30‏/12‏/2010

جان لوك جودار


جان لوك جودار


ترجمة :- ممدوح شلبى

اُعتبرت جميع المراجع السينمائية ان جان لوك جودار – العضو المؤسس للموجة الجديدة الفرنسية – انه المخرج الفرنسى الاكثر تأثيرا فى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بداية بفيلمه الروائى الطليعى ( على آخر نفس ) او ( اللاهث ) فى عام 1959، لقد قام بتثوير شكل الفيلم السينمائى وحرره من القيود التى ظلت من المسلمات فى لغة السينما من خلال اعادة كتابة قواعد السرد والتتابع والصوت والتصوير السينمائى، كما تحدى الاساليب التقليدية فى انتاج السينما الروائية وتوزيعها وعرضها، فى محاولة لتقويد قواعد السينما الهوليودية واستحداث نوع جديد من السينما.

وُلد جودار فى باريس فى الثالث من ديسمبر عام 1930، وكان ترتيبه الثانى فى ترتيب اخوته الاربعة، وبعد انهاءه لتعليمه الاساسى فى مدينة نيون بسويسرا، التحق جودار بجامعة السوربون لدراسة ( اصل الانسان )، لكنه كان يقضى كل وقته فى نادى سينما الحى اللاتينى حيث التقى لاول مرة بفرنسوا تريفو وجاك ريفت، وفى مايو من عام 1950 اتفق الثلاثة على اصدار جريدة السينما، وهى جريدة شهرية صدر اول اعدادها فى نوفمبر من نفس العام وظهر فيها اول مقالين نقديين لجودار وختمهما بالتوقيع باسمه الحقيقى واسم اخر مستعار هو ( هانس لوكاس ).

وفى عام 1950 ايضا مثل جودار فى اول افلام ريفت، وهو فيلم روائى قصير بعنوان ( كادريل ) وهو اول ظهور لجودار كممثل، وفى العام التالى ظهر ايضا فى مقدمة فيلم ( شاروت وصاحبه ستيك ) للمخرج اريك رومر، وفى يناير من عام 1952 بدأ جودار الكتابة فى مجلة ( كراسات السينما ) ذات التأثير الكبير، وعلى ايه حال فاول وظيفة لجودار فى مجلة كراسات السينما لم تدم طويلا، ففى خريف عام 1952 ترك جودار فرنسا وعاد الى سويسرا حيث عمل فى بناء سد ديكسنس الكبير، واستطاع ان يدخر الاموال ليُنتج اول افلامه، وهو فيلم تسجيلى قصير بعنوان ( عملية اسمنت مسلح ).


وعند عودته الى فرنسا فى صيف 1956 استأنف جودار عمله فى مجلة كراسات السينما بعد انقطاع عن الكتابة دام اربعة سنوات، وصعد سريعا ليصبح واحدا من اهم نقاد السينما الفرنسيين وشجعه ذلك على اخراج ثلاثة افلام قصيرة باسلوب اخراج متميز وجديد، وهم ( الاولاد جميعا اسمهم باتريك ) عام 1957، والفيلم الثانى هو ( شارلوت وصديقها) والثالث هو ( قصة الماء ) وكلاهما فى عام 1958.

وفى عام 1959 اخرج جودار اول افلامه الروائية الطويلة ( اللاهث )، وتصادف ان عرض الفيلم فى السينمات جاء متزامنا مع فيلم ( الضربات الربعمائة ) لفرنسوا تريفو، وفيلم ( هيروشيما حبيبى ) للمخرج ألن رينيه، وساعد هذا على انطلاق ما عُرف باسم الموجة الجديدة الفرنسية، وهى حركة سينمائية ثورية تبناها كتاب مجلة كراسات السينما، وحقق فيلم ( اللاهث ) نجاحا عالميا فى وقت قصير باعتباره فيلما يؤرخ لعصره، وبين عشية وضحاها اصبح جودار اهم عبقرى سينمائى فى جيله.
لقطة من فيلم اللاهث


وفى عام 1960 اخرج جودار ثانى افلامه الروائية الطويلة ( الجندى الصغير )، وكان من بطولة زوجته أنا كارينا التى قامت ببطولة العديد من افلامه اللاحقة، لكن هذا الفيلم مُنع من العرض فى فرنسا لمدة ثلاثة سنوات بسبب موقف فريق الفيلم من الازمة الجزائرية آنذاك.

ثم اخرج فيلمه الثالث ( المرأة هى المرأة ) باسلوب السينما سكوب وهو عبارة عن حكاية كوميدية، وفى العام التالى اخرج فيلم ( عاشت حياتها ) وقامت ببطولة الفيلمين زوجته أنا كارينا ما جعل النقاد يتهمونه بانه يستخدم زوجته ليس كممثلة، ولكن لمجرد ان يستفيد من جاذبيتها على الشاشة وانه يخادعها حتى انها لا تعى كلية بأمر الفيلم الذى تعمل فيه، وفى عام 1963 اخفق جودار من الناحية النقدية فى فيلمه عن الحرب المسمى ( الدرك ) لكن فيلم ( الاحتقار ) - وهو دراسة عن السينما نفسها ومن بطولة بريجيت باردو - اعاد اليه اعتباره فى الكتابات النقدية.
أنا كارينا فى فيلم عاشت حياتها


وبعد ذلك دخل جودار فى مرحلة من التفرد والامتياز بداية من فيلم ( مجموعة منفصلة )  وايضا فى فيلم ( السيدة مارى ) و ( بيرو لو فو ) و ( الفافيل ) و ( مغامرة غريبة لليمى كوسيون ) وهذا الفيلم هو محاولته الوحيدة فى افلام الخيال العلمى ، وهذه الافلام عملها جودار فى عام 1965، وفى العام التالى اخرج ثلاثة افلام هى ( مذكر.. مؤنث ) و ( صُنع فى امريكا ) و ( اثنين او ثلاثة اشياء اعرفها عنه ) وفى عام 1967 اخرج جودار فيلم ( الصينية ) و ( بعيدا عن فيتنام ) واخيرا فيلم ( عطلة نهاية الاسبوع الفظيعة ) وهو اكثر افلامه راديكالية منذ فيلمه الاول ( اللاهث ). 

وابتداءا من عام 1968 دخل جودار فيما اصطلح على تسميه ( المرحلة الراديكالية ) فقد اصبح صريحا فى توجهه السياسى الذى ارهص به فى افلامه الاولى، والآن اصبح التوجه السياسي هو المسيطر عليه، وفى عام 1968 الذى شهد اضطرابات سياسية عمت العالم، قدم جودار فيلم (Le Gai Savior ) وهو عبارة عن سلسلة من الحوارات السياسية، ثم تلاه بفيلم ( فيلم مثل الافلام الأخرى ) وهو عبارة عن مجموعة من الصور التى تتداخل مع حوارات عديدة تدور بين العمال والطلبة، ثم فيلم ( واحد + واحد ) وهو صور وثائقية وعرف ايضا باسم ( التعاطف مع الشيطان ).

وفى صيف نفس العام اسس جودار جماعة سينمائية سماها ( جماعة دزيجا فيرتوف ) من اجل عمل افلام سياسية ومن اجل تثوير قواعد الفيلم السينمائى، وهذه المجموعة قدمت افلاما من انتاجها وتأليفها تأسست على مفهوم الصراع الطبقى والمادية الجدلية، وكان جودار يعمل مع الاعضاء الاخرين فى مجموعة دزيجا فيرتوف ملتزما بنظام سينما المؤلف بصرامة، وكان يصور الافلام بمقاس 16 مللى وبميزانيات صغيرة جدا، وتخلى عن القنوات التقليدية لتوزيع وعرض الافلام، فقدم فى عام 1969مجموعة من الافلام هى ( اراك وانت ماوى ) و  ( رياح شرقية ) و (Amore e Rabbia ) وقدم فى عام 1970 فيلم ( فلاديمير وروزا ) والفيلم الغير مكتمل ( حتى النصر ) الذى لم يراه الا الطلبة ودائرة النشطين، وكان فيلم (Tout Va Bien) فى عام 1972 هو آخر مرحلة ( مجموعة دزيجا فيرتوف )، وكان هذا الفيلم محاولة لايصال رسائل الى مشاهدى الافلام التقليدية، وتم توزيع هذا الفيلم فى اطار تجارى وكان تمويله وانتاجه من الامريكيين.

وبعد انتهاءه من فيلم ( رسالة الى جين ) ترك جودار باريس ليستقر فى ( جرينوبل ) ووضع مخططا لانشاء ستوديو لافلام الفيدو ليؤسس انظمة جديدة للانتاج وتوزيع الافلام، وهناك التقى مع آن مارى ميفيل، واقاما معا تعاونا دام مدة طويلة بداية من فيلم ( هنا وفى اماكن اخرى ) فى عام 1974، ثم تلاه بفيلم ( العدد اثنين )، وفى العام التالى قدم فيلم ( كيف حالك؟)، وفى عام 1976 انتقل جودار وآن مارى ميفيل الى مدينة رول السويسرية قليلة السكان وانهمكا فى اعمال الفيديو والتلفزيون.

ومن ضمن مشاريعهم الاولى ( ستة مرتين)  وهو سلسلة من ستة برامج كل منها من جزئين، انجزهم جودار وآن مارى ميفيل بتفويض من التليفزيون السويسرى، كما انجزا ايضا حلقات تليفزيونية اخرى احدهما بعنوان ( جولة فى فرنسا ) والثانية بعنوان ( التفاف طفلان )، وقضيا عامى 1977 , 1978 فى انجاز هذه الاعمال ثم عاد جودار وآن مارى ميفيل الى فرنسا للبدء فى فيلم  (الحياه ) فى عام 1978، وفى عام 1980 سافر جودار الى كاليفورنيا ليعمل مع فرنسيس فورد كوبولا فى السيرة الذاتية لبوجسى باجسى ولكن هذا العمل لم يتم وظل مجرد مشروع.

وبمجرد عودته الى باريس بدأ جودار الثلاثية السامية، وهى تتكون من ( الشبق ) عام 1982 و ( الاسم الاول كارمن ) 1983 , والفيلم المثير للجدل ( السلام عليك يا مارى ) عام 1983 ايضا، وفى هذه الثلاثية استحوذ على جودار ولع لمناقشة التصورات عن الجمال والنساء الفاتنات والطبيعة.
وبعد فيلم ( المحقق ) الذى تم عمله فى عام 1985 باسلوب الابيض والاسود، انتج جودار وآن مارى ميفيل فيلم ( ناعم وصعب ) فى عام 1986 وهو عبارة عن محاورة ناعمة بين صديقين عن موضوع صعب، وكان هذا الفيلم لصالح القناه الرابعة فى التليفزيون الانجليزى.
ثم قدما سلسلة من المشروعات شملت الفيلم التليفزيونى (صعود وانهيار السينما التجارية ) عام 1986 ، وفيلمى (حافظ على حقك ) وتبعه بوقت قصير جدا فيلم ( الملك لير) والفيلمين فى عام 1987، لكن جودار لم يقدم شيئا بعد ذلك الا ( الموجة الجديدة ) فى عام 1990 و( تاريخ السينما ) وهو فيلم فيديو من عشرة اجزاء جاء فى شكل دراسة عن ميراث السينما الفرنسية.

وفى عام 1996 قدم جودار فيلم ( موتسارت الى الابد ) عن محاولات فرقة مسرحية فرنسية ان تٌقيم عرضا مسرحيا فى سراييفو، وفى العام التالى اكمل جودار الجزئين الثالث والرابع من فيلمه ( تاريخ السينما ) وفى نفس العام مثل جودار فى الفيلم الدرامى الكوميدي (اننا جميعا مازلنا هنا ) الذى اخرجته آن مارى ميفيل.

وطوال العقد التالى لم ينضب ابداع جودار، فظل يقدم فيلما او فيلمين فى العام، وكان هذا حاله ايضا فى السبعينات والثمانينات، ومن الافلام التى قدمها ( المكان القديم ) 2000 و ( فى مديح العشق ) 2001 و (موسيقانا ) 2004 و ( جواز سفر مزيف صحيح) 2006، وفى عام 2009 كان جودار وفرنسوا تريفو موضوعا لفيلم تسجيلى متميز عنوانه ( اثنين من الموجة ).

واخيرا جاء فيلمه ( فيلم الاشتراكية ) عام 2011، انه فيلم مذهل يذهب بعيدا جدا عكس السينما التقليدية فلم يسبق لجودار ان وصل الى هذا الحد من قبل فى جميع تاريخه الفنى، كما ان فيلم ( فيلم الاشتراكية ) يُطبق اسلوب جودار الخاص ولكن بطرق جديدة لم يقدمها من قبل ، وعندما عُرض الفيلم عالميا كان مصحوبا بترجمة الى الانجليزية لكنها لم تساعد على فهم الحوار الذى يدور فى الفيلم حتى ان البعض وصفوا الفيلم بانه مفككا تماما.
ترجمة :- ممدوح شلبى
فيلم الاشتراكية لجودار
 

29‏/11‏/2010

سيرجى ايزنشتين

اعداد ممدوح شلبى.


اسمه بالكامل :- سيرجى ميخايلوفيتش ايزنشتين ، ولقد وُلد فى 23 يناير عام 1898 فى مدينة ريجا – لايتفيا ، وقد اصبح واحدا من اشهر صناع السينما فى النصف الاول من القرن العشرين , وينتمى نسبه من ناحية جديه الى اصول يهودية , وكان والده يعمل فى بناء السفن حتى عام 1910 ، وهى السنة التى انتقلت فيها العائلة الى سانت بترسبيرج ، حيث كان لتدربه على فن العمارة والهندسة اثره الكبير فى عمله السينمائى لاحقا .
ولقد تأثر ايزنشتين بمفاهيم عصر النهضة عن المساحة والحيز ، كما  درس اعمال ليوناردو دافنشى وتأثر بكتابة فرويد عن دافنشى ، ولقد حاول ان يسد الفجوة فيما احسه من تشوه للمساحة والحيز الناتج عن التكنولوجيا , عبر سعيه الى تحقيق ذلك فى اخراجه للافلام , لقد حاول ان يفهم كيف ان الاحاسيس فى عصر الآلة يمكن ان تندمج مع اسلوب عصر النهضة العظيم وكيف ان انسانية الماركسى يمكن ان يكون لها جذور فى روح فن القرن السادس عشر فى ايطاليا , ذلك الفن الذى سُمى الكواتروسنتو .    
ولقد تم تجنيده فى الجيش الاحمر ، وتعاون فى تنظيم وبناء النظام الدفاعى ، وفى هذا العمل بدأ مشواره الفنى كسينمائى عبر انتاج افلام ترويحية للجنود ، ثم قرر ان الحياة العسكرية لا تتناسب معه ، وفى عام 1920 دخل مسرح البرولتكولت ( مسرح العمال السوفيتى ) فى موسكو وعمل مهندسا مساعدا للديكور ، وسرعان ما اصبح مخرجا , ولكنه فى جميع اعماله لم ينس ابدا مهامه السياسية وحتى عندما اصبح مخرجا سينمائيا مشهودا له فى النظام الشيوعى .   

المونتاج الذهنى او الدعائى .
كان فيلم ( اضراب) الثورى هو اول افلامه ولقد تم انتاجه فى عام 1924 وتبعه بنشر مقالته الاولى فى نظريات المونتاج فى مجلة ( ليف ) والتى كان يرأس تحريرها الشاعر العظيم ماياكوفسكى .
لقد اسس اسلوب مونتاج جديد ، ذلك المعروف باسم المونتاج الذهنى او الدعائى او التحريضى ، وهو الاسلوب الذى يقول بضرورة الاختيار القصدى للقطات بمعزل عن سياق الحدث ، ضمن خلق كل ما من شأنه احداث التأثير النفسى فى ابلغ صوره .      
وعلى ضوء ذلك ، فان المخرج السينمائى يجب ان يهدف الى تشكيل وعى المشاهدين عبر العناصر التى تقودهم الى الفكرة التى يريد المخرج ان يوصلها لهم , فيجب على المخرج ان يعمل لوضع الجمهور فى الحالة الروحية والموقف النفسى وهذا ما يمنح الحياه لتلك الافكار ، كما ان ايزنشتين كان يرى ان السينما نشاط مركب يجمع بين الفن والعلم .
هذه المبادئ هى التى استرشد بها ايزنشتين طوال مشواره السينمائى ، كما كان لها تأثيرها على مخرجى السينما منذ ذلك الوقت وحتى الآن , نظرا لاختلافها الجذرى عن الاسلوب الامريكى فى السينما والذى يعتمد على المونتاج السردى .
افلام ايزنشتين .
فى فيلم ( اضراب ) والذى يعيد تجسيد عملية القمع التى مارسها جنود مدينة سار على المضربين ، فان ايزنشتين مزج بين لقطات للعمال يتساقطون تحت نيران المدافع وبين لقطات لذبح الخراف فى المذبح ، ونتج عن ذلك تأثيرا مُذهلا رغم تشويه  الحقيقة الموضوعية .
وفى عام 1925 ومن اجل احياء ذكرى ثورة 1905 فان الحزب الشيوعى اشاد بفيلم بوتمكن والمعروف ايضا باسم ( المدرعة بوتمكن ) ، ولقد تم عمل هذا الفيلم فى ميناء اوديسا على البحر الاسود ، ولقد اختير هذا الفيلم فى عام 1957 ضمن تصويت نقاد السينما من جميع انحاء العالم باعتباره احسن فيلم على الاطلاق فى تاريخ السينما
والفيلم التالى لايزنشتين كان فيلم ( اكتوبر )  الذى يدوم ساعتين وهو معروف ايضا باسم آخر هو ( الايام العشرة التى صدمت العالم ) وهو يتعاطى مع التحولات الثورية بين شهرى فبراير واكتوبر من عمر الثورة ، حيث يظهر لينين ويظهر الصراع بين البلاشفة وبين اعداءهم .   
وبعد عدة افلام مثيرة للجدل مثل فيلم ( القديم والجديد ) و ( الخط الرئيسى ) و( المعنوية الشاعرية ) و ( رعد فوق المكسيك ) فان ايزنشتين استطاع عمل الفيلم الملحمى عن العصور الوسطى والذى اسمه ( اليكسندر نيفسكى ) متزامنا مع سياسة ستالين فى تمجيد ابطال روسيا , لقد تم عمل هذا الفيلم فى عام 1938 وهذا الفيلم يُظهر الروح الجماعية ، ويستعين الفيلم بموسيقى بروكوفيف ، ذلك الموسيقار الروسى الشهير حيث يمزج الفيلم بين الصورة وبين الموسيقى فى وحدة ايقاعية مترابطة .
وظل ايزنشتين يسعى لنشر مهنة الاخراج السينمائى ، كما استفاد من اهتمامه المبكر بمسرح الكابوكى اليابانى ودراما ( النوه ) واسلوبهم فى استخدام الاقنعة ، حيث ظهر هذا فى فيلمه ( ايفان الرهيب ) .
واثناء الحرب العالمية الثانية ، فان ايزنشتين بدأ يعمل فى فيلمه الملحمى الذى يدور عن ايفان السادس فى مدينة سار ، وهو عن تللك الشخصية التى كانت محل اعجاب ستالين ، وقبل ان ينتهى ايزنشتين من الجزء الثالث من هذا الفيلم فقد وافته المنية ، بعد ايام قليلة من عيد ميلاده الخمسين ، كان ذلك فى 11 فبراير من عام 1948
ان دوره كسياسى ربما كان قليلا ، لكن انجازه فى نظرية السينما والمونتاج لا يمكن ان يُنسى .

فيلم المدرعة بوتمكين .
يتناول الفيلم حادثة تمرد بحارة المدرعة بونمكن على ضباط المدرعة والتى حدثت فى عام 1905 ، وكما اشرت من قبل فان هذا الفيلم تم تسميته افضل فيلم فى تاريخ السينما العالمية طبقا لاقتراع نقاد العالم فى عام 1957 ، انه ايضا يُعتبر اكثر الافلام الدعائية تأثيرا فى تاريخ السينما فى العالم .
وينقسم هذا الفيلم الصامت الذى يستخدم العناوين ، الى خمسة اقسام وكل قسم يحمل عنوانا ، وهم :-
1-   الرجال والدود . حيث يحتج البحارة على اللحم الفاسد الذى يكشف عنه طبيب المدرعة ويقٌول انه صالح للاكل .
2- دراما على سطح السفينة ، وفيه يتمرد البحارة حيث يتم قتل فاكولينشوك
3- رجل ميت ينادى بالعدالة ، وفيه نرى اهل مدينة اوديسا يشيعون جثمان فاكولينشوف
4- سلالم الوديسا ، انه اشهر مشهد فى تاريخ السينما ويتم الاشارة اليه دائما فى ادبيات المونتاج السينمائى لتوضيح نظرية المونتاج الذهنى او التحريضى , وفيه نرى المذبحة التى تعرض لها اهل مدينة اوديسا وهى من خيال ايزنشتين .
5- لقاء مع الاسطول ، وفيه يتم انهاء مهام المدرعة بدلا من تخفيض مهامها ، فيُهلل البحارة .
كتب ايزنشتين هذا الفيلم ضمن نوعية السينما الدعائية الثورية ، كما انه اختبر فيه نظريته عن المونتاج الذهنى او التحريضى ، وهى النظرية التى اختبرها مخرجو السينما السوفييت فى مدرسة كوليشكوف ، بهدف التأثير على الجمهور من خلال المونتاج .
وقد حاول ايزنشتين ان يُمنتج الفيلم بنفس الطريقة لكى يُحقق اكبر تأثير عاطفى على الجمهور ، وذلك بجعل الجمهور يتعاطف مع بحارة المدرعة بوتمكن الثائريين ، وان يصبوا جام غضبهم على سادتهم ، على  غرار كل الافلام الدعائية ، والتى تهدف الى شحن الجمهور عاطفيا وتوجيههم الى الانحياز للجانب التى يدعو لها الفيلم . 
ان اسلوب ايزنشتين كان ناجحا فى هذا الفيلم ، لكنه شعر بالاحباط نتيجة لعدم اقبال الجمهور على هذا الفيلم ، لكن الفيلم – من جانب آخر – تم توزيعة فى بلدان شتى حيث كان استقبال الجمهور له ايجابيا ، لكن الفيلم صدم الجمهور السوفيتى والبلدان الخارجية ، ليس بسبب مقولته السياسية ، ولكن بسبب مشاهد العنف التى لم يكن الجكهور معتادا عليها فى ذلك الزمان .
ان هذا الفيلم تم الاشادة به من قبل جوزيف جوبيلز وزير الدعاية النازى فى ألمانيا باعتباره فيلما  رائعا لا مثيل له فى السينما ، فاى شخص يُشاهد هذا الفيلم – طبقا لهذا الوزير -  فسوف يُصبح بولشوفيا حتى وان لم تكن له ميول لهذه العقيدة السياسية . 
مشهد سلالم الاوديسا .

ان اكثر مشاهد الفيلم احتفاءا على صعيد النقاد فى العالم كله ، هو مشهد سلالم الوديسا التى شهدت مذبحة مواطنى اوديسا ، وفى هذا المشهد نرى جنود ( سار) يصطفون فى طابور يبدو طويلا  ، بينما مظهرهم النظامى وحركاتهم تبدو كآلة جهنمية ، ويطلقون النار على الجمهور ، بينما جزء من هؤلاء الجنود يُحاكمون الحشود فى اسفل سلالم الاوديسا .

ان الضحايا من بينهم امرأة عجوز ، وطفل رضيع مع امه ، وطالب فى زى المدرسة وتلميذة فى سن الصبى ، كما ان احد الامهات تدفع طفلا فى عربته الصغيرة ، ثم تسقط ميتة على الارض بينما عربة الطفل تتهاوى على سلالم الوديسا بينما الناس يهرعون هربا ،
ان هذه المذبحة لم تحدث ابدا على سلالم الاوديسا ، ولكن الحقيقة ان ميناء الاوديسا على البحر الاسود شهد فعلا تظاهرات شعبية كبيرة من اهل اوديسا اثناء انتظارهم لوصول المدرعة بوتمكن ، وافاد مراسل جريدة التايمز البريطانية ان الجنود اطلقوا النار على الحشود وان اناس - ليس معروفا عددهم – قد قُتلوا . 
فالحقيقة انه لم تكن هناك مذبحة بامر القيصر على سلالم الاوديسا ، تلك التى يُصورها الفيلم ويكتسب بفضلها كل هذا الاهتمام النقدى ، لدرجة ان هذه المذبحة اصبح مقررا انها حدثت فعلا .

30‏/10‏/2010

اجورا - تحليل تفصيلى.

ممدوح شلبى .


يبدأ فيلم اجورا وينتهى بلقطة لكوكب الارض بشكلها الكروى، وفيما بين بداية الفيلم ونهايته، فان صراعا حادا يدور بين المسيحيين والوثنيين فيما يعتبره المؤرخون بداية التاريخ الحديث للبشرية، بينما يركز الفيلم ايضا على صراع من جانب آخر حول الحقائق العلمية فيما يتعلق بالارض فهى مجرد جرم سماوى يدور حول الشمس وهى النظرية التى تتبناها حبيشة السكندرية مُستندة الى نظرية أرستاركيس فى مواجهة رجال الدين المسيحى الذين يتبنون نظرية الخلق من المنظور التوراتى حيث الارض مركز الكون، لكن موقف المسيحية الرسمى لم يتم تقديمه فى الفيلم ، لكننا نستحضره من معارفنا حول العصور الوسطى، وهذا هو مدلول اظهار كوكب الارض بشكلها الكروى فى مواضع عدة من الفيلم.

هذه الخلفية التاريخية للفيلم يتصدرها عمل درامي يمتلأ بالتشويق وعناصر الفرجة، فحبيشة محور علاقتين عاطفتين، حيث يحبها تلميذها اورستس ذلك النبيل الذى سيصبح بعد عشرين عاما محافظا للاسكندرية، وبين عاطفة اخرى من عبدها ديفيس الذى يعتنق المسيحية كخلاص ليس فقط لعبوديته ولكن ايضا طلبا لمعجزة لكى يحظى بمحبوبته، بينما حبيشة نفسها لا تحب ايا منهما ليس تكبرا ولكن لان عقلها مكرس للعلم، فهى عالمة فلك ورياضيات وفيلسوفة .

فى المشهد الاول من الفيلم نرى حبيشة (راشيل وايز) فى قاعة محاضرات تشرح لتلاميذها ان الكون واجسامه كلها تدور وهذا هو السبب فى عدم سقوط النجوم، ثم تفسر لهم ظاهرة سقوط الاجسام الى اسفل لان حركتها ليست دورانية، وتتجادل مع تلاميذها وتسألهم ما الذى يجعل الاشياء تسقط فيرد احدهم قائلا الثقل ويرد الاخر قائلا الوزن، فترفض حبيشة اجاباتهما ثم تبدى رأيها فيما يتعلق بمركز الكون، وتوضح لهم ان الارض لو كانت مركز الكون فان الكون سيكون بلا شكل ومحض فوضى .

وفى المشهد الثانى نرى قداسا فى المعبد القيصرى يبتهل فيه الكاهن اوليمبيس (ريكارد باردن) الى آلهتم عجل آبيس وايزيس وحورس ، وسوف نلاحظ مقدار الشبه بين هذا القداس وبين اى قداس كنائسى معاصر، وكأن المخرج يريد اخبارنا بان طقوس العبادة واحدة، كما نلمح ثيون والد حبيشة والذى يمثل دوره مايكل لونستال ، وسوف نعرف لاحقا انه امين مكتبة الاسكندرية .


ثم نخرج الى الساحة الخارجية لمكتبة الاسكندرية حيث تتابع الكاميرا شابا سبق ان رأيناه فى محاضرة حبيشة ، انه ديفيس احد عبيدها والذى يمثله ماكس مينجالا، نراه  يحمل ادوات حبيشة العلمية  ويدخل المكتبة ، وفى داخل المكتبة نرى صوانات اللفائف ونرى  ديفيس يتلصص على حبيشة فى اشارة واضحة الى شغفه بها ، حيث نرى حبيشة تستمع الى حوار هامس من اورستس ( اوسكار اسحاق )  وعندما تنتبه الي تلصص ديفيس  تأمره فى اقتضاب ان يُخبر زمليه الاخر فى عبوديتها انها سترحل .
فيخرج ديفيس الى الساحة ويستخدم فمه فى اصدار صافرة مقتضبة ينهض على اثرها العبد الآخر ويُسارع بالاتجاه الى المكان المُشار اليه .

ان هذا التقديم السلس لمكان الفيلم مع استعراضه من الداخل والخارج يأتى فى سياق من المتعة البصرية وعدم الارهاق الذهنى او الرتابة ، فنحن نتابع موضوعات يقدمها المخرج  تأسيسا لمكان وزمان الفيلم وعرضا لاهم شخصيات الفيلم .

لقد انتهى يوم عمل حبيشة كما انتهى والدها ايضا من طقوس العبادة فى المعبد القيصرى ، وها هما  فى طريق عودتهما الى البيت وخلفها العبدان  يحملان ادوات حبيشة كمعلمة ، وتتبادل حبيشة مع والدها حديثا عاديا فى اجواء من الود الاسرى ، حيث تخبره عما دار بينها وبين اورستس فى حوارهما الهامس ، فاورستس يحبها ويريد ان يكرس نفسه للموسيقى ، بينما يرد عليها والدها بان اورستس عبيطا مثل والده .
ثم نرى زاوية اخرى لهما حيث يتجهان فى اتجاه المدينة التى يقدمها المخرج بتقنية الجرافيك فى محاولة لاعادة تشكيلها على نفس الصورة طبقا لابحاث ودراسات شارك فيها كبار العلماء حول العالم .

انه من اللافت ان نذكر ان المخرج اختار مدينة ديليمورا الساحلية فى مالطا ليبنى ديكورات الفيلم ، محاولا الاقتراب من نفس طقس ومناخ الاسكندرية ، ومن اللافت ايضا ان الديكورات واعمال الجرافيك يجسدان بموضوعية شكل وتفاصيل المدينة القديمة التى زالت تماما، كما يسترعى انتباهنا كثرة الديكورات والاكسسوارت والملابس ، وجميع هذه التفاصيل تم التأكد من تاريخيتها طبقا لمستشارى الفيلم من الاثريين .

ويستكمل المخرج تعريفنا بمنزل حبيشة من الداخل فى لقطات سريعة حيث نراها تتحدث مع والدها على طاولة مذاكرة ، ونراها ايضا فى حمام منزلها الفاخر تنهض من المغطس ، ونرى عبدها ديفيس يناولها المنشفة ويختلس النظر الى وجهها فى تأكيد على ولهه بسيدته .

ما هى الاجورا ؟

ومع بداية يوم آخر  نرى انفسنا فى السوق ، وينبغى توضيح ان كلمة اجورا اليونانية معناها مكان الاجتماع ، والمؤكد ان اليونانيين لم يقصدوا مكانا مغلقا بل مكانا مفتوحا واسعا اشبه ما يكون بميادين المدن المعاصرة وهذا المكان مُخصص لسماع الخطب السياسية او لتجميع الجيش قبيل الحرب  .

وقد اشتهرت كلمة اجورا فى الآداب العالمية بعد ان سمى فرويد احد رُهاباته باسم اجورا فوبيا ، ولقد ترجم المصريون هذا الرهاب باسم رهاب الشارع  ، وهذه ليست ترجمة دقيقة .
كما اننى اتذكر معنا آخر لكلمة اجورا وهو كلمة السوق  – والعهدة على من علمونى -  فانا لم ادرس الكلاسيك وانما تعلمت المسرح اليونانى على يد اساتذة الكلاسيك  سواء فى قسم المسرح بجامعة الاسكندرية او فى المعهد العالى للسينما ، فقد تتلمذت على يد اساتذة عظام وابرزهم لطفى عبد الوهاب يحيى  وعبد المعطى شعراوى  ويحيى عبدالله .

ولعلى ايضا اذكر ان اهالى الاسكندرية من معمريها المعاصرين  - مثل جدتى لامى - كانوا يُسمون المنشية باسم الميدان وليس باسم المنشية كما نسميها نحن الاجيال الجديدة ، وربما كان اسم الميدان هو الاصح من جميع هذه التأويلات عن معنى كلمة اجورا الاصطلاحى ، واضعين فى الاعتبار ان الاسكندرية لم تمت ابدأ - رغم ان عدد سكانها كان اربعة آلاف نسمة فقط وقت الحملة الفرنسية فى عام 1798 - لكن هذا العدد الصغير وجميع اجيال الاسكندرية وعلى مر تاريخها الذى دام 2300 ظلوا يتناقلون نفس الاصطلاحات ويترجموها الى اللغات التى انتقلوا اليها ، مما يجعلنى اعتقد يقينا ان كلمة اجورا معناها الميدان .

ولقد تصفحت موسوعة ويكيبيدا لاعرف ان كلمة اجورا تعنى المعنيين ، فهى مكان مفتوح واسع ، ثم انطبق الاسم ايضا على السوق طبقا للموسوعة ، وهذا فعلا ما ينطبق على الميادين ، فميدان المنشية من امكنة التسوق كما استخدمه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لالقاء احد خطبه السياسية .

والامر يُشبة كثيرا  ميدان التحرير الذى اتخذه ثوار مصر مكانا لهم ، وثمة قدر من التشابه بين الثورة فى فيلم اجورا وثورة ميدان التحرير ، فالاولى كانت نقطة فارقة فى تاريخ الانسانية ، حيث يُؤرخ بها علماء التاريخ العالمى ببداية تاريخ العالم الحديث على اعقاب اندحار الوثنية ،  وهو ما يتطابق مع ثورة مصر التى سينظر  التاريخ اليها لاحقا على انها نقطة فارقة فى تاريخ الانسانية ايضا يمكن عنونته بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية فاصداء هذه الثورة مازال يتردد فى كل القوميات .

وليس غريبا ايضا ان ثورة مصر الحديثة سبقتها بعام ثورة الشعب اليونانى ولنفس الاسباب فقد كان مقتل احد الشباب على يد رجل شرطة يونانى دافعا لقلاقل سياسية لم تنته الا باخراج الحزب اليمينى من الحكم ليحل محله الحزب الاشتراكى ، لكن ثورة الشعب اليونانى لم تهدأ حتى الآن ولن تهدأ حتى تتحقق جميع مطالبه فى العدالة الاجتماعية .

ان اختيار اسم اجورا عنوانا للفيلم يمثل تلخيصا لصيغة الفيلم فهو فيلما ملحميا عن الحشود ، فالفيلم يتناول صراع الشعب السكندرى كله فى هذه المرحلة الدقيقة والحاسمة ليس فقط فى تاريخ الاسكندرية ولكن فى تاريخ العالم كله .

ان احداث فيلم اجورا تتخذ ايضا بعدا اجتماعيا ، فهذا العهد شهد صراعا مريرا على خلفية قهر اجتماعى يتمثل فى نظام العبودية ، ان هذا الصراع ينتهى بانتصار المسيحية ولكن بثمن فادح ، فالعلم الذى رمزت له مكتبة الاسكندرية قد انهار تماما وارتد العالم الى ضلالات ما قبل عصر التنوير المبكر الذى انجزته الحضارة الهيلينية فى نموذجها الاستثنائى عندما تعانقت مع حضارة المصريين فى الاسكندرية .

المسيحيون يُواجهون الوثنيين .

ان اجورا الاسكندرية نراها مبكرا فى هذا الفيلم حيث نشهد جدالا بين حشد من المسيحيين يقودهم المسيحى  امونيس ( الذى مثله باقتدار واداء مسرحى فخيم ، الممثل الفلسطينى الاصل اشرف برهوم )  وبين حشد من الوثنيين .
ويتباهي قائد كل حشد بعظم شأن دينه  ، بينما نرى محرقة فيما بينهما ، حيث يقول المسيحى امونيس للوثنى انك تُهين نفسك عندما تتعبد الى رجال ونساء وعجل ابيس ويُشير الى تمثال آدمى لهذا المعبود الوثنى ، ونرى امونيس المسيحى يبرهن على قوة عقيدته بالمشى على الجمرات لكى يؤكد ما قاله من ان الهه الواحد سيحميه من النار ويمشى فعلا ويخرج سالما ، ثم يقوم اثنين من المسيحيين بدفع الوثنى قصرا ليسير على هذه الجمرات فيتعرض لنيرانها ، ان المسيحيين يحاولون تأكيد صدق معتقدهم الذى يحميهم فى مقابل ديانة وثنية عقيمة .

ان هذا المشهد يتبعه مشهد آخر فى احد اروقة منزل حبيشة حيث يقف ابوها ثيون فى مواجهه عبيده بعد ان اكتشف الصلييب فى منزله فيرميه على الارض فتركع فتاه من عبيدات المنزل لتحتضن الصليب ، فيبدأ الاب فى عقاب الفتاه ليكتشف ان ديفيس يتقدم اليه ويذكر له انه مسيحى ويطلب من سيده ان يعاقبه ، وتحاول حبيشة ان تستعطف والدها لاثناءه عن العقاب لكنه يجلد ديفيس .

ان تقديم حبيشة كمتسامحة يتوافق مع منقول سيرتها فقد كان تلاميذها من الوثنيين والمسيحيين على حد سواء وهى لا تفرق بين الناس على اساس المعتقد ، كما اننا سنرى لاحقا فى الفيلم انها تعتبر نفسها من المؤمنين بالفلسفة ، وهو تعبير يعنى العلمانية .

وفى قبو العبيد  نرى حبيشة تدخل الى ديفيس والعبد الآخر  وتطلب الانفراد بديفيس لكى تداوى جروحه وتهون عليه الامر ، حيث نلمس مقدار رقتها ، ثم تلمح نموذجا للكون على شكل كريات ، فيستوقفها هذا الامر وتسأل عنه ديفيس وتطلب منه بتواضع العالمة ان يعلمها هذا الشئ  .


ان نفس هذا النموذج نراه فى قاعة محاضرات حبيشة فى صباح اليوم التالى حيث يقف ديفيس امام النموذج ويبدأ فى شرحه ، فالكرة فى المنتصف تمثل الارض مركز الكون طبقا للمعتقد التوراتى ، وهو ما يتنافى مع نظرية الكون طبقا لارستاكوس الاغريقى ، فالارض ليست مركز الكون وانها تدور حول الشمس ، لكن انموذج ديفيس للكون يمثل عقيدته المسيحية ، وهذا يؤدى الى جدال ساخر مع اورستس الوثنى ، تُنهيه حبيشة بطلب الجميع ان يتقبلوا اراء ومعتقدات المخالفين لهم ، وان يكونوا اخوة .

خلاص ديفيس .

وننتقل الى الاجورا مرة اخرى حيث المسيحى امونيس يخطب فى حشد المسيحيين ، بينما ديفيس يرقب ما يدور ، لقد عرفنا سابقا ان ديفيس مسيحى ، وها هو المخرج يستخدم هذه الشخصية التى ابتدعها ليقدم لنا من خلاله المجتمع المسيحى فى مدينة الاسكندرية ، فعلى اثر حواره مع امونيس فيما يتعلق بالمعجزات - وعلينا ان نحيل دوافع ديفيس كلها الى عاطفة حبه المستحيل بسيدته فهو  يريد معجزة -  يذهب به امونيس الى رواق كنيسة ، فنتعرف على الوجه الآخر للمدينة فالفقراء والجوعى كثيرون ، كما نتعرف على الاسقف يلقى خطبته ، بينما امونيس يشرح لديفيس ما بدا جديدا على معارفه .

اورستس يعزف الموسيقى لحبيشة .

لقد سبق تقديم اورستس ، فهو تلميذ حبيشة وهو احد ابناء الطبقة الراقية ووثنى مثل حبيشة وقد اسر لها بحبه فى المكتبة ، ولكننا نراه هنا فى المسرح – تللك البنيه الحجرية المدرجة على شكل حدوتة حصان ، وجدير بالذكر ان بنيه المسرح اليونانى تطورت وتغيرت عبر تطور المسرح الاغريقى نفسه ، لكن الثابت ان المسرح الرومانى الاثرى فى مدينة الاسكندرية ، كان مخصصا لعروض موسيقية وليس لعروض درامية ، وربما تتواصل الدراسات عن هذا الامر الذى مازال يحتاج المزيد من الابحاث .

فى هذا المسرح المحتشد بالجمهور نرى اورستس يتخذ مكانه على المنصة وهو يحمل فى يده مزمارين ، ويوجه كلمة لآلاف الحضور يعترف فيها بانه يحب حبيشة ، وانه كرس نفسه للموسيقى ، ثم يبدأ فى نفخ مزماريه لنسمع نغمات تُشبه موسيقى القرب الشهيرة ، كما نرى رد فعل غريمه ديفيس الذى يقف خلف الباب الخارجى للمسرح يتفرج من بين قضبانه الحديدية ، لقد استمع الى اعتراف الحب ، كما نرى ردا للفعل على حبيشة وابيها فالكاميرا تتركز عليهما ، لكن رد فعلهما سنعرفه لاحقا فى منزلهما .

وينقلنا المخرج الى منزل حبيشة ليلا حيث يجتمع ثيون والدها مع اصحابه فى ابهاء الطبقة الارستقراطية السكندرية ، يناقشون عرض الزواج المُفاجئ ، بينما يقطع المخرج على حبيشة فى غرفتها وحدها يتناهى اليها صوت المتناقشين فى امرها ، وكأنما تلوى على شئ .


وفى صباح اليوم التالى نعرف ما استقر رأيها عليه ، ففى قاعة المحاضرات تُعلن قبولها لهدية اورستس فقد قدم لها المزمارين فى نهاية عزفه الموسيقى الذى كان فى المسرح ، ثم تتقدم منه وتعطيه منديلها ، فيأخذه من قبضتها وعندما يفتحه يجده مصبوغا بالدم ، فتعلق حبيشة بان هذا هو دم دورتها الشهرية ، وانها لا تتسم بالهارمونية التى تحدث عنها والتى تتناسب معه ، ان كلامها المهذب جدا واضح فى معناه فهى ترقض الزواج ، فيفهم اورستس مقصدها فيرمى منديلها على الارض وينصرف غاضبا مما لحق به من اهانة .

ثم يدخل احد العاملين ويعلن لحبيشة ولجميع الحضور ان يخرجوا لامر هام ، وبدلا من ان نذهب لهذا الامر الهام ، فان المخرج يكشف لنا  ديفيس الذى ينحنى على الارض ويلتقط منديل دم حبيشة الذى يُمثل رفضها لاورستس ، انها المعجزة من وجهة نظر ديفيس ، فقد سبق لنا رؤيته بالامس يبتهل الى الله لكى يُساعده  ، فمحنته فى الحب لا رجاء فيها ، وها هو الآن يرى ان دعاءه تحقق فيشكر ربه وهو يتابع انصراف الجميع من خلال جدار قاعة المحاضرات الافريزى.

وعندما نخرج لنستوضح الامر الهام نعرف ان كاهن المعبد القيصرى هو الذى دعى كل الناس للاجتماع ليعرض عليهم الرد على الاهانة التى ألحقها المسيحيون بآلهتهم ، فقد جاءت الاخبار بان المسيحيين يسبون آلهتم ، وهذا الامر يستحق رد فعل ، فتتدخل حبيشة وترفض هذا المنطق ، فلا يقوى الكاهن على الرد ، لكنه يُوجه السؤال الى ثيون ابيها بصفته مدير المكتبة ، فيرد بان اهانة آلهتهم تستدعى ردا ، لقد بدأت الحرب .

كيف نفذ أليخاندرو امينابار مشاهد المعركة .






ان امينابار ليس مخرجا كبيرا فى السن فهو من مواليد عام 1972 ، لاب شيلى وام اسبانية ، وكانت ولادته فى شيلى التى عاش فيها عامه الاول فقط ، قبل ان ينتقل مع والديه الى اسبانيا ليتجنس بجنسيتها ويتعلم فى مدارسها ، ويدخل جامعاتها ، ليدرس تكنولوجيا المعلومات ، والتى ربما يظهر اثرها فى اعمال الجرافيك فى فيلم اجورا ، لكنه لم يكمل تعليمه الجامعى ، وبدأ حياته السينمائية مبكرا باخراج الافلام القصيرة ثم الطويلة ،  لقد انتج واخرج وكتب اول افلامه القصيرة وكان بعنوان ( la cabeza  ) وكان عمره 19 عاما ، وعندما كان عمره 23 عاما  اخرج اول افلامه الروائية  "الأطروحة" Tisis"  "، ثم حظى فيلمه  Open your eyes الذى اخرجه فى عام 1997 على نجاح ساحق فى اسبانيا وتم توزيعه عالميا ، وهذا الفيلم تم اعاده انتاجه فى هوليوود من اخراج كاميرون كرو وحمل اسم Vanilla Sky  ثم قدم أليخاندرو  فيلم The Others  وكان فى عام 2001 ايضا وكان اول افلامه باللغة الانجليزية ، كما ان له فيلما رائعا يمكن مشاهدته على شبكة الانترنت بعنوان  The Sea inside ولكنه ناطق بالاسبانية .

نستطيع من مشاهد الحرب فى اجورا ان نحدد ملامح اسلوبه الاخراجى واقتصاده البليغ ، وبراعته الاسلوبية وذكاءه الحاد ، ووعيه الفنى العميق بفن السينما كوسيط خاص يمتلك أليخاندرو ناصيته  كما امتلكه ستيفن سبيلبيرج ذلك التقنى الاستثنائى الذى اذهل العالم بابداعاته ، تلك التى احب منها فيلم اللون القرمزى ، تحفته الاجتماعية البديعة .

لقد نفذ أليخاندرو مشاهد الحرب فى الاجورا بعدد لا يزيد عن 500 كومبارس ، ومع ذلك فانه استطاع ان يستعيض بها عن عشرات الآلاف ، حيث نرى الاجوارا تزدحم بشعب الاسكندرية كله الوافد من جميع اتجاهاتها وفى كل بقعة من الاجورا .

لقد اسس اليخاندرو مشهد الحرب مبكرا فعندما كنا امام المعبد القيصرى ، كان اليخاندرو يُصور حبيشة يحيط بها حشد كبير من زاوية مرتفعة قليلا ، حيث تمتلأ اللقطة بالناس ، ان زاوية الكاميرا المرتفعة قليلا تحجب ما بعدها ، حيث تهيمن الحشود فى اللقطة ، وبالتالى فانه لا يحتاج لتنفيذ هذا المشهد الا الى مئات الاشخاص ليُعبر بهم عن الآلاف .
ثم تبدأ الاستعدادات حيث يسحب كل منهم سيفا وينطلق خارجا من الكادر ، ثم لقطات لبوابة حرم المعبد القيصرى حيث يخرج الوثنيون تباعا .

لقد تم تأسيس مكان الاجورا فى مشاهد سابقة مثل مشهد المحرقة عندما كان المسيحيى يتباهى على الوثنى ، لذلك فان المخرج لم يكن فى حاجة الى اظهار هذه الاجورا فى لقطة عامة بعيدة من اعلى ، لان امره سينفضح حتما ، ان اليخاندرو ينقلنا اليها الآن حيث نرى اسقف الاسكندرية يقف عند المحرقة يتندر على احد التمائيل الوثنية بينما جموع المسيحيين يرشقون التمثال بالطماطم ، والاسقف يتندر عليه قائلا ، انه لا يسمع ولا يتكلم بينما الضحك يملأ المكان ، ثم نرى لقطات لدخول الوثنيين من اطراف الكادر فتهيج الجموع ، ثم يستخدم المونتاج فى تركيب لقطات اخرى لهذا الهجوم الذى يستهدف الباعة فى السوق وتدمير مظلاتهم .

ان كل لقطة على حدة لا يزيد عدد الاشخاص فيها عن 500 شخص ، ولكن تتابع اللقطات مع الصرخات والمؤثرات وحركات التقاتل بالسيوف وهرولة البعض وصمود او سقوط البعض ، كل هذا يتم سريعا بحيث لا تستطيع العين الا ان تنخدع بان عشرات الآلاف شاركوا فى هذا القتال الذى نرى اثره بامتلاء الارض بالجثث ، ثم  يتواصل عندما تبدأ جموع جديدة من المسيحيين يتوافدون على الاجورا ، حتى يلوذ الوثنيين بحرم المعبد القيصرى ويُغلقون بابه المهيب .

ان اليخاندرو لا تفوته مناسبة الطابع الاجتماعى للصراع ، حيث نرى عبد ثيون الآخر ينقلب عليه وبعد ان يقتل احد الاشخاص يعلن انه مسيحى ويهاجم ثيون سيده حتى يرديه ارضا ، فهذه المرارة الكبيرة التى عاش هذا العبد يتجرعها ، جاء اوان تقيؤها الآن بهذا القدر من الوحشية .

ان هذه المعركة التى شنها الوثنيون تنقلب رأسا على عقب ، فالمسيحيون يتوافدون من جميع الانحاء ، فيضطر الوثنيون الى الهروب والاحتماء بباحة المعبد القيصرى ويُغلقون بابه الخشبى المنيع ، ولا ينسى المخرج ان يعرى الكاهن اوليمبيس عندما يقول له اورستس قبل ان يغلقوا الابواب ، ان المسيحيين مازالوا فى الخارج فيرد عليه الكاهن ، ان الالهة معهم .

وفى باحة المعبد القيصرى  يقرر الكاهن اوليمبيس  وضع تلاميذ حبيشة المسيحين قيد الاعتقال فى الزنازين فترفض حبيشة ويدعمها اورستس ، وتبدأ عملية مداواة جرحاهم بينما المسيحيين فى الخارج قد نصبوا حصارا ، وسوف نلاحظ ان المخرج لا يفوته تقديم ديفيس عبد حبيشة المسيحى الذى لا يُفارفها رغم هذه الاحداث ، ويُقرر الوثنيون عقد هدنة مع المسيحيين .

ان اجواء الحصار تُخيم على الوثنيين ، وفى احدى الليالى نرى حبيشة مُنشغلة بعلم الفلك ، وتطرح الموضوع الذى يُشارك فيه احد الشيوخ متحدثا عن نظرية ارستاكوس بان الشمس مركز الكون ، ثم ينبه الى ضرورة الحفاظ على مكتبة الاسكندرية فهى تضم العلم والحكمة .

وفى نهار يوم تالى يأتى مبعوث الامبراطور فلاميوس اوغسطوس ، ويقرأ قراره ، الذى ينص على تحرير الضحايا الوثنيين المأسورين فى باحة المعبد القيصرى ، ثم اعطاء الحق للمسيحيين بان يدخلوا المعبد والمكتبة ، فيضج المكان بهتاف المسيحيين .

فيسارع الوثنيون بجمع ما يستطيعون من برديات المكتبة والهروب بها على وجه السرعة ، وعندما نرى المسيحيين يدخلون المكتبة فانهم يدمرونها كما يُسقطون تمائيل الوثنيين تعبيرا عن انتصارهم وبادئين فى تحقيق مطالب ثورتهم بازالة اى اثر للوثنية . 

ازمة ديفيس 

ان المخرج يركز على ديفيس ، هذا العبد الذى تتلمذ على يد حبيشة ، فهو مسيحى ويشارك فى تدمير احد التماثيل ، لكنه يعرف اهمية العلم ، انها اسوأ لحظات حياته بلا شك .

ثم تعرف حبيشة ان والدها مات ، ان الذى يخبرها بذلك هو احد عبيدها ، انه الظهور الاول فى الفيلم  للممثل الايرانى هيمايون ارشادى ، الذى قام ببطولة فيلم طعم الكريز لعباس كياروستامى .

ان ديفيس يدخل على حبيشة ويعانقها عنوة لاشباع رغبة لا يستطيع مقاومتها ، لكنها تقاومه ، فتفل رغبة دبفيس وينهار ويركع امامها وهو يقدم لها السيف لكى تقتله ، لكنها ترمى السيف ، وتفك طوق العبودية الملفوف حول عنقه ، وتقول له انه اصبح حرا وتطلب منه الرحيل .
ونراه فى مشهد تال يحمل بؤقجته راحلا فى شارع سكندرى تظهر علامات انتصار المسيحية فيه لينتهى القسم الاول من الفيلم .

القسم الثانى .


يبدأ القسم الثانى بعد عشرين سنة بلقطة لكوكب الارض وتتقدم الكاميرا تتدريجيا فى لقطة بديعة حتى تكشف الاسكندرية ، وتواصل التقدم حتى تتركز على مبنى المعبد القيصرى الذى اصبح مبنى الكاتدرائية ، بينما نستمع من اول اللقطة الى نحيب نسوة .

وفى الكاتدرائية نجد الاسقف ميت تحيط به النسوة ، لقد مضى عشرين عاما ، ونلاحظ ان الاسقف الجديد شاب ، انه سيريل المتشدد - سامى سمير - الذى تتجه الاحداث فى حقبته منحنا دمويا .
ان اثر السنوات العشرين يبدو واضحا على مكتبة الاسكندرية فبعد ان استلمها المسيحيين فانها خربت ، حيث  حل العنكبوت والحمام والماعز محل لفائفها .

ويستهل سيريل عهده بارهاب اليهود ، حيث يتعرض اليهود الى هجوم بالحجارة وحشى من المسيحيين اثناء حضورهم لاحتفال موسيقى فى المسرح الرومانى ، يترتب عليه انعقاد جلسة تحقيق يحضره سيريل وحبر اليهود جون ، حيث يحتكمان الى اورستس الذى صار محافظ الاسكندرية  واعتنق المسيحية ، وفى هذه الجلسة يقول الحبر باستياء فى شكواه ان اليهود لم يكن لديهم القدرة فى الدفاع عن النفس فى هذا الاحتفال لانه صادف يوم سبت ، وهو اليوم الذى لا يعمل اليهود فيه  ، فيلومه سيريل على ذلك فالاولى ان يكونوا فى المعبد وليس فى المسرح ، ان رد سيريل يٌمثل استهزاءا واضحا لليهود ، وان اكثر ما يلفت النظر هم تعليق اورستس الذى يتحدث عن الاخوة بنفس الطريقة التى سمعناها من قبل من حبيشة وكان اورستس تلميذها وقتئذ .


تظهر منارة الاسكندرية لاول مرة فى الفيلم دالة عن الاسكندرية ، ولعلنا نقارن هذه اللقطة بلقطات تمثال الحرية فى الافلام المعاصرة التى تتحدث عن نيويورك ، فالاسكندرية التاريخية كانت تضاهى نيويورك المعاصرة من حيث الاهمية .
هذه اللقطة تتصدر مشهدا بحريا هو الاول الذى تظهر فيه مياه الاسكندرية ، حيث يجمع المشهد بين حبيشة واورستس والعبد اسبيسيس الذى يُمثله هيمايون ارشادى ، حيث يدور الحوار الحميمى بينهما عن سلوك الاسقف سيريل الذى تتوجس حبيشة منه ، ثم ننتقل الى موضوع حبيشة الاثير الذى لا يبرح فكرها ابدا ، انه العلم والبحث عن اجابات لغموض الظاهرة الكونية التى وبرغم معرفتها ببعض الحقائق الا ان الغموض يحيط  بالكثير ، انها تطلب من اسبيسيس ان يصعد بجوال الى اعلى السارى ثم يُلقيه ، وتشرح لاورستس ان هدفها من هذه التجربة ان تُثبت ان الارض تتحرك ولكننا لا ندرك حركتها .

حرفية سيناريو الفيلم .

لا شك اننا امام سيناريو رائع ، فهو من ناحية يلتزم بحقائق السيرة الذاتية لحبيشة ويُؤرخ لها كفيلسوفة وفلكية وعالمة رياضيات ، ويؤكد طوال الفيلم على هذه الامور فدائما نحن نرى حبيشة منشغلة بعلمها ، فالفيلم يحتشد بالمشاهد غير الدرامية التى يصلح اعتبارها مشاهد تسجيلية  حيث نرى حبيشة منشغلة دائما بعلمها تحاول ايجاد اجابات لغموض الظاهرة الكونية ، وهذه من اهم ملامح هذا السيناريو الذى كتبه أليخاندرو امينابار وماثيو جيل ، وهو من الامور التى تستحق التقدير ، لانهما وبرغم ذلك كتبا سيناريو تتوفر فيه عناصر الفرجة والمتعة .

وفى نفس الوقت فان الفيلم يُؤرخ للاسكندرية فى هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ العالم الذى يشهد انتهاء وبدء عصر عالمى جديد ، فيركز على ملامح هذا التحول ويحدد قواه المتصارعة بين المسيحيين والوثنيين من جهة ثم بين المسيحيين واليهود من جهة اخرى ، ثم ذلك التركيز على ديفيس بصفة خاصة ، ذلك الذى اعتبره الشخصية الدرامية الوحيدة فى الفيلم ، عكس حبيشة التى اعتبرها شخصيتها معادلا للبطل التراجيدى بالمفهوم الارسطى فنوع صراعها يتشابه مع انتيجون ، لكن مصيرها شبيه باوديب ، حيث لا نملك الا ان  نتوحد معها فهى نبيلة وعظيمة وتلقى مصيرها مثل ابطال التراجيديات الاغريقية ، ليس لذنب اقترفته ولكن لقدر له الكلمة الاخيرة فى مصيرها .

ان أليخاندرو امينابار وماثيو جيل ، راجعا العديد من الكتب والوثائق عن هذه الحقبة وعن حبيشة ليستطيعا تقديم فيلمهما بكل هذه التفاصيل الدقيقة وبهذا القدر من الحرفية دون الاخلال بضرورات التوثيق وضرورات الدراما .

القضاء على اليهود اولا .

يهرع حشد من المسيحيين لنجدة اناس يستغيثون ، وسوف نلاحظ لقطة بانورامية بديعة تظهر الاسكندرية مُضاءة على ضوء القمر فى عمق الكادر - او لعله ضوء المنارة -  وعندما يصل المسيحيون الى المكان ، فان ابوابه توصد عليهم ليكتشفوا انهم تعرضوا الى كمين من اليهود الذين ارادوا الانتقام منهم على افعالهم مثل حادثة المسرح فيُلقون عليهم الاحجار ايضا .

وعلى اثر ذلك يتخذ سيريل اسلوب التحريض ضدهم ، فتشهد شوارع الاسكندرية عملية تقتيل وتمثيل بجثث اليهود ، وتخريب لمنازلهم .
ان هذا الامر يستفذ حبيشة لانها شهدته بنفسها فى الشارع ، فتلتجأ الى المحافظ اورستس ، ويرد عليها مساعده وهو مسيحي ايضا ، ان اجراءات حماية اليهود فى هذه الظروف سيترتب عليها هياج مسيحى وانه سينقلب على هذه الحكومة ، ان حبيشة تقول ان هذا الاختيار لن يمنع سيريل ان يكرر نفس الامر مرارا وتكرارا الى الوقت الذى لن تجد هذه الحكومة شعبا لتحكمه ، ودعونا نتأمل ايضا بلاغة هذا الحوار ليس فقط فى هذا المشهد ولكن طوال الفيلم .
 ان مرارة حبيشة هائلة ، وهى تعرف ان اليهود اولا ثم سيأتى الدور عليها ثانيا .

ومع مشهد هجرة اليهود تُشيعهم الحجارة الملقاة عليهم من اعلى احد الجسور ، نرى احد تلاميذ حبيشة عائدا الى الاسكندرية ، لقد اصبح الآن اسقفا فى بلد اخر ويرى ما يحدث ، ان موقفه اقل تشددا من سيريل ، لكن هذا العصر كان داميا .

ديفيس الحاضر ابدا .

عندما انتهى القسم الاول من الفيلم برحيل ديفيس ، فاننا توقعنا انتهاء ظهوره فى الفيلم ، ولكن هذا الرحيل كان رمزيا ، فديفيس رحل من براءته الى شئ آخر آخر يختلف تماما عنه ، انه حاضر طوال القسم الثانى من الفيلم ، فهو عضو فى جماعة متشددة يقودها امونيس ، ويُشارك فى جميع اعمال العنف ، وسيفه مُلطخ بدماء الابرياء باسم الدين .

ان الفيلم يقدم ديفيس فى مشهد النهاية ، وهى نهاية مُؤلفة لكنها لا تخالف منقول سيرة حبيشة التى رجمها المسيحيون حتى الموت على اثر ( فتوى ) سيريل بانها ساحرة ، وكلمة ساحرة فى العقيدة المسيحية تعنى اعمال الدجل والكفر وعصيان الله والخروج عن الكنيسة ، وعقوبتها الاعدام .

فالفيلم يستحضر ديفيس فى هذه الاثناء ، حيث يترك مجموعته فى طريقه الى انقاذ حبيشة من الرجم ، انها لحظة الوعى وما يترتب عليها من انقلاب سلوكى ، فيذهب الى قصرها لكنه لا يجدها ، ويعرف انها فى قصر اورستس ، وفى قصر اورستس فان حبيشة تعرف مصيرها وترفض ان تسير فى حماية قوة عسكرية ، وتختار ان تسير بمفردها ، بينما ديفيس الذى يلهث للحاق بها يستوقفه صوت احد زملاءه يخبره انهم وجدوها ، ونراهم يدفعونها الى ان تصل الى المعبد القيصرى - الكاتدرائية - فيمزقون ثيابها .

وهنا يتدخل ديفيس وينفرد بها عندما يقررون ان يُعدموها رجما ويخرجوا ليجمعوا حجارة الرجم ، فيلتصق ديفيس بحبيشة العارية تماما ، انها تحس بمشاعره وتستسلم له دون مقاومة  وترفع يدها وتكمم انفاسها فتمتد يد ديفيس على يدها حتى تلفظ انفاسها الاخيرة ، انه الموت الرحيم ، انها ايضا نهاية تليق ببطلة الفيلم ، وعندما يأتى منفذو الاعدام يجدونها ميتة ، ولكنهم يرجمونها برغم ذلك .

وينتهى الفيلم بلقطة للكرة الارضية كما بدأ الفيلم ، لكن الامر اكثر من مجرد تذكير المشاهدين بالثمن الباهظ الذى دفعته الانسانية نتيجة الممارسة اللانسانية للمسيحيين فى هذه الحقبة ، ان احساس الغصة يملأنا مع هذه النهاية التراجيدية ، ونستدعى فورا جميع الممارسات التى تحدث باسم الدين – اى دين – ضد العلم والانسانية .

ان افلاما اخرى تأتى متوازية مع فيلم اجورا فى نقد المسيحية ، وهذه الافلام لمسيحيين غربيين ، مثل فيلم شفرة دافنشى الذى يُشكك فى سلوك اجيال المسيحيين الاوائل وتعمد اخفاء حقائق ، لقد سبق لى ايضا ان شاهدت فيلما بريطانيا للبى بى سى برايم منذ نحو تسع سنوات ، كان يتناول باسلوب الجرافيك سيرة المسيح نفسه وشخصيته ، مؤكدا على تشكيك صانع الفيلم عن منقول سيرته .
ان هذه الافلام لا تندرج تحت مسمى الافلام الالحادية ، لكنها افلام تُهاجم وبعنف تقاليد المجتمعات الغربية ، وهو ما نحتاجه ايضا فى ثقافتنا ، فثمة رعب على الابواب التى يطرقها السلفيون باحجار رجمهم .



مع اجمل تحياتى .
ممدوح شلبى .

الممثلون
راشيل وايز .. حبيشة
ماكس مينجالا .. ديفيس
اوسكار اسحاق .. اورستس
اشرف برهوم .. امونيس المسيحى ، اسرائيلى الحنسية من اصل فلسطينى . حاصل على ليسانس مسرح وفنون من جامعة حيفا الاسرائيلية
مايكل لونسدال .. ثيون والد حبيشة وامين مكتبة الاسكندرية .
روبرت ايفانز .. سينيسيس
هيمايون ارشادى .. اسبيسيس ، سبق له بطولة فيلم طعم الكريز لعباس كياروستامى .
سامى سمير .. سيريل
ريكارد باردن .. اوليمبيوس
عمر مصطفى .. ايسيدوريس
مانويل كوشى .. ثيوفيليس
اوشرى كوهين .. ميدوروس
تشارلز  ثيك .. ميسكويس
هارى بورج .. ايفراجيوس
يوسف سويد .. ليس له اسم فى الفيلم .
اخراج .. اليخاندرو امينابار ، وهو مخرج تشيلى الاصل وفيلم اجورا هو خامس افلامه
سيناريو .. اليخاندرو امينابار وماتيو جيل
تم تصوير الفيلم فى مدينة ديليمورا بمالطا
انتاج اسبانى
تم عرض الفيلم جماهيريا فى 9 اكتوبر عام 2009

28‏/09‏/2010

ذكرياتى مع منخفض القطارة


لوحة من لوحات جون بول عن منخفض القطارة
بدأ اهتمامى الجدى بمشروع منخفض القطارة فى عام 1993 عندما عملت بالمركز القومى للسينما مخرجا بادارة الافلام التسجيلية , وقتها تقدمت بطلب الى رئيس المركز آنذاك الاستاذ الدكتور مدكور ثابت لتمكينى من كتابة سيناريو عن منخفض القطارة وبهدف ان اقوم انا نفسى باخراجه , فتمت الموافقة , وعلى ضوء ذلك اصدر لى المركز القومى للسينما خطابات بناءا على طلبى الى جهات عدة من بينها ادارة المشروعات المائية بوزارة الكهرباء والطاقة .
وتوجهت اليها حيث استقبلنى رئيس الادارة بترحاب ولكنه نبهنى الا ان طلبى اُرسل الى الوزير مهندس ماهر اباظة وجاءت موافقته على التعاون معى , وقدمنى رئيس الادارة الى خبير جيولوجى بالادارة اسمه الدكتور عبده عبده البسيونى , كان فى سن التقاعد لكن الادارة مددت له العمل للانتفاع بخبرته , ولقد قدم لى هذا الاستاذ كل العون فى امدادى بالمادة العلمية , كما لم يبخل على من وقته للاجابة التفصيلية عن اسئلتى المتعلقة بمنخفض القطارة .

واذكر ان اهم المعلومات التى تحصلت عليها آنذاك هى تقرير باللغة الانجليزية صادر عن قسم الهنسة الهيدروليكية بجامعة اوبسالا السويدية بعنوان   ( منخفض القطارة , التقديرات البيئية ) وكذلك مخطط هندسى تفصيلى للمشروع الذى تقدمت به شركة سويكوالسويدية بخصوص انشاء قناة سطحية من مدخل مدينة العلمين على شاطئ البحر المتوسط تمتد عدة كيلومترات, ثم بعد ذلك انشاء ثلاثة انفاق لتجاوز منطقة مرتفعة طولها نحو تسعة كيلو منرات , ثم بعد ذلك استكمال انشاء قناة سطحية بحيث تنتهى الى منطقة منخفضة  على حافة منخفض القطارة , وبهدف تحويلها الى خزان امام , وبحيث يتم اطلاق المياة التى يتم تجميعها يوميا فى ساعات الذروة فقط الى منخفض القطارة لانتاج حوالى 2400 ميجا وات , لمدة نحو 20 سنة , عندها سيصل منسوب الماء فى المنخفض الى نحو 50 مترا تحت سطح البحر , فيتم عندئذ تقليل معدل الماء الوافد الى منخفض القطارة بحيث يتناسب مع معدل البخر وبحيث يعمل المشروع الى مالانهاية .
راعنى التوصيف الاكاديمى للمشروع باعتباره (هيدروشمسى  ) , واذكر ايضا اننى تعرفت على تاريخ المشروع من خلال وثائق بالادارة , حيث تتوفر الدراسات والوثائق التى تعود الى نحو بداية العشرينات من القرن العشرين , حيث يتوفر ما كتبه جون بول , هذا الرجل الفذ كان موظفا فى الحكومة فى المصرية , وبالتحديد فى وزارة الرى والاشغاال , وانه هو من كتب عن المشروع وامكانية استثماره لانتاج الكهرباء عبر انشاء قناة من البحر الى المنخفض , ولقد حدد عدد من المسارات ووضع لها رسما على الخريطة , كما اصدر هذا الرجل الخريطة الجيولوجية للهضبة الفاصلة بين البحر المتوسط ومنخفض القطارة , حيث يتم تعريف هذه الهضبة علميا باسم تكوين (مرماريكا ) وهو عبارة عن الحجر الجيرى والحجر الرملى والطفلة والرمل , وهذه هى اهم العناصر مع وجود عناصر اخرى صغيرة جدا مثل الجبس والطين والصلصال , وقليل جدا من صخور صلبة ليس من بينها الجرانيت .
اننى اعتبر ان ما قدمه جون بول من دراسة علمية تفصيلية فى هذا الوقت المبكر يفوق كل ما تم تقديمه بعد ذلك وحتى الآن , وان من كتبه هو المرجعية التى يعود اليها كل من حاول ان يقدم شيئا عن مشروع منخفض القطارة , لعلى اتذكر ايضا ان مشروع سويكو الذى اشرت اليه قد تم تقديمه فى عام 1983 وكان موقف الحكومة المصرية هو تأجيل العمل بالمشروع ( او ربما اهماله تماما ) فقد كان مشروع سويكو والمعروف باسم الحفر التقليدى كان آخر خيار اما مصر بعد ان استنفذت الخيار الآخر وهو حفر القناة بين المنخفض والبحر المتوسط بالطاقة النووية المحدودة بالتعاون مع الحكومة الالمانية , فقد تم الاتفاق على استبعاد هذا الخيار لتأثيره الضار على البيئة .
واذكر ايضا ان ادارة المشروعات المائية بوزارة الكهرباء والطاقة , ومن خلال الاستاذ الدكتور عبده عبده البسيونى قد امدونى بمشروعات اخرى , مثل مشروع لمهندس مصرى هو المهندس الدكتور حسن رجب ( مؤسس حزب الخضر وُمنشأ القرية الفرعونية ) فى هذا المشروع يتم اقتراح انشاء قناة سطحية من البحر المتوسط الى منخفض القطارة , وبحيث يتم انشاءها مثل المدرج حيث ترتفع القناه عدة امتار كل عدة كيلو مترات , وانه اقترح استخدام طاقة الرياح لرفع المياه فى هذه القناة من مستوى الى آخر الى ان تصل الى حافة المنخفض عند حوض جاف ليتم تخزين ايراد اليوم كله من المياه وبحيث يتم اطلاقه ليلا فى ساعات الذروة لانتاج الكهرباء , ورغم ان هذا المشروع يبدو طموحا الا انه لم يتحدث عن طاقة الرياح التى يمكن توليدها من هذه المنطقة , واعتقد لو ان هذا المهندس العظيم تذكر هذا الامر لصرف النظر عن مشروعه فالطاقة التى يمكن توليدها من الرياح فى هذه المنطقة والتى تشمل الساحل الشمالى كله البالغ نحو 700 كيلو مترا , هى اقل من 2000 ميجا وات , ولو اختارت مصر ان تفاضل بين توليد الكهرباء بين هذه المنطقة وبين جبال البحر الاحمر , لاختارت جبال البحر الاحمر لسرعة الرياح فيها , عوضا عن مشكلة ان توليد الكهرباء من الرياح مكاف جدا , وانه مجرد بديل استراتيجى , وان مصر فى حال استخدامها لهذه الطاقة فهى سوف تستخدمها مباشرة لتوليد الكهرباء , لانه لا داعى لاستخدامها فى رفع الماء فى هذه القناه السطحية المقترحة متدرجة الارتفاع , لان فاقدا من الطاقة سيتم حدوثه فى كل نقطة يتم فيها رفع الماء الى النقطة الاعلى , ونظرا لطول الهضبة البالغ نحو 80 مترا , فان فاقدا قد يصل الى نحو 50 مترا , وهو نفسه فارق المنسوب بين البحر المتوسط ومنخفض القطارة , بما يعنى ان انشاء هذه القناة لن يحقق اى اضافة وان كافة المصروفات ستضيع ادراج الرياح , كما ان الطاقة المولدة ستكون ضئيلة جدا , نظرا لضآلة طاقة الرياح كما اوضحت سابقا .
اذكر اننى لم اتمكن من اخراج هذا الفيلم التسجيلى , فقد القى المركز القومى للسينما المسؤولية على السفريات على عاتق ادارة المشروعات المائية بوزارة الكهرباء والطاقة , التى رفضت من ناحيتها تقديم هذه المساعدة لعدم توفر سيارات اضافية تملكها لكى تمنحها لفريق العمل الفيلم , ان هذا السيناريو على اية حال كان جهد نحو ستة اشهر وانا لست نادما اننى لم اخرج هذا الفيلم حتى الآن , بل على العكس فان مرور نحو تسعة عشر عاما منذ ذلك التاريخ وحتى الآن , اضاف الى معارفى الكثير , كما اننى انا نفسى وجدت نفسى منشغلا لنحو عشر سنوات فى التفكير فى هذا المشروع , وقد تمخض فكرى عن مشروعين , الاول بمثابة اختراع بعنوان مصاعد قطارة الهيدروليكية , يعتمد على فكرة انشاء قناة سطحية بين البحر المتوسط وبين منخفض القطارة اعتمادا على الجاذبية الارضية , والمشروع الثانى بعنوان انبوب منخفض القطارة وهو يهدف الى استخدام قاعدة الاوانى المستطرقة لتوصيل ماء البحر المتوسط الى منخفض القطارة وتوليد الكهرباء بطريقة اكثر اقتصادية من طاقة الرياح .
انبوب منخفض القطارة


29‏/06‏/2010

بوذا

تمثال لبوذا
ممدوح شلبى 


يتناسب الايقاع التأملى المتأنى مع  طبيعة هذا الفيلم التسجيلى الهام الذى يتناول رابع اكبر ديانة فى العالم ، انها الديانة البوذية التى ظهرت الى الوجود منذ نحو 2500 عاما ، عندما كرس امير شاب نفسه لحياه التقشف والمعاناه من اجل معرفة الله .
انه بوذا الذى حلمت امه الاميرة ان فيلا يقدم اليها ورقة شجر ، ثم يدخل فى احشاءها ، وعندما ذهبت الى احد العرافين اخبرها تأويل هذا الحلم ، ان ابنها اما ان يصير حاكما عظيما او رجل دين ، وقد كان ، فابنها اصبح رجل دين ليس فقط لعصره ولكن لكل العصور .
ان بنية هذا الفيلم التسجيلى الرائع شديدة البساطة ، انها تقدم بوذا والبوذية فى سياق تقليدى يعتمد على عرض الحقائق التاريخية  تصاعديا بتعريفنا ببوذا والبوذية  ، مُستخدما الرسوم المتحركة التوضيحية والحوارات الى يظهر فيها ضيوف الفيلم ، فيلقون الضوء على موضوع الفيلم ، كما يعتمد الفيلم على صوت المعلق من خارج الكادر .
تماما مثلما تعودنا فى الافلام التسجيلية المصرية لجيل الرواد فى الستينات والتى ترسخت وصارت تقليدا يحاكيه التابعين حتى اليوم ، فافلام جابرييل ميخائيل التسجيلية – على سبيل المثال - تميل عادة الى توظيف صوت المعلق من خارج الكادر لتقديم حقائق الموضوع الذى يتناوله الفيلم .
ولكننى وبصفه عامة لا اميل الى هذه الصيغة الفلمية الا اذا كانت مصاحبة لتنويعات اخرى مثل الخطاب المباشر لراوى الفيلم  وتقديم ضيوف الفيلم فى سياق حوارى ، كما تعودنا فى الافلام البريطانية المعاصرة والتى تُنتجها البى بى سى وجميع محطات وشركات التليفزيون التى تتعاطى مع الفيلم التسجيلى فى بريطانيا .
ان الافلام البريطانية يبدو كما لو انها تقدم باحترافية جميع فنون المشاهدة من سرد موضوعى الى وثائقى الى لمسات من الفيلم الروائى من خلال المعلق الذى يستضيفنا فى الفيلم فنرى الموضوع من وجهة نظره ، ونتوقف احيانا عند هذا المضيف ، والذى قد يستخدم ايضا العنصر الحوارى مع ضيوف الفيلم بديلا عن تقديمهم فى سياق الفيلم بحضورهم لالقاء الضوء على تفاصيل موضوع الفيلم . 
ان هذا يتشابه مع مفهوم المسرح الشامل على سبيل المثال ، حيث تتشابك الاغنية والموسيقى والاستعراض والدراما وفخامة الديكور والازياء فى محاولة لمحاصرة المشاهد ومن جميع الاتجاهات ، حيث لا يستطيع المشاهد الفكاك من هذه المؤامرة التى حيكت لامتاعه حتى الثمالة .
وهذا الصيغة تحققت فى افلام بريطانيا التسجيلية حيث يمكن تسميتها مجازا بافلام المشاهدة الشاملة وانا اعشق هذا الاسلوب  .
لكن هذا ليس مُصادرة منى لجهود السينمائيين التقليديين ، ففيلم بوذا مثالا تطبيقيا على هذا الشكل التقليدى فى ابهى صوره ، فالفيلم يبدو وكأنه قد ابتدع هذه البنية التقليدية ولأول مرة ، فطزاجة التناول والجدية والطبيعة العقائدية لموضوع الفيلم ربما تُحتم استخدام هذا الشكل السردى التقليدى ، كما ننتبه ايضا الى صوت المعلق الذى يبدو خاشعا تماما وهو يُصاحبنا فى هذا الموضوع الدينى ولا يغيب عنا ولو لحظة ان هذا المعلق - ريتشارد جير -  يدين بهذه العقيدة وتربطه علاقه شخصية مع بطريق هذه الديانة  الدالى لاما الذى يستضيفه الفيلم فى مداخلات يُلقى فيها الضوء على هذه العقيدة التى تفرض نفسها على واقع وتاريخ وفلسفة هذه الديانة الهامة بوصفها رابع اكبر ديانة فى العالم .
تمثال آخر لبوذا
ان ضيوف الفيلم يتم تقديمهم غالبا فى لقطات متوسطة داخلية ثابتة ، جالسين على مقاعد داخل غرفات مكتباتهم , انهم يحضرون دائما فى قطعات من سياق السرد الموضوعى للفيلم ، حيث يستخدم مخرج الفيلم اللقطات الخارجية لمشاهد من المواقع الاصلية ، مثل اماكن العبادة واحتفاليات الحجيج وطقوس الصلوات ، كما يستخدم التمائيل والرسومات الحائطية التى انجزها اتباع هذه الديانة عبر تاريخهم ، ويستكمل المخرج تغطيته بعنصر الرسوم المتحركة .
ويزخر الفيلم باللوحات التشكيلية الرائعة التى انتجها كهنة هذه الديانة عبر عصورها ، حيث نلحظ الزخارف الشرقية والمنمنمات والالوان الصاخبة ، ان اللوحات ايضا وصفية فهى بمثابة قصص مصورة تقدم تعاليم البوذية لمؤمنيها ، كما انها ارشيف زاخر بالمعلومات .
ونفس الحال مع اعمال النحت التى تمتد على طول تاريخ هذه الديانة ، حيث يبرع الفنان فى تجسيد قناعاته الدينية بالبوذية ومؤسسها واضعا فى اعتباره ان مشاهدى هذه التمائيل هم مؤمنون يحضرون مناسكهم ، فتظل تلك التمائيل عالقة فى اذهانهم بمهابتها وتجسيدها لهذه الديانة .
ان الفيلم ايضا ينجح كثيرا فى تقديم طقوس وعادات البوذيين فى مشاهد تم تصويرها فى اماكنها الطبيعة ، وعادة فان المخرج يستخدم الكاميرا المحمولة مع الحفاظ على ثباتها فى يد المصور .
ان شبكة الانترنت تضم العديد من الافلام الوثاقية عن البوذية ، كما تضم الشبكة ايضا جميع الاديان بما فى ذلك الاسلام ، فمنتجو الوثائقيات العظام مثل البى بى سى والتليفزيون الاامانى والسى ان ان ، وكبرى الشركات ، جميعهم يتسابقون من اجل تقديم افلاما وثائقية عن الاديان ، فهى من المواضيع الاثيرة عند المشاهدين ، حيث يصل تعداد بعض الاديان الى مئات الملايين ، وهذا سوق كبير للفيلم التسجيلى يتحقق منه ربح مادى كبير او شهرة للشركة المنتجة .
ولعلنا ننظر الآن الى افلام الاثارة الدينية المغرضة وغير المسؤولة والتى تمتلأ بها شبكة الانترنت ، حيث نرى تطاولا وتحريضا من اتباع دين الى اتباع دين آخر ، اننى اشير بالطبع الى هذه الفيديوهات المؤسفة التى حملها مصريون ، وينتشر مشاهدى هذه الافلام التى لم تراع - او ربما - تقصد افساد التعايش بين اتباع الاديان ، فهذه الافلام تشعل الفتنة وتؤجج نيرانها ، وينبغى مقاومة هذا الامر بحسم .
ان التيفزيونات العربية الرسمية مسؤولة مسؤولية مباشرة فى التصدى لهذه الحملة الاستفزازية التى تستهدف هدم القيم ، وينبغى ان تكثف هذه التليفزيونات من الافلام الدينية التصحيحية وعلى وجه السرعة والا فاننا على مشارف كارثة .
لقد قدم التليفزيون المصرى على سبيل المثال انواعا من الفيلم الدينى السطحى ، التى لا هم لها سوى تصوير الجوامع  والآثار الاسلامية او المسيحية ، وهذا جهد لا طائل منه ، فهذه الابنية قائمة ومنتشرة ولا نحتاج الي تصويرها فى افلام يغلب عليها البطء والرتابة وينصرف الجمهور عن مشاهدتها . 
اننا نحتاج الى افلام وثائقية حقيقية ، تناقش القضايا الدينية الشائكة مثل العلاقة بين الاسلام والمسيحية لتصحيح المفاهيم الشعبوبة الخاطئة التى تتأسس عليها ضلالات عقائدية لا سند دينى لها ولكنها للأسف الشديد تنخر فى جسد الأمة وتهدده فى العمق . 
ان فيلم بوذا يعتبر مثالا للفيلم الدينى المثالى ، فلا نرى اى استفزاز لاتباع الديانات الاخرى ، بل ان هؤلاء المخالفون فى العقيدة يحرصون على مشاهدة مثل هذا النوع من الافلام ، حيث يجدون فرصتهم فى معرفة دين آخر فيفهمون طبيعته ويحترمون خيارات معتنقى هذه العقيدة . 
فيلم بوذا من اخراج ديفيد جرابن وتعليق ريتشارد جير وبلير براون .
ويمكن مشاهدة الفيلم على الرابط التالى .
http://www.youtube.com/user/Mamdoughshalaby?feature=mhee#p/c/4D208A0C81D11549/1/dLMZNmxFUZU
مع اجمل تحياتى .
ممدوح شلبى .