09‏/06‏/2014

تأملات فى الأسلوب السينمائى

محاضرة :- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى

1
 
ثمة تعليق جميل من المخرج الفرنسى العظيم روبرت بريسون حيث قال فى كتاب "ملاحظات للسينمائى" " Notes on the Cinematographer " أن الأسلوب ما هو إلا التقنية، وعندما كتب النقاد الفرنسيين فى الخمسينات فى مجلة "كراسات السينما" أن الأسلوب هو جوهر عمل المخرج، أرادوا أن يحددوا الشيئ الذى يجعل المخرج متميزاً وأصيلاً، والآن لا يعنى الأسلوب بالضرورة أن المخرجين أسلوبيين، فبعض المخرجين لديهم أسلوب والبعض الآخر لا، والأسلوب يتصل كثيراً جداً بالرؤية ووجهة النظر والطريقة التى تُعمل بها الأشياء، وبناءاً عليه فالأسلوب يُوضح الفكرة ويُبرزها.

فى لقطة طويلة من فيلم "أولاد طيبون" " GoodFellas " للمخرج مارتن سكورسيزى، حيث الكاميرا تتلوى خلال نادى كوباكابانا حيث تتبع الشخصية المحورية، ربما نتسائل هل الأسلوب هو التنميق، هل هذا المشهد مجرد مثال  للأسلوب الفخيم أكثر منه مثال للأسلوب بإعتباره يوضيح الفكرة؟ فهذا المثال من أحد جوانبه عبارة عن لقطة أسلوبية لا يستطيع أحد إنكارها –إنها اللفطة التأسيسية المركبة إخراجياً والتى تتكون من لقطات متوسطة ولقطات كلوس أب وجميع هذه اللقطات تتم فى لقطة واحدة – اللقطة- المشهد. وبينما شخصية راى ليوتا وشخصية لورين براكو يدخلان النادى من خلال الباب الخلفى، يذهب مارتن سكورسيزى إلى أقصى مسافة ليكشف عن الشغل الذى خلف المشهد عندما تعبر الشخصيتان المطبخ ودرجة السلم التى من خلالها يتلقى ليوتا التحية من هؤلاء الناس المتأنقين.
أولاد طيبون

فالأمر يبدو كما لو أن المخرج يريد منا أن نأخذ جرعة كبيرة من نمط المعيشة، ويستخدم لقطة مفردة واحدة لفرقة "الرونتس" " The Ronettes " ليخرج من هذا المدخل وينتقل لعالم آخر، أفلام سكورسيزى دائماً تعرض لنا شخصيات اخلاقية مثل –جونى بوى فى فيلم "شوارع قذرة" " Mean Streets " وتريفيس بيكل فى فيلم "سائق التاكسى" " Taxi Driver " وجاك لاموتا فى فيلم "الثور الهائج" " Raging Bull " – ومن ثم يحاول سكورسيزى خلال تأسيس بيئة الفيلم أن يوضح بعض التصرفات التى تبرر سلوكهم، ويبدو سكورسيزى هنا أنه يريد أن يكشف عن شخص لا يستطيع أن ينال نصيبه من أسلوب الحياة الفاخرة بدون رفض أخلاقى من داخل الشخصية، يجب أن نتيقن أن هذا عالم مثير، ويجب علينا أن نشعر بالغيظ مثل شخصية لورين براكو، وان نكون مُعجبين مثل راى ليوتا.

وعلى ذلك يُوضح الأسلوب بذكاء مشاعر الشخصيات وكذلك أفكار سكورسيزى، ويجعل المشهد أكثر من مجرد أسلوب، وبالرغم من أن إستخدام اللقطات – المشهد أصبح شيئ من الحرفية الأسلوبية البديعة لعدد من المخرجين منذ أن أفتتح أورسون ويلز فيلمه "لمسة الشر" " Touch of Evil " بتأسيس دقيق لمشهد يتطور حتى يبلغ ذروته بإنفجار.

فاللمسة الأسلوبية أصبحت قاعدة فى حد ذاتها، فهى تحفز عين المشاهدين على المشاهدة والإعجاب: سيندهش المشاهدون من كيفية إنجاز المخرج للقطة واحدة مُركبة مثل هذه اللقطة، اللقطات – المشهد الشهيرة فى السينما تشمل إفتتاحيات أفلام مثل فيلم "مبتدأون جداً" " Absolute Beginners " ومثل فيلم "اللاعب" " The Player " ومثل فيلم "بعثة إلى المريخ" " Mission to Mars " ومثل فيلم "ليالى بوجى" " Boogie Nights " وكذلك اللقطة - المشهد للتهجير فى فيلم "التكفير عن" " Atonement " للمخرج دانكيرك، وسواء قدم المخرجون محض إستعراض أسلوبى أم طوروا الفكرة، فهذا أمر على الجمهور أن يقرره: وهذا المثال من فيلم "أولاد طيبون" يظل بالتأكيد واحد من أكثر مشاهد الثراء نجاحاً، لكن نقاد آخرين رأوا مشاهد اخرى فى نفس الفيلم كمنمنمات أسلوبية.

تيرى جيليام فى كتاب "جيليام فى جيليام" يعطى مثالاً بلقطة من فيلم "أولاد طيبون" ويعتقد انها بلا معنى، حيث "كاميرا سكورسيزى تتبع بالزوم بوبى دى نيرو وراى ليوتا فى وجبة العشاء، أنا لا أعرف ما هى فكرة سكورسيزى من هذه اللقطة، لكن الكاميرا لا تجعل هذه اللحظة أقوى، فاللقطة كانت شديدة التكلف"  والأكثر تكلفاً فى ظنى هو مشهد من فيلم "إنفجار" " Blow Out " للمخرج براين دى بالما، حيث يستمع جون ترافولنا إلى الآخرين، ويحاكى براين دى بالما حركة الشرائط بلقطات  360 درجة حول الغرفة، ألم يكن من الأفضل أن نركز الكاميرا على جون ترافولتا أثناء إستماعه للآخرين بدلاً من تكرار حركة الشرائط؟ نحن جميعاً لدينا أمثلتنا عن اللقطات الأسلوبية التى تبدو ذات صلة بالمشهد أو اللقطات الأسلوبية التى لا صلة لها بالمشهد. 
2

الناقد الفرنسى العظيم أندريه بازن يذكر فى كتاب "ما هى السينما؟" المجلد الأول أن "عمق الميدان ليس مجرد مكسب فى مهنة المصور السينمائى مثل إستخدام سلسلة من المرشحات أو أى أسلوب من أساليب الإضاءة، ان عمق الميدان هو المكسب الأكبر فى مجال الإخراج السينمائى – خطوة جدلية إلى الأمام فى تاريخ لغة السينما" فبالنسبة لأندريه بازن فإن المشاهد التى تُبرز عمق الميدان فى فيلم "المواطن كين" وفى فيلم "عائلة أمبرسون الرائعة" " Magnificent Ambersons " لم يكونا إستعراضاً فى الأسلوب لكنهما حققا قفزة إلى الأمام فى تطور السينما، حركة فى إتجاه السينما التى يستحسنها اندريه بازن –  السينما الواقعية .
عمق الميدان هو العمق فى اللقطة حتى نستطيع ان نرى خلفية اللقطة واضحة مثل مقدمة اللقطة.
عائلة أمبرسون الرائعة

عندما يعمل مخرج بعدسة محدودة التركيز، فإننا سنرى – على سبيل المثال – شخصيتين يتحدثان ولكننا لن نرى بوضوح ما يحدث خلفهما، ويعتقد اندريه بازن أن المُشاهد يكون اكثر فاعلية فى أفلام عمق الميدان، فهذا المشاهد يجب عليه ان يقرر بنفسه أن يركز بصره على الشيئ الذى يريده، هل يجب علينا أن نولى إهتمامنا إلى الكبار فى مقدمة اللقطة وهم يناقشون حياة كين فى المشهد الهام من فيلم "المواطن كين" أم أن نركز بصرنا بدلاً من ذلك على الصبى الذى يظهر فى الخلقية؟ أم أن نتبادل النظر بين الإثنين؟.

جنباً إلى جنب مع ويليام واير وجان رينوار، فتح أورسون ويلز الطريق لإمكانية صنع أفلام أكثر واقعية، واقعية على الأقل من وجهة نظر المُشاهد، العديد من الناس بالتأكيد وعلى مر سنوات ناقشوا فيلم "المواطن كين" بوصفه فيلماً أسلوبياً أكثر من كونه فيلماً واقعياً، لكن هذا قد يكون صحيحاً فقط إذا تناولنا الفروق الواضحة بين الأسلوبية والواقعية.
إذا أخذنا فى إعتبارنا ما قُلته عن فيلم "أولاد طيبون" فكل ما يحتاج إليه مخرج الشخصية – المؤلف هو أن يقدم رؤية متميزة للعالم.

ربما فى وقت لاحق يمكن لنا ان نتحدث عن ريادية أورسون ويلز من وجهة نظر أندريه بازن – عن لمسته الأسلوبية – والتى يمكن إدراجها ضمن أسلوبه كمخرج – مؤلف: فأورسون ويلز يتميز بطريقة غريبة فى المزج بين الواقعية والتعبيرية، فهو مخرج يريد عمق الميدان لكى يوفر خياراً واقعياً للمشاهد فى الكادر، لكنه تعبيرى أيضاً حيث العالم الذى يعرضه به صفة الكابوس ولا يمكن تصوير هذا العالم بأحسن من زوايا كاميرا مائلة وظلال ولقطات طائرة - من خلال جهاز الكرين –كما تكشف أفلامه عن إستلهامه للتعبيرية الألمانية فى العشرينات: من مخرجين مثل فريتز لانج – مخرج فيلم دكتور مابوس " Dr Mabuse " وفيلم "المقامر" " the Gambler " وفيلم "متروبوليس" " Metropolis "، وكذلك المخرج إف. دبليو. مورنو " F. W. Murnau " مخرج فيلمى "فاوست" " Faust " وفيلم "سيمفونية الرعب" " Nosferatu "، وكذلك المخرج روبرت وين –مخرج فيلم "طاقم الدكتور كاليجارى" " The Cabinet of Dr Caligari ".

فى فيلم "عائلة أمبرسون الرائعة" يكشف أورسون ويلز عن الشخصية المحورية وأمه وهما ذاهبان إلى غرفتى نومهما فى قصر أمبرسون، الإضاءة خافتة فى البداية، وظلال الشخصيات هو ما نراه مسيطراً على المشهد، وعندما يستخدم الفيلم عمق الميدان "البازينى" فإن الأسلوبية تتوضح أكثر، فى أحد اللحظات توجد لقطة للأم فى المقدمة يتم تصويرها من زاوية مُنخفضة، بينما فى خلفية اللقطة نرى ونسمع العمة، فثمة إنحياز فى التكوين لهذه اللقطة، وتحدث ديفيد بوردويل فى كتاب "أشكال مرصودة فى الضوء" " Figures Traced in Light " عما أسماه "مقدمة الكادر المفروضة بالقوة" و"عمق الكادر الذى يكاد يظهر" ، كما أشار إلى ان تلك اللقطات تستخدم عمق الميدان لكنها تُركز على الحدث الموجود فى مقدمة الكادر دون الإهتمام بما يحدث فى الخلفية.

ربما الفصل بين الواقعية والأسلوب يكون أكثر أهمية واكثر إفادة، عندما تطرقنا للحديث عن فيلم "أولاد طيبون"، هل قدم المخرج رؤية أم مجرد إستعراض أسلوبى؟ إذا كان بمقدورنا تحليل فيلم سكورسيزى وإظهار كيف أن أسلوب الكاميرا المحمولة الثابتة " steadicam "  فى ولوجها إلى النادى كان ذا صلة بالفكرة، هل نستطيع عمل نفس الأمر مع فيلم أورسون ويلز؟ ربما نجد أن أورسون ويلز إختلف أسلوبه كثيراً بعد فيلم "المواطن كين" فقد تبنى المبادئ التى وضعها أندريه بازن، وربما لم يكن لفيلم "سيدة من شنغهاى" " Lady from Shanghai " أن يتحقق بتسلسله الأسلوبى المُذهل إلى النهاية، ولا فيلم "لمسة الشر" باللقطة –المشهد الإفتتاحية التى تم تنفيذها من خلال جهاز "الكرين"، ولا فيلم "المحاكمة" " The Trial " الذى يوظف أمكنة حقيقية للتصوير – مثل محطة القطار المهجورة فى باريس- ولكنه يصورها بطريقة غير واقعية شديدة المرارة.

وبالطبع، فبدون مثل هذه الأفلام – ومع أفلام أكثر واقعية فى إختيار الأمكنة – فربما لم يكن بمقدورنا ان نحصل على تيمة "ويلزية" قوية بل شيئ آخر مختلف تماماً، إذا إعتبرنا أن سكورسيزى مُغرم فى التحليل النهائى بالأوساط الإجتماعية البراقة، فأورسون ويلز يُعتبر مخرجاً عظيماً للعوالم التى تتدمر ذاتياً، ولشخصيات لديهم صفات تقودهم إلى بيئات ضائعة ومزعجة ومليئة بالمشاكل كما فى فيلم "المواطن كين" أو أحياناً يتم خلق هذه البيئات بواسطة الآخرين كما فى فيلمى "سيدة من شنغهاى ولمسة الشر" أو أحياناً يكون الأمر بين بين مثل فيلم "المحاكمة"، ألا يعوق الأسلوب الواقعى التقليدى القدرة على إستكشاف البيئات الضائعة؟
 
3

دعونا نفترض أن شون بن واحد من أعظم الممثلين المعاصرين، وأن كلينت ستوود مخرج سينمائى متوسط – بصرف النظر عن تقدير الفرنسيين له – دعونا أيضاً نفترض أن شون بن قادر جداً على التمثيل الصعب، وكما أشار الناقد ديفيد تومسون "يركز شون بن إمكانياته لتمثيل أشبه ما يكون بالمخاض العسير، وأشبه بحصوة كلى كبيرة تتخذ طريقها للخروج، إنه يعمل شيئاً لا يريد عمله فعلاً"، هذه بالطبع كلمات قاسية جداً، لكن بالنظر إلى حركة الكاميرا المتكلفة فى فيلم "نهر ميستك" " Mystic River " عندما يكتشف شون بن أن إبنته قُتلت، إن أداء شون بن المتصنع والإنفعالى مع التصوير المتكلف، يؤدى إلى نوع من التزيد الإنفعالى فى الفيلم.
نهر ميستك

إذا كان لدينا كاميرا ثابتة بشكل ما، أو أن أداء شون بن يعبر عن الحزن بهدوء، عندئذ قد نستجيب للأداء، أو نستجيب للكاميرا وهى توضح العاطفة بدون أن نحس أن الأداء يجبرنا على عدم التعايش معه.
طريقة التمثيل فى هذا الفيلم تتوافق مع تكنيك كاميرا كلينت ستوود التى تؤكد نفس المعنى الذى يجسده  الممثل كيفن باكون "المحقق" بتمثيله لحالة العجز عن الكلام، فى هذه اللحظة من الفيلم لا يعانى كيفن باكون من إفتقاده لشون بن على الرغم من أنه صديق الطفولة، لكن الأمر أكثر من هذا: كلينت إستوود يبدو أنه يوجه شون بن كما لو أنه يوجه نفسه، فنحن نعرف جميعاً كيف أن تمثيل كلينت ستوود دائما ما يكون داخلى ومتحفظ فى تعبيراته.

هل نستطيع أن نقول رأياً تعميمياً: كلما كانت الكاميرا أكثر تعبيراً كلما توجب أن يكون التمثيل أكثر تحفظاً؟ إذا إستدعينا فترة الخمسينات وطريقة تمثيل جيمس دين ومارلون براندو ومونتجمرى كليفت، فسنجد مكاناً كبيراً للأداء المؤثر فى التمثيل إذا كانت الكاميرا متحفظة عاطفياً، ولكن إذا كانت الكاميرا جزءاً من التعبير فإن الأداء التمثيلى يتطلب التعبير المتحفظ، عندما قال هيتشكوك عبارته الشهيرة "الممثلون مثل الماشية"، كان يعبر عن الحاجة إلى التعبير العاطفى الذى يصنعه المخرج أكثر من التعبير العاطفى الذى يصنعه الممثل.

تبنى المخرج الإيطالى العظيم مايكل أنجلو انطونيونى نفس الطريقة عندما كان يوجه ديفيد هيمنجز فى فيلم "تكبير الصورة" " Blow Up "، قال هيمنجز أنه قيل له "ليس من المفروض أن تعبر عاطفياً": فالكاميرا ستفعل ذلك نيابة عنك، عندما يجتمع التمثيل الإنفعالى والكاميرا الإنفعالية – كما نرى فى فيلم كينت ستوود – فإن أعظم الممثلين سيبدو مُفتعلاً، حيث يجتمع فى الفيلم ممثل قوى مع زخرفة إخراجية.

من المؤكد أن هذا التزيد ليس مشكلة فى كثير من الأحيان، فأحياناً يتطلع المخرج إلى أداء ميلودرامى كبير داخل أسلوب ميلودرامى – مثل الشخصية التى مثلها أورسون ويلز فى فيلمه "لمسة الشر" او هارى ليم فى فيلم "الرجل الثالث" لكارول ريد- وهذا يمكن أن يخلق نوعاً من الغرابة المقصودة أو جو عام شديد الغموض، وبالطبع هناك حالات نجد فيها أسلوب كاميرا متقشف وتمثيل متقشف – مثل أفلام جيم جارموش فى أفلام أكيرا كوروساوا- وهذه الطريقة يمكن أن تقود إلى إحساس ممتع بالإيجاز.

ولكن فى المشهد المُشار إليه من فيلم كلينت ستوود نجد ان ممثلاً جيداً يبدو مُفتعلاً لأن كاميرا كلينت ستوود – ودعونا نستبعد الموسيقى- كانت تؤدى دور التعبير، إذا إستدعينا أداء ريتشارد بيرتون وإليزابث تايلور الميلودرامى فى فيلم "من يخاف فيرجينيا وولف" " Who’s Afraid of Virginia Woolf " أو الدور العظيم لجينا رولاند فى فيلم "إمرأة متأثرة" " A Woman Under the Influence " نستطيع ان نفهم أن المخرجين يسمحان للأداء التمثيلى المسرحى أن يجد له مكاناً فى السينما.

الكاميرا فى كل مثال وعلى الرغم من انها بعيدة عن تشبيهها بعمل الإنسان، فهى على الرغم من ذلك تمنح الممثل الحرية فى تأكيد التعبير بدون مبالغة، إذا كان شون بن أعظم ممثل فى جيله – كما يقول العديد من الناس- عندئذ دعونا نتسائل هل جزءاً من هذه العظمة يكمن فى أنه عمل مع مخرجين يستحضرون القوة ولا يهتمون بعرض الضعف المحتمل؟.
 
4

بعد مشاهدة فقرة فيلمية من فيلم "جيرترود" " Gertrud " يطلب الطلاب أن تُعرض كل الأفلام فى الفصل الدراسى لأنهم ليست لديهم الرغبة فى المشاهدة من خلال الفيديو أو "الدى فى دى" ويبدو الأمر مفهوماً: فيلم "جيرترود" بطيئ فعلاً والتمثيل مُبالغ فيه والفكرة عصية على الفهم، عندما عُرض الفيلم فى عام 1964 تعرض إلى الإنتقاد، والآن ومع مرور الوقت وإضافة أفلام أخرى أخرجها كارل دريير – وهذه الأفلام تشمل "آلام جان دارن" " The Passion of Joan of Arc " وفيلم "فامباير" " Vampyr " وفيلم "الكلمة" " Ordet " أُعتبر فيلم "جيرترود" فيلماً عظيماً ونموذجاً للسينما الحداثية –الروحية-.
جيرترود

إذا فكرنا فيما يُطلق عليه "الصيغة التقليدية للتمثيل" " Institutional Mode of Representation " يمكننا أن نتعرف اهمية الفيلم، هذا المصطلح قدمه نويل بورش (الذى كتب مقالات مهمة عن افلام المخرج دريير) يستخدم بورش هذا المصطلح فى فيلم "الحياة لتلك الظلال" " Life to those Shadows " ليصف التقاليد السينمائية التى تم وضعها بواسطة السينما التجارية فى السنوات الأولى لتاريخ السينما، هذه التقاليد تشمل العديد من العناصر الغير موجودة فى فيلم "جيرترود"، كذلك فإن "كتاب السينما" يشرح مصطلح بورش، إنه يشمل (تقاليد الميزانسين بشكل أساسى وكذلك الكادر، ويتناول بشكل خاص المونتاج من خلال ادواته التى تربط المساحة السردية والزمن وخصوصية الشخصيات الروائية بطرق تسمح للمُشاهد أن يندمج لا شعورياً).

فيلم "جيرترود" فشل على كل المستويات، فأسلوبه كان طليعياً جداً، وكذلك فإن العمق فى اللقطة يجعل مقدمة وخلفية اللقطة يبدوان فى نفس الحالة المرئية، والفيلم يحتوى أيضاً على شخصيات تعبر عن نفسها كما لو أن الممثلين قرأوا ادوارهم قبل تصويرها بخمس دقائق.

لكن دعونا نقول أن عمل فيلم بالأسلوب الواقعى يفيد كثيراً الدراما السيكولوجية، ولكن ماذا لو أراد الفيلم أن يقول شيئاً آخر، ماذا لو أراد الفيلم أن يعبر عن خيبة الأمل من الحياة التى نحياها؟ كارل دريير كان يبحث عن عاطفة تبدو من دنيا أخرى، سواء كان من خلال لقطات كلوس أب روحانية لشخصية فالكونيتى فى فيلم "آلام جان دارك"، أو الولد نصف المجنون فى فيلم "الكلمة" الذى يريد أن يؤمن بالمعجزات وينتهى به الحال بإثبات قناعاته، أو تجسيد الشر فى فيلم "يوم الغضب" " Day of Wrath.".

الدنيا الأخرى فى هذا الفيلم نراها ونسمعها تأتى من كلمات شخصية جيرترود الغير سوية فيبدو الأمر كما لو أنها تتحول إلى بُعد آخر، وكذلك منظرها الذى يبدو أنه هذه الكلمات تنطبق عليه، وبتقليل الحيز الإجتماعى الذى قدمه كارل دريير فى فيلمه، فإن عمق الميدان - الذى نادى به أندريه بازن والذى يمكن أن يكشف عن العالم بكل ما فيه من قسوة- لم يتحقق، ففيلم المخرج كارل دريير  قدم تسطيحاً فى الصورة فجاء فيلمه سطحياً أيضاً، ففى هذا الفيلم يبدو لنا كما لو أن غياب الجانب الروحى وإفتقاد الحب فى العالم، أكثر أهمية من المشكلة الإقتصادية، وكذلك فإن اللقطات – المشهد - ليست من نفس نوع اللقطات – المشهد - التى تتحرى المشاكل الإجتماعية، لكنها بدلاً من ذلك تتأمل المشاكل الذاتية.

عندما تقول جيرترود مقولتها (هل انا شابة؟، لا، لكننى أحب، هل  أنا جميلة؟، لا، لكننى أحب، هل أنا أعيش؟ لا، لكننى أحب)، فالأمر يبدو كما لو أنها تعبر عن بُعدها الأحادى، وهو بُعد متجذر أيضاً، بُعد لا يمكن الحكم عليه، ولا يعيش من أجل أن ينجح (على الرغم من انها كانت مُغنية شديدة التأثير وناجحة فى الماضى) وهى لا تطلب أطفالاً لكنها ببساطة تريد أن تحب، إذا كان بمقدورنا أن نربط إيقاع الفيلم بعباراته، عباراته أحادية البُعد وإصراره على إهمال "الصيغة التقليدية للتمثيل" عندئذ فإن الفيلم يوفر إحساساً غريباً وواسعاً لمغزى الحياة.

والحقيقة أن بورش كتب بنفسه عن الطرق التى كسر بها فيلم "جيرترود" هذه الصيغة فى السينما: القاموس النقدى يوضح الفكرة جيداً من خلال مصطلح "إتخاذ قرار" " parti-pris " فيما يتعلق بكارل دريير. وهى فكرة جمالية ثابتة تسماح بالتحرر من التقاليد على المستوى الجمالى وهذا يسمح بالتحرر من التقاليد على مستوى آخر وهو المستوى الروحى، أحد الأسئلة التى يسألها العديد من المخرجين هو كيف نحرر الجانب الروحى إذا كانت السينما وسيطاً مُستقلاً بذاته، ولعل أندريه بازن – لو كان مازال على قيد الحياة - كان سيقول أن بريسون ودريير وأوزو وميزوجوشى وتاركوفسكى  هم بعض من المخرجين الذين يحاولون تحرير الروح عبر جماليات أصيلة.

إذا تم النظر إلى أفلام المخرج كارل دريير ضمن هذا السياق – كل أفلامه التى عرضناها لكم تتعامل مع الجانب الروحى بدلاً من الجانب الإجتماعى – عندئذ فإن فيلم كارل دريير لن يبدو شديد الغرابة بينما ستبدو أفلام الممثل توم كروز شديدة الغرابة، فأفلامه يتسلط عليها هدف يسعى لتحقيقه، وأنانية تقوده حتى أنه لا يجلس ليستريح ولو للحظة.
 
5
 
فيلم مثل "ألوان ثلاثة: الأزرق" " Three Colours Blue " للمخرج كرزيستوف كيسلوفسكى من الأفلام شديدة التأثير والمصنوعة جيداً وهو يستفز نقاد السينما التقليدية ، دعونا ناخذ جلبرت أدير كمثال، ففى مقالة عن فن السينما كُنبت لصحيفة "الصنداى تايمز" منذ سنوات قليلة، قال ان فيلم "الأزرق" وفيلم " عشاق الجسر الجديد" " Les amants du pont neuf " وفيلم "البرية فى القلب" " Wild at Heart " وفيلم "أوروبا" " Europa " وافلام أخرى هى أفلام "تُجبر المُشاهد على الخضوع"، فالناقد جلبرت أدير يعود بنا إلى السؤال الأصلى عن الأسلوب من أجل الأسلوب، وهو يعتقد أن المخرجة جين كامبين فى فيلم "البيانو" "كانت أسيرة لفكرة أنها لا يجب أن تسترخى ولو للحظة، وإنها ربما تخاطر بفقد السحر المتواصل للميزانسين فى فيلمها إذا إختارت زاوية كاميرا تفشل فى التأثير حتى على أكثر المُشاهدين نُعاساً".
ثلاثة ألوان:الأزرق

إذا نظرنا إلى الطريقة التى يستخدم بها المخرج كرزيستوف كيسلوفسكى التلاشى " fades " المُفاجئ حتى الإظلام، والسماع المفاجئ لموسيقى تحذيرية، وكذلك لقطة كلوس أب تركز على الصليب، عندئذ سيبدو فيلم "ألوان ثلاثة: الازرق" أنه يشارك المخرجة جين كامبين فى الحاجة إلى أسلوب تنويرى.

من الواضح ان هذا الفيلم الذى يتناول حياة إمرأة بعد موت زوجها وطفلها لا يوفر إحساساً ببُعد روحى احادى محدد مثل فيلم"جيرترود" الذى يتمحور حول هذا والذى ناقشناه آنفاً، لكن هل يمكن لنا ان نحتسب أن المخرج تعامل مع الجانب الروحى بالأبعاد الثلاثة –فهو يريد أن يصنع فيلماً روحانياً يتفرد عن الافلام التى تتبع "الصيغة التقليدية للتمثيل"؟ بالتأكيد، فروحانية كيسلوفسكى واضحة الإسراف، ولكن هذا قد يكون جزئياً هو الفرق بين التقاليد المتشددة "البروتستانية" المتصلة بالمخرج دريير – وكذلك إنجمار برجمان بالطبع – وبين الأسلوب "الكاثوليكى" الذى نراه فى فيلم كيسلوفسكى وكذلك أحدث أفلام المخرج كارلوس ريجاداس الذى يُسمى "معركة فى الجنة".

إنه أسلوب يزخرف الروحانية بالأبعاد الثلاثة ويريد الكاميرا أن تكون عفوية، ويستخدم اللون بشكل رمزى –فالأزرق يعبر عن الهدوء- ويتنقل بشكل أساسى بين الصوت الموضوعى والصوت الذاتى، فالمخرج يستطيع أن يتنقل بين الأصوات التى تكون واضحة فى واقعيتها وبين الأصوات المُكبرة التى توحى بذاتية الشخصية المحورية.

إذا بدا المخرج كارل دريير كما لو أنه يريد تعرية المحيط التجريدى ويحوله إلى فضاء كنيسة إسكندنافية، فإن المخرج كيسلوفسكى يريد من السينما ان تُصبح كما لو أنها كاتدرائية كاثوليكية مزدحمة أكثر من أى وقت سابق – فالسينما كانت كاثوليكية فعلاً فى أبسط مفاهيمها، وبمعنى انها إستوعبت كل تاريخ التقنية السينمائية لكى يتطور شكلها الروائى.

وعلى هذا النحو ربط أدير مجموعة من أفلام التسعينات ووصفها بأنها مرثيات عن إنهيار عقيدة سينما الفن، وأضاف أنه يؤمن بأن السينما الأسلوبية تزدهر، دعونا نفترض أننا فى حاجة إلى أن نرى الأسلوب ذو صلة بموضوع الفيلم.

فيلم "ثلاثة ألوان: الأزرق" ليس فيلماً كاثوليكياً البتة: إنه أقرب ما يكون إلى كونه فيلماً وجودياً عن الحزن لكن الكاثوليكية تحلق حول أطرافه وتساهم فى جمالياته.

وهذا يعود بنا إلى نقطتنا الأصلية عن الأسلوب وعما يخدم، وقد يكون من الظلم ان نُصيب فيلماُ فى رأسه لمجرد أنه ليس بروتستانياً بما يكفى، ولإنه لا يتناسب مع جماليات كارل دريير المُتشددة.

بعض الناس يحبون ان يمارسوا عقيدتهم بأقل قدر ممكن من العبادات وأقل قدر ممكن من التجهيزات: وهناك اناس آخرين يحبون الحد الأقصى والتجهيزات المُتكلفة، إذا كان حب السينما يشبه ممارسة العبادة بشكل او آخر، فربما يحق لنا ان نسأل ما هو نوع الأسلوب الذى نحب لعقيدتنا أن تتخذه لتفصح عن نفسها به: هل يكون مزخرفاً ام بسيطاً، وهل يكون صارخاً أم هادئاً؟.


05‏/06‏/2014

تأملات فى الفيلم الروائى

محاضرة :- تونى مكيبن
 ترجمة:- ممدوح شلبى
ديرسو أوزالا


 1
ما نريده من هذه المحاضرات هو أن نناقش السينما بنوع من التشكيك، وهذه المحاضرات ليست نوعاً من الدراسات السينمائية وما يرتبط بها من إستشهادات ذات صلة عن المفاهيم والحرفية السينمائية، فهذه المحاضرات نوع من التحرى والتحقيق فى الطريقة التى نقوم فيها برد الفعل بخصوص الأفلام بطرق لا حصر لها.

والآن يحق لكل طالب فى هذا الفصل الدراسى أن يقهقه عالياً أثناء مشاهدة فقرات فيلمية من أفلام جيمس بوند الأولى. فحقيقة الأمر ان هذه الأفلام تبدو انها صُنعت للترويح عنا كما أنها تتبع متطلبات القصة والشخصية بقدر كبير من الحرفية المهنية التى قد يراها بعضكم مثيرة للإضحاك. هذه الأفلام بها هوس بالنساء الجميلات وبعديد من الحرفيات التى تهدف بشكل واضح إلى إبعاد الملل عنا – كما لو ان أولوية السينما: تخفيف حالة الملل بكل الوسائل.

أليس هذا تعريفاً بالسينما الترويحية فى أكثر أشكالها سطحية؟ إذا تذوقنا فيلماً يستخدم الزمن بطريقة رديئة، فهذا عادة لأن الفيلم يهدف أن يكون موازياً لتوقعات المشاهدين، وهذه التوقعات هى ما سنشاهدها اليوم، وهذا نقيض ما نادى به سامويل باتلر بخصوص الأدب العظيم فهو يقول (أى إنسان يرغب لعمله أن يُخلد، سيُضحى بكثير من المشاهدين المعاصرين من اجل أن يكون عمله شديد الجاذبية لجمهور أكثر عدداً فى المستقبل).

ولذلك فمشاهدة أفلام جيمس بوند التى صُنعت فى السبعينات يبدو شبيهاً بالتطلع إلى صور لأنفسنا ألتقطت فى الماضى، حيث لا يمكننا ان نُصدق أن لهذا اى علاقة بالوقت الحاضر سواء فى شكل شعرنا وملابسنا وديكورات منازلنا... إلخ، عندما يشاهد الطالب إفتتاحية فيلم مثل " الجاسوس الذى احبنى" " The Spy Who Loved Me " فسوف يفتقد إلى الإستمتاع ليس فقط بسبب القصة بل أيضاً بسبب الموضات التى تنتمى لهذه الحقبة، فهذه الموضات عفى عليها الزمن، وطبقاً لكلمات الفيلسوف ومُحلل ثقافة المستهلك جان بودريلر " Jean Baudrillard " (الموضات مثلها مثل الماركات، كانت لها أيام مجيدة ......).
الجاسوس الذى أحبنى

دعونا نقول أن العديد من أفلام جيمس بوند تحكى القصص فعلاً بطريقة رديئة جداً، فهى مُحملة بالكثير جداً من التأويلات، وتحرص على تسويق نمط حياة (مثلها مثل الإعلانات التليفزيونية الحالية) لجعلك أقرب إلى "المبدأ الأول"، وبالتأكيد فإن الراوى الجيد يجعلك تعايش القصة حتى لومرت سنوات على القصة، أفلام جيمس بوند تتظاهر بانها تقدم لنا قصصاً قوية، لكن كل ما تستطيع منحه لنا هو قصة ضعيفة مع ما يحيط بها من القناعات الثقافية القوية التى تحيط بها.

دعونا نعود إلى المصطلح الذى أستخدمناه منذ لحظة وهو "المبدأ الأول". وما نقصده من هذا المصطلح هو القدرة على الولوج إلى جوهر الأشياء، فقصة جيدة لابد لها ان تكون قادرة على الدخول إلى جذر الموضوع لتستكشفه بطريقة تختلف عن الصحيفة اليومية من حيث زمن وقوعه، وهذا عادة ما نعنيه عندما نقول ان القصة لا زمن لها، وبديهى أننا جميعاً لدينا أمثلتنا من الأفلام القديمة التى مازالت قصصها حاضرة بنفس الطريقة التى ظهرت بها، او بمعنى آخر، الأفلام التى يمكن ان تتجاوز مُعاصريها.

ويجوز لنا على سبيل المثال ان نُقارن بين مشهد مطاردة السيارة والقطار فى فيلم "الوصلة الفرنسية " " The French Connection " بمشهد المطاردة فى بداية فيلم "الجاسوس الذى احبنى"، "المبدأ الأول" فى فيلم "الوصلة الفرنسية" قد يكون "خيبة الأمل"، فهو يوظف مشهد المطاردة – والفيلم يحتوى على الكثير منها – ليمنحنا إحساساً قوياً بالإرادة - لكنها لا تُتوج دائماً بالنجاح -، ومشهد المطاردة يساعدنا كذلك على فهم المقصود من "خيبة الأمل" فيما يتعلق بأنفسنا وبالآخرين. مشاهد المطاردة فى فيلم جيمس بوند هى أقرب ما تكون إلى الحرفية، مثل ما جسده المشهد فى فيلم "الجاسوس الذى احبنى"، إنه لم يكن عن شخص يطارد آخر: إنه عن جيمس بوند - رابط الجأش - الذى يقع تحت ضغط كبير، وبعدئذ يتم فتح الباراشوت فى آخر لحظة، أو فى مثال آخر من فيلم "الإصبع الذهبى" " Goldfinger " - وهو ليس مشهد مطاردة - عندما يتلافى جيمس بوند شعاع الليزر القاتل.

ومن الواضح ان هذا البُعد التافه لا يصدق على كل أفلام جيمس بوند، ويحق لنا أن نتسائل ما الذى أضافه دانييل كريج إلى مزايا جيمس بوند، فرباطة الجأش تمهد الطريق لإتخاذ موقف، لكن الأمر يبدو كما لو أن المبدأ لا يكمن فى الشيئ الذى تُركز عليه أفلام جيمس بوند بشكل عام، ولكن فى التأثير الذى يمكن أن يحصل للمشاهدين: مثل إستخدام أرض المعارض بطريقة فكاهية كمكان لركوب الخيل.
الوصلة الفرنسية

فى فيلم "الوصلة الفرنسية" نحس ان الفيلم يريد ان يركز كثيراً جداً على مشكلة فى متناول اليد، وان الجمهور يتورط فى هذه المشكلة، ولم يستسلم الفيلم للمطلب الدائم بتلبية توقعات المشاهدين. إذا كنا نقدر كلاسيكيات السينما الهوليودية غالباً، او الأفلام ذات الأفكار المركبة فى حقبة السبعينات، وكذلك فيلم "الوصلة الفرنسية" وفيلم "الحى الصينى " " Chinatown " وفيلم "طار فوق عش المجانين" " One Flew Over the Cuckoo’s Nest " وفيلم "المحادثة " " The Conversation " وفيلم "صائد الغزلان" " The Deer Hunter " فهذا التقدير يأتى بسبب اننا نشعر بان هذه الأفلام تتحرى الدقة فى الموضوعات التى تتناولها ولا تهتم فقط بما يريده الجمهور وما يتوقعه، ومن الصواب ان نقول أننا تمتعنا بهذه الأفلام كثيراً، وهذا قد يساعد فى توضيح لماذا يذهب العديد منا لمشاهدة آخر الأفلام الهوليودية. "الأفلام الكبيرة".

ولكن ثمة حقيقة أخرى وهى أن العديد منا يشعر بخيبة الامل من مثل هذه الأفلام - الأكشن والكوميدية - ذات الميزانيات الكبيرة، ففى القسم الأخير من هذه الأفلام ذات الثلاثة فصول نشعر بالتعب يحل بنا، وهذا يحدث رغم ان هذه الأفلام تتفانى فى الترويح عنا، لكنها تفتقد إلى "المبدأ الاول" الذى يجعلنا متعايشين، دعونا نقول ان هذا هو الفارق الرئيسى بين فيلمين من أفلام السينما الرائجة مثل فيلم "الجاسوس الذى أحبنى" وفيلم " الوصلة الفرنسية".

 2

الفيلم الذى ينطبق عليه "المبدا الروائى الاول " هو فيلم "الساموراى السبعة" " Seven Samurai " للمخرج اليابانى العظيم أكيرا كوروساوا، وكذلك فيلمه "ديرسو اوزالا" " Dersu Uzala " فشخصية ديرسو اوزلا الذى يتسمى به الفيلم هو صياد فى البرية، هدفه ان يظل على قيد الحياة، وبناءاً عليه فالفيلم يتناول الكيفية التى يتبعها هذا الإنسان فى البرية، وكيف يكون بمقدوره مساعدة الآخرين فى البقاء على قيد الحياة أيضاً، المشاهد المتوترة فى الفيلم لا تاتى من صراعه مع شرير فوق العادة، او محاولته لحماية العالم –مثلما نشاهد فى افلام جيمس بوند حيث الغرض الأساسى يبدو انه لا يكون فى القصة ولكن فى مكونات العصر من بنات جميلات وكل تلك الاماكن شديدة الجمال، ولكن التوتر فى فيلم "ديرسو اوزالا" ياتى من مصارعة الطبيعة.

فى احد المشاهد العظيمة يحمى الصياد أصدقاءه الروس من البؤس والموت المحتمل ببناء كوخ من الأعشاب على وجه السرعة كملجا من العاصفة القادمة، مقولة الفيلم تأتى من كلمة "النجاة" ،تماماً مثلما نجد مقولة "خيبة الأمل" هى المقولة التى تعتمد عليها أفلام الإثارة الهوليودية مثل فيلم "الوصلة الفرنسية"، نستطيع ان نرى كيف سينجو الصياد والروس فى صراعهم مع عناصر الطبيعة. كانت توجد الكثير جداً من الأفلام التى يتصارع فيها إنسان مع الطبيعة فى بداية ومنتصف السبعينات – وهو نفس الوقت الذى تم فيه عمل فيلم "ديرسو أوزالا"- ومن هذه الأفلام فيلم "إنسان فى البرية" " Man in the Wilderness " من بطولة ريتشارد هاريس وجيرميه جونسون مع روبرت ردفورد، وكذلك فيلم أسترالى جميل بسيط إسمه "عطلة الأسبوع الطويلة" " The Long Weekend ".

وللمساعدة فى فهم سبب قابلية مثل هذين الفيلمين، هناك تعليق قاله المخرج جون بورمان إثناء إخراجه لفيلم "الغابة الزمردة" " The Emerald Forest " حيث تحدث عن الكيفية التى نعتمد فيها جميعاً على بعضنا البعض، وان القليل جداً من الناس فى العالم يمكن ان تنطبق عليهم صفة الإعتماد على الذات مثلما تفعل الشخصية المحورية فى فيلمه.

وهذا يوفر للفيلم قضية فلسفية نستخلصها من قصة عن شخصية تتجاوز العقبات، وإذا قارنا بين الصياد "ديرسو" بجيمس بوند فإننا سنرى الفرق بين الإعتماد على الذات وبين فرض الذات، فجيمس بوند يعتمد على الكثير من الناس، وسواء كان ذلك أموالاً او أشياءاً أو هدايا لإنجاز أكبر قدر ممكن من الشيئ، فإن جيمس بوند يفعل ذلك بالطبع فى صالح الفكرة المجردة عن العالم الحر. ويمكن القول أن الشخص الذى يستحق ان يكون مدافعاً عن العالم الحر، هو "ديرسو اوزالا" الذى يعيش فى البرية ويحمى كوكب الأرض ببساطة من خلال إستخدام مصادر الطبيعة للضرورات التى تطرأ عليه حتى يمكنه ان يواصل، إنه لا يريد سوى ضروريات الحياة، حتى اننا نجد انفسنا نطرح أسئلة عن التعقيدات التى تصادفنا فى حياتنا وكيف اننا نعتمد على الآخرين.

فيلم مثل "ديرسو اوزالا" لاكيرا كوروساوا يمكن ان ينبهنا ان الأفلام لا تحتاج ان تتنافس على الميزانيات الكبيرة التى تُنفق على أفلام الأكشن لكى تكون مليئة بالتوتر والتشويق، فالمشاكل التى تعانى منها الطبيعة كافية لتحقيق التوتر والتشويق. من الصعب طبعاً ان نتخلى عن أفلام الميزانيات الكبيرة، ولكن إذا بدت أفلام جيمس بوند شديدة الاهمية، فهذا بسبب الطريقة التى تعرض بها حقبة زمنية وليس بسبب قدرتها على سرد قصة - أليست أفلام جيمس بوند من منتجات العالم الأول الثرى ومن إفراز مرحلة العسكرة فى الستينات؟ - وهذا ربما يكمن فى الميزانيات الكبيرة لهذه الأفلام التى تُنفق على تفاصيل لا اهمية لها ولا تهتم بتطوير القصة. فى المشهد الذى نرى فيه ديرسو والجنود الروس يبنون كوخاً، المشهد طويل جداً لكن تفاصيله أساسية، بينما فى العديد من أفلام جيمس بوند نجد أن اللقطات قصيرة وتعطينا معلومة جديدة بسرعة، وغالباً فإن هذه المعلومة ليس لها لزوم فى القصة ولا مبرر لها ولكنها على أيه حال تكون مُسلية.

دعونا نستدعى المشهد الذى يأتى فى بداية فيلم "الجاسوس الذى أحبنى" حيث السكرتير الشخصى لشرير الفيلم يتغذى على سمكة قرش ويتسمع إلى موسيقى "الهواء" " Air " لباخ.، بينما مكتبه تُحيط به أعمال فنية من عصر النهضة، والإثنان المسلحان الذان يوظفهما يشهدان الموت وهما يعرفان أن الأمر لابد أن يُنظر إليه كقصة تحذيرية: فالعمل الذى فعلاه لكارل جيرجنس الشرير يُلزمهم ألا يفشوا سره. هنا نجد ان الإهتمام بدفع القصة أقل من الإهتمام بالمحافظة على الجمهور مستمتعاً، من الواضح أن موت سمكة القرش مجرد تنويه لفيلم الفك المفترس – الذى شاهده الجمهور قبل سنتين وهو أيضاً نوع من العلامات الثقافية الأخرى، لا يمكن لأحد أن يشعر بالملل من مشاهدة هذا المشهد من فيلم "الجاسوس الذى أحبنى"، ونفس الحالة من المتعة التى يشعر بها الطلاب عند مشاهدة مقاطع من فيلم "ديرسو أوزالا"، ولكن هل متعة المشاهدة فى المشهد المُشار إليه من فيلم "الجاسوس الذى احبنى" كانت بسبب اهمية المشهد أم بسبب العناصر الترويحية فيه؟ وأن المُشاهد يندمج بسهولة وبشكل مريح فى المشهد بصرف النظر عن فظاعة الاحداث المُصورة؟ إنظروا إلى لقطات رد الفعل المستمرة بين الرجلين المسلحين وبين النظرة القاسية على وجه كارل جيرجنس.

 3

فى علم 1960 تم عرض فيلمين فى نفس السنة، أحد هذه الأفلام يتم تصنيفه كواحد من أفضل الأفلام فى تاريخ السينما، إنه فيلم "سيكو"، والفيلم الثانى حظى بأعظم تقدير، إنه فيلم "المغامرة" " L’Avventura "، وعندما عُرض فيلم "سيكو" فى مهرجان كان – وكان عرضه الأول - تم إستقباله بإستهجان كبير، لكنه بسرعة أصبح واحداً من أفضل عشرة أفلام فى تاريخ السينما طبقاً لإستطلاع الرأى الذى أجرته مجلة "سايت اند سوند" وكان هذا بعد سنتين من عرضه الجماهيرى. ما الذى يتشارك فيه الفيلمين؟
سيكو

الإثنان يستبعدا ما يبدو أنهما الشخصيتين المحوريتين من المراحل الاولى من الفيلمين، وطبقاً لبعض الأراء فإن الفيلمين لا يحتاجان إلى بطل لكى يكون موجوداً دائماً فى الفيلم، والسؤال الذى يجوز لنا ان نسأله هو، ماذا يحتاج الفيلم إذا لم يكن فيه شخصية رئيسية دائماً؟ فى فيلم هيتشكوك فإن ما يحتاجه الفيلم هم التوتر السينمائى، بخلق قصة قوية تقود المُشاهد من مشهد إلى مشهد. فبعد مقتل ماريون كرين تتغير المشكلة، وبدلاً من حالة القلق بسبب محاولات ماريون كرين ان تهرب بالأموال، فإننا نتابع نورمان باتس فيما يقوم به ليتخلص من جثة ماريون،

هذه هى عبقرية هيتشكوك فهو يضعنا فى القصة أكثر مما يضعنا فى الشخصية، وعلى سبيل المثال، عندما تستعد ماريون كرين لسرقة الأموال فى غرفتها فى الفندق، فإن الكاميرا تراقب ما تفعله أكثر من متابعتها، ومع ذلك نكون واعين – على أيه حال – لا شعورياً أننا يجب ان نتبع الكاميرا أكثر من متابعة الشخصية. هيتشكوك ببراعتة لا يضعنا فى عالم الشخصية ولكن فى المشكلات التى تخلقها القصة، ولذا فمن المنطقى اننا بعدئذ سوف نحول إهتمامنا إلى نورمان باتس وإلى كم المشاكل التى يصادفها أثناء تنظيفه المكان.

فى مناقشته مع المخرج والناقد الفرنسى فرنسوا تريفو قال هيتشكوك أن بعض المخرجين هم مخرجون كبار "لأفلام الشخصية" وهناك آخرين هم مخرجو "أفلام قصة"، وكان هيتشكوك مخرج قصة عظيم. ولكن ماذا عن انطونيونى؟ والذى قال عنه احد النقاد إنه يملأ فيلمه بالزمن الميت (شاشة فارغة من الحدث) وهذا لا يسمح للقصة ان تتطور، والأكثر من ذلك أنه سمح للشخصية الرئيسية فى فيلم "المغامرة" ان يختفى تماماً؟ أنطونيونى ليس مخرج شخصية وليس مخرج قصة، دعونا نقول ان هناك مخرجي جو عام أيضاً، وانطونيونى واحد منهم، وديفيد لينش أيضاً ولكن بطريقة مختلفة نوعاً ما، ولكن إذا كان انطونيونى مخرجاً عظيماً للفراغ– مثل طريقته فى عرض بلدات الجنوب الإيطالى الفارغة، او عرضه لمدينة لندن بطريقة غريبة وطليعية فى فيلم "تكبير الصورة" " Blow Up " أو عرضه لإيطاليا ما بعد الصناعة فى فيلم "الصحراء الحمراء"، فإن ديفيد لينش يبدو حالماً أكثر بكثير.

فى فيلم "الطريق السريع المفقود" " Lost Highway " يفقد ديفيد لينش الشخصية المحورية للفيلم، ويتيح له ذلك ان يتحول إلى شخص آخر، إذا كنا مهتمين كثيراً بالحبكة والشخصية فربما نشعر أن الفيلم فاشل، لكن إذا فكرنا فى مصطلح "فيلم الجو العام" والطريقة التى يخلق بها بعض الاحلام الغريبة والغير إعتيادية فسوف يكون موقفنا من الفيلم شيئاً آخر، فمثلما يستطيع أنطونيونى خلق إحساس غريب بالإغتراب المكانى فى بعض أعماله بواقعية، كذلك الحال مع ديفيد لينش فهو يفعل ذلك بطريقة حلمية.
الطريق السريع المققود

لا ينبغى علينا أن نحاول فهم قصة فيلم "الطريق السريع المفقود" يجب علينا أن نحاول أن نلج إلى عالم الفيلم، وأن نحاول تعطيل المنطق. هنالك بالتأكيد الكثير من الأفلام التى نشاهدها دون أن ننخرط فيها، لكن توجد أفلام أخرى نجد انفسنا ندخل فيها، ربما تقول الناقدة بولين كايل " Pauline Kael " عن أفلام أنطونيونى وألن رينيه وآخرين فى كتاب " Kiss Kiss, Bang Bang " ان الناس تتقبل "أن يكونوا مُعطلى المنطق" بنوع من الإستسلام، وربما أفلام ديفيد لينش تروق كثيراً للجمهور الحديث بمثل هذه الطريقة. لكننا لا نقول أن الجمهور يترك مشاكله المستعصية عند الباب، الأمر ببساطة انهم يتقبلون أفلاماً معينة تقدم مشكلة مستعصية مختلفة، ولذلك وبدلاً من تكريس وقتنا وطاقتنا فى أفلام مثل "الطريق السريع المفقود" وفيلم "مولهولند درايف" " Mulholland Dr " لكى نفهم القصة، ونتسائل عن الحالة النفسية للشخصيات، ربما نحن نحتاج أن نفكر أكثر فى أحلامنا ومشاعرنا، ونفكر فى الجو العام الغريب للفيلم ونستدعى لحظات من حياتنا لم نكن نفهمها، إذا قبلنا أن أفلام ديفيد لينش تحطم نظرتنا المسبقة للفيلم الروائى وتحطم أفكارنا عن الحكى، عندئذ لابد لنا ان نسأل أنفسنا لماذا يبدو الأمر مشكلة.
مولهولند درايف

العديد من المخرجين الآن يعملون على فكرة الاحلام، لكنهم يفعلون ذلك من خلال القصة، وفى الثمانينات كانت هناك الرغبة فى عمل أفلام تعتمد على فكرة الأحلام مثل فيلم " Brainstorm " وفيلم "الاحلام" " Dreamscape " وفيلم "نهاية النطاق" " The Dead Zone "، لكن هذه الأفلام كانت فى جانب القصة اكثر من الجو العام، أفلام ديفيد لينش يمكن فهمها أفضل إذا إعتبرناها أفلاماً ليست عن الأحلام ولكن كما لو اننا داخل حلم، فهى تتيح لنا ان نشاهد الفيلم وكأنه ظل غامض يشبه ما نراه أثناء نومنا القلق. فعندما ننام فإننا نحكى قصصاً فى احلامنا، ولكن لان هذه القصص تُحكى فى الأحلام فنحن لا نتوقع أن تكون مفهومة منطقياً، لكننا نتوقع من هذه القصص أن تكون لها دلالة نوعاً ما ضمن ما تتغلف به من غموض، وقد يكون من العدل أن نقدم نفس التنازل فيما يتعلق بأفلام ديفيد لينش، فهو يستكشف جواً عاماً على حساب القصة والشخصية، وهو يوسع الخيارات فى تجربة المُشاهدة بدون أن يلغى البعد القصصى كلية.

وبشكل عام نحن إخترنا مقاطع فيلمية تتحدث عن القصة والأسلوب ..إلخ، وهذا يوفر الإستثناءات اكثر من توفير القاعدة حتى تتصدر إهتمامنا، ومثل المشاهدين فنحن نكون متهيئين دائماً لكى نندمج فى الأفلام التى تلتزم بالقواعد، لكن الإستثناءات هى الأصعب عندما نبدأ بها، الإستثناءات تساعدنا أيضاً فى تحديد أكثر سهولة للقواعد المقبولة بشكل عام لأنها تعمل عكس توقعاتنا.

عندما نستخدم عبارات مثل "لاشيئ يحدث" أو "التوصيف ليس قوياً جداً" أو "أنا فعلاً لا أستطيع تتبع الحبكة" فهذا لأننا معتادون عادة على نوع من القواعد والشروط التى وضعها أرسطو منذ 2000 عاماً من الزمان عندما تحدث عن وحدة الحدث وموائمة الشخصية والصفات الطيبة للشخص.

وعلى ضوء هذا المعنى، يبدو المخرج إريك رومر كما لو انه يستهدف كسر العديد من القواعد – هو الذى أخرج فيلمى "ليلتى فى بيت مود" " My Night at Maud’s " و"رُكبة كلير" " Claire’s Knee "، ورغم ذلك فهو يدعى بانه محافظ جداً، وهو على حق فى نظرته إلى نفسه من زاوية الأسلوب السينمائى – هو يُفضل اللقطات المتوسطة، والعدسات العادية أكثر من عدسات واسعة البعد البؤرى أو العدسات المقربة، وهو يعمل المونتاج الذى يجعلنا مدركين لمكان وزمان الحدث دون إلتباس - يقال ان العدسات العادية تشبه عين الإنسان-

وعلى العكس من المخرجين الفرنسين الذى كانوا من جيله مثل جان لوك جودار وألان رينيه، فهو لم يخلق إلتباساً مكانياً بقطعات مونتاجية غير منطقية والتى تكسر وحدة المكان مثل فيلم "اللاهث" " A Bout de Souffle " لجودار، وهو لا يقطع مونتاجياً بطريقة تجعلنا لا نعرف يقيناً أين نحن زمنياً مثل فيلم "العام الماضى فى مارينباد" " Last Year at Marienbad " لألان رينيه، فالأمر شبيه بما قاله من ان ما يهمه أن السينما لها شكل فنى واحد (حيث واقع الشيئ الذى نعمل عنه فيلم هو الأعظم اهمية) وبتعبير آخر فإن الفيلم يسجل الواقع، بينما العديد من الفنون الاخرى لا تفعل ذلك: يجب على المخرجين إحترام الواقع الذى يصوروه، وهذه هى الرؤية المحافظة.

ولكن إذا تناولنا الأمر من زاوية القصة والشخصية فإن أفلامه إبتكارية ومُغامِرة، دعونا نتناول الشخصية المحورية فى فيلمه "المُحصل" " La Collectionneuse ": إنه رجل يأمل ببساطة أن يمضى شهر الصيف بدون ان يعمل شيئ، إنه يريد ان يستيقظ مبكراً حتى يتجنب إغراءات سان تروبيه القريبة، فمن المؤكد ان شيئاً ما يمكن أن يحدث، لكن بالطبع، فإن أى محاولة فى عمل لا شيئ تتسبب فى حدوث شيئ حتى ولو كان هذا الشيئ فى عقل الشخصية فقط. وكما قال إريك رومر، إنه لا يهتم كثيراً بما تفعله شخصيات أفلامه، لكنه يهتم بما يفكرون فيه عندما يفعلون – او لا يفعلون- شيئاً، رؤية إريك رومر وجودية فى العديد من النواحى وتتبع نفس منحى ألبير كامى وسارتر وآخرين فى الإتفاق على الفكرة التى تقول أن الهوية لا تُمنح ولكننا نحن الذين نُصيغها بأنفسنا، فالوجود يسبق الماهية كما قال سارتر.

ومع ذلك فرومر كانت لديه تحفظات على تسمية أفلامه وجودية، ليس فقط بسبب ان شخصياته لا تسيطر على أقدارها، ففى فيلم "الشعاع الأخضر" " The Green Ray " ،هناك غروب شمس غريب فى نهاية الفيلم وهو يمر طلباً لمعجزة، فالطبيعة أحد الملامح الرئيسية فى أفلام إريك رومر الذى قال فى أحد المرات أن أفلامه ليست أفلاماً دينية، لكننا لن نجد مخرجاً أكثر لاهوتيه منه. لكن إريك رومر هو مزيج من علم النفس الوجودى بالإضافة إلى علم الظواهر الإنطباعى – الجانب الإدراكى- إذا كانت رؤية رومر محافظة فهذا ربما يكمن فى إحترامه لعفوية بصرية معينة: فهو يريد أفلامه أن تشبه الجمال البسيط للطبيعة، والمنظر الطبيعى محورى جداً فى الإنطباعية، وبمزج البهجة الإنطباعية مع صعوبة أتخاذ قرار وجودى- فكثيراً ما تتهيأ شخصيات رومر لإتخاذ أحد الخيارات، أو تتخذ الخيار الأصعب وتحاول الإلتزام به، كما فى فيلم "الزواج الجميل" " Le Beau Marriage " وفيلم "قصة صيف" " A Summer’s Tale " وفيلم "قصة شتاء" " A Winter’s Tale " – أفلامه أصبحت إستثنائية وسابقة لزمانها، وكونها سابقة لزمانها فهذا جديد على السينما بالرغم من وجود هذا فى أشكال فنية اخرى.

هذا الشيئ لابد أن نفكر فيه دائماً عندما نتسائل إذا ما كان للفيلم تأثير أم لا، هل نعتقد احياناً أن هذا لا ينجح لأنه يرفض أن يتوافق مع التقاليد التى نتوقعها؟ ربما نحتاج أن نبحث عن بعض من تأثير الفيلم فى مكان آخر، يسمح رومر لنفسه أن يكون متميزاً سينمائياً بمزج القضية الفلسفية وإتخاذ القرار الأخلاقى مع شغف بفن الرسم لتصوير الفصول. أفلامه الأولى تسمى نفسها "حكايات أخلاقية" " moral tales’" وإذا كانت التأثر بالفلسفة واضح فى فيلم "المُحصل" " La Collectionneuse " وفى فيلم "ليلتى فى منزل مود" وفيلم "ركبة كلير" ففى نهاية مشواره الفنى أخرج ما يمكن أن نسميه أفلامه عن الأربعة فصول السنوية، "قصة الربيع" و"قصة الشتاء" و"قصة الصيف" و"قصة الخريف" وهى توحى بتأثره بالفن التشكيلى وخاصة الفن الإنطباعى.

ما ألمح إليه بالنسبة لرومر، أنه حرر الفيلم بجعله "إستثناءاً"- وأثبت ان القواعد السينمائية لم تُوضع إلا لتغييرها، وما نستطيع أن نقوله أيضاً عن المخرجين من أمثال رومر أنهم لا يصنعون فيلماً من العدم فقط، لكنهم - بالمفهوم البحثى- لا يتوقفون عن فهم الحدود السينمائية، لكن ثمة حدود أخرى أرحب هى الحدود الجمالية والسيكولوجية والفلسفية. فى الواقع –

يالها من مفارقة، أننا قد ننتهى إلى القول أن هناك أفلاماً تحتوى على قصص هزيلة، أو انها تهتم بالفصص الفرعية أكثر، حتى ان هذه القصص الفرعية تستأثر بالإثارة وينطبق هذا على أفلام جيمس بوند إذا إستبعدنا الحرفية منها –على سبيل المثال- وإذا حزفنا أيضاً المؤثرات الخاصة من أفلام مثل "يوم الإستقلال" " Independence Day " وفيلم "أرماجيدون" " Armageddon " فما الذى سيبقى من هذه الأفلام؟.