20‏/10‏/2013

النظرية الواقعية والسينما

لارس فون ترير

محاضرة:- تونى مكيبن

ترجمة:- ممدوح شلبى

عندما سُئل مخرج الواقعية الايطالية الجديدة روبرتو روسللينى عن الواقعية، فقال فى احد المرات ( انا مخرج ولست منظرا فنيا، ولا اعتقد ان بمقدورى ان اعطى توصيفا دقيقا للواقعية)، وربما لا يستطيع اى احد آخر، لكن روسللينى اضاف فى حوار منشور فى كتاب ( الواقعية والسينما) ان الواقعية ( استجابة للحاجة الحقيقية لرؤية الناس على طبيعتهم بنوع من الشفافية وبدون الحاجة الى اصطناع استثناءات: وهذا يعنى التسليم بان الاستثناء ياتى خلال استقصاء الواقع).

ويوافق على ذلك اندريه بازن، ذلك الناقد الذى جعل الواقعية معروفة للجميع، ففى مقال تنظيرى بعنوان ( الثورة فى لغة الفيلم ) يرى بازن بان الواقعية من الناحية الرسمية بلغت سن الرشد، ( عمق الميدان - ليس مجرد مكسب فى حرفة المصور السينمائى كما هو الحال مع المرشحات او اسلوب الاضاءة)، فالوضوح فى عمق الميدان – طبقا لرأى بازن- يسمح للمخرج ان يحافظ على خلفية ومقدمة اللقطة فى حالة من الوضوح المتساوى فالوضوح فى عمق الصورة مكسبا محوريا فى تاريخ لغة الفيلم).

وثمة رؤى نقدية مرجعية ظهرت فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية كانت تدعو الى الواقعية، فقد قال سيجفريد كروكر انه اذا نحن وافقنا على ان فيلم – نانوك الشمالى- وفيلم المدرعة بوتمكن وفيلم بيزة، هى اعمال فنية، فيجب علينا ان نُسلم ايضا بان هذه الافلام غارقة بعمق فى حياة الكاميرا).... ( فهذه افلام يمكن تعريفها بانها أفلام فنية)، هكذا قال سيجفريد كروكر فى كتاب ( نظرية الفيلم ).

( من الضرورى ان نضع فى الاعتبار انه حتى المخرج الاكثر ابداعا ليست لديه القدرة على الانفصال عن الطبيعة المُجردة بمثل ما يفعل الرسام او الشاعر: فابداعه يتجلى من خلال اظهار هذه الطبيعة نفسها ثم تجاوزها) فالابداع لا يلتقط العالم ببلادة: ولكن الابداع يأتى من خلال الملاحظة الدقيقة، ويُصر اندريه بازن بان ( الواقعية فى الفن يمكن تحقيقها بطريقة واحدة فقط وهى الاجتهاد الفنى ) فالقضية هى ان الفن يكشف العالم ولا يخفيه.

هذا هوالاجتهاد الفنى الذى لا علاقة له بالافلام الهوليودية البراقة، ولا علاقة له بالالتزام الايديولوجى لصناع الافلام السوفييت فى العشرينات، ولا يهم ان بازن استحضر ويليام واير وارسون ويلز كما استحضر كروكر ايزنشتين، فهما يريدان ان يستخرجا من الافلام ما يحتاجان اليه لتعزيز انحيازهما للواقعية: فبالنسبة بازن فهو يرى ان واير وويلز مهتمان بعمق الميدان فى افلام مثل – اجمل ايام حياتنا- و المواطن كين، وبالنسبة لكروكر فان الواقعية موجودة فى فيلم – المدرعة بوتمكن.

وثمة مُدافع آخر عن الواقعية فى سنوات ما بعد الحرب، انه سيزار زافاتينى، وهو اهم كاتب سيناريو فى حركة الواقعية الجديدة الايطالية، لقد رأى فى الواقعية اظهارا لانعدام العدالة الاجتماعية ( اذا كان هذا الحب للواقع ) هكذا كتب فى مقال عنوانه – بعض الافكار حول السينما – ( فهذا من اجل ملاحظة الطبيعة البشرية مباشرة، ولابد ان تطوع الواقعية نفسها لضرورات السينما على النحو الذى تبدو عليه من تنظيم الآن، ويجب ان تتنازل وان تعانى وان تنتظر، وهذا يعنى ان النظام الرأسمالى للسينما مازال له تأثير متعاظم يتجاوز الوظيفة الفعلية للسينما ).

هذا التثوير ليس فقط فى الشكل والمضمون ولكن ايضا فى المجتمع: وعلينا ان نستدعى فى اذهاننا الانحياز الجمالى الراديكالى للمجتمع الذى انتهجه زافاتينى فى كتابته لسيناريو فيلم – سارقو الدراجات-

ان المثير للاهتمام فى الواقعية وبعض الاراء التى تدعو لها، هو كيف انها تحقق اهدافا متعددة: فبالنسبة للكاثوليكى بازن فانها تشبه اللاهوت، وبالنسبة لروسللينى فالواقعية شكل جمالى يبلور الواقع، وبالنسبة لزافاتينى: فالواقعية تكشف عن الظلم الاجتماعى فى العالم.

ان النظرية الواقعية مثلها مثل النظرية الشكلية تُعتبر فضاءا رحبا يتسع لكل الرؤى الانسانية. وكما قال روسللينى ( اجد كل ما هو مُذهل وغير طبيعى ومؤثر فى الناس... ) وهذا بدون شك ليس الفن من اجل الفن – تلك الاشكالية التى طالما شغلت عقل الشكليين، وعلى ايه حال ففى اللحظات الاولى من فيلم - العام صفر فى ألمانيا - يوفر روسللينى نوعا من الحقيقة ( وهو ما يسميه بازن الصورة - الحقيقة ) وهى حقيقة مُتضمنة داخل اهتمامات اوسع من الواقع المادى الذى يصوره روسللينى بدقة.

ألم تنادى النظرية الشكلية بمثل هذه النظرة التى تتجاوز الواقع؟ هذه النظرة موجودة فى الموسيقى الافتتاحية للفيلم، وفى لقطات استعراضية تمسح المدينة وتتماشى مع اللحن الاساسى للفيلم. ولكن ماذا تخدم هذه الافتتاحية المتكلفة: وهل يمكن ان نتخلى عن النظرة الشكلية من اجل الواقعية التى تُدقق فى التفاصيل؟ فروسللينى فى الفيلم يتابع صبى ألمانى يقوم بنبش القبور ويسرق بعض الفحم ويشق طريقه الى منزله عبر الشوارع الممتلئة بالانقاض، التفاصيل هنا مهمة بالنسبة لروسللينى الذى يريد ان يستكشف رعونة الصبى فى مقابل الواقع الفظيع: كيف مزج روسللينى الامرين ليخلق فعلا فظيعا، فهذا الصبى يتأثر بافكار مدرس نازى لا يؤمن بالضعف، فينتهى الامر بالصبى الى قتل والده، ولكن هل ضميره يتركه بعد هذا الفعل المروع؟ وهل وجد روسللينى ( ما هو مذهل وغير طبيعى ومؤثر .... ) فى فعل الصبى؟

وفى مقال عن الفيلم منشور فى مجلة (Esprit) يؤمن بازن بان روسللينى اخرج فيلمه بهذه الطريقة لكى يتجنب تقديم ما تحرص معظم الافلام على تقديمه ( انه من السهل ومن الطبيعى ان نلج عبر السيناريو والتمثيل الى التجاويف العميقة لضمير الصبى )، وبدلا من ذلك فان الفيلم يلتقط ببراعة مشاعر الصبى من خلال مشاهد من البيئة، ( جماليات روسللينى انتصرت فى الخمسة عشر دقيقة الاخيرة من الفيلم اثناء طلب الصبى لعلامة تدل على التأكيد والموافقة...) وكما يُضيف بازن ( يسير الصبى ويسير باحثا هنا وهناك وسط الحطام، لكن الناس واحدا وراء الآخر يتخلون عنه ).

النقطة التى ناقشها بازن هى ان العديد من المخرجين سوف يُصرون على الاقتضاب فى تعبيرهم عن ازمة ضمير الصبى- اما الواقعية فانها تسمح بالتطويل: فالبطء يسمح لعملية الادراك الذاتى ان يتحقق، وهذه هى الطريقة التى انجز بها روسللينى (ما هو مذهل وغير طبيعى ومؤثر ....) بصرف النظر عن افتتاحية الفيلم التى بدت مُتكلفة جدا.

 اثرت الواقعية الجديدة على السينما العالمية فى الخمسينات، ففيلم ( المنسية ) لبانويل عرض اطفال الشوارع فى المكسيك، وثلاثية (آبو) لستياجيت راى تابعت الحياه الشبابية لبطلها الفقير، كما ركز فيلم ( باب الحديد ) ليوسف شاهين على هذا المحيط الذى يُعنون به فيلمه، فهذه الافلام مالت الى الواقعية: وكان من الممكن اخراج هذه الافلام بدون فريق سينمائى مُكلف وبدون ديكورات منمقة: فالشارع اكثر اقناعا من الناحية الفنية، وكانت عناصرالنظرية جيدة فى تقديم الواقع الذى تكرست له.

كان العديد من النقاد وعلى مدى سنوات يُشيرون الى اراء بازن بوصفها ضحالة فيما يتعلق بلغة الفيلم، لكن الافكار التى اسسها بازن مع آخرين كان لها تأثير هائل، وهذا الامر يبدو صحيحا ايضا بالنسبة للاتجاهات المعاصرة فى الواقعية: فحركة الدوجما تبدو متأثرة جدا بالنظرية الواقعية، وهى الحركة التى اسسها كل من لارس فون ترير وتوماس فينتربرج فى منتصف التسعينات فيما اسماه ( بيان الدوجما 1995 ) ثم انضم اليهما اثنان من مخرجى السينما النرويجية، هما سورين كراجاكوبسون و كريستيان ليفرينج.

 هل كانت الدوجما حركة سينمائية هامة ام كانت مجرد مزحة؟ يقول فينتربرج ( كتابة قواعد الدوجما استغرق خمس وعشرين دقيقة، وكانت هذه القواعد مجرد نكتة كبيرة) لكننا ايضا لا ينبغى ان نقلل من خطورة حركة الدوجما وما وراءها، فكل من لارس فون ترير وفينتربرج وضعا عشرة قواعد من اجل العودة الى السينما الواقعية حتى تتحدى السينما الهوليودية التافهة.

 واليكم بعض من هذه القواعد ( التصوير لابد ان يكون فى الاماكن الطبيعية ) ( الصوت لابد الا ينفصل عن الصورة ) ( الكاميرا لابد ان تكون محمولة ) ( الفيلم لابد ان يكون بالالوان ) ( المخرج لابد الا يكون نقابيا ) والفيلم ايضا يجب ان يكون بمقاس 35 مللى، لكنه غالبا كان يُصور بنظام الفيديو ثم يُحول الى نظام السلولويد، وكثير من هذه القواعد تم اهمالها فى الافلام الاولى التى وُزعت من خلال حركة الدوجما فى نهاية التسعينات مثل افلام – البلهاء - الوليمة - ميفان – وبرغم ذلك لم يتوقف التأثيرالهائل لهذه الحركة.

كل المخرجين كانوا يفكرون فى العودة الى البساطة حتى ان ستيفن سبيلبرج فكر فى اخراج فيلم دوجما، وكانت مجرد مصادفة ان مخرجين عديدين كانوا يبحثون عن البساطة وعن جماليات اكثر الحاحا، ففى فرنسا ظهر فيلم ( الحياة المخملية للملائكة ) فى عام 1998، وهو نفس العام الذى وُزع فيه فيلمى – البلهاء والوليمة- لحركة الدوجما، وفى العام التالى عُرض فيلم روزيتا فى مهرجان كان، من اخراج الاخوين داردن وهو يحكى عن شابة تبحث عن عمل وتم تصويره بكاميرا محمولة وحصل على السعفة الذهبية، وفى نفس العام حقق فيلم ( مشروع ساحرة بلير) نجاحا كبيرا، وهو فيلم رعب منخفض التكاليف تم تصويره بكاميرتين فيديو، وكان جمهور السينما من مختلف الاتجاهات يريد، على ما يبدو، ان يُضحى بالسينما باهظة التكاليف لصالح الاتجاه الى السينما منخفضة التكاليف، كذلك ظهر مخرجون يرحبون باخراج الافلام بنظام الفيديو بديلا عن نظام السيلولويد، وكان هذا حقيقيا ليس فقط بالنسبة للارس فون ترير ولكن ايضا بالنسبة لعديد من المخرجين الذين اعتادوا لسنوات على عمل الفيلم السينمائى.

آنيس فاردا

اخرجت آنيس فاردا فيلم ( جامعوا المحاصيل وانا ) وهو فيلم تسجيلى استخدمت فيه فاردا تكنولوجيا الفيديو فى حواراتها مع الناس: وكانت لقاءاتها حميمية وبدون تكلف، وكذلك فيلم ( الفن والشعر وفيزياء الجسيمات ) للمخرج العظيم كن مكمولن، الذى يستكشف فيه موضوعات الفيلم بدون الحاجة – كما يقول المخرج – الى القلق على التمويل والقانونية والعناصر الفنية التى تهتم بها معظم الافلام السينمائية - وقد استعان بالكاتب والناقد جون برجر للتحدث مع عالمين من علماء فيزياء الجسيمات، وكان يعرف ان الامر لن يكون مناسبا بالطرق الاخرى ( كان الامر سيكون مستحيلا اذا صورنا جون بيرجر فى بيئة مفتعلة او سابقة النجهيز، فهو كان مُستعدا للحضور بدون استعداد وبدون افكار مسبقة ).

هذه الموضوعات اخذتنا بعيدا جدا عن نظريات الواقعية، لكن ما نناقشه اليوم بشكل اساسى هو الرأى الكلاسيكى عن الواقعية التى وضع نظريتها بازن مع اخرين، وكذلك المستجدات فى لغة الفيلم التى لم يستطع بازن ان يعايشها لانه مات فى عام  1958.
وبالنسبة لبازن – فى مقالاته عن تطور لغة الفيلم – فان الفيلم كان مازال كلمة منطوقة، ومُؤخرا ظهرت كتابات د.ن.رودويك فى كتاب ( الحياة الافتراضية للفيلم ) وريتشارد كومبس وريموند دورجنات فى مقالة عن سينما الدوجما فى مجلة ( فيلم كومنت ) وكريس بتيت فى نفس المجلة، والكتاب الرائع عن سينما الديجيتال الجديدة لهولى ويليس، كل هؤلاء الكتاب كانوا مهتمين بنفس القضايا التى طرحها بازن ولكن بطرق جديدة.

وعلى سبيل المثال، اذا كان بازن يعتقد ان عمق الميدان كان امرا حيويا، فان الصورة الديجيتال تفتقد عادة الى الدقة فى وضوح الخلفية وبناءا عليه بحثوا عن الواقعية فى امور اخرى، وكما يعتقد كل من كومبس ودورجنات فثمة تناقض فى هذه النظرية الجمالية، فهى تبدو انها تركز على التفاصيل، لكنها تفتقد الى الكيفية التى تسمح لها للقيام بهذا، كما ان ادبياتها اصبحت قديمة.

(وطبقا لرأى سينمائى ينتمى للدوجما مثل دود مانتل، فان خشونة التقنية هى غالبا ما نتطلع اليه) ومع رأى كهذا اصبحت الواقعية مسيطرة على وسائل الانتاج كما ان المخرج لا يُخفى محدودية الميزانية، ان استجابتنا الى الصورة وثيق الصلة ليس فقط بما يظهر امام الكاميرا ولكن ايضا بالكيفية التى يتم بها تقديم المعنى.

عندما اصر رودويك على ان تقنية الديجيتال لا تُمكن من الاستمرارية، فجزء من هذا يكمن فى الافتقاد الى عمق الميدان، فاذا ابقيت على لقطة لعدة دقائق وكان لديك عدة خطوط متعددة من المعلومات، فهذا يجعل اللقطة المشهد اكثر قدرة على نقل المعلومات اذا ما كان عمق ميدان غير واضح وهو كل ما لديك، وربما وجدت تقنية الديجيتال حلا غير مسبوق لهذه المشكلة عبر نظام الهاى ديفنيشن، لكن الواقعية الحالية تبدو انها تقدم شيئا مختلفا تماما عما نادى به بازن، تلك هى الفروق التى من المفيد ان نناقشها.

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى


17‏/10‏/2013

اشكال الفيلم التسجيلى

فيلم نانوك الشمالى

محاضرة:- تونى مكيبن

ترجمة:- ممدوح شلبى

العديد من المخرجين ليسوا سعداء بمصطلح تسجيلى، وعندما طُلب من المخرج الفرنسى التسجيلى العظيم كريس ماركر ان يقول رأيه عن الشكل فى كتاب ( تخييل الواقع) رد قائلا ( انا لا اشعر اننى انتمى الى عالم الفيلم التسجيلى) وفى حوار مع مخرج آخر هو بافل بوليكوفسكى، قال انه اذا كانت معظم الافلام التسجيلية تدعى انها (تسجل الواقع فقط ) فأين يمكن لافلامه ان تذهب؟ واصر على انه ( لا اضع حدودا فى المعالجة الفنية لموضوعاتى). 

المهم هنا الا نفكر فى الفيلم التسجيلى باعتباره مجموعة من القواعد التى تحدد شكل الفيلم، لكن باعتباره سلسلة من الامكانيات المقبولة عندما نكون فى عالم الحقيقة وليس فى عالم الخيال، فالبحث عن الحقيقة يمكن ان يتخذ اشكالا شتى.

ولكى نغطى نقاشنا فان ما نريد ان نبحثه هو تنوع اشكال الفيلم التسجيلى، فيمكن ان نتناول الفيلم التسجيلى من وجهة نظر الاخبارية، او التحقيقية او الروائية او من وجهة النظر الشخصية.

 هذه المصطلحات فضفاضة، والفيلم التسجيلى قد يستخدم الاشكال الاربعة او بعضها او يستخدم شكلا واحدا، وفى مراحل مختلفة من تاريخ السينما كان احد المصطلحات اكثر انتشارا من البقية، فعلى سبيل المثال، فى الستينات اعتمدت حركتين سينمائيتين على صيغة التحقيق، وهما حركة سينما الحقيقة فى كندا وفرنسا، وحركة السينما المباشرة فى الولايات المتحدة الامريكية،

المؤسسان الرئيسيان فى كندا وفرنسا كانا ميشيل برو وجان روش، وفى الولايات المتحدة الامريكية كان المؤسسون الرئيسيون هم ريتشارد ليوكوك واخوان مايسل و دى أ بنيباكر وفريدريك وايسمان، وكانت الفكرة التى انبثقت منها حركة السينما المباشرة الامريكية ان السينما يجب الا تكون مُفتعلة قدر الامكان، واذا كانت كثير من افلام حركة سينما الحقيقة الفرنسية والكندية تبدو مُفتعلة، فعلينا ان نقر بارتباط ذلك بالموضوع.

ويصر مخرج السينما المباشرة وايسمان فى فيلميه ( المدرسة الثانوية) و ( الرعاية الاجتماعية والاسكان الشعبى) على تجنب توجيه اسئلة للموضعات، ولا يستخدم الموسيقى ولا يستخدم التعليق المُصاحب، وهو يحرص بالتأكيد على عدم تقديم نفسه على الشاشة.

اما مخرج سينما الحقيقة جان روش، على العكس من ذلك، يسمح باظهار وجهة نظره فى الموضوعات، ففى فيلم ( وقائع فصل صيف) يجعل المشاهدين واعين بحضوره وحضور المخرج الثانى للفيلم ادجار مورين، فعندما تظهر سيدة فى حالة انهيار امام الكاميرا، فان المخرجين يقران بان يأس هذه المرأة استحوز عليهما.

وقبل ظهور هذين الحركتين فان الافلام التسجيلية كانت موجودة منذ مدة طويلة، ففيلم (نانوك الشمالى) لروبرت فلاهيرتى ظهر فى العشرينات، وفيلم (رجل من آران) ظهر فى الثلاثينيات، وكلا الفيلمين كانا واقعيان جدا.

وكما يقول محررا كتاب (تخييل الواقع) - مارك كوسينز وكيفين مكدونالد - فيما له صلة بفيلم نانوك الشمالى لفلاهيرتى ( تصوير الفيلم كان بعناصر من الواقع، اما مونتاج الفيلم فكان مثل الفيلم الروائى) وكانت الافلام قبل ذلك ترى ان ( يجب ان يبتعد الفيلم التسجيلى عن الواقع وان يتعامل مع العناصر الدرامية وحرفية الفيلم الروائى) حتى يصبح الفيلم ناجحا.

اراد مخرجو السينما فى الستينات ان يكون الفيلم التسجيلى بنفس القدر من الاهمية ولكن من خلال فهم منهجى للواقع الذى يصنعون عنه الفيلم، سواء بتجريب نموذج السينما المباشرة، او بجعل المشاهدين واعين بان ثمة شخص وراء الكاميرا له علاقة بالموضوع كما فى حركة سينما الحقيقة.

وعلى اية حال، ينبغى علينا الا نرى تلك العقائدية كنوع من التقييد: فمن المفارقة ان اصرار منظريهم على ان صناعة الفيلم التسجيلى يجب ان تتحرر من القواعد، جعل بعض المخرجين يضعون بانفسهم قواعدهم الخاصة بحرية، وعندما نشاهد الافلام التسجيلية ابتداءا من السبعينات فان الاختلافات تبدو كبيرة.

هناك افلام المغامرات الشخصية لفيرنر هيرتزوج، حيث يضع المخرج نفسه فى مواقف خطيرة مثل فيلم (البركان) حيث ذهب مع المصور الى جزيرة صغيرة كان سكانها يرحلون عنها، فأى شخص آخر كان سيهرب من البركان الذى اوشك ان يثور: اما هيرتزوج فقد اراد ان يكون شاهدا.

وفيلم (الشمس) لكريس ماركر فكان عبارة عن مقالة فى ادب الرحلات استخدم فيها ماركر صوت المُعلق الذى يمثل الضمير ليوائم بين الثقافة اليابانية والثقافة الافريقية، وافلام نك برومفيلد مثل (كرت وكوتنى) كانت منفرة جدا، فهى مليئة بحضوره الشخصى، وكان هذا نتيجة لان المنتجين اصروا على ظهوره امام الكاميرا ضمن شروط العقد.

والآن دعونا نعود الى ما نوهنا عنه بخصوص الاربعة انواع للفيلم التسجيلى وهم، التحقيقى والروائى والاخبارى والشخصى.

 فاذا كانت افلام وايسمان واخوان مايسل وآخرين هى افلام تحقيقية، فماذا عن الافلام الاخبارية؟

افلام تسجيلية كثيرة مثل سلسلة (العالم فى حرب) وافلام آدم كارتس التسجيلية التى تشمل ( قرن الذات) و ( قوة الكوابيس) و(الحقيقة المزعجة) و ( الذهب الاسود) وغيرها، وكل تلك الافلام (الدى فى دى) عن اخراج الافلام حيث يتلاقى الاخبارى مع الدعائى، فهى تستقطبنا اثناء العملية الاخبارية، وتمنحنا المعلومة المجردة كما لو كانت موسوعة علمية.

من الواضح ان درجة من الموضوعية مفتوحة لنقاشنا، لكن دعونا نقارن بين فيلم ( قوة الكوابيس) لكورتس وبين فيلم (فهرنهايت11/9) لمور، فبينما كان كورتس يلهب عقل المشاهدين بالحقائق، فان خفة ظل مور تجعل فيلمه اكثر اريحية، فشخصية مور تفرض نفسها فى الصيغة الاخبارية.

فعلى سبيل المثال عندما قطع مور الى فقرات من فيلم ( حملة التفتيش) بعد ان تسائل لماذا سُمح لعائلة بن لادن بمغادرة البلاد، فاى شخص من مشاهدى الحلقات التليفزيونية يعرف ان الشيئ الاول التى يحدث بعد ارتكاب جريمة هو اجراء مقابلة مع اقرب الجيران، ان الصيغة الاخبارية تفسح الطريق للشخصى.

اذا كانت افلام مور تستشكل عند الكثيرين، فهذا يكمن فى الطريقة التى يتبعها باستمرار فى تحويل الفيلم الى شيئ شخصى، ومع ذلك ففيلم المهم والقوى ( سيكو) يسلك الطريق السهل حيث يتنقل مور بين لندن وباريس وهافانا مُشيدا بانظمة الرعاية الصحية فى هذه البلدان والتى تتناقض مع انظمة الرعاية الصحية فى الولايات المتحدة الامريكية.

وعندما يمزج مور بين الشخصى والاخبارى السياسى فانه يجعل المشاهدين منتبهين الى فنياته اكثر مما يقدمه من معلومات.

وحتى الحزب الديموقراطى نفسه، والذى أمل مور ان يفوز فى الانتخابات على خلفية فيلمه فهرنهايت 11/9 ، فانهم انصرفوا عن فيلمه.
وفى نفس السياق، هل فيلمى ( المحرقة ) و ( جامعو المحاصيل وانا) ينتميان الى الافلام الشخصية؟ فبالنسبة للبعض يُعد سبب ضعف فيلم المحرقة الذى يدوم اكثر من تسع ساعات والذى يوثق للهولوكست، ان المخرج كلود لانزمان بالغ كثيرا فى الاسئلة، لكن من المفهوم ان مغالاة المخرج فى الحوارات كان محاولة منه للاحاطة بالملابسات الكاملة لمعسكرات الموت.

الشخصى هنا لا يكمن فقط فى الحضور القميئ للمخرج لانزمان، ولكن ايضا فى الذكريات المحفورة فى الشخصيات التى حاورها فى الفيلم، فاحدهم وهو ممثل للحكومة البولندية اثناء الحرب، نراه ينهار ويبكى مُصرا على انه لا يستطيع ان يعود الى الذكريات التى انطمرت، ويواصل لازمان اسئلته مع متحاور آخر شديد الحساسية عله يتذكر ما حدث، وعلى هذا المنوال فان الشيئ الشخصى للمخرج لازمان ينتهى غالبا باستخراج العنصر الشخصى للشخصيات التى يحاورها.

ونفس الحال مع المخرجة الفرنسية أنيس فاردا التى تقدم منظورا شخصيا فى فيلمها ( جامعو المحاصيل وانا) لكن فاردا انسانة ضعيقة، تكشف عن علامات تقدمها فى السن من خلال لقطات مقربة ليديها وشعرها الهش عندما تندهش من صغر حجم المعدات.

كما انها تمشى على اطراف اصابعها وسط الموضوعات التى تصورها، وتُظهر اعجابها ومودتها وحنانها تجاه الناس الذين تحاورهم، ومن بينهم اناس بلا مأوى وعمال باليومية ومحامين وعاطلين، جميعهم مرتبطون بمهنة الجمع سواء من المزارع او من صناديق القمامة فى المدينة، ان فاردا تستحضر الشخصى عبر تقديمها لتجربتها الخاصة الحميمية مع موضوع الفيلم.

ان الافلام الشخصية ربما تكون انجح اشكال الفيلم التسجيلى المعاصرة، وخاصة بسبب ظهور تقنية الفيديو.

واذا كان مخرجو السينما المباشرة فى الستينات قد استفدوا من التقنية الجديدة التى يصفها دى أ بنيباكر بقوله ( التسجيل على اشرطة فيديو، ومعدات تصوير اسهل وعدسات متطورة تسمح بتصوير الضوء الطبيعى وعدسات زووم ) تسمح بألتقاط ادق التفاصيل: وغالبا فان تقنية الفيديو قادت المخرج الى ان يفعل العكس. استخدم هيتزوج وفاردا وماركر تقنية الفيديو كوسيط غنى للتعبير الشخصى.

ولكن ماذا عن الروائى؟ ذكرت فى بداية المحاضرة انه حتى فى السنين الاولى للسينما التسجيلية كانت قواعد الفيلم الروائى مستخدمة، ولكن فى العقدين الاخيرين فالفيلم التسجيلى اصبح اكثر اهمية واكثر رواجا كوسيط اخبارى اكثر مما كان عليه فى الستينات.

سواء كان من خلال همهمة على وفورمان فى الغابة فى فيلم ( عندما كنا ملوك) او البحث عن اثنين من لاعبى كرة السلة الموهوبين فى فيلم (احلام صعبة) او اختبار الصعوبات اثناء اولمبياد ميونخ عام 1972 فى فيلم (يوم من ايام سبتمبر) او البقاء البطولى على قيد الحياة لمتسلق جبال فى فيلم ( لمس الفراغ) او تاريخ نيويورك فى فيلم ( مرة فى العمر) فان الافلام تُمتع المشاهدين بادخالهم فى دراما القصة.

واذا كان الغرض فى فيلم ( الحقيقة المزعجة) يكمن فى تداول الاخبار، وكان فيلم جامعو الحاصيل وانا) لفاردا يكشف عن علاقتها الشخصية بجامعى المحاصيل والناس الذين اتصلت بهم، فان الروائية هى اثارة قصصية وهذا هو المطلوب.

ويرى الخرج آلان باركر ان فيلم ( يوم من ايام سبتمبر) به مساحة من الاثارة الجيدة، لكن مثالا استثنائيا للسينما التسجيلية الروائية يمكن ان نجده فى فيلم ( الخط الازرق الرفيع) وفيه نرى ايرول موريس يتحرى عن سوء تطبيق العدالة بعد الحكم بالسجن على راندال آدامز بسسب جريمة كان موريس واثقا بانه لم يرتكبها.

من خلال حوارات مع عدد من الناس لهم علاقة بالموضوع، والتى تُثبت بشكل قاطع ان آدامز لا يمكن ان يكون قد ارتكب الجريمة، فموريس لا يقدم فقط شكلا روائيا لكنه يقدم ايضا عملا قضائيا: فالحكم القضائى على آدامز تم الغاءه استنادا الى الدليل الذى اظهره الفيلم.

الشكل الروائى لهذا الفيلم لم يحقق فقط تطلعات الفيلم التسجيلى الروائى، ولكنه اثبت ايضا انه بمثابة وثيقة قانونية.

كم عدد الافلام التسجيلية الروائية التى تخدم الحقيقة وفى نفس الوقت لا تخلو من مُتعة؟ فيلم ( يوم من ايام سبتمبر) على سبيل المثال، يُعد واحدا من الافلام التسجيلية الرائعة وهو يمنح ايضا البصيرة بسهولة وبدون طنطنة.

انه يعطى الانطباع بان الشرطة الألمانية ليست لها كفائة بدلا من البحث فى التعقيدات التى احاطت بالموقف، لكن هذا ربما أبطأ الفيلم التسجيلى واوقف تدفق السرد فى الفيلم.

وثمة سؤال يستحق ان نسأله عندما نفكر فى الفيلم التسجيلى الروائى: هل يجب ان يبحث عن الحقيقة ام يهتم بالايقاع المتسارع المثير؟

هذا مجرد سؤال من اسئلة كثيرة تتعلق بالفيلم التسجيلى وسوف نظل نتسائل عنها طوال الساعتين القادمتين.

محاضرة:- تونى مكيبن

ترجمة:- ممدوح شلبى