01‏/12‏/2011

فيلم ممر الى الهند لديفيد لين .

ممدوح شلبى .
جودى ديفيس فى فيلم ممر الى الهند
لا يبدأ فيلم ممر الى الهند بنفس المشهد الافتتاحى للرواية التى كتبها اى ام فورستر واصفا مدينة  شاندرابور الهندية فى عشرينات القرن العشرين اثناء الاحتلال البريطانى للهند ، ففورستر يستعرض المدينة وتاريخها ويتوقف عند الشخوص الهندية موضوع روايته ، بينما فيلم ديفيد لين يبدأ من احد شوارع لندن ، حيث نتعرف على بطلة الفيلم  ادلا كويستد  ( جودى ديفيس – ممثلة استرالية الاصل عرفها جمهور السينما العالمى فى الفيلم الامريكى My Brilliant Career  ، اننا نرى ادلا كويستد تتوقف امام الواجهة الزجاجية لاحدى شركات السياحة والسفريات ، ثم تدخل لكى تحجز تذكرتين للهند واحدة لها والاخرى للسيدة مور  ( بيجى اشكروفت ) التى سنتعرف عليها لاحقا . 
ان رحلة السيدتين الى الهند تستهدف زيارة ابن السيدة مور -  رونى هيسلوب ( نيجل هافرس ) ، الذى انجبته من زواجها الاول ، والذى يعمل قاضيا فى مدينة شاندرابور ، وتربطه علاقة عاطفية بادلا كويستد لكنهما ليسا مخطوبين .

ومع لقطة بانورامية للميناء الهندى ، نعرف ان السفينة وصلت ، ومع وصولها نستمع الى المارش العسكرى الذى تعزفه البحرية الهندية احتفالا باستقبال احد الشخصيات البريطانية الرفيعة ، ثم تتواصل الرحلة فى قطار يقل السيدتين الى المدينة ، انها براعة مخرج عظيم مثل ديفيد لين الذى لا يفوته ان يقدم الهند بسحرها ضمن سرده الفيلمى وفى سياق الرحلة ، فديكور قطار النوم وايقاعه ومشهد مرور القطار فوق احد الكبارى عابرا احد انهار الهند ، ثم محطة القطارات وازدحام الهنود وفوضويتهم وايضا الرائحة الكريهة ، اننا امام مخيلة ديفيد لين الذى كتب السيناريو بنفسه معتمدا على رواية فورستر ومسرحية معدة عن نفس الرواية قامت بكتابتها سانثا راما راو  فحشد ديفيد لين  في فيلمه كل هذه التفاصيل الدقيقة ، فقد عُرف عنه عشقه لهذه الرواية على مدى عشرين سنه قبل ان يتشجع لاخراجها فى فيلم .

ان الفيلم يقدم لنا الاستعمار من وجه نظر نقدية من ابناء الامبراطورية البريطانية نفسها ، فكل من فورستر وديقيد لين يدينان روح التعالى لامبراطوريتهم ، فالجالية البريطانية فى مدينة شاندرابور نقلت ارستوقراطيتها  معها من بريطانيا الى الهند ، فملعب سباق الجياد  وملعب الكريكت والنادى البريطانى وحفلاته الغنائية المسائية ، والفيلات التى تقيم فيها الجالية ، والخدم من الهنود ، كل هذا يتناقض تماما مع واقع حال الهنود التى يلخصها الدكتور عزيز ( فيكتور بانارجيى ) ، ذلك الطبيب الهندى الذى يُعانى الفاقة ويسكن فى منزل وضيع ، ان المخرج يلخص هذه العلاقة  بلقطة توديع السيدة مور لعزيز فى اول لقاء لهما ، فعزيز يودع مور على باب النادى فتذهب اليه بينما يبقى عزيز امام البوابة ، تلك التى تحظر على امثاله ولوج مثل هذه الاماكن ( لعلنا نتذكر ايضا فيلم غاندى الذى ركز على نفس هذا السلوك الاستعمارى المقيت اثناء ركوب غاندى لاحد القطارات وارغامه على الانتقال الى الدرجة الادنى لانه ليس بريطانيا ) .

ان الظهور الاول لبطل الفيلم ( دكتور عزيز ) يأتى فى ادانة واضحة للاستعمار البريطانى ومنذ اللحظة الاولى  فالسيارة التى تقل الشخصية البريطانية الرفيعة تكاد تصدم وتسحق عزيز وصديقه اللذان يركبان دراجتين فيقعان على الارض بينما السيارة تواصل تقدمها الجنونى ، لقد اراد ديفيد لين ان يحدد موضوع فيلمه الاحتجاجى اللاذع من اللحظة الاولى لظهور عزيز.

ان الفيلم يرصد العلاقات الانسانية بين المجتمعين فى ظرف استثنائى ، فعزيز يتعرف على السيدة مور عن طريق الصدفة ، فبينما كان قابعا وحيدا فى المسجد ربما ليرثى حاله فهو ارمل وفقير ، فيُفاجأ بدخول السيدة مور ، فقد اتت بدافع الفضول ، ومنذ تلك اللحظة يصيران صديقين .

ان عزيز له صداقة ايضا بناظر المدرسة ريتشارد فيلدينج  ( جيمس فوكس ) ، وسوف تُذكرنا هذه الشخصية بشخصية القس فى فيلم غاندى ، ان فيلدينج يختلف عن البريطانيين المتغطرسين ، انه الوجه العظيم للبريطانيين العظماء ولكنهم للاسف لا يملكون سوى الاحتجاج ، فالروح السائدة معادية للشعوب ومتعالية عليهم .
يستقبل فيلدينج عزيز فى منزله اثناء الاستحمام ، فنرى عزيز منبهرا  بديكور المنزل ومقتنيات فيلدينج ، لكن عزيز لا يحسده ، ومن خلال هذا الناظر يصير الدكتور عزيز صديقا للآنسة ادلا كويستد اثناء حفل تعارف فى منزل فيلدينج يحضره ايضا جادبول ( اليك جينيس ) وهو فيلسوف هندى ، يٌبدى نوعا من التعلق بالسيدة مور التى تحضر اللقاء والتى تُباغتها نظرات جادبول فتتهرب منها .

سيتوجب على الدكتور عزيز ان يُنفق الكثير على ضيوفه الاربعة ، الآنسة ادلا والسيدة مور والناظر فيلدينج والفيلسوف جانبول ، فسوف يصطحبهم لزيارة كهوف مارابان على نفقته الخاصة ، تلك الكهوف المنحوتة فى الكتلة الصخرية ، والتى لا تحتوى على اى آثار دينية او تاريخية ، انها مجرد فجوات فى الكتلة الصخرية  ، وهناك فى هذه الكهوف تنفرد ادلا بعزيز بعد ان شعرت السيدة مور بالتعب ففضلت الجلوس ، وبعد ان تخلف الرجلين عن الرحلة بعد ان فاتهما القطار .

ان ادلا تسأل عزيز عن زوجته المتوفاه ، فيهرب عزيز منها ويبتعد عنها ليدخن سيجارته وربما راثيا حاله كأرمل ، وعندما يعود لا يجد ادلا .
ان ادلا تعود الى المدينة ، ولكنها تكون فى حالة مزرية ، فخفافيش احد الكهوف نهشوا جسمها . وبينما يتم علاج ادلا ، تكون قد تسربت شائعة تقول ان الدكتور عزيز اعتدى جنسيا على ادلا فى احد الكهوف ، فيتم القبض عليه لمحاكمته .

تلك المحاكمة هى الخطاب النقدى الحاد الذى يتشارك فيه كل من مؤلف الرواية ومخرج الفيلم ، لتوجيه اشد نقد ممكن الى امتهم البربطانية ، ان هذا النقد لا يبدو تطهيريا من جيل ديفيد لين الذى شهد فى حياته انتهاء الامبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس ، لانه ببساطة كان نقد فورستر مؤلف الرواية الذى كان معاصرا لهذه الامبراطورية فى عشرينات القرن العشرين فى اوج الامبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس -  فقد عاش فورستر 81 عاما وتوفى فى عام 1970 ، ما يعنى انه كان فى بداية الثلاثينيات من عمره عندما كتب هذه الرواية التى تُؤرخ لعشرينات القرن العشرين فى الهند .

تلك الروح النقدية تنتمى للنقد الذاتى ، وهى تتخذ عند هذين العبقريين شكل الجلد لشعبهمها البريطانى ، وربما لهذا السبب يتم وضع رواية ممر الى الهند ضمن احسن مائة رواية فى تاريخ الادب البريطانى الحديث ، ويتم وضع الفيلم ايضا ضمن اروع ما انتجته السينما فى تاريخها كله ، فقد حصل هذا الفيلم - ولأول مرة فى تاريخ الاوسكار الامريكى  - على 11 ترشيحا .

ان مشهد المحاكمة  سبق التقديم له باعتقال عزيز بمجرد وصول القطار الى المدينة ، ولان اتهام عزيز بالاعتداء الجنسى على ادلا يبدو اتهاما بشعا وغير ممكن الحدوث بالنسبة لمن يعرف عزيز عن قرب ، مثل الناظرفيلدينج والسيدة مور واصدقاء عزيز من الهنود  ، فان هذا الاتهام يقود الى تظاهر الهنود  تعبيراعن استياءهم ، كما يُهدد فيلدينج بالاستقالة من النادى البريطانى احتجاجا على اتهام عزيز بهذه الوقاحة دون وجود دليل مادى ، لكن الجالية البريطانية تتمادى فى  سفهها ، ويمثل عزيز فى المحاكمة التى تحضرها ادلا ، ويطلب محامى عزيز حضور السيدة مور لكى تُدلى بشهادتها ، لكنها كانت قد سافرت كما كان مخططا لذلك منذ المشهد الافتتاحى للفيلم ، فتذكرتها لها موعد عودة محدد .

ان السيدة مور توافيها المنية فى عرض البحر ، وبينما يبدو ان الدليل الوحيد على براءة عزيز قد غاب بغياب السيدة مور ، فان ادلا تتحدث عن الواقعة وتنفى حدوث تحرش من عزيز ، فيتم تبرأة عزيز ، فنرى رد الفعل على الهنود المحتشدين خارج قاعة المحكمة ، فقد تحولت القضية من مجرد حادثة سلوكية عادية يصح فيها الادانة او البراءة ، الى قضية الاستعمار نفسه .

ان ديفيد لين لا يسرد لنا تفاصيل ما حدث فى الكهف اثناء حدوثه ، ولكنه يسرد لنا هذه التفاصيل بصيغة الفلاش باك فى مشهد المحاكمة من وجهة نظر ادلا .

ان المعالجة الدرامية لفيلم ديفيد لين يمكن النظر اليها من عده وجوه ، فهو قد حول الحدث الى مُفاجأة درامية ، على حين ان الحدث يمكن تقديمه بصيغة المفارقة الدرامية ، فالمشاهد عندما يعرف تفاصيل ما حدث فى الكهف سيعرف ان عزيز بريئ ، وغنى عن القول ان المفارقة الدرامية اوقع من المُفاجأة الدرامية لانها تسمح بمشاركة المشاهدين للحدث وتوريطهم عاطفيا ، لكن ديفيد لين ربما كان واعيا الى ان فيلمه فذ وسوف يكرر الجمهور مشاهدته مرات اخرى ، ما سيؤدى الى تحويل المفاجأة الى مفارقة فى المرة الثانية للمشاهدة ، ربما ايضا ان ديفيد لين اراد ان يُكثف الزمن فى مشهد المحاكمة - وهو المشهد الرئيسى للفيلم - من اجل تحويل الحدث من الشكل الروائى الى الشكل الدرامى ، وربما اراد ديفيد لين الا يُعيد سرد وقاع ما حدث ، فيقع فى رتابة التكرار ، وربما تأثر ديفيد بنوعية الفيلم الحداثى الذى بدأ فى ستينيات القرن العشرين مع افلام الموجة الجديدة فى فرنسا وألمانيا ، حيث مالت السينما الى عزل المشاهدين عاطفيا عن الحدث الدرامى بهدف استفزاز الجمهور لكى يتخذ موقفا عقليا فى موضوع لا يقبل الا ان نناقشه بدلا من التسلى به كدراما .

ان ما فعله ديفيد لين يُصادف معظم كتاب الدراما عندما يُحُولون الادب الروائى الى فيلم سينمائى ، وغالبا فان اختيارهم سيكون عكس اختيار ديفيد لين لاعتبارات نظرية ، اما ديفيد لين فانه يقلب الثوابت ليستكشف  بفنه مناطق لم تطأها قدم درامتورج  – وهو جدير بذلك – فالفيلم يبدو افقا لا يستطيع احد ان يصل اليه وسرا من اسرار السينما الخالدة .

ان فيلم ممر الى الهند ينتمى الى نوعية افلام الملاحم ، وهى النوعية التى بدا ديفيد لين متخصصا فيها ، فله فيلم لورانس السعودى وجسر نهر كيوى - ولقد شاهدنا الفيلمين مرارا فى التليفزيونات العربية - حيث نجد ان الاحاطة البانورامية بالمجتمع تسيطر على الاحداث اكثر من الشخصيات وان اطراف المجتمع تتداخل جميعا فى سياق الفيلم ، دون التخلى بالطبع عن الشخصيات الرئيسية ، وغالبا فان سلوكها يكون مرهونا بهذا الظرف الاجتماعى والتاريخى  ، وانها تمثل رموزا اكثر من كونها حالات شخصية .

ان الفيلم الملحمى يهتم بالحبكات الصغيرة التى تصيغ الموضوع الرئيسى ، وربما لهذا السبب فان الحكم على الافلام الملحمية بنفس قواعد الفيلم الدرامى سيكون نوع من التجنى ، لاننا على سبيل المثال سنلاحظ فى فيلم ممر الى الهند ان اطراف الصراع ليسا شخصين وانما مجتمعين ، ورغم ذلك سنجد نوع من التركيز على شخصية ادلا وعزيز ، رغم انهما لا تربطهما علاقة يمكن متابعتها كموضوع درامى ، فهما مجرد صديقين ، لكن الفيلم يتابع ادلا ويتوقف عندها كثيرا مثل ولوجها على دراجة الى منظقة اثرية هندية ، وكذلك عزيز وما يتعلق به كأرمل محروم عاطفيا ، لكن هذا التركيز على الشخصيات ليس دراميا ، انه نوع من الدراسة عن قرب لنماذج انسانية ، نجد انفسنا متشوقون لمعرفتهم عن قرب بصرف النظر عن خلو الفيلم من المواقف الدرامية المخطط لها باحكام فى الفيلم الدرامى التقليدى .

اود ايضا ان انبه الى اصطلاح آخر لكلمة ملحمى ، وهى صيغة غير درامية للفيلم السينمائى او المسرحية ، هذا الاصطلاح تم استحداثه فى ألمانيا على يد الرائد المسرحى بريخت ، بهدف تأسيس فن غير درامى وانما سردى لعزل المشاهدين شعوريا عن الحدث ، وينتمى فيلم ممر الى الهند لنفس النوعية ، فنحن لا نتوحد مع الشخوص ، اننا نرقب ما يحدث ، تمام مثلما تمنى بريخت ، لكن لديفيد لين اسلوبه المتفرد فى الملحمية بوسائل غير بريختيه ، فهو لا يطلب من الممثلين عدم التمثيل او النظر الى الكاميرا مثلما اعتاد جان لوك جودار ، او ان يقسم الفيلم الى اجزاء منفصله يحمل كل قسم لوحة مكتوب عليها عنوان ، او غير ذلك من وسائل كسر الايهام ، ان ديفيد لين يحقق كسر الايهام عن طريق السيناريو فقط ، فالبنية ملحمية – سردية – لا تسمح لنا بالتوحد مع شخوصه ولكن مراقبتهم .

لقد قام ديفيد لين بعمل المونتاج بنفسه لهذ الفيلم ، ومن المعروف انه بدأ عمله السينمائى كمونتير ، ثم تخلى عن هذه الوظيفة فى كل اعماله كمخرج باستثناء هذا الفيلم ، ولعلنا نفهم مقدار تعلقه الشخصى بهذا الفيلم الذى اراده ان يكون خطابا تقريزيا لشعبه .
 

مع اجمل تحياتى :-

15‏/11‏/2011

والت ديزنى


ترجمة ممدوح شلبى .


الاسم بالكامل :- والتر الياس ديزنى .
تاريخ ومكان الميلاد :- 5 ديسمبر 1901 فى مدينة شيكاغو - الينوى .
تاريخ الوفاة :- 15 ديسمبر 1966

اثناء مشواره الفنى الذى دام 43 عاما فى هوليوود ، والذى تمحور فى تطوير صناعة افلام الكرتون لكى تصبح فنا امريكيا مستحدثا ، فان والتر الياس ديزنى ، نجح فى تقديم نفسه وانتاجه كجزء من الثقافة الامريكية . 
ولقد قال عنه رسام الكاريكاتير السياسى البريطانى ديفيد لوو ، انه اهم شخصية فى فنون الرسم منذ ليوناردو دافنشى ، لقد كان رائدا ومبدعا ، ومستحوذا على واحدة من اخصب الابداعات التى عرفها العالم .
ان والت ديزنى ، ومعه عددا من طاقمه الفنى قد حصلوا على اكثر من 950 اشادة وجائزة من كل دول العالم ، ومن بينها 48 جائزة اكاديمية ، و 7 جوائز ايمى اثناء حياته ، وتضم الجوائز الشخصية لوالت ديزنى الدرجات العلمية الفخرية من جامعات هارفارد وييل وجامعة جنوب كاليفورنيا ، كما حصل على تكريمات مماثلة فى فرنسا وتايلند والبرازيل والمكسيك .

لقد اخترع شخصية ميكى ماوس ولقد انشأ مدينة ديزنى وكذلك عالم والت ديزنى ، لقد وُلد فى مدينة شيكاغو بالينوى فى الخامس من ديسمبر عام 1901 ، وكان والده الياس ديزنى كنديا ايرلنديا ، اما والدته فلورا كول ديزنى ، فقد كانت من اصول امريكية ألمانية .
كان واحدا من خمسة اشقاء اربعة منهم اولاد وفتاه واحدة .

ولقد نشأ فى مزرعة بالقرب من مارسلين بميسورى ، وفى سنواته المبكرة اصبح مغرما بالرسم ، وكان يبيع اسكتشاته الى الجيران عندما كان فى السابعة من العمر . وفى مدرسة ماكينلى الثانوية فى شيكاغو ، فقد قسم والت ديزنى اهتماماته بين الرسم وكتابة السير الشخصية ، ولقد ساهم بهذه الاعمال فى وثائق المدرسة ، اما فى الليل فقد كان يذهب الى اكاديمية الفنون الجميلة .

واثناء شتاء عام 1918  حاول ان يلتحق بالخدمة العسكرية لكن طلبه رُفض لان سنه كان 16 عاما ، ثم انضم والت ديزنى الى الصليب الاحمر واُرسل الى ما وراء البحار حيث امضى سنه من عمره يقود سيارة اسعاف تقل موظفى الصليب الاحمر ، وكانت هذه السيارة مغطاه برسوم كارتونية من اولها الى اخرى بدلا من رسوم التمويه العسكرية المعتادة .

وبعد الحرب ، فان والت ديزنى عاد الى مدينة كنساس ، حيث بدأ مشواره الفنى كرسام دعاية باسلوب الكرتون ، وهناك فى عام 1920 فانه ابدع اول شخصياته الكرتونية ، تلك التى طورها لاحقا لكى تتحرك .
وفى اغسطس من عام 1923 ، فان والت ديزنى غادر كنساس وانتقل الى هوليوود وليس فى جيبه سوى 40 دولارا وادوات الرسم ، بالاضافة الى فيلما كارتونيا كاملا .

ولقد التحق بشقيقه روى ديزنى الذى كان يعيش فى كاليفورنيا آنذاك ، ومع قليل من الالحماس والتشجيع والتعاطف معهما ، فقداستطاعا جمع مبلغ 250 دولارا ، ثم اقترضا عليهم مبلغ 500 دولارا ، وبهذا المبلغ صمما كاميرا ونصبوها فى جراج عمهم ، وعلى الفور فقد جاءت لهما طلبية من مدينة نيويورك ، لفيلم ( كوميديا أليس ) الروائى ، لقد بدأ الشقيقان عملهما فى مكان ناء فى هولييود ، وكان هذا المكان قريبا من مكتب اسكان هوليوود الذى كان يبعد نحو عمارتين .

وفى 13 يوليو من عام 1925 فان والت ديزنى تزوج من اول موظفه عنده ، وهى ليليان بوندز ، كان ذلك فى لويستون ايداهو ، ولقد انجبا طفلتين ، الاولى هى ديانى - تزوجت من رون ميللر الرئيس السابق والمدير التنفيذى لشركة والت ديزنى ، ثم الابنة الثانية وهى شارون ، ولقد عملت كواحدة من فريق الاخراج فى شركة ديزنى وتوفيت فى عام 1993 ، اما ابناء الابنة الاولى فقد كانوا سبعة اطفال وابناء الابنة الثانية ثلاثة اطفال . 

لقد ابتكر والت ديزنى شخصية ميكى ماوس فى عام 1928 ، ولقد ظهرت عبقريتة فى فيلم الكرتون الصامت الذى عنوانه ( الطائرة المجنونة ) ، ان عنصر الصوت بدأ يدخل فى صناعة الافلام لاحقا ، فبعد هذا الفيلم ظهر ميكى ماوس ناطقا فى فيلم ( الباخرة ويللى ) ، الذى كان اول فيلم كرتون يتزامن فيه الصوت مع الحدث ، ولقد تم عرض هذا الفيلم لاول مرة فى مسرح كولونى فى نيويورك فى 18 نوفمبر عام 1928

ان جهود والت ديزنى لتطوير افلام التحريك لم تنقطع ابدا ، ولقد تم تقديم شركة تيكنيكولر لعالم الرسوم المتحركة فى فيلم ( السيمفونية الحزينة ) لوالت ديزنى فى عام 1932 ، ولقد تم تسميه الفيلم ( ازهار واشجار ) وبفضل هذا الفيلم فقد حطى والت ديزنى باول جوائزه الاكاديمية الشخصية التى تبلغ 32 جائزة .

وفى 21 ديسمبر من نفس العام فقد قدم فيلم ( سنو وايت والاقزام السبعة ) كاول فيلم كرتون روائى طويل ، ولقد تم افتتاحه فى سيرك كارثى فى لوس انجلوس ، فحقق عائدا غير مسبوق اذ بلغت ايراداته نحو 1,499.000 مليون دولار اثناء الازمة الاقتصادية الكبرى والكساد الذى كان سائدا آنذاك ، هذا الفيلم مازال يُعتبر واحدا من اعظم افلام الكرتون حتى الآن ، واثناء الخمس سنوات التالية ، فان والت ديزنى اتحف العالم بافلام كرتونية روائية طويلة مثل ( بينوشيو ) و ( فانتازيا ) و ( دامبو ) و ( بامبى ) .

وفى عام 1940 اكتمل انشاءه لاستوديو باربانك ديزنى ، حيث بلغ عدد العاملين فيه اكثر من 1000 فنان , ورسام كرتون وكلتب قصص وتقنى . وفى اثناء الحرب العالمية الثانية ، فان 94% من منشآت ديزنى تم تخصيصها لاعمال حكومية ، وشمل ذلك انتاج افلام التدريبات العسكرية واقلام الدعاية السياسية لصالح القوات العسكرية ، كذلك افلام التوجيه الصحى تلك التى مازالت تٌقدم حتى الآن من خلال وزارة الخارجية الامريكية ، اما ما تبقى لوالت ديزنى آنذاك فقد كرسه لانتاج الافلام الكوميدية القصيرة التى تُعتبر ضرورية جدا لرفع الروح المعنوية سواء للعسكريين او المدنيين .

وفى عام 1945 فان والت ديزنى قدم الفيلم الموسيقى ( الثلاثة الكاباليروس ) الذى جمع فيه خمس تقنيات فى الفيلم الكرتونى ، وهى التقنيات التى استخدمها فى افلام اخرى روائية مثل ( اغنية الجنوب ) والفيلم الذى نال استحسانا كبيرا ( مارى بوبينز ) وبلغت هذه الافلام 81 فيلما روائيا تم توزيعها من خلال استوديو ديزنى اثناء حياته .  

لقد حرص والت ديزنى على عنصر التعليم فى افلامه الترفيهيه ، وهذا ما جعله يفوز بالجوائز مثل سلسلة افلامه ( حياة المغامرة الحقيقية ) والافلام الشبيهة مثل ( الصحراء الحية ) و ( البرارى الذائلة ) و ( الاسد الافريقى ) و ( البرية الطاهرة ) ، لقد استحضر والت ديزنى المناظر الخلابة للطبيعة فى عالم الحيوانات البرية و نبه الى اهمية المحميات الطبيعية فى الولايات المتحدة الامريكية .

ان ديزنى لاند  تم افتتاحها فى عام 1955 ووصفت بانها مملكة السحر حيث بلغت تكلفة انشاءها 17 مليون دولارا ، وسرعان ما زادت الاستثمارات فيها ، وفى العقد الثالث من انشاءها فان نحو 250 مليونا من البشر زاروها واستمتعوا بها بما فى ذلك رؤساء دول وملوك وتبلاء من جميع انحاء العالم .
ثم كان لوالت ديزنى سبق فى البرامج التليفزيونية ، فقد بدأ انتاجه التليفزيونى فى عام 1954 ، وكان من الاوائل الذين قدموا برامجا ملونة من خلال ( العالم المدهش للالوان ) فى عام 1961 ، لقد كان ( نادى ميكى ماوس ) و ( زورو ) هما الاكثر مشاهدة فى الخمسينات .

لكن هذا كان مجرد البداية ، ففى عام 1965 فقد التفت والت ديزنى الى قضية تحسين المستوى فى المدن الامريكية . فقد ادار وصمم ( جمعية الغد النموذجية التجريبية ) وقد خطط لها لكى تكون معرضا حيا لابداعات الامريكيين فى الصناعة.

ولقد قال والت ديزنى ( انا لا اعتقد بوجود تحدى يواجه العالم فى اى مكان اكثر اهمية للناس فى كل مكان من ايجاد الحل لمشاكل المدن ، ولكن من اين نبدأ ؟ حسنا ، يجب ان نتعهد بان نبدأ من احتياجات الناس ، وهذه الاحتياجات ليست فقط فى العلاج من امراض المدن القديمة ، اننى اعتقد ان الحاجة هى فى البدء من جديد فى ارض عذرية وبناء مجتمع لكى يكون نموذجا للمستقبل ) .

وعلى اثر ذلك ، فان ديزنى اشترى نحو 43 ميلا مربعا فى ارض عذرية ، وهذه المساحة اكبر من مانهاتين مرتين ، وكان موقعها فى وسط ولاية فلوريدا ، وهناك فان ديزنى صمم عالم ديزنى للمتعة وشمل ذلك متنزة للمتعة ومركزا فندقيا وتجاريا كمنتجع للاجازات ، وشمل ايضا جمعية الغد النموذجية التجريبية ، وبعد اكثر من سبع سنوات فى التصميم والاعداد ، بما فى ذلك 52 شهرا من الانشاءات ، فان عالم والت ديزنى تم افتتاحه للجمهور كما كان مخططا  فى 1 اكتوبر عام 1971 ، وتم افتتاح جمعية الغد النموذجية التجريبية فى 1 اكتوبر عام 1982

وقبل وفاه والت ديزنى فى 15 ديسمبر عام 1966 ، فقد استغرق فى انشاء معهد كاليفورنيا للفنون ، وهى فى مستوى الكليات ، للتعليم الاحترافى لفنون العرض والابداع ، ولقد قال مرة ( من الثوابت بالنسبة لى ان اغادر الدنيا ماشيا على مرج اخضر ، لو اننى ساعدت بامداد مكان لتطوير المواهب المستقبلية ، سوف اعتقد عندئذ اننى انجزت شيئا .

لقد تم انشاء معهد كاليفورنيا للفنون فى عام 1961 بادماج مدرستين ، الاولى هى مدرسة لوس انجلوس للموسيقى الكلاسيكية مع معهد كوينارد للفن . ان الحرم الجامعى يقع فى مدينة فالينشيا على بعد 32 ميلا شمال شرق لوس انجلوس . لقد تخيل والت ديزنى هذا المعهد الجديد كمكان لكل فنون العرض والابداع بحيث يتم التعليم تحت سقف واحد ولكى يكون للمعهد اسلوبا جديدا لتعليم الفنون باحترافية .

ان والت ديزنى واحدا من اساطير وابطال القرن العشرين ، ان عالمه البكر المحبوب تأسس على الافكار التى يُمثلها اسمه ، وهى الخيال والتفاءل والنجاح بالاعتماد على الذات . لقد عمل والت ديزنى الكثير لكى يلمس قلوب وعقول وعواطف ملايين الامريكيين اكثر من اى شخص آخر فى القرن العشرين ، لقد كان يستحضر فى اعماله البهجة والسعادة وكان يستطيع مخاطبة كل الناس فى جميع الامم بادوات التواصل العالمية ، ان عالمنا بلا شك لن يعرف مثيلا لوالت ديزنى .

ويمكن مشاهدة فيلما تسجيليا قصيرا عن كيفية عمل افلام الكرتون فى والت ديزنى على الرابط التالى .
http://www.youtube.com/watch?v=mhfp6Z8z1cI

مصدر المقالة :- 
http://www.norsknettskole.no/fag/ressurser/itstud/fuv/gunnargrodal/bio.htm

نشرت هذه المقالة ايضا فى موقع عين على السينما
مع اجمل تحياتى .
ممدوح شلبى .

03‏/10‏/2011

فيلم اجورا : تراجيديا الموت المعلن دفاعا عن الحرية


ممدوح شلبى .


ينقسم فيلم اجورا الى قسمين يفصل بينهما عشرون سنة ، ففى القسم الاول تتوضح معالم المجتمع الوثنى فى مدينة الاسكندرية ، حيث حبيشة السكندرية فى القلب من الاحداث كعالمة فلك ورياضيات وفيلسوفة ، اعتادت على تعليم طلابها هذه العلوم فى جو من التسامح والاخوة ، فطلابها مسيحيين ووثنيين على حد السواء ، فالاسكندرية يتعايش فيها الجميع فى سلام رغم اختلاف عقائدهم .

ان الفيلم يبدأ وينتهى بلقطة لكوكب الارض بشكلها الكروى ، كتلخيص لرأى مخرج الفيلم الاحتجاجى على ميراث الكنيسة الذى كان يُحارب العلم ، فمن كان يناقش فكرة ان الارض تدور حول الشمس ، فان مصيره كان الحكم عليه بالزندقة ، فيما عُرف بمحاكم التفتيش فى العصور الوسطى، وهذا لا نراه فى الفيلم ، ولكنه ماثل فى عقولنا جميعا ، وهذا فى حد ذاته بلاغة فنية ، عندما يكون مالا يُقال حاضرا وجليا ، وعندما ينبنى الفيلم كله على مفارقة درامية نستحضرها من ميراثنا المعرفى .

ولذلك فثمة تأكيد على نظرية الكون طبقا لارستاكوس والالحاح عليها من مخرج الفيلم ، فالارض تدور حول الشمس ، وهى جرم سماوى كروى ، هذه النظرية تظل حاضرة طوال الفيلم ، حيث يحرص الفيلم على تقديم حبيشة فى مشاهد يغلب عليها الطابع التسجيلى ، منغمسة كلية فى هذا الامر لكى تجد الاجابات لما بدا غامضا فى نظرية ارستاكوس ، تلك النظرية التى طواها النسيان تماما مع تدمير مكتبة الاسكندرية على يد المسيحيين .

ان تدمير المكتبة يتم بصورة وحشية على يد المسيحيين فى اعقاب استلامهم المكتبة والمعبد القيصرى على اعقاب صراعهم مع الوثنيين الذين ينهزمون تماما ، ليس فقط فى الاسكندرية ولكن فى العالم كله ، وعنما يتسلم المسيحيون المعبد القيصرى فانهم يُحولونه الى كاتدرائية ، اما مكتبة الاسكندرية فانها تتحول الى خرابة يعشعش العنكبوت على جدرانها مكان اللفائف العلمية .

ان قسمى الفيلم يفصلان بين زمنين وفى نفس الوقت يبدو ان بنية القسم الاول الدرامية مختلفة تماما عن بنية القسم الثانى الذى يهتم بتوثيق ظهور المسيحية بممارسات وحشية ضد اليهود وبقايا الوثنيين ، حيث حبيشة نفسها تموت رجما بالحجارة فى نهاية الفيلم .

فدراما القسم الاول تنتمى الى الثالوث الدرامى المقدس – امرأة فى علاقة مع رجلين – ولكن هذا الثالوث الدرامى ليس كوميديا او هزليا كما عرفناه فى المسارح العالمية ، لكنه فى فيلم اجورا ثالوثا دراميا محوره حبيشة التى يحبها اورستس ذلك النبيل السكندرى الذى يكرس نفسه للموسيقى بحثا عن الهارمونية التى تسبب حبه لحبيشة فيها ، وعاطفة حب ثانية من ديفيس عبد حبيشة الذى يعتنق المسيحية ليس فقط كخلاص دينى ولكن طلبا ايضا لمعجزة لكى ينال حبيبته حبيشة .

هذه الدراما تنتهى تماما فى القسم الاول من الفيلم ، فحبيشة ترفض حب اورستس لانها تُكرس نفسها للعلم ، بينما ديفيس يجد حبيشة تُحرره فينتهى القسم الاول برحيله ، ولا يتعاطى القسم الثانى من الفيلم مع هذا الثالوث الدرامى وكأننا امام فيلمين ، فالسيناريو الذى كتبه أليخاندرو امينابار مع ماثيو جيل ، وقد اشتركا ايضا فى كتابة فيلم امينابار السابق عليه ( داخل البحر ) ، وهو ما يجعلنا نعتقد ان هذه ليست هفوة منهما ولكنهما ارادا بنية جديدة لفيلمهما اجورا ، يمكن ان نعتبرها نوع من التجريب السينمائى ، وهى مغامرة كبيرة ، فالفيلم ينتمى لنوعية افلام الميزانيات الكبيرة ، حيث تم تصوير الفيلم فى مدينة ديليميورا بمالطة وسط ديكورات كثيرة وملابس ومشاهد مجاميع ، يحتشد الفيلم بها مثل مشاهد الحرب التى يبدأها الوثنيون على المسيحيين ، على اثر الاهانات التى يُوجهها المسيحيون لآلهة الوثنيين ، وتنتهى بانتصار المسيحيين .

لكن الرهان بكتابة سيناريو بهذه البنية التجريبية ، كان رهانا محسوبا ، فالافلام التى تتناول تاريخ المسيحية ، هى واحدة من الموضوعات الاثيرة عند المُشاهد الغربى , الذى لا يتفاعل فقط مع السينما الجديدة بحماسة ، ولكنه ايضا يتفاعل بقوة مع الافلام التى تنقد المسيحية مثل فيلم شفرة دافنشى ، فكلا الفيلمان ينقدان تاريخ المسيحية صراحة .

لقد اعجبنى الفيلم جدا واعجبنى قسميه ، ففى القسم الثانى والذى يبدأ ايضا بكوكب الارض ثم تتقدم الكاميرا تدريجيا حتى نرى مدينة الاسكندرية ، وهى فعلا لقطة بديعة فالكاميرا تواصل تقدمها حتى نرى المعبد القيصرى الذى اصبح الآن كاتدرائية مسيحية ، بينما نسمع من خارج الكادر صوت نحيب نسوة .


فالقسم الثانى من الفيلم يبدأ بتولى الاسقف الشاب سيريل امر كنيسة الاسكندرية ، وعلى اثر ذلك يتبدل الحال فى هذه المدينة ، فالسلام الاهلى الذى عاشته المدينة يُصبح على المحك ، حيث يبدأ المسيحيون فى عهده ومباركته فى اضطهاد اليهود ويُجبرونهم فى النهاية على الهجرة من الاسكندرية بعد ان قاتلوهم بينما حكومة الاسكندرية قد اختارت الصمت ولم تبذل اى جهد فى حماية اليهود ، وهو ما تحتج عليه حبيشة بشده ، حيث بات من المؤكد ان تصاعد هذه الممارسات سيؤدى الى النيل من حبيشة نفسها ، التى تظل وثنية رغم جميع التهديدات ورغم ان الجميع قد تحولوا الى المسيحية ، مثل اورستس الذى نراه فى القسم الاول من الفيلم شديد الحماس الى الوثنية ومقاتلا عنيدا فى صفوفها ، بينما نراه فى القسم الثانى من الفيلم مسيحيا وقد اصبح محافظا للاسكندرية .

ان شخصية حبيشة تتشابه فى القسم الثانى من الفيلم مع انتيجون سوفوكليس ، فثمة صراع تواجهه مع العالم كله من اجل التزام وحق لا تستطيع التهاون فيه ، ان حبيشة شخصية تراجيدية بالمفهوم الارسطى ، وجميع مشاهدها تُركز على صمودها وهى تختار نهايتها باصرار حتى ولو كان ثمن موقفها هو الرجم ، ولعل هذه الشخصية نفسها هى سبب جودة هذا الفيلم ، فالسيناريو يبدو كما لو كان معدا عن تراجيديا لسوفوكليس .

واذا تأملنا الفيلم جيدا سناحظ ان شخصية ديفيس هى الشخصية الدرامية الرئيسية فى الفيلم ، فثمة ازمة وصراع وذروة فى بنية هذه الشخصية التى يلعب زمن الفيلم دورا كبيرا فى صياغتها على هذا الشكل ، فالمسيحية تُمثل خيارا له اثناء العبودية فهى طوق نجاه من الرق ، وفى نفس الوقت يبتهل ديفيس الى خلاص آخر فيما يتعلق بعاطفته المشبوبة تجاه حبيشة سيدته .

ان قسم الفيلم الاول ينتهى برحيل ديفيس ، لكننا نراه فى القسم الثانى من الفيلم حاضرا ايضا ، فالرحيل كان رمزيا ، فقد رحل ديفيس من براءته وانتمى فى القسم الثانى الى مجموعة مسيحية مُتشددة تستخدم احجار الرجم والسيوف فى تثبيت المسيحية ، وهو تحول جذرى فى شخصيته حيث لا نرى اى رابطة بينه وبين القسم الاول من الفيلم الا فى نهاية الفيلم ، حيث يبدو كما لو انه افاق على حفيفة حبه لحبيشة التى يترصدها الآن الجميع من اجل تنفيذ ( فتوى ) سيريل فى حقها كدجالة ، فطبقا لهذه التهمة فان اعدام حبيشة اصبح مقررا .
ان مشاهد اعادة الوعى لديفيس تتشابه مع مشاهد الانقاذ على آخر لحظة – تلك التى اختبرناها فى السينما كثيرا – وفعلا يصل ديفيس الى حبيشة فى لحظة الرجم وينفرد بها ، حيث نراها ترفع يدها وتكتم انفاسها فيضع ديفيس يده على يدها حتى تلفظ انفاسها الاخيرة ، كنهاية تليق ببطلة تراجيدية مثل حبيشة .

ويتميز هذا الفيلم ايضا بعنصر التمثيل ، وسوف يبهرنا الممثل الفلسطينى اشرف برهوم فى شخصية امونيس فقد اداه باسلوب مسرحى يتناسب مع الطابع الخطابى لشخصية  ذلك المسيحى المتشدد .

ان فيلم اجورا يستحضر زمنا استثنائيا فى تاريخ العالم عندما انتهى التاريخ القديم وبدأ التاريخ الحديث للانسانية ، وقد تم عرض الفيلم قبل بضعة اشهر من ثورة الشعب اليونانى التى انتهت باقصاء اليمين من حكم اليونان ، ثم توالت الثورات فى تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا واوغندا وشيلى وحتى الصين وايران وبريطانيا ، وكأن العالم الآن على مفترق طريق فى تاريخه ، انها قد تكون مُصادفة ، لكننى اراها نبوءة ، فالفيلم وبرغم التزامه التاريخى الا انه يبدو كما لو انه يتحدث عنا باسلوب التأريخية البريختية ، لكن الفيلم – ويا لها من حقيقة - سبق الحدث نفسه .



نشرت هذه المقالة ايضا فى موقع عين على السينما
مع اجل تحياتى .
ممدوح شلبى 


27‏/09‏/2011

المخرج احمد حسونة بين الفيلم الروائى والتسجيلى

كتب ممدوح شلبى .

فيلم مربع داير : فيلم المشهد الواحد .

لقطة من فيلم مربع داير

يدوم فيلم مربع داير نحو 12 دقيقة  ويتم تصويره باكمله داخل شقة سكنية ، حيث يتعامل المخرج احمد حسونة مع هذه البيئة المغلقة بمهارة وخبرة اكتسبها عبر مشواره السينمائى فى اخراج وكتابة الافلام منذ عام 1997 عندما قدم فيليمن احدهما بعنوان جريتا الذى يدوم اربع دقائق ، عن اشهر ممثلة سينما على مستوى العالم ، تللك التى فتنت جيلها بسحرها الاسطورى ، وقد استخدم احمد حسونة لقطات ارشيفية من افلامها وصورها .

وقدم ايضا فى نفس العام فيلم ( حكاية الحب والكراهية ) اثناء دراسته للسينما فى نيويورك ، وقد استعان فى هذا الفيلم بممثلين امريكيين ومديرة تصوير فذة ، استطاعوا جميعا ان ينقلوا رؤية المخرج التى بدت سريالية  ( ربما مثل الفيلم السريالى كلب اندلسى ) .

لكن فيلم مربع دائر يختلف شكلا وموضوعا عن مقدمات هذا المخرج الذى يتنقل بين مدارس الاخراج فى كل فيلم يقوم باخراجه  سواء كان فيلمه تسجيليا او روائيا .
فمربع دائر ينتمى لنوعية فيلم المشهد الواحد ، حيث يتم تصوير الفيلم كله فى مكان واحد وزمان متصل واحد ، تماما كما لو كان احمد حسونة يتقيد بوحدات ارسطو الثلاث عن المسرحية الانموذج فى عصره وتعليقا على ابداعات ايسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس .

لكن الوحدة المكانية والزمانية عند احمد حسونة تأتى فى اطار سعى هذا المخرج نحو استكشاف عوالم الفيلم السينمائى وبيئاته المختلفة وطبيعة كل عالم وافضل طريقة لايجاد الحل السينمائى لهذ البيئات .

فى هذه البيئة الواحدة والزمان الواحد ، نجد ان المخرج يستخدم اللقطات المتوسطة منذ بداية الفيلم ، وهذه ليست فقط حرفية اسلوبية ولكنها ضرورة تفرضها حقيقة ان الكاميرا لا تستطيع ان تكشف المكان فى حدود اللقطة العامة لصعوبة ذلك عمليا وخاصة فى الاماكن الضيقة مثل المطبخ والحمام ، لكننا لا نشعر ابدا بغياب هذه اللقطة العامة ، لان الهدف منها هو تأسيس المكان وهو ما يقوم به احمد حسونة ضمن تتابع اللقطات المتوسطة وقطعات المونتاج حيث نتعرف على اجزاء هذه الشقة تدريجيا الى نعرفها تماما .

ان اكبر لفطة فى هذا الفيلم هى اللقطة الكاملة التى تكشف الشخص من رأسه الى اقدامه ، والفيلم يحتوى على القليل جدا من هذه اللقطات الكاملة  التى تظهر احيانا نتيجة لامتداد باب مفتوح لاحد الغرف او فى الحمام او فى الصالة او فى البلكونة ، لكن هذه اللقطات الكاملة ايضا تحمل احساس التقيد والاقتراب من الاشخاص تماما مثلما يتحقق ذلك فى اللقطات المتوسطة باحجامها المختلفة .

فى فيلم مربع داير نجد ان احمد حسونة يستخدم المفاجأة الدرامية ويبنى عليها فيلمه بصوره تبدو مُصطنعة او متكلفة ، ولولا اننا نعرف تجاربه السينمائية السابقة مثل فيلمه السريالى الاول لظننا اننا امام احد عشاق الفيلم الميلودرامى ، لكنه لا يقدم هذه المُفاجآت الدرامية فى موضوع ميلودرامى ، فنحن لا نتعاطف مع شخوص فيلمه ، ولكننا نُراقبهم عن قرب - ليس توحدا معهم - ولكن لان المخرج ربما اراد ان يضعنا قريبا جدا من هذه الشخوص المريضة .

المُفاجأة الاولى عندما نكتشف ان الشقيقتين تآمرتا على قتل زوج الشقيقة الكبرى الذى يُحضر نفسه للسفر الى الولايات المتحدة الامريكية بعد ساعات قليلة بصحبه زوجته التى تبدو عاشقة له  ، وهى وليست على علم بدونية هذا الزوج الذى يتحرش جنسيا باختها .

والمُفاجأة الثانية عندما نكتشف ان هذه الزوجة رتبت هذا الموضوع مع عشيقها الذى يأتى الى الشقة بعد عملية القتل لكى يُرتب طريقة التخلص من الجثة ، ويبدأ على الفور فى استخدام السكين لتشويه وجه الزوج المقتول بهدف اخفاء ملامحه  للاحتيال على اجراءات التحقيق البوليسى لاحقا .

والمُفاجأة الثالثة عندما يقوم هذا العشيق بقتل هذه الزوجة بعد مَضاجعتها ، ثم يحاول ارضاء مشاعر الغيرة عند  الشقيقة الصغرى .  

والمُفاجأة الرابعة عندما نكتشف ان الشقيقة الصغرى هى حبيبة هذا المجرم وانها هى التى اتفقت معه على ترتيب كل شى لكى يفوزا بالثروة ويسافران الى الخارج .

والمُفاجأة الخامسة عندما نكتشف ان هذه الفتاه هى المدُبرة الكبيرة لهذه الجريمة الكبرى التى راح ضحيتها اختها  وزوجها ، ثم تقوم هذا الشخصية  باغلاق باب الشقة على العشيق ، فينتهى الفيلم على رد فعله لهذ التصرف الذى معناه تورطه فى القتل وادانته بالجريمتين .

ولعلنا نتأمل ايضا فى دلالة هذه الدراما المكثفة التى تبدو انها ذروة فيلم روائى طويل استطاع المخرج ان يختصره فى 12 دقيقة فقط  ، وان نتأمل فى الفلسفة العدمية  لشخوص فيلمه الثلاثة ، فثلاثتهم مجرمون ومُدانون فى عالم يعيشونه ، ذلك الذى اجتاحته الرأسمالية الاحتكارية  وضيقت الخناق على البشر حتى تحولوا الى قتلة ومجرمون لكى يستطيعوا العيش فى هذا العالم المجرم .
نحن نفهم الفيلم جيدا لاننا ابناء هذا العصر وعشنا قبل ثورة 25 يناير ازمة اختناق انسانى حيث كانت الصحف ووسائل الاعلام تنقل لنا جرائم قتل اسرية وانتحارات بسبب الازمات المالية ، فالفيلم يُدين هذا العصر الاحتكارى ويُعريه لنا برؤية نقدية من المخرج احمد حسونة الذى كتب السيناريو بنفسه مثل كل اعماله .
نحن لا نفتأت على هذا المخرج ولا نُلقى تهمه التصنع على فيلمه مربع دائر ، فظل افلامه الاخرى ماثلا امامنا مثل رائعته التسجيلية ( عروس من النوبة ) .

المخرج احمد حسوتة


فيلم عروس من النوبة .

لقطة من فيلم عروس من النوبة


ان احمد حسونة ينفذ فيلمه عروس من النوبة البهيج ضمن صيغة الفيلم التسجيلى المعاصر ، حيث تتداخل عناصر من الفيلم الروائى - متمثلا فى راوية الفيلم - مع باقى عناصر الفيلم التسجيلى ، فتللك هى العروس النوبية نجلاء التى يتكرس الفيلم لرصد احتفالية الزواج النوبية من خلالها ومن خلال طقوس زواجها على عريسها اشرف .

فقد تكونت علاقتهما من المرحلة الاعدادية عندما شاهدا بعضهما لاول مرة اثناء لقاءهما العابر فى المعدية ، ثم بدأت تفاصيل العلاقة تتوضح عندما اوفد اشرف اخته الى بيت نجلاء لتجس النبض ، بعد ذلك جاءت والدة اشرف لطلب يد نجلاء من اسرتها فوافقت نجلاء  .

ان المخرج يلتقط لحظات خاصة حميمية تم تصويرها داخل غرف داخلية على اضاءة مناسبة ، حيث تقترب الكاميرا من الوجوه النوبية الطيبة وكأننا جزء من الاسرة ، فلا حاجز بيننا وبين شخوص فيلمه ، فثمة رقصات للنسوة تتصدرهم نجلاء ومغنية تشدو وتردد وراءها البنات .

سنجد ايضا لقطات تفصيلية  لعملية الحناء ، فالكاميرا تكشف لنا تفاصيل هذه العملية فى لقطات قريبة ، بينما نستمع الى صوت نجلاء تشرح تفاصيل هذه العملية وتقاليدها بينما هى نفسها موضوع هذه العملية فثمة فتاه ترسم على قدمي نجلاء ويديها رسومات الحناء المخلوطة بالصبغة , ثم نرى استكمال العملية بتعريض هذه الرسومات الى الدخان لكى تتثبت الحناء على الجلد .

ان فيلم عروس من النوبة لا ينسى ان يقدم البيئة الخارجية ضمن اصطحاب الكاميرا لنجلاء سواء عند المعدية حيث يظهر خلفها نهر النيل ، او داخل مكروباص مع بنات القرية تنشدن لها اغانى الفرح التراثية , كما يحتوى الفيلم على لقطات لشوارع القرية ، اثناء مرور العروس على البيوت تدعو ناسها لحضور زفافها ، لكن هذه اللقطات الخارجية لا تأتى ضمن سياق مستقل مفصول ، ولكن ضمن بنية فيلمية متوازنة ، فثمة ترابط وتداخل بين اللقطات الداخلية واللقطات الخارجية ، وهذا ملمح هام من فيلم عروس من النوبة ، فاختيار صيغة الراوى الذى تقدمه نجلاء بنفسها ، وفر على المخرج صعوبات جمه كان سيضطر الى معالجنها بصعوبة اذا لم يختر صيغة الراوى لتنفيذ فيلمه ، لان صوت نجلاء او حديثها المباشر لنا حقق للفيلم ذلك الترابط ، ولم نفقد منطقية التابع رغم التداخل المكانى بين الخارجى والداخلى .

ان عفوية احمد حسونة فى فيلم عروس من النوبة ، لم تأت مصادفة او كضربة حظ ، فالفيلم يحتوى على مشاهد تُسجل جموع المهنئين سواء فى الزفة او الفرح ، فالحضور المكثف لهولاء الناس وتصوير طقسهم بلقطات من زوايا مختلفة ، ليس سهلا على الاطلاق ، فهؤلاء الناس ليسوا كومبارسا تم استئجارهم لتصوير هذه اللقطات ولكنهم اناس حقيقيون ، لم نلحظ ابدا انهم دارون بالكاميرا التى تكون قريبة جدا منهم فى بعض اللحظات .
ولا يحتوى الفيلم على موسيقى دخيلة ولكنه يوظف الاغانى النوبية التراثية فى تسجيل مباشر من افواة المغنيين وترديدات المصاحبين , كما يُسجل الفيلم رقصات تراث نوبى يتعلق بالزواج .

لم ينس المخرج السينمائى احمد حسونة ان يقدم شكره الى القرية النوبية التى صور فيها فيلمه ( عروس من النوبة  ) فلولا التعاون التام من اهالى قرية جزيرة الدهب فى اسوان لم يكن ليظهر هذا الفيلم بهذا القدر من الجودة والجمال .
ويمكن مشاهد الفيلمين فى قناة احمد حسونة على موقع فيميو وهى تحتوى على معظم اعماله وهو يقوم بتحديثها دوريا
نشرت هذه المقالة ايضا فى موقع عين على السينما
مع اجمل تحياتى .
ممدوح شلبى .

28‏/08‏/2011

الحافلة

ممدوح شلبى
كريم ابراهيم
منذ اللحظة الاولى ونحن نستكشف فيلما روائيا قصيرا بعنوان الحافلة ، فاننا ندرك اننا ازاء فيلما كبيرا لسينمائى مخضرم .
ان الفيلم يبدأ بلقطة قريبة لمنبه ينطلق صوته فنرى يدا تدخل الكادر ثم تُوقف صوت المنبه ، بعد ذلك تتابع لقطات قصيرة جدا يدوم كل منها ثانية واحدة او ثانيتين ، تُلخص لنا طقس الاستيقاظ الذى نجربه نحن ايضا طوال حياتنا ، فدخول الحمام ومياه الصنبور وكوب الشاى او القهوة  ثم اصطفاق باب الخروج وراءنا ، هذه كلها طقوس يومية نعرفها ونحفظها جميعا عن ظهر قلب ، ويتشارك فيها كل الناس سواء كانوا فى ألمانيا او ايطاليا او اليابان او مصر او اى مكان آخر .
ان المخرج كريم ابراهيم ( او كريم قنديل ) يختزل طقوس الاستيقاظ فى ثوان قليلة وهو على ثقة من ان التطويل او الاسهاب سيُصيب جمهور فيلمه بالرتابة .
فمنذ اللحظة الاولى نحن امام مخرج يعى عصره ويعى تقاليد المشاهدة ويفهم جيدا ما هو الزمن الضعيف - كاصطلاح سينمائى -  والزمن القوى ، ذلك الذى سوف نتعرف عليه مع هذا المخرج .
ان المخرج يختار لحظة اصطفاق الباب لتقديم عنوان الفيلم الذى نراه باللغة الالمانية واسفله بالعربية كلمة الحافلة حيث نستمع الى الموتيفة الموسيقية للفيلم والتى تعزفها  آلة وترية  ، وسوف تتكرر نفس الموتيفة طوال الفيلم فى لحظات يختارها كريم بعناية .
ثم نرى الكاميرا تستقبل بطلة الفيلم من خلال الباب الزجاجى لمدخل البيت ، ونراها تقترب ثم تفتح الباب لنرى وجهها فى لقطة قريبة جدا ، ونكتشف ايضا اننا امام ممثلة من الدرجة الاولى فاطلالتها والنفس الذى تستنشقه ونظرتها التى ترسم معنى الملل واليأس ، هى امور لا تستطيع ممثلة هاوية ان تختزلها بمثل هذه البراعة ، ونستمع الى صوتها من خارج الكادر باسلوب التعليق .
ان الفيلم يتم تقديمه فى صيغة الراوى من خلال بطلة الفيلم ، ويتداخل صوتها كراوية مع الحوار البليغ فى هذا الفيلم الفذ ، حيث نستمع اليها تقول لنا ( انها السابعة ) ونرى المخرج ينقلنا فى لقطة عامة لنرى بطلة الفيلم تقطع الطريق امام منزلها ، لتظهر فى لقطة عامة اخرى يتصدرها قدم احد الاشخاص فى مقدم الكادر يقف على محطة حافلات ، مع استمرار صوت التعليق لتخبرنا البطلة ( لن اعتد ابدأ هذا الجو المظلم القاتم ) .
وتواصل الكاميرا استقبالها للممثلة حتى تصل الى قرب الرجل فيقطع المخرج على لقطة عامة اخرى لمحطة الحافلات فى المواجهة .
لقد اسس المخرج فى هذه الثوانى القليلة مكان وزمان الفيلم والحالة النفسية لبطلته ، ثم يقطع على نفس المكان ومن نفس الزاوية ولكنه يقترب اكثر ، بينما نرى البطلة تتطلع الى جانب الطريق فى ترقب وانتظار للحافلة وتنظر الى ساعة يدها ، ثم نستمع الى تعلقها من خارج الكادر ( الساعة السابعة تماما فى يوم شتوى بارد ) ثم تستدرك فى لقطة متوسطة جانبية من وجهة نظر رفيقها الذى ينتظر بدوره فى محطة الحافلات ( اليوم مثل الامس مثل الغد ) .
بتلك الكلمات سوف نتذكر مسرح العبث ولكننا الآن لسنا فى لحظة عبثية ، انها لحظة من لحظات مواطنة تعاصرنا وتُمثلنا وتنطق بما يجول فى نفوسنا ، حيث الفيلم كله ينتمى الى الزمن القوى - بالمعنى الدرامى الاصطلاحى – فكل تفصيلة وكل ثانية يتم وضعها بعناية لتثبيت حالة نفسية واحساس انسانى عام نتشارك جميعا فيه .
وبينما تواصل البطلة تعليقها نسمع صوت الشخص المجاور لها يقاطعها بالسؤال عن الساعة ، لقد تم تقديم هذا الشخص من قبل فى اللقطة العامة لذلك فان المخرج ينقلنا اليه مباشرة فى لقطة قريبة ، بينما البطلة تواصل تعليقها الذى يجعلنا نرى ما تراه فهى الآن اصبحت تعرف شيئا عن هذا الرجل بعد ان كان مجرد شخص ، انها الآن تعرف كيف يلبس وماذا يحمل فى يده وتُعبر لنا عن انطباعاتها عنه .
ان هذا الاسلوب السينمائى البليغ لا يُقدمه الا مخرج مخضرم ، يعرف كيف يقدم شخصيات فيلمه فى توقيتات مناسبة ليختصر ركاكة التطويل والاسهاب المرير الذى تعودنا عليه فى السينما المصرية واحيانا السينما العالمية ، فقد اصبحنا الآن اكثر معرفة بالشخص لكن الفضول مازال يتملكنا مثل البطلة ، وهكدا يتقدم الفيلم فى انسيابية ولغة بليغة ماهرة .
ان الفيلم يبدأ من هذه اللحظة ، فالحوار بين الشخصتين والذى لا يتعدى كونه مجرد سرد لتجربة هذا الرجل الحياتية النادرة ، دون ان يحتوى الفيلم على تلك الضلالات التى تعلمناها فى دراستنا للفيلم الدرامى  فالفيلم لا يحتوى على ازمة ، والازمة تتحول الى صراع يتطور حتى نصل الى ذروته لينتهى بانتصار احد الاطراف والتى غالبا ما تُرضينا .
ان فيلم الحافلة فيلما حداثيا – او ما بعد الحداثية – كصيغة فنية اسست لها الموجة الجديدة فى فرنسا فى ستينات القرن العشرين لتصل الى ذروة بريقها فى افلام عباس كياروستامى وخاصة فيلمه طعم الكريز الحاصل على سعفة كان الذهبية باستحقاق فى عام 1997 , حيث البنية الفيلمة تختصر الحياه بالحياه نفسها لتضرب باساسيات الفيلم التقليدى عرض الحائط .
ان فيلم الحافلة يحتوى على لغة حوار ادبية بليغة ، وخاصة فى مونولوج هذا الرجل الذى يتحدث عن عمله السابق كمصور حرب ، وتجربتة النادرة وما حدث له ونهاية عمله ثم تسريحه من العمل .
ونتساءل هل هذا الرجل مجنون ؟ ورغم ان المخرج يكشفه لنا ويُعريه تماما عندما نراه يتراجع فزعا ونكتشف بعد ذلك انه رأى مالم نراه نحن ، انه فعلا مجنون لكننا لا نتهمه ، اننا ايضا لا نتعامل مع جنونه على انه مرض لاننا ايضا اشباه له .
كيف لنا ان نتهم بالجنون من يُلخص مواجعنا فى هذا الزمن الصعب ؟ ان البطلة نفسها لا تنظر اليه على انه مجنون .
ان كريم ابراهيم هو من كتب هذا السيناريو عن قصة قصيرة ألفها بنفسه ، لنرى تطبيقا عمليا لنظرية المخرج المؤلف ، لكن هذه النظرية عند كريم ابراهيم تدخل الى مستو جديد وزمن واعد حيث يستطيع اى اديب ان يصنع فيلمه وان يستثمر هذا الوسيط الجديد لاثراء تجربته الادبية ، فالصورة تغنى عن ألف كلمة .

ان الحرفية العالية للفيلم ولغة الحوار الادبية والدقيقة فى التعبير عن الشخصيات وحالتهم ، واستخدام الكاميرا المحمولة بديلا عن الكاميرا الثابتة وتوظيف الموسيقى بهذا القدر من البراعة من خلال موتيفة تتكرر دائما - كان كريم هو الذى ألفها وعزفها بنفسه - وبراعة تقديم الفيلم بهذه اللقطات القصيرة جدا والتى تدوم ثوانى فتختصر بجزالة كل شئ وتُعبر عن شخصيتى الفيلم ، ثم تقديم الفيلم فى صيغة الراوى .
كل هذه اللمسات تقدم لنا مخرجا من الطراز الاول ، لا يمكن ان نعتبر فيلمه عملا للهواه ، انه شديد الاحترافية يمتلك ادواته ويُشكل بها كل ما يريد ببلاغة وسهولة ، اننا ازاء مخرج واعد ، نتمنى له الاستمرار وانا على ثقة من ان مخرجا فى مثل وزنه كفيل بان يُطهر نفوسنا من غثاثة ما علق بها من سينما هابطة .

ان المخرج كريم ابراهيم  ( او كريم قنديل ) ابن المسرحى السكندرى محمد ابراهيم ، وكريم من مواليد الاسكندرية فى عام 1981 ، حاصل على بكالريوس علوم من جامعة الاسكندرية ، وقد شارك فى الحركة الفنية المسرحية منذ طفولته ، فقد مثل فى مسرحية للاطفال بطولة ايمان الصيرفى وعزت الامام وجيهان نور ومن اخراج المخرج المسرحى صبحى يوسف .
ولقد عمل كريم بالجرافيك فترة من الوقت فى مصر ثم سافر الى ألمانيا ليواصل عمله فى الجرافيك ، وهو فى ألمانيا حاليا و يعمل فى شركة تستقبل طلبات الطلبة الوافدين .
انه لم يتعلم السينما بصورة احترافية لكن أثر فاسبندر وجودار وعباس كياروستامى باديا تماما فى فيلمه الذى يستحق الاشادة ، فتحية صادقة لهذا المخرج الواعد .
ويمكن مشاهدة الفيلم على الرابط التالى :-

نشرت هذه المقالة ايضا فى موقع عين على السينما
مع اجمل تحياتى
ممدوح شلبى .

19‏/08‏/2011

حبيشة والاسكندرية

مكتبة الاسكندرية
كتب :-  ممدوح شلبى
تأخذنا الاثرية البريطانية بيتانى هيوز الى عالمها الخاص ، حيث يبدأ الفيلم التسجيلى ( إسكندرية المدينة الأعظم ) بلقطة تستقبل هيوز تصعد درجات متحف الاشمولين فى اوكسفورد  وهى تتحدث الينا فيما يُشبه البرولوج المسرحى ، حيث تقول انها منذ 25 عاما ، تعلمت فى هذا المتحف الذى يُعتبر اقدم متحف فى العالم .
وتواصل الحديث فى هذه اللقطة المشهد لتحدد لنا بداية التاريخ الحديث ، حيث قيل لها عندما كانت طالبة ان تاريخ العالم الحديث يبدأ فيما بين عامى 380 الى 390 ميلادية  ،  ثم تحدد موضوع فيلمها ، الذى سيركز على المراحل الاخيرة من التاريخ القديم ، فى مدينة الاسكندرية .
تلك التى بناها الحالم العظيم الاسكندر الاكبر ، ليتم استكمال بناءها على يد الرجال الذين خلفوه لكى يتحقق حلمه فى مدينة تجمع العلماء والعمارة والفن وتضم على جدران مكتبتها معارف العالم وعلومه .

ان هذه اللقطة المشهد ليست لقطة واحدة كما ذكرت فهى  ثلاثة لقطات ، لكن عين المشاهد لن تلاحظ ذلك ، فالقطع يتم من بيتانى وإليها مرة اخرى لتقترب الكاميرا منها قليلا فى المرتين ، وكان المخرج يستطيع انجاز ذلك بزووم بطيئ ، ولكن ما فعله باسلوب القطع كان جميلا .

وفى قلب هذا المجتمع السكندرى ، فان العالمة والفيلسوفة حبيشة السكندرية ، تبرز كشاهد على زمن استثنائى ، يشهد انتهاء عصر الوثنية وبداية التاريخ الحديث وسط احداث وقلاقل كانت شاهدة عليها .

وينتقل الفيلم الى المشهد الثانى ، حيث يضعنا المخرج على سطح قلعة قايتباى بالاسكندرية ، لتواصل بيتانى هيوز حديثها الينا ، حيث يظهر بحر الاسكندرية خلفها ، ويستخدم المخرج لقطات من الفيلم الروائى العالمى ( اجورا) الذى تناول قصة حبيشة ، للربط بين ما نسمعه فى شريط الصوت على لسان بيتانى ، وما نراه  يتجسد امامنا .
حيث الاسكندرية القديمة والحديثة تتداخلان معا فى تناغم واتصال ، فالمدينة القديمة مازالت موجودة تحت بحر الاسكندرية وشوارعها ، وينتهى هذا المشهد ليظهر عنوان ( الاسكندرية ، المدينة الاعظم ) باسلوب الطبع على لقطة للمدينة القديمة بمنارتها الشهيرة من فيلم اجورا .

ويبدأ الفيلم بعد مشهدى المقدمة بلقطات متنوعة للاسكندرية الحديثة ، وصوت بيتانى يقول لنا ان مدينة الاسكندرية وعلى مدى 2300 سنه منذ ان انشأها الاسكندر الاكبر ، كانت نقطة الوصل بين الشرق والغرب ، وان المدينة القديمة برغم وجود المدينة الحديثة بزخمها الذى يشغل كل جزء فيها ، فان المدينة القديمة عصية على النسيان .
 وعندما تبدأ اولى لقطات الفيلم فى شوارع الاسكندرية نستمع الى صوت ( طبلة بلدى ) ، ان المخرج ( نك جيلام سميث ) يُذكر جمهوره البريطانى بموتيفة لا تُخطأها الاذن للتعبير عن الشرق ومصر ، وتواصل بيتانى حديثها الينا اثناء سيرها فى الشارع ، لتخبرنا عن هذا المكان الذى  دُفن فيه الاسكندر وشهد كليوبترا ومارك انطونيو ويوليوس قيصر ، وانها المكان لاحد عجائب الدنيا السبع .

ثم يتواصل الفيلم - والحقيقة ان تقسيم الفيلم الى مشاهد ليس وصفاً دقيقا لوصف هذه المشاهد لان كل مشهد يميل الى ان يكون ( بلوكا ) حيث يحتوى على مداخلات من لقطات خارج المشهد ، لكنها ذات صلة بالموضوع ، ومن ثم فالافضل الا نقسم الفيلم الى مشاهد وان نتركه ينساب امامنا فى تدفق مذهل . -

سنجد الفيلم يتوقف عند الاسكندر الاكبر ، حيث نرى تمثالا له من زوايا متنوعة ، وصوت بيتانى تقول ان الاسكندر الاكبر المولود فى مسادونيا ، قام بتوحيد اليونان ثم هزم الامبراطورية الفارسية ، ليؤُسس اكبر امبراطورية عرفها التاريخ .

ثم يأخذنا المخرج الى منطقة سقارة فى الجيزة ، ونرى بيتانى هناك تواصل حديثها عن الاسكندر ، فقد كان طموحا ، فعندما كان عمره 24 عاما ، كان العالم تحت سيطرته ، لكن اكبر جائزة حصل عليها كانت مصر، وتتطلع بيتانى خلفها باعتزاز الى هرم سقارة المدرج ، ثم نراها تمشى فى احد معابد الاقصر .

- هذا تداخل مكانى مبرر تماما لان المخرج يريد توضيح فخامة هذه الحضارة التى وضع الاسكندر يده عليها . - مصر التى يرويها النيل لتزدهر على ضفافها الابداعات الهندسية ، مصر التى كتب عنها هيرودوت ابو التاريخ ، ان مكانا فى العالم لا يشبه تلك البلاد العظيمة بانتاجاتها وعظمتها .

 ان الاسكندر غزا مصر فى عام 322 قبل الميلاد ، ولكن كيف استطاع الاسكندر ان ينال كل ذلك التكريم من الشعب المصرى ؟ .
هذا السؤال تُجيب عنه الاثرية المصرية سليمة اكرام ، التى تصاحب بيتانى فى منطقة سقارة الاثرية وتنزل معها الى مقبرة حابى ، فالاسكندر زار معابد المصريين وقدم الاموال والهدايا ، فمال المصريون اليه ووقروه .
وفى مقبرة حابى سنرى روعه التصوير الداخلى على اضاءة صناعية غير متكلفة ، وسوف نرى لقطات كلوز اب لسليمة اكرام وبيتانى ، انها من اللقطات الكلوز اب القليلة  فى هذا الفيلم الذى يدوم 52 دقيقة .

ومن هذا المشهد الداخلى ينقلنا المخرج الى لقطة لقرص الشمس بكامل دورانها ، مستخدما فلترا على عدسة الكاميرا ، ثم لقطة لسعفه نخل يتلألأ ضوء الشمس من بينها ، لينتقل الى بيتانى فى صحراء سقارة وبجوارها عامودين اثريين ، لتواصل تعليقها على الاسكندر ، الذى نظر اليه المصريون - نتيجة لحسن معاملته وتقديره لثقافتهم - ليس بصفته غاز او ملك ولكن كمعبود متجسد .
وسوف نلاحظ ان المخرج يستخدم الزوم ليقترب تدريجيا من بيتانى فى هذه اللقطة .
بعد ذلك يتغير المشهد تماما حيث نرى بيتانى على مقعد فى حافلة ، وزجاجها الجانبى يكشف لنا مشهدا تقليديا للارض المصرية الخضراء والكاميرا تكشف هذه المناظر اثناء حركة الحافلة ، بينما بيتانى تتأمل ، وبدلا من ان تتحدث الينا كالعادة ، فاننا نستمع الى تعليقها من خارج الكادر .

وهنا ينبغى ان نوضح ان شريط الصوت فى هذا الفيلم عبارة عن ثلاثة مستويات تتداخل فيما بينها , اولا المخاطبة المباشرة لبيتانى لجمهور فيلمها وكأنها صديقتهم , ثم التعليق بصوت بيتانى , وثالثا الحوار عندما تتحدث مع احد ضيوف الفيلم , هذا التنويع الصوتى اساسى ولا غنى عنه , فالفيلم يحتشد بالتفاصيل , ولو استخدم المخرج مستوا واحدا لشريط الصوت لكانت النتيجة كارثية .
بيتانى هيوز
وفى تعليقها تقول ان خطة الاسكندر للسيطرة على مصر ، بدأت من اختياره لمكان مدينة جديدة يتخذها عاصمة ، فيقطع المخرج على خريطة مصر التى تصور نهر النيل وعلى ضفافة ثلاثة نقاط تُمثل ممفيس وسقارة والاقصر ، ثم تتلون بقعة ملونة فى اقصى شمال الخريطة عند مدينة الاسكندرية ، فالاسكندر اراد ان تكون مدينته متصلة باليونان عبر البحر ، وان تكون فى القلب من امبراطوريته .
بعد ذلك يقطع المخرج على مياه الاسكندرية وثمة صيادين هواه يدلون سنانيرهم فى المياه المائجة ، ثم نرى بيتانى تمشى فى منطقة الطابية وخلفها قلعة قايتباى ، مُمسكة بكتاب تستشهد ببعض سطوره عن جزيرة فاروس التى تقف الآن عليها ، ثم يقطع على منطقة بحرى الساحلية فى لقطة عامة تتصدرها مراكب الصيد ووتحرك الكاميرا ( بان ) تستعرض المكان .
وبعد ذلك نرى بيتانى جالسة على سطح قلعة قايتباى وعلى قدميها تسند خريطة للاسكندرية ، وفى يدها قلما ، ثم ترسم به خطا يُمثل الطريق الذى ردمه الاسكندر ليربط الاسكندرية بجزيرة فاروس ، وخطا أخر فى منطقة السلسلة فى الشرق ، ليصنع الميناء الشرقى , الذى كان اعظم ميناءا فى التاريخ .

ولاننا الأن فى الاسكندرية فالفيلم يقدمها فى لقطات متنوعة بديعة ، بميناءها الشرقى وشوارعها النظيفة ، وتتداخل لقطات من فيلم اجورا ،  مع استمرار التعليق ، فخلفاء الاسكندر واصلوا العمل لتحقيق حلمه بجعل مدينة الاسكندرية مدينة للتجارة والعمارة والثقافة ، وينتهى هذا القسم من الفيلم بظهور عنوان ( الاسكندرية ، المدينة الاعظم ) مرة اخرى باسلوب الطبع على لقطة للفنار التاريخى مأخوذة من فيلم اجورا .

ويبدأ قسما جديدا للفيلم ، بجزء يلخص ما سبق الحديث عنه فى الفيلم ، انه ليس تكرارا لما سبق شرحه ، انه بمثابة التحضير لنقلة جديدة فى الفيلم حيث تظهر لقطات لهرم خوفو فى مشهد الغروب ولقطة لتمثال الاسكندر الاكبر ، وهنا يستخدم المخرج اسلوب المزج بين وجه تمثال الاسكندر ولقطة عامة لمدينة الاسكندرية فى علاقة ترابطية .
ثم يبدأ هذا القسم الذى يتناول تفاصيلا اكثر تحديدا من الاسكندرية القديمة ، من خلال مقبرة اثرية فى منطقة كوم الشقافة ، وتتحاور بيتانى مع ضيفها الثانى فى الفيلم انه كولن كليمنت الذى يُصاحب بيتانى نزولا الى هذه المقبرة ، انه عالم اثرى يتبع مركز دراسات الاسكندرية .

وفى داخل هذه المقبرة نرى ملامح الفن والثقافة لمدينة الاسكندرية القديمة التى تمزج الثقافة الاغريقية والرومانية برموزها وآلهتها  بالثقافة المصرية الفرعونية ، ويتضح ذلك فى ثماثيل المقبرة او منحوتاتها الجدارية ، ونشاهد نحتا جداريا عجيبا برأس حيوان كتقليد فرعونى معروف  اما  الجسم فانه يرتدى ازياءا يونانية .
ونرى بيتانى بعد ذلك فى لقطة خارجية تكشف اطلالا اثرية ، تضم اعمدة مهشمة مُلقاة على ارض معشوشبة. - انا لا اعرف على وجه الدقة مكان هذه الاطلال , لكن الاسكندرية تزخر بمثل هذه الاطلال فى مواقع عدة بعضها فى قلب الكتلة السكنية تُحيطها المبانى من كل ناحية.-

فى هذه اللقطة تواصل بيتانى حديثها الممتع عن الاسكندرية ومؤسسها الاسكندر ، ان مدينة الاسكندرية ليست مثل مثيلاتها من المدن الاثرية حول العالم ، فبنيتها الاولى لا تنتمى الى المرحلة البرونزية او الكلاسيكية لتتواصل بنيتها عبر العصور .
ان الاسكندرية مدينة جديدة ( بالمقياس التاريخى للمدن ) وهى من ابداع رجل تعلم علما عاليا ، فالاسكندر عندما كان فى الثالثة عشر من عمره تعلم على يد ارسطو .

ثم نستمع مرة اخرى الى صوت الطبلة البلدى ، بينما بيتانى تظهر وهى تسير لتدخل فى بوابة المسرح الرومانى ، ان بيتانى تسمى المكان كوم الدكة .
- وهذا هو اسمه الرسمى , لكن اهل الاسكندرية يعتبرون منطقة المسرح الرومانى من معالم محطة الرمل , انه الاسم الاكثر شيوعا , علما بان مدخل المسرح الرومانى قريب من ميدان الشهداء المعروف باسم محطة مصر - وعندما تدخل بيتانى الى حرم هذه المنطقة الاثرية الهامة تتقابل مع الضيف الثالث للفيلم ، انها ايمانولا كوليكا ، واحدة من البعثة الاثرية البولندية ، التى تقدم لبيتانى واحدة من انجازات بعثتها ، فقد انتهى تنقيب هذه البعثة - الذى استمر لسنوات طويلة - على اكتشاف قاعة محاضرات .
- لقد شهدت بنفسى هذا التنقيب منذ حوالى سبعة عشر عاما ، فى اثناء زيارتى نهارا لمسرح الرومانى ، حيث اقتربت فى فضول من اثرى كان منكبا على عمله بمفرده على الارض يزيح عنها الاتربة بكف يده وتعرفت عليه ، لقد كان بولنديا -

اننا نرى قاعة المحاضرات المكتشفة بحالة جيدة  وبوضوح تام ، وهى تتخذ شكلا مستطيلا يتكون من ثلاثة مدرجات لتستوعب ثلاثين طالبا كانوا يدرسون فى مثل هذه القاعات القانون والعلوم ، كما تستفسر بيتانى عن مكان المحاضر ، فتشير ايمانولا الى درجات تطل على القاعة فتجلس بيتانى على هذه الدرجات ، وتوجه ملاحظة ، ان المكان حار جدا هنا ، فترد عليها ايمانولا بان قاعة المحاضرات كانت مسقوفة بسقف ارتفاعه نحو اربعة او خمسة امتار ينتصب على اعمدة حجرية مازالت بقاياها موجودة .
وتتداخل لقطة من الفيلم الروائى اجورا لقاعة محاضرات فى كامل ابهتها باسلوب المسح فتبدوالقاعة فى فيلم اجورا متطابقة تماما مع الاثر ، لقد كانت الاسكندرية ونتيجة لهذا التعليم العالى تزخر بالافكار والرؤى الطليعية ، وتتابع لقطات من فيلم اجورا ونسمع صوت بيتانى تتحدث عن مستوى المعرفة آنذاك , فعلماء الاسكندرية ابتكروا الادوات العلمية التى تمكنهم من الاحاطة العلمية الدقيقة للكون ، كذلك فان كروية الارض كانت معرفة لهم وان الارض تدور حول الشمس .

وهنا يبدأ الفيلم فى الاشارة الى حبيشة السكندرية ، لقد مضى نحو نصف الفيلم تقريبا ، لكن هذه المقدمة لا غنى عنها ، انها تؤسس للموضوع الرئيسى الذى لا يمكن ان نتناوله بمعزل عن السياق التاريخى والحضارى الذى ظهرت فيه عالمة وفيلسوفة استثنائية مثل حبيشة .
حبيشة السكندرية
ان العالمة السكندرية حبيشة ، والتى انتجت السينما العالمية لها فيلما روائيا برأس مال اسبانى ونجوم امريكيين ، تستحق كل هذا الاهتمام ، انها بالاضافة لكونها فيلسوفة ، فانها ايضا عالمة رياضيات وفلك ، وان دورها لم يقتصر على ذلك فقط بل انها ايضا اخترعت الاسطرلاب ، ذلك الجهاز المعدنى الدائرى ، الذى نعرف كيف يعمل من خلال ضيف الفيلم الرابع .
انها الاستاذة هدى الميقاتى ، وتتحاور معها بيتانى داخل القبة السماوية فى مكتبة الاسكندرية ، ونلاحظ ايضا روعة التصوير الداخلى على الاضاءة المتاحة ، وكثرة استخدام الكلوز اب فى مثل هذه المشاهد الداخلية .

لم تكن تلك الفقرة من الفيلم مباغتة فقد مهد المخرج بلقطات لمكتبة الاسكندرية ومتابعة بيتانى والدكتورة ميقاتى تدخلان المكتبة .
ويستكمل المخرج هذا البلوك بلقطة خارجية من شرفة غرفة بيتانى فى الفندق الذى يطل على الميناء الشرقى فى محطة الرمل ليلا ، انها لقطة بديعة تستغلها بيتانى للتأكيد على اهمية الانجازات العلمية والمخترعات التى وصلتنا من تلك المدينة الاسطورية بينما نموذجا من اسطرلاب حبيشة يظهر بين يديها ، ثم تدخل عدة لقطات من فيلم اجورا فتظهر الاسكندرية القديمة حية وصاخبة بمبانيها ، لينتهى هذا القسم من الفيلم بنفس العنوان ( الاسكندرية ، المدينة الاعظم ) باسلوب الطبع على لقطة الفنار من فيلم اجورا .
ويبدأ قسما جديدا للفيلم ، بلقطة لمدينة الاسكندرية الحديثة بمبانيها الشاهقة ، ولقطات لشوارعها ، فتتداخل لقطات من فيلم اجورا لنفس الشوارع ، والحديث مستمر عن حبيشة .

ان الفيلم يحتوى على لغة حوار بليغة اقرب الى الشعر ، سواء فى وصف حبيشة او الاسكندر او مدينته التى كانت ارهاصة بعصر العلم .
وفى هذا القسم من الفيلم فانه مخصص لعلم الطب الذى كان احد انتاجات هذه المدينة العظيمة من خلال العالم جيلار ، ان بيتناى تتحدث الينا وهى تستقل سيارة تجوب شوارع الاسكندرية ، لكنها عندما تبدأ فى تقديم الانجاز الطبى تنتقل الى معمل ( فى الغالب بريطانى ) لعلم تشريح الحيوان .
ونرى ضيف الفيلم الخامس ، انه عالم التشريح البيطرى ، دكتور ديفيد بينبريدج ، الذى يشرح على اجزاء حية من مخ واعضاء حصان ، وهو يفسر لنا كيف ان جيلار هو اول من درس المخ دراسة علمية ، وان علم الطب والتشريح كان جديرا بان يتحقق عند المصريين .
فالمصريون كانت لهم خبرة فى التحنيط ، واستخراج الاعضاء القابلة للتعفن من جسم الشخص المحنط قبل تحنيطه ، وتتدخل بيتانى لتوضح انهم كانوا يستخرجون المخ من انف المتوفى على سبيل المثال ، فيصصح لها ديفيد بان هيرودوت هو من قال ذلك ولكنه خطأ  فالانف صغيرة ولا يمكن استخراج المخ منها .

ونعود فى هذا القسم مرة اخرى الى الاسكندرية الحديثة وشوارعها مع لقطات من الاسكندرية القديمة المأخودة من فيلم اجورا ، بهدف التمهيد لقسم جديد من الفيلم لا يستهله المخرج بتكرار للعنوان كما سبق ان عودنا .
هذا القسم الجديد يتناول مكتبة الاسكندرية ، التى تمثل طموح المعاصرين لضم كل نسخة من اى كتاب فى العالم الى ارفف مكتبة الاسكندرية ، تماما مثلما كانت المكتبة القديمة التى اختفت تماما .

ان لقطات المكتبة رائعة وثمة لقطات من فيلم اجورا للمكتبة القديمة بلفائف البرديات الموضوعة بداخل ارفف المكتبة ، ان المكتبة الحديثة تضم العلوم والآداب وكافة المعارف ، كما تضم اللغات شتى ، والقديم منها مثل اليونانية والعبرية واللاتينية والبابلية والعربية .

وهنا يجب ان نتوقف لاثارة قضية سبق ان اخذت حيزا كبيرا من اهتمام الرأى العام المصرى وربما العالمى ، فقد سبق لوزير الثقافة المصرى فاروق حسنى  نفيه فى مجلس الشعب ان تكون الكتب العبرية موجوده فى مكتبة الاسكندرية وذلك ردا على استجواب من احد الاسلاميين وقال انه سيحرق اى كتب من هذا المثيل ، ثم عاد واعتذر عالميا عندما كان مرشحا لادارة اليونسكو ، والحقيقة ان وجود الكتب العبرية فى مكتبة الاسكندرية لا يُمثل اهانة للمكتبة او الثقافة العالمية ، فالازهر الشريف نفسه يعتمد فى مرجعياته احيانا على التراث العبرى فيما يُعرف باسم الاسرائيليات ، فالتراث العبرى هو تراث انسانى ومرجعى لاتباع الدين المسيحى والاسلامى ، كما انه تراث انسانى عالمى بصرف النظر عن الموقف الراهن من الصراع العربى الاسرائيلى .

كما تضم المكتبة بقايا برديات تُعتبر النسخ الوحيدة والفريدة من نوعها ، وهنا يبدأ الفيلم فى التركيز على البرديات ، وجهود ترميمها والحفاظ عليها ، وهذا الجهد ليس مقتصرا فقط على مكتبة الاسكندرية بل فى اماكن شتى من العالم .
فنخرج الى فناء مكتبة كلية كريست تشارش باوكسفورد فى بريطانيا ، ونرى بيتانى تعبر هذا الفناء المعشوشب البديع لكى تدخل الى هذه المكتبة ، ثم تستضيف عالم برديات متخصص انه الدكتور ديرك اوبينك , الضيف السادس فى الفيلم وفيما حوله بقايا برديات مُرممه .

ويقول دكتور ديرك ان المكتبة تحتوى على نصف مليون من بقايا البرديات ، من بينها بقايا برديات لهوميروس سواء لملحمة الالياذة او الاوديسيا ، وبعضها برديات فلسفية او تراجيديات وكوميديا اغريقية .
(والحقيقة اننى انا نفسى قمت بترجمة مسرحية للشاعر الكوميدى الاغريقى مناندر من الترجمة الانجليزية  اسمها التذمر ، وقد تم اكتشاف هذه البردية فى صعيد مصر فى مطلع خمسينات القرن العشرين ، ولولا هذه البردية ربما لم يكن العالم قد عرف شيئا عن مناندر سوى اسمه واسماء مسرحياته المائة.)

ان قانون الاسكندرية القديمة كان يحظر الكتب من مغادرة البلاد ، كما يحتم تفتيش اى سفينة تدخل البلاد واستنساخ ما تحتوى عليه من برديات .

ونرى بيتانى مرة اخرى فى مكتبة الاسكندرية لتخبرنا ان عدد الكتب الورقية يصل لنحو نصف مليون كتاب حتى الآن ، كما تُطلعنا عن الكومبيوير العملاق الذى يحتوى على كافة المعلومات الالكترونية من كافة مواقع الويب . ان طموح مكتبة الاسكندرية الحديثة شبيه بما كان عليه حال المكتبة القديمة التى كانت تحتوى على كل الكتب بالمعنى الحرفى للكلمة ، ثم ينتهى هذا القسم بتكرار للقطة المنار المطبوع عليها عنوان ( الاسكندرية ، المدينة الاعظم ) .

ثم يبدأ قسما جديدا للفيلم وهو قصير جدا يتناول من خلال لقطات من فيلم اجورا وصوت بيتانى ، تلخيصا لمأساة الاسكندرية التى انتهى عصرها الذهبى بالتدمير العمدى لآثارها ومكتبتها ، ان هذا القسم القصير جدا يُعد بمثابة  تمهيدا لاهم اقسام الفيلم والذى يبدأ ايضا بظهور عنوان ( الاسكندرية ، المدينة الاعظم ) باسلوب الطبع على لقطة للمدينة القديمة بمنارتها الشهيرة مأخودة من فيلم اجورا .
ويبدأ هذا القسم الجديد بسماعنا لموسيقى تبدو شرقية تماما ، بلحنها الحزين الذى تعزفه آلة الناى ، ونستمع الى صوت بيتانى تخبرنا ، انه مع حلول عام 380 ميلادية ، وبعد ان عاشت الاسكندرية مزدهرة لمدة سبع قرون ، وقادرة على تقديم الافكار والمفكرين من امثال حبيشة - حيث نرى صورة بورترية لها - .

وتواصل بيتانى قائلة ان الاسكندرية كانت المدينة الاعظم بعد روما ، ليس كقوة عسكرية ولكن بقوتها العلمية وانجازاتها الحضارية .
ثم نرى كنيسة من كنائس الاسكندرية بنقوشها الزاهية ، ونرى بيتانى بداخلها ، تُحدثنا عن ظهور الدين المسيحى وازدياد اتباع هذه الديانة فى العصر الذى تواجدت فيه حبيشة .

ان المسيحية ظهرت فى الاسكندرية منذ القرن الاول الميلادى ، ليتم اتخاذ المدينة كقاعدة لنشر المسيحية فى افريقيا ، ولم يكن ثمة خوف من ازدهار المسيحية فى المدينة القديمة ، بل ان آباء المسيحية الاوائل قدروا انجازات الحضارة اليونانية والرومانية مثل اعمال ارسطو وبلوتو .
لقد كان عصر تسامح وتعايش بين اتباع الوثنية والدين المسيحى ،  لكن الصراع بدأ بين الوثنية والمسيحية كأمر حتمى ، ثم تحولت المسيحية الى المطالبة بان تكون - ليس فقط تيارا روحانيا يؤمن بوحدانية الله - ولكن ان تكون ايضا صاحبة قوة .
لقد كانت حبيشة وثنية ولكن عددا من تلامذتها كانوا مسيحيين , وبدأ الصراع مع القسيس سيريل , ما ادى الى صدام كانت حبيشة ضحيته .

ثم يظهر الضيف السابع للفيلم ، انه جاستين بولارد ، المؤرخ والاثرى الذى عمل مستشارا فى فيلم اجورا ، ان لوحة المعبد القيصرى تبدو فى الخلف منه ، ويُخبرنا بان المسيحيين نظروا الى حبيشة نظرتهم الى الساحرات الدجالات .
ونسمع صوت بيتانى تقول ان احد معاصرى حبيشة كتب ان اختراعها للاسطرلاب ، اُعتبر قرينة لاتهامها . ونرى بيتانى فى شارع بالاسكندرية ، قريبا من مسرح سيد درويش ، ونقرأ عنوانا بان هذا المكان ، كان هو مكان المعبد القيصرى .
لقد تم تدمير المدينة فى هذه الظروف الاستثنائية ، كما تم قتل حبيشة ، وكان موتها موتا لساحرة ودجالة بالمفهوم المسيحى ، اما الاسكندرية  فلم يبق من مكتبتها الا 1 % فقط من لفائفها .

ثم نرى بيتانى فى لندن بالقرب من جسر فيكتوريا الشهير ، وتُشير خلفها الى مسلة مصرية ، تلك التى يُطلقون عليها الآن مسلة كليوباترا ، انها احد آثار مدينة الاسكندرية ، ونرى نفس المسلة فى لقطة من فيلم اجورا ، لقد تم استحضار هذه المسلة من مصر عام 1878 .
مسلة كليوباترا على نهر التيميز بلندن
ثم نرى بيتانى ايضا تواصل المسير وتتوقف بجوار تمثال مصرى آخر ينتصب فى هذه المنطقة الهامة من لندن ، لكى تنهى بيتانى فيلمها على حقيقة ان الاسكندرية القديمة زالت ، لكنها برغم ذلك جديرة بان نحتفى بها وبانجازاتها .

ما اروع هذا الفيلم الذى يحتشد بالمعلومات التاريخية ، وبالمشاهد المأخودة من الواقع لتتعاشق مع مشاهد من فيلم اجورا ، وما اروع اداء بيتانى هيوز التى لا تقل روعة عن الممثلات المحترفات .

وتمر علينا ال 52 دقيقة دون ان نشعر ، فايقاع الفيلم سريع ، وبرغم ذلك لا يفوتنا منه اى تفصيلة ، انه تجربة فيلمية جديرة بالمشاهدة ، انه ايضا انموذجا للفيلم التسجيلى المعاصر الذى ترسخ فى بريطانيا ، ولعلنا فى مصر والوطن العربى نهتم اكثر بنوعية الفيلم التسجيلى ، انه فى اهمية الكتاب لنشر الثقافة  فى عصر الوسائط المتعددة .
ويمكن مشاهدة الفيلم على الرابط التالى :-

فريق العمل بالفيلم .
تقديم بيتانى هيوز
المشاهد الدخيلة  :- من فيلم اجورا
تأليف :- جاستين بولارد ( الذى شارك فى انتاج الفيلم )
تصوير :- ميكو كرافن تود
صوت :-  محمد بطوط ومارتن ويلسون
موسيقى :- وحدة اوديو نت ورك
رسوم  :- جينجر هوو
مونتاج مباشر :- بن كال
مكساج :- مالكولم بيتى
ادارة الانتاج :- شاهانا مير
مسؤول مواقع التصوير :- محمد حواش
منتج مساعد :- جاك ماكنس
مدير انتاج :- زووى تيرنر
مونتاج استوديو :- اوليفر بيكر
تنفيذ الانتاج :- تليفزيون ليون , و بل لوك , وريتشارد برادلى
اخراج وانتاج :- نك جيلام سميث
-----------------------------------


مع اجمل تحياتى .
ممدوح شلبى