس التى
تسيطر على المهام قد يتلاعبون على العواطف أكثر، لكن الأخوين داردن يفهمان أن فيلم
"الإبن" يتركز أكثر حول أساسيات إعادة التأهيل كنوع من العلاج النفسى.
إذا كان الصبى قد هرب من حياة الجريمة التى أحاطت بنفسه
وأصبح سجيناً فيها، سيكون هذا لأنه أتقن صناعة حرفيات النجارة كنوع من التطهير،
والعمليتان متصلتان.
هذا الأمر مختلف تماماً فى فيلم "روزيتا" ومع
ذلك فهو مُتشابه من عدة وجوة، فى نهاية الفيلم تبدو الشخصية التى يحمل الفيلم
إسمها وقد هربت، فبينما كانت تمسك بزجاجة غاز من مالك المكان، فإنها تنهار على
الأرض عندما كانت عائدة إلى الكارافان، وريكو (فابريزيو رونجيون) الذى كان
يُعاكسها بدراجته البخارية ويدور حولها بسبب أن روزيتا خانته، فإنه يهرع
لمساعدتها، فى مشاهد سابقة نعرف أن روزيتا إستولت على وظيفة ريكو بعد أن أخبرت
رئيسها فى العمل أنه يصنع الفطائر لحسابه الخاص ويبيعها ويستولى على الأموال.
كان ريكو قد كشف هذه التفاصيل لروزيتا فى لحظة حب بينهما،
لكن فى ظل عدم توفر فرص عمل كثيرة لروزيتا، وكانت فى أمس الحاجة إلى وظيفة، فإنها
تقول لرئيسها فى العمل ما حدث ويقوم رئيسها فى العمل بفصل ريكو، على أية حال، نحن
لا ننسى ما قالته روزيتا لنفسها عن حصولها على وظيفة وعن حصولها على صديق، وقبل أن
تحصل على زجاجة الغاز بوقت قليل، إتصلت تليفونياً برئيسها فى العمل
"جارميت" وقالت له أنها لن تعود إلى العمل.
هل إختارت الصداقة على حساب الوظيفة، هل قبلت التعب على
حساب الراحة، أم أنها فشلت فى حياتها الطبيعية وسقطت فى هوة سحيقة؟ هل كانت ليلتها
طيبة عندما تمنت لنفسها ليلة طيبة على أمل أن تكون مُستريحة كما وعدت نفسها بذلك، أم
أن ليلتها كانت مثل الأُفول والظلام الذى قد ينتهى بإنتحارها؟.
فيلم " Mouchette " لروبير بريسون تم
ذكره فى عدد كبير من المقالات النقدية والتحليلية عن فيلم "روزيتا" ( فى
مجلة سايت أند ساوند وفى مقالة جوناثان روزنبرج)، ففيلم روبير بريسون ينتهى
بإنتحار لا لبس فيه.
ينتهى فيلم "روزيتا" بإشارة أكثر غموضاً عن الإنتحار
مما ورد فى فيلم روبير بريسون، فنهاية فيلم "روزيتا" تحتوى على أمل فى
الإنسانية، فريكو هو الفارس الذى يمتطى صهوة دراجته البخارية المتلألئة حيث يتحول
من شخص يحاول أن أن يضعها فى حالة راحة مع ضميرها، إلى شخص لديه القدرة على
حمايتها من تسميم نفسها بالغاز والغيبوبة.
الشئ الذى يظل مُتسقاً على أية حال هو الإحساس بأن
العاطفة لا ينبغى لها أن تظل متواصلة، إن هدف الفيلم هو أن تظل الحركة مستمرة إلى
نهاية الفيلم، تماماً مثل برونو المسجون الآن فى نهاية فيلم "الطفل" حيث
يجلس عندما يتلقى زيارة من صوفيا، وكذلك روزيتا حيث تقع على كومة عندما لا تستطيع
الإستمرار,
إنها عاشت لحظات جاءت مبكرة فى الفيلم حيث كانت ترقد على
السرير محاولة أن تُخفف من تقلصات معدتها بإستخدام مُجفف الشعر، لكن لا يوجد إحساس
بتخفيف ألمها هنا: كانت فى حالة قلق دائم، وحتى اللحظة التى ترقد فيها روزيتا فى
السرير وتتحدث إلى نفسها، فهى تبدو غريبة الأطوار مع نفسها كما لو كانت تُقلب
الأمور فى رأسها لتعرف من هى وماذا تريد.
هذا لأن مفهوم الراحة فى أفلام الأخوين داردن مفهوم
أخلاقى: إنه يختلف عن النوم للتو،: الفرصة لكى يُريح الإنسان ضميره بعد تحمله
لطاقة تفوق قدرته على التصرف، معظم شخصيات الأخوين داردن هم أناس محترمون وجدوا
انفسهم فى مواقف سيئة، والأخوان أقل إهتماماً بالأبطال والأشرار: فهما يهتمان أكثر
بالدناءة داخل البطل حيث قصة الفيلم تدور عن حالة الدناءة للكشف عن الإنسان البطل
أخلاقياً.
فى أحد الفقرات عندما يسقط ريكو فى النهر قرب حديقة
الكرافان حيث تعيش روزيتا، فالأمر بدا كما لو أنها ستتركه يغرق: لكنها تُنقذه كما
لو أن ضميرها يختار ما هو أفضل لها.
إذا غرق فإنها ستحصل على وظيفته، لكنها بدلاً من ذلك
تختار ما هو أقل فظاعة، فهى تُخبر رئيسها فى العمل عن البيع المخالف الذى يقوم به،
وهذا أقل الشرين، لكنها تظل شريرة، ونستطيع أن نُطلق عليها الشريرة بسبب الظروف،
إنها ليست ضحية للظروف تماماً وليست شريرة شراً مطلقاً، فهى بين بين، وعلى أية
حال، ففى نهاية الفيلم لا تُصبح ضحية ولا تُصبح شريرة حيث تواجه تبعات ما فعلت وتشعر
بان رأسها فى الوحل، فهى تُصبح واعية ذاتياً بشكل بطولى – واعية بمسؤليتها
الإنسانية حتى إذا بدا الأمر كلحظة تنال فيها جزاءها فى نهاية حياتها.
نرى هذا بالطبع فى أفلام الأخوين داردن الأخرى، الأمر
أشبه ببرونو الذى لم يتعلم من خطأه فبعد أن أعاد شراء إبنه يحاول أن يبيعه مرة
أخرى، وقيل له أنه مازال مديناً للعصابة التى عقدت معه الصفقة بمبلغ 5 ألاف يورو،
إنه يورط أحد أطفال المدرسة لكى يسرق من أجله، ويبدو الأمر كما لو أنه سيترك الصبى
يتحمل العقاب لوحده حيث يهرب برونو ويتم القبض على الصبى.
ولكن برونو بدلاً من ذلك يذهب إلى قسم الشرطة ويعترف
بذنبه قائلاً أن الصبى بريئ، وهذا يسمح له أن ينهار فى المشهد الختامى للفيلم مع
سونيا، وهى لحظة تتشابه مع فيلم بريسون وفيلم روزيتا: وياله من طريق غريب سلكه
برونو لكى يجد سونيا.
يحق لنا أن نتفكر، إذا تركت روزيتا ريكو يغرق ثم إستولت
على وظيفته، عندئذ فإنها لن تجد هذا الشاب بالقرب منها عندما تكون فى حاجة إليه،
وإذا كان النشال فى فيلم بريسون أحد الشخصيات التى إستعارها من رواية الجريمة
والعقاب لدوستويفسكى - التى إستعارها أيضاً عدد كبير من المخرجين منذئذ ( بول شريدر
إستعارها مرتين فى فيلم "القواد الأمريكى" وفى فيلم "نوم
خفيف")، فإن الأحوين داردن أضافا التوازن الروحى إلى هذه الإستعارة أيضاً..
كل من فيلم "الوعد" وفيلم "صمت
لورنا" يتلاعبان أيضاً على هذا البعد الأخلاقى، حيث يعرض المخرجان الشخصيات
وهى تتصرف ضد ضمائرهم قبل أن تتواجه هذه الشخصيات مع أفعالهم المزعجة، يوظف
الفيلمان أيضاً الهجرة غير الشرعية، فى فيلم "الوعد" يحاول الميكانيكى
المُتدرب ذو الخمسة عشر عاماً إيجور "رينيه" ووالده "جارميت"
أن يشتريا منزلاً، ويشتغلان فى تجارة المهاجرين ليستطيعا شراء المنزل بسرعة، إنهما
أيضاً يستخدمان المهاجرين للخدمة فى المنزل.
وبعد يوم يأتى شرطيان من شرطة مكافحة الهجرة ليتحريا عما
يحدث، ويقول إيجور للمهاجرين أن يُخلوا السطح، وبعد ذلك بفترة وجيزة يجد إفريقى
يحتضر بعد أن سقط من السطح، ويطلب الإفريقى من إيجور أن يعتنى بزوجته وإبنته اللذان
جاءا حديثاً من بلجيكا، إنه مطلب نستطيع أن نتكهن بأن إيجور ذى الخمسة عشر عاماً
لن يستطيع تحقيقه.
فى الفقرة الإفتتاحية للفيلم نرى إيجور يعمل معروفاً
لإمرأة مُسنة لكنه يرفض أن يأخذ منها مُقابل، كان قد أصلح لها عُطلاً فى سيارتها
لكنه لم يوافق أن يأخذ مالاً عندما أصرت أن تدفع له وكانت تُحاول جاهدة ان تجد
محفظتها، ونلاحظ على الفور أنها لم تجد المحفظة بينما نرى إيجور فى المشهد التالى
يُخبأ المحفظة بعيداً عن أعين المُتطفلين.
إنه محتال مُراهق مع والده الذى يقف فى منتصف الطريق بين
كونه "أوبى كين بينوبى" وبين كونه داهية مُحتال: شخص من الصعب أن تكون
تصرفاته صادرة عن أب، لأنه لن يقبل المسؤولية الكاملة بالأبوة عندما يُعلم إبنه
الطرق الغير قانونية الكثيرة والتى يمكن بها كسب الأموال، عندما ينادى إيجور والده
قائلاً "أبى" فإن والده يرد عليه قائلاً بأنه ينبعى عليه أن يناديه
بإسمه الأول روجر.
قرب نهاية الفيلم، بعد أن ساعد إيجور الزوجة
"أوسيتا أويدروجو"، سينتظر روجر مع إيجور القول أن الصبى هو إبن أبيه،
كان إيجور لتوه قد طُورد حول الجراج الذى يعمل فيه بعد أن هاجم روجر الصبى بغضب من
أجل مُساعدة الزوجة على حساب عملهم الصغير، ويتمكن إيجور من ربط قدم الأب فى ونش.
وبينما يتم ربطه فى السلسلة كان يحاول أن يربط إبنه، فإن
مناشدة روجر العاطفية تأتى متأخرة جداً، أيجور توجب عليه أن يكبر بسرعة ومن تلقاء
نفسه، حيث يكتشف االحافز الأخلاقى لكى يحقق المطلب الأخير للزوج، إيجور هو الآخر
أحد شخصيات الأخوين داردن الشريرة بسبب الظروف والذين يصبحون أبطالاً بسبب قصة
بؤسهم الخاصة بهم.
ونفس الحال فى فيلم "صمت لورنا" الذى يكشف عن
إمرأة تريد أن تدخل فى الحياه مثل شخصيات الأخوان داردن الآخرين، وهى أيضاً مثل
العديد منهم، تؤمن بأن عمل ذلك بطريقة غير شرعية هو أسرع طريق للحصول على الثراء،
لورنا (أرتا دوبروشى) متزوجة من كلودى (رينيه) المُدمن للهيروين وهى تتفق معه على
مؤامرة، وهى أنها بعد الطلاق سوف يكون مسموحاً لها أن تتزوج رجلاً آخر، والذى
سيعطيها المال لكى تفتتح مطعماً للوجبات السريعة، عندئذ يمكن لكلودى - زوجها
الحالى- أن يعمل معها فى المطعم بإعتباره حبيبها الحقيقى.
لكن الطلاق يستغرق وقتاً على أية حال، ألن يكون الأمر
أسهل أن تجعل كلودى يتناول جرعة زائدة من الهيروين لكى تُبعده عن الموقف؟ يبدو الموقف
من البداية كما لو أن لورنا ستواصل الخطة لكنها تغير رأيها وتطلب أن تتريث حتى يتم
الطلاق، فى هذا الفيلم التى يُمثل أكثر أفلام الأخوين داردن الذى يتناول التآمر،
توجد تغييرات متنوعة فى القصة، ونوع من التسرع يتعلق بموت كلودى، بينما النهاية
تُشير إلى شخصية ليست فقط فى أكبر ورطة مالية من أى شخصية أخرى فى أفلامهما، لكنها
أيضاً الشخصية التى قد تكتشف ان روحها أكثر أهمية من منطقها المغلوط.
إنها تُصر أنها حامل وتقول أنها ستترك الجنين يموت عندما
يموت كلودى، لكن الطبيب أخبرها فى مشهد سابق أن حملها كاذب، ثم تختفى فى الغابة
بعد هروبها من الرجل الذى إستؤجر لكى يقتلها، إنها أكثر شخصيات الأخوين داردن
تعقيداً والأكثر أفتعالاً: إنها أكثر شخصياتهما التى تلتمس الرحمة من قوة أعلى.
إذا كانت كل أفلامهما الهامة تدين بشيئ لأسلوب المخرج
بريسون كالطريق إلى دمشق، فإنهما هنا قررا ان يقدما بناء حبكة أكثر تعقيداً لا
ليكشفا الكثير فى فيلم "صمت لورنا" بل ليكشفا الكثير عن روحها، فى نهاية
الفيلم تكون لورنا نقيض الصمت: إنها تتحدث إلى نفسها عن طفل مُتخيل فى بطنها، الأخوان
داردن للأسف لم يجانبهما التوفيق فى إخراج هذا الفيلم ، وكما قال بيتر برادشو فى
صحيفة الجارديان " أثقل المخرجان نفسهما بحبكة مٌفتعلة فأسقطت فيلمهما
لقد حزفا لحظة أساسية، وبدا المخرجان مؤمنان بأنه ومثلما
فى المسلسلات التليفزيونية الرديئة ، سيكون من السهل التخلص من شخص لا نفع منه بتحطيم
رأسه على صخرة"
وأيضاً يمكن القول ان هذا موجود فى فيلم
"الوعد" حيث مُلخص الفيلم يبدو كما لو كان عن فيلم ميلودرامى حيث الزوج
لا يموت فقط ولكن أيضاً نجد لحظة يهرب فيها إيجور من الزوجة والوليد بينما يقول
للأم أن روجر يريد أن يبيعها فى سوق الجنس فى كولون.
فيلم "صمت لورنا" فشل نوع ما، ربما، لكنه فيلم
آخر من أفلام الأخوين داردن التى تبحث عن خلاص الروح من المعاناة الشخصية والفعل
الجسمانى المُجهد.
وطبقاُ لنص كلام لوك (أحد الأخوين) "الأمر بالنسبة
لى أن الفقر المادى يقود إلى الإضطراب الروحى" ) من مجلة " Au dos de nos images "
كيف تخلق شخصيات تكون لديها حاجة للإستمرار فى الحركة وهل
توجب على المخرجين أن يُبطئا الحركة حتى يمكن للشخصيات ان تواجه ضمائرها؟
الكثير من أفلامهما تتركز على أفكار المعوذين الذين
وبسبب الفقر المادى الذى تحدث عنه لوك، يُعلقون فى مواقف تحتوى بداخلها على طموح
مادى ودناءة. هؤلاء المعوذين يعلون فى أحد الجوانب لكنهم يسقطون فى جانب آخر،
عندما تتصل روزيتا تليفونياً برئيسها فى محل الفطائر لكى تخبره بأنها لن تعود إلى
العمل مرة أخرى، فإنها تفقد وظيفة لكنها تكسب روحاً، رغم أن ذلك قد يبدو من الأمور
التجريدية جداً.
الهدف الذى يبدو فى أفلام الأخوين داردن هو تقديم مشكلة
بشكل عاطفى وبطريقة مباشرة جداً، عندما تتعثر روزيتا فى مشيها وتسقط على الأرض،
عندما يبدأ برونو فى البكاء فى فيلم "الطفل" وكذلك إيجور، بعد أن رفضت
المرأة الإفريقة معانقته فى فيلم "الوعد"
الأخوان داردن يقدمان العاطفية خلال الموازنة بين المادى
والروحى.
وأيضاً إذا تشككنا قليلاً فى النظر إليهما كجزء من سينما
روحية ينتمى إليها بريسون وتاركوفسكى ودريير ودامونت وريجاداس وآخرين، فهذا يكمن
فى معنى واحد وهو أن الحدود المادية والراحة النفسية مهمان على الأقل بوصفهما
بُعداً روحياً، وإذا كانت الروح هى الحالة السفلى فى افلامهما، فهى الحالة الأعلى
بالنسبة للمخرجين الآخرين.
عندما حصل الأخوان داردن فى عام 1999على السعفة الذهبية
فى مهرجان "كان" عن قيلمهما "روزيتا" وحصل معهما برونو دامون
علي نفس الجائزة عن فيلمه " L’humanite "، كان من المنطقى القبول
بأنهما يستحقان الجائزة عن فيلم "روزيتا"، بينما جائزة برونو دامون كانت
محل شك. وهذا هو الفارق بين طريقة تقديم الروح فى دناءتها وفى علوها فى السينما، فبالنسبة
للأخوين داردن فقد أحلا الروح فى الوسط المناسب، بينما دامون قدم عالماً لا يتناسب
مع الروح.
لا يجب علينا أن نُدافع عن التجريب فى فيلم دامون على
حساب الصلابة فى فيلم "روزيتا" وعلى أية حال، فمن المعروف أن الأفلام
التى تتعامل مع قضايا الروح من خلال محتوى قصة قابلة للتصديق ومن خلال مجتمع
حقيقى، هى الأفلام التى تحقق تأثيراً مباشراً أكثر، وتنال أقل قدر من رد الفعل
الرافض لها.
هذا أمر حقيقى ومؤكد، لأن الأخوين داردن يعتمدان على ما
يمكن تسميته الأونطولوجيا الإجتماعية أكثر من إعتمادهما على الأونطولوجيا
الميتافيزيقية، نحن نستخدم مصطلح الأونطولوجيا هنا بنفس طريقة إستخدامه فى حياتنا
العامة، تماماً مثلما إستخدمه عالم النفس الراديكالى أر.دى. لاينج أثناء الستينات
وما بعدها، حيث قال "رغم أن مصطلح "أونطولوجى" له إستخدام فلسفى
(وخاصة عند إدجار وسارتر وتيليتش) فإننى أستخدم المصطلح بمعناه الدلالى المباشر
الذى يبدو فيه أنه مشتق من كلمة "الكينونة".
( من كتاب
"الذات المُنقسمة").
وعلى نفس المنوال يريد الأخوان داردن أن يصنعا الأفلام
التى قد تُلمح إلى مشاكل الروح والتى تناولها أيضاً تاركوفسكى ودامون ومخرجين
آخرين بنوع من التضخيم، ولكن يجب على الروح أن تظل داخل عالم الممارسات العادية، لا
يوجد غموض فى دموع برونو وإيجور، ولا فى إنهيار روزيتا، ولا حتى فى عفو أوليفر
وتسامحه فى فيلم "الإبن".
هذه الأشياء مثلها مثل الحاجة الإجتماعية المسموح بها –
مثل العمل والدفء والحب - وأننا نتعامل مع الناس بنفس الطريقة التى يتعامل بها
الناس معنا.
الإستثناء كان فيلم "صمت لورنا" حيث الموت
الغير مُبرر لكلودى وما ترتب على موته من إعتقاد لورنا أن فى بطنها جنين، فهذه
الأفعال ليس لها ما يبررها، ومن المؤكد أن بعض النقد الذى كتبه برادشو فى
الجارديان عن فيلم "صمت لورنا" لا يختلف عن الهجوم الذى تعرض له فيلم
" L’humanite " لدامون.
عندما إحتج برادشو على الخط السردى المُتشابك وعلى
النهاية المُفتعلة وعلى الحدث المحورى الذى يدور خارج الكادر، (والذى يسميه المُخرجان
"الفصل")، فهذا يُشبه ما كتبه نيك جيمس فى مجلة "سايت أند
سوند" عن فيلم " L’humanite " لدامون، "
يطلب منا الفيلم أن ندعم قصة بوليسية بليدة عن شخص بطيئ وغبى وساذج لا يمكن تعيينه
فى أى قوات شرطة فى أى مكان فى العالم. (قد يكون الأمر أننا نُشاهد فانتازيا
تتناول التكفير عن ذنب أحد المجرمين -
"الأمر متروك لك" هكذا قال دامون وهو عابس). " إنها يشتركان حتى فى
الإستشهاد بكلمة المخرج. فى كلى المثالين نجد برادشو وجيمس لديهما فكرة فى عقولهما
عن الإخراج الجيد وتنويعاته، وأن الفيلمين فشلا فى تحقيق التوقعات المطلوبة.
لكن إذا وافقنا على أن بعض الأفلام تُكرس للأونطولوجيا
الإجتماعية وأخرى للأونطولوجيا الميتافيزيقية، فمن الأفضل لنا أن نُصنف المخرجين
طبقاً لنظام من التوقعات لا تصطدم بتصورات نقدية مُسبقة، فالأفضل أن نقترب من فكر
مخرج الفيلم.
فى فيلم "صمت لورنا" يتحرك الأخوان داردن فى
إتجاه سينما أكثر تجريداً وأكثر ميتافيزيقية، وهى نفس السينما التى يضع المخرج
دامون نفسه فيها دائماً، وإذا شعرنا بأن فيلم " L’humanite " أعظم بكثير من فيلم
"صمت لورنا"، فيمكن القول أن دامون مخرج أكثر إهتماماً بالأونطولوجيا
الميتافيزيقية، بينما الأخوان داردن مهتمان بالأونطولوجيا الإجتماعية.
يعمل الأخوان داردن بشكل أفضل عندما يكونان قريبين من
فكرة تتعلق بالمشاكل الإجتماعية، بينما دامون فى أفلام مثل " La vie de Jesus " وفيلم " Hors Satan " فالمجتمع يكون
مُتضمناً من خلال قضايا ميتافيزيقية أوسع.
الخطأ فى النظر إلى أفلام الأخوين داردن قد يكون بسبب
إفتراضنا بأنهما لا يعنيان بالقضايا الأونطولوجية على الإطلاق، ففى نهاية كل فيلم
من أفلامهما يبدو الأمر كما لو قضية قد أُثيرت وأن حجمها أعظم بكثير من القصة التى
يبدوان أنهما يقدماها.
وبناءاً عليه، وسواء تصادف أن الموضوع يهتم بموت إنسان
(كما فى فيلم "الوعد") أو إبن مجرم (كما فى فيلم "الإبن") أو
وظيفة تافهة تتحطم الشخصية المحورية لتحصل عليها (مثل فيلم "روزيتا") أو
طفل يُباع (مثل فيلم "الطفل")، او كما فى فيلم "الطفل
والدراجة" حيث يتخلى أب عن طفله، الأخوان داردن يفترضان أن ضخامة الموضوع ليست
أكثر أهمية من إمكانية التفكير فى الإمكانيات الأخلاقية المُتضمنة فى الموضوع.
يركز فيلم "الطفل والدراجة" على حاجة سيريل
لحب أبيه، لكن الفيلم مُنشغل أيضاً بالقضية الأخلاقية لصبى يخرج عن القضبان بعد
سرقة كشك جرائد، حيث يعقد سيريل وصاحب كشك الجرائد إتفاقاً بعد مفاوضات بينهما،
لكن إبن صاحب كشك الجرائد يريد الإنتقام ويطارد سيريل.
يسقط سيريل من فوق الشجرة التى يختبأ فيها، ويتناقش صاحب
كشك الجرائد مع إبنه فيما سيقولاه للبوليس عن موت سيريل، فى الوقت الذى ينهض سيريل
ويولى الفرار.
فى أفلام الأخوان داردن وسواء كانت الدراما كبيرة أو
صغيرة، فإن التعظيم فى الشكل الدرامى لا يأتى على حساب القضية الأخلاقية، فالأهمية
عندهما تكمن فى القضية الأخلاقية التى تنبثق من الموقف.
وعلى هذا النحو نجد فى أفلام الأخوين داردن سرقات وأموات
وقتلة وأناس يسقطون من السقالات ومن الأشجار.
كما أنهما ليسا من مخرجى الميلودراما على الإطلاق لأن
البُعد الميلودرامى أقل أهمية من القضية الأخلاقية المُتضمنة فى الموضوع، عندما
يسقط سيريل من فوق الشجرة فإن ما يركزان عليه ليس فعل السقوط ولكن الحديث الذى دار
بين صاحب محل الجرائد وإبنه، فهما بوصفهما ضحايا يُصبحان فجأة تحت طائلة القانون
حتى أنهما يفكران فى تلفيق قصة تجعلهما أبرياءاً قانونياً.
إنها ليست الفُرص التى ستترتب على غرق ريكو، حتى لو كانت
الفكرة أن روزيتا ستدعه يغرق، والأمر ليس أن الطفل سيُباع فى فيلم
"الطفل" لكن أن الأب سيبيع إبنه حديث الولادة، هذا هو الملمح الأخلاقى
الذى يُغرم به الأخوين داردن وهذا ما دعانا إلى تسميته الأونطولوجيا الإجتماعية.
الأمر هكذا رغم وجود أفعال معينة تبدو أنها تُساهم فى
محو كينونة الإنسان، موت بالصدفة لا يفعل هذا (ولا حتى السرقة والقتل يفعلان هذا)
عند المقارنة بخيانة عارضة لبائع، أو عدم الهرع فوراً لإنقاذ غريق، ما نراه فى مثل
هذه الأمثلة هو محو الكينونة للإنسان بوصفه حيوان أخلاقى.
وبناءاً عليه، عندما أشرنا فى بداية هذه الدراسة أن
أفلام الأخوين داردن ليس من السهل أن نقول إن كانت جمالية أم أخلاقية، ربما نستطيع
أن نحل هذه الإشكالية بالإدعاء بأنهما ولأنهما مهتمان بالأونطولوجيا الإجتماعية، فإنهما
بحاجة إلى إيجاد شكل فنى فى أفلامهما لأن الأفكار التقليدية عن الأخلاق لا يمكن أن
تُجاب بشكل تام بواسطة طريقة جمالية تقليدية.
إنهما يصران على أن الحرص على وضع المُشاهد فى حالة
المُراقبة يتلاقى مع المطالب المجردة للموقف الأونطولوجى التى تُلمح دائماً إلى
وجود سؤال أكبر مما يتوفر فى الحدث، عندما يبيع برونو الطفل، فهذا شيئ مروع، لكن
رعبنا لا يعنى أننا نحاكمه: إنه يُتيح بدلاً من ذلك نوعاً من المعرفة عن التلاشى المتواصل
للعالم الأخلاقى.
ليس من السهل علينا أن نرفض برونو كشخصية نعرف انه ليس
عنده موقفاً محدداً يجعلنا نتوقع أن يكون شريراً، فالواقع أننا نريد أن نقبل
الشخصية ونرفض ما تقوم به، نحن نرتعب من الخيانة لأننا مُتضامنين مع روزيتا ونحس
أن ريكو هو الشخص الذى يمكن أن ينفع روزيتا فى حياتها، لكن وبينما هذه المخاوف على
الشخصية ليست بالطبع تافهة، فأنها تبدو ثانوية بالنسبة إلى القضية الأخلاقية التى
توظف شخصيات مثل برونو وروزيتا من أجل تلك النهايات الأونطولوجية المُحددة.
عندما تحدث الأخوان داردن عن فيلم "صمت لورنا"
فإنهما فعلا ذلك ضمن هذه الأونطولوجيا الإجتماعية، فقد قالا فى حوار مع دامون سميث
"نعم، أردنا أن نرى فى شخصية فيلم "صمت لورنا" التى وحتى بالرغم من
انها تساعد كلودى وتريد أن تُبقى عليه وكل هذه الأمور، فإنها ظلت لا تتحدث معه،
إنها تلتزم الصمت، كان يمكن لها أن تخبره ما جرى وتقول له "هيا بنا نهرب
معاً" لكنها لم تفعل.
على الرغم حتى من أنها تقتل نفسها، فإنها تظل تشعر
بالذنب، وأنا أعتقد أن الطفل الذى إخترعته يأتى من ذلك الشعور بالذنب، يمكن أن
تقول إنه نوع من الجنون"
"وأيضاً وعلى نفس المنوال، فإن هذا الطفل الوهمى
الذى إخترعته فى النهاية كان وسيلة بالنسبة لها لكى تتصل بالإنسانية أكثر"
(من مقالة "اللقطة العكسية") إنهما يربطان طريقتهما هنا بالشكل الفنى إيماناً
بأنهما يريان لورا كشخصية أقل شفافية من الآخرين فى أفلامهما، أراد الأخوان داردن
أن يحافظا على مسافة أكبر حتى لا يقتربا أكثر.
على أية حال، هذا أيضاً مرتبط بسؤال يتعلق بأفلامهما
أكثر مما يتعلق بالشخصيات وسواء تصادف أن كانوا شفافين أم لا، وكما قال لوك
مستشهداً بالفيلسوف إيمانويل ليفينس: "أعتقد أن شخصاً يلتفت ليحذرنا من
القتل، وجه الآخر هو جزء من الآخر الذى هو الأكثر ضعفاً، وهذا أيضاً الجزء الذى
يدعونا للقتل، وأنا أفهم نظرية الفيلسوف ليفينس على هذا النحو.
حقيقة أن القتل محظور وهو شيئ تتعايش شخوصنا معه فى
الفيلم، لكن الأمر مختلف جداً فى واقع الحياه، يقول ليفينس أن الأمر فى مرحلة ما
يُصبح نظرة الآخرين، الشخص الآخر يتطلع لنا وهو الذى يُشجعنا على ألا نموت"
(من مقالة اللقطة العكسية)
وسواء أتخذ هذا شكل الإقرار بوعد بعد موت شخص ما كما فى
فيلم "الوعد" وإنقاذ ريكو فى نهاية الأمر من النهر فى فيلم
"روزيتا" أو الإقرار بتورط إنسان فى زوال إنسان فى فيلم "صمت
لورنا"، فإن الشخصيات وسواء كانوا شفافين أم لا، فإنهم دائماً ينظرون بنوع
معين من القلق.
وفى نهاية المطاف، فإن هذه النظرة من الآخر وسواء كانت
ذاتية بشكل واضح أم ذات غرض موضوعى فإنها من الأمور التى نستطيع رؤيتها فى أفلام
الأخوين داردن.
إنهما يستبعدان إستخدام لقطات رد الفعل، ولا يستخدمان
الموسيقى التصويرية، ويرفضان تأطير اللقطة حتى عندما يبتعدان بالكاميرا فى فيلم
"صمت لورنا"، كل هذه الحرفيات تساعد على غياب الأحكام الفورية على ما
نراه، تبدو أفلامهما كأنها تتطلع لنا، تتحدانا أن نُصدر أحكاماً، كما لو كانت
تسألنا على أى أساس نستمد الحق فى إصدار مثل هذه الأحكام.
الأحكام لا تخص المُشاهد الذى يمكنه أن يحكم وهو على
مسافة بعيدة من الموضوع، ولكن من موقع شديد القُرب من الإثم، إنها تركيبة تمزج
الخصوصية والاونطولوجيا الإجتماعية التى يمكن أن تجعل السينما تتقدم، وكما قالا
وبإصرار "بكلمات أخرى، المُشاهد فى موقف يتوجب عليه أن يقوم بعمل شيئ،
والسؤال هو، هل سيكون قادراً على قلب حقائق الأشياء أو يقاوم أم لا، فى
التراجيديا، نجد كل شيئ يدفع الشخصية الرئيسية إلى إتجاه واحد، والسؤال هو، هل
سيكون قادراً أن يتخذ وجهة أخرى؟ هذه هى
الطريقة التى تعمل بها التراجيديات، فالأحداث تتكشف وتُجبر الشخصية على إلتزام إتجاه
واحد حتى الموت، إلى أن يدرك فى اللحظة الأخيرة ما الذى حدث" (من مقالة
اللقطة العكسية).
وبناءاً عليه ولكى نعود إلى موضوعنا الرئيسى، فإن
الإنسان لا يستطيع إصدار أحكام على روزيتا، ولا على سلوك برونو وإيجور: فنحن بدلاً
من ذلك نكون بمثابة الإطلالة من الآخر على مصير هذه الشخصيات، نحن نقلق على
أقدارهم لأننا نعرف أيضاً – بشكل أو آخر- أن هذا يمكن أن يحدث لنا أيضاً، وأن هروبهم
من هذا القدر ليس تطهيراً للشخصية التى نتابعها فى القصة، بل أن الراحة الأخلاقية تكون
أكثر رحابة عندما نمنع روح الإنسان من الزوال.