21‏/09‏/2014

أفلام جودوروفسكى السريالية

أليخاندرو جودوروفسكى
 
مقالة:- نيل إيفانس
ترجمة:- ممدوح شلبى

وًلد المخرج أليخادرو جودوروفسكى – الشيلى الفرنسى- فى عام 1929، وهو يتمتع بلمسة متفردة حقيقية فى الوسط السينمائى، أى فيلم من أفلامه القليلة التى اخرجها إبتداءاً بفيلمه السريالى الأول فى عام 1967 "فاندو وليز" " Fando & Lis " إنتهاءاً بفيلمه "رقصة الحقيقة" " The Dance Of Reality " الذى أخرجه فى العام الماضى بعد توقف عن الإخراج دان 23 عاماً، فهذه الأفلام تحف سينمائية متفردة، فكل فيلم يمتلك القوة لإحداث الصدمة وتحدى وهز المشاهدين بعيداً تماماً عن عوالمهم المُعتادة.

كان جودوروفسكى - ومعه المخرج المستقبلى فرانسيسكو أرابال – واحداً من رواد حركة مسرح الرعب فى الستينات، وهو أسلوب فوضوى للعروض المسرحية لا يراعى الطريقة التى إعتاد بها الجمهور مشاهدة المسرح ولكنه يقدم العالم الذى يحيط بهم، بطريفة مختلفة تماماً من ناحية الأسلوب والشكل، ونفس هذا التوجه ترسخ فى أفلام جودوروفسكى بالمفهوم البحثى سواء كان مادياً أو روحياً، بهدف إستكشاف وتجسيد الشكل والمعنى فى حياة الإنسان.

وسواء كان البحث عن إستبصار روحى كما فى فيلم " " " El Topo " – 1970 أو فيلم "الجبل المقدس" " The Holy Mountain " – 1973 ، او بالتعامل مع الحياه فيما بعد الصدمة كما فى فيلمه الإستثنائى "سانتا سانجر" " Santa Sangre " 1989، نجد أن جودوروفسكى يمتلك حساً سينمائياً شديد التفرد والذاتية.

يترتب على هذا النهج فى بعض الأحيان أن يكون العمل السينمائى مقصوراً على فئة معينة ويتسبب فى التشويش لجمهور معين، وجودوروفسكى ليس الشخص الذى يهمل هذا البعد، فهو يستطيع ان يحد من رؤيته من أجل الحصول على جمهور أكثر عدداً، إنه المخرج الذى يجب عليك كمُشاهد أن تتفاعل معه، وهذا المخرج سبق له ان قال عن فيلمه الشهير " El Topo " أنك إذا كنت محدوداً فى تصوراتك فإن الفيلم سيكون محدوداً مثلك، وإذا كنت مستعداً لأن تتماشى مع الفيلم فإن الفيلم يأخذك إلى فضاءات لا حدود لها.

ولجودوروفسكى القدرة أيضاً على خلق الصور التى تتملك من عقلك وتأبى ان تبارحه، سواء كانت الصورة عبارة عن لقطة جميلة أمامية او خلفية فى فيلم " El Topo " حيث نرى صبى على ظهر حصان يترك لعبته بينما نرى صورة لأمه مدفونة فى الرمال، وكذلك فى فيلم "الجبل المقدس" حيث يتحول البراز الادمى إلى ذهب، وكذلك جنازة الفيل فى فيلم "سانتا سانجر"، فثمة كيمياء سينمائية مذهلة لا يستطيع إنجازها سوى جودوروفسكى، وقد حاول الكثيرون أن يستنسخوا أسلوبه وطريقته، لكن لا أحداً منهم إستطاع أن يلامس تلك القوة التى لديه حتى يبتدع شيئاً ليتفرد به فيظل عصياً على النسيان.

ففى العديد من أفلامه أيضاً، نجد جودوروفسكى أحياناً شديداً وعنيفاً فى إنتقاده للأنظمة الدينية والسلطات الحاكمة اللتان من المفترض أنهما من يديران المجتمع، فأفلامه فضاءاً سينمائياً يُشكك فى كل شيئ.

وقد تعرض جودوروفسكى على مدى القرون الماضية للعديد من الإتهامات، من بينها أنه إستفزازى لا لشيئ إلا للفت الإنتباه، وكذلك عداءه للمرأة، وكذلك أنه شديد الذكاء فيما يتعلق بجمهور السينما، وهذه الامور بالمناسبة، هى ما جعلته مُتفرداً، فأفلامه تمتلك قدرة مُذهلة على كسب الناس وكذلك على إستعداء ناس آخرين، فهو بالنسبة للبعض عبقرياً، وبالنسبة لآخرين أبلة.

الشيئ المؤكد، انك إذا كنت تشعر بالضجر من الطريقة التى كرست فيها السينما نفسها من أجل هدف واحد فقط وهو عائد شباك التذاكر وأنها أصبحت مجرد سلعة، فإن جودوروفسكى وأفلامه هما النقيض التام لهذا الأمر، وإذا كنت تريد أن تشاهد أفلاماً تجعلك تفكر وتحس وتتحدى فلسفتك الشخصية فيما يتعلق بالعالم الذى يحيط بك، فجودوروفسكى هو السينمائى الذى تبحث عنه.

ونتيجة لشغفه وأصالة فلسفته الذاتية ونظرته إلى العالم، فإن جودوروفسكى من المخرجين الذين طوال مشوارهم الإبداعى كان يواجه العديد من الصعوبات التى تعوق تمويل أفلامه، وأكبر مثال على ذلك سيتم توضيحه تفصيلاً فى سياق هذا المقال لاحقاً، إنه يتعلق بمحاولته الفاشلة عام 1974 لعمل فيلم سينمائى عن الرواية الكلاسيكية "الكثبان" لفرانك هربرت.

فثمة إحساس بأن المنتجين وخاصة فى هوليوود كانوا يخافون من جودروفسكى ويخافون من أنه ينظر إلى السينما كفن ولا ينظر إليها كمُنتج تُجارى، والحقيقة أن جودوروفسكى لم يخضع لإملاءات أى أحد فى أى مرحلة من مشواره الفنى، مما تسبب فى إعاقته، فسوء الحظ كان مُلازما له، فقد أخرج سبعة أفلام فقط طوال مشواره الفنى.
 
سنُلقى نظرة على أسباب إختلاف جودوروفسكى عن المخرجين من جيله ونرى كيف أنه كان له تأثير كبير على مخرجين مثل ديفيد لينش وجاى مادين وريتشارد ستانلى ونيكولاس ويندنج رن.
 
 
فاندو وليز
فيلم فاندو وليز – 1967

تم تصوير هذا الفيلم على مدار عامين فى دولة المكسيك التى تبنته، ويتميز فيلم "فاندو وليز" بأنه متجزء بصورة كبيرة وانه شكل سريالى متحرر تماماً، يقدم لنا شخصيتين تبحثان عن المدينة الخيالية "تار" حيث ستتحول كل أحلامهما إلى حقيقة.

والفيلم مليئ بالصور والأصوات الإستفزازية، وقد تسبب هذا الفيلم فى أعمال شغب كبيرة فى المهرجانات بسبب صراحته وتجاوزاته، وبعد وقت لاحق تم منع هذا الفيلم فى المكسيك، تلك الدولة التى صُنع فيها الفيلم والتى تبنته.
وبعد ذلك بعدة اعوام، إستطاع جودروفسكى ان يُثبت أقدامه فى عالم السينما بسبب هذا الفيلم، فهذا الفيلم الذى يُنظر إليه ضمن سينما المؤلف – كان بمثابة وضع بذور للعديد من التيمات والموضوعات التى سيبحثها جودوروفسكى فى أفلامه اللاحقة.
 
 
فيلم "إل توبو" "EL TOPO" 1970
 
 
إل توبو
الفيلم الثانى لجودروفسكى كان "إل توبو" وقد وضع جودوروفسكى على الخريطة السينمائية، وهو فيلم غرب أأمريكى، لكنه بدا مختلفاً وليس له شبيه فى ذلك الوقت.
 
وهو يروى قصة أحد الفرسان – جودوروفسكى هو الذى مثل الشخصية- حيث يبحث عن معنى وقيمة لحياته، ويحتوى الفيلم على رموز دينية متنوعة، وينقسم بناء فيلم "إل تابو" إلى أربعة أجزاء، فتتسمى هذه الأجزاء الأربعة بأسماء من الكتاب المقدس "سفر التكوين" و"الرُسل" و"المزامير" و"سفر الرؤية"، ومما لاشك فيه أن هذا الغرب الأمريكى ليس هو الغرب الأمريكى السخى الذى كان الممثل جون واين بطلاً فى العديد من أفلامه. 
 
فالفيلم مليئ بالصور العنيفة والناس المشوهين والأقزام والمرضى المصابين بمتلازمة داون وكل المظاهر التى تجعل منه فيلم غرب أمريكى مختلف، "إل توبو" فيلم لا مثيل فى تفرده وتجاوزه.
 
وقد تصادف أن أرسى هذا الفيلم تقاليداً جديدة فى كيفية تسويق وعرض السينما على الجمهور، ذلك أن دار سينما "إلين" " Elgin " فى نيويورك – التى كان يديرها بن بارنهولز – قرر ان يعرض فيلم "إل توبو" فى ساعات العصر يومياً، بدلاً من الحفلات الخمسة المعتادة، هذا الأسلوب والطريقة أفرزت ما أصبح معروفاً الآن بإسم "فيلم منتصف الليل".
 
ولكى يتحقق ذلك، قررت سينما إلين أن تجتذب الجمهور الذى يبحث عن التميز حتى يأتى ويشاهد هذه السينما المختلفة، وقد عرضت فى الواجهة لقطة متفردة من الفيلم، والحقيقة أن هذا الفيلم حقق مكاسب مالية هائلة وإستمر عرضه خمس سنوات فى سينما إلين فى حفلات منتصف الليل فقط.
 
كما أن الفيلم إجتذب معجبين مثل مغنى فرقة البيتلز الشهير جون لينن الذى أقنع مديره – ألين كلين – أن يشترى حقوق عرض فيلم "إل توبو" وفيلم جودوروفسكى التالى الذى كان إسمه "الجبل المقدس"، وقد كان هذا الأمر بمثابة نصل سيف سام بالنسبة لجودوروفسكى.
 
فبعد أن إختلف جودوروفسكى مع كلين – ذلك الرجل الذى كان مشهوراً بأسلوبه وطريقته العدائية فى الشئون المالية- فإن حقوق فيلم "إل توبو" وفيلم "الجبل المقدس" تم سحبهما من كلين، وترتب على ذلك أن هذين الفيلمين لن يُشاهدا لعديد من السنوات وسيتم تخزينهما فى ظروف رديئة على شرائط قيديو.
 
وفى عام 2006 تصالح كل من كلين وجودوروفسكى، ونتج عن ذلك إصدار نسخة "دى فى دى" فخمة لفيلمى "إل تابو" و"الجبل المقدس" وتم توزيعهما، بما يليق بهذين الفيلمين من أهمية.
 
 
فيلم الجبل المقدس " The Holy Mountain " 1973
 
 
الجبل المقدس
بعد النجاح الغير مسبوق لعروض فيلم "إل توبو" فى سينما إلين، حصل جودوروفسكى على مليون دولار من شركة " AKCKO " التى يديرها ألين كلين، كما حصل على شيك – على بياض – لعمل اى شيئ يريده، وكانت النتيجة إخراج فيلم "الجبل المقدس" بميزانية مقدارها نصف مليون دولار.
 
كل ما كان غريباً وغير مألوف فى فيلم "إل توبو" أصبح مفهوماً، فيلم "الجبل المقدس" كان تلك القصة شديدة الغرابة عن ممثلين من كل الكواكب الذين يجمعهم الكيميائى أليخاندرو جرودوفسكى. 
 
التوجه الرئيسى للفيلم يتشابه مع فيلم "فاندو وليز" - أول أفلام جودروفسكى الروائية -، وفيلم الجبل المقدس كان يبحث عن جبل مقدس خيالى كما يشير عنوان الفيلم، وطوال الفيلم، كان المُشاهد يتعاطى مع أكثر الصور السريالية والعنيفة التى يراها لأول مرة فى حياته.
 
ويشار إلى هذا الفيلم أيضاً على أنه هجوم لا هوادة فيه من جانب المخرج على كل شيئ موجود فى العالم، وثمة إساءة واضحة لكل الناس فى هذا الفيلم، سواء كانت هذه الإساءة عبارة عن بندقية مصنوعة على شكل نجمة داوود اليهودية، وثمة هجوم متعدد على المؤسسات الدينية والمخادعين والمشعوذين الذين يدعون انهم يعرفون معنى الحياة، او اللقطة الأخيرة من الفيلم حيث تتراجع الكاميرا إلى الخلف لتكشف عن فريق تصوير الفيلم والكيميائى "جودوروفسكى" يتحدث إلى الجمهور ويقول لهم أن يكتشفوا معنى حياتهم بأنفسهم. 
 
إنه فيلم شديد الغرابة ينحو إلى العزف على إيقاعه الخاص، فيلم "الجبل المقدس" على أية حال، يُعيد تعريف مصطلح "الذوق المُكتسب" لهؤلاء الذين يحبون سينماهم أن تهزهم وتتحداهم، فمما لا شك فيه أن هذا الفيلم موجه إليك .
 
 
فيلم: ناب ""Tusk 1979
 
 
ناب
منذ أن إنتقلت ملكية فيلم "ناب" من المخرج، أصبح هذا الفيلم عصياً على الوجود، إنه موجود فقط على "اليوتيوب" ولم يحظى مطلقاً بتوزيع رسمى من أى نوع، سواء كان سينمائياً أو على شرائط الفيديو، أو على نسخ "دى فى دى" "بلو-راى".
 
كان هذا الفيلم محاولة من جودوروفسكى لعمل فيلم يكون مناسباً للجمهور العادى، وكان هذا الفيلم هو الفيلم الذى تلى محاولته الفاشلة لعمل فيلم "الكثبان" قصة فيلم "ناب" تتعلق بمصير فتاة صغيرة وفيل وُلدا فى نفس اليوم فى الهند إثناء العهد الإستعمارى، بينما كانت الهند مازالت تابعة للملكة المتحدة.
 
هؤلاء الذين شاهدوا الفيلم يقولون أنه لا يحتوى على الشكل السحرى الذى أُخرج به فيلم "إل توبو" وفيلم "الجبل المقدس" بما يحتوياه من تحدى وتجريب صعب.
 
وبالنسبة لمخرج مثل جودروفسكى، فمن العار أن يكون فيلم "الناب" وفيلم "لص قوس قزح" الذى أخرجه عام 1990 من بطولة بيتر أوتول وعمر الشريف، ليسا متاحان لجمهور السينما العادى الذى يحب أفلام جودوروفسكى بصرف النظر عن أنهما يحتويان على ما يمنع عرضهما العام..
 
 
فيلم سانتا سانجر " Santa Sangre " 1989
 
 
سانتا سانجر
وبعد عدة سنوات من الإبتعاد عن عالم الإخراج، عاد جودوروفسكى فى نهاية الثمانينات بهذا العمل المُذهل، وهذا الفيلم كان أول الأفلام التى إستحسنتها لهذا المخرج ولعبقريته الحقيقية، الفيلم كان أيضاً بمثابة نقطة تحول بالنسبة للمخرج، فهو أكثر تماسكاً من بعض اعماله السابقة وهو الفيلم الأول الذى أثبت أنه أكثر أفلامه نجاحاً ووُزع على نظاق واسع فى شباك التذاكر، كان الفيلم من إنتاج كلوديو أركينتو- شقيق المخرج الإيطالى الأسطورى داريو-.
 
فيلم "سانتا سانجر" صُور فى سيرك حيث تتعرض الشخصية الرئيسة "فينكس" لسلسلة من الاحداث المؤلمة، وقام بطولة الدور آكسل جودوروفسكى إبن المخرج، فيلم "سانتا سانجر" مزيج مُدهش يتناول علاقة بين أم وإبنها بطريقة لا تختلف كثيراً عن فيلم "سايكو" لألفريد هيتشكوك، وهو يكشف عن مصارعين من المكسيك وممارسات دينية تمارسها فتاة تعرضت إلى الإغتصاب وقُطعت يدها وتعيش حياتها فى سيرك.
 
طريقة إستخدام جودوروفسكى للألوان والموسيقى فى هذا الفيلم كانت غير مسبوقة ومختلفة عن المليون فيلم التى أنتجتها السينما فى العالم، والفيلم يستحوز على المُشاهد ويجعله يدخل فى مستوى من الإحساس الغرائزى والبدائية، والفيلم مثله مثل كل أفلام المخرج إستفزازى ومُتجاوز وخاصة فيما يتعلق بنظرته للدين.
 
فيلم "سانتا سانجر" يُعد أفضل الأفلام التى جعلت جودوروفسكى مخرجاً عبقرياً، والفيلم يُقلل من بعض الأساليب التى إشتهر بها المخرج –تلك الاساليب التى حدت من جمهوره وجعلته جمهوراً مُختار، إذا كنت تريد فيلماً تبدأ به مشاهدة جودوروفسكى فهذا الفيلم هو الأفضل وكذلك فيلم "إل توبو" 
 
 
فيلم لص قوس قزح 1990
 
 
لص قوس قزح
فيلم "لص قوس قزح" لم يكن من إنتاج جودوروفسكى ولكن تم التعاقد معه لإخراج هذا الفيلم، وترتب على ذلك غياب واضح لحسه القوى وسطوته وأسلوبه فيما نراه امامنا على الشاشة، وفى نفس الوقت، نرى نقص واضح فى الصور المتحدية والمثيرة للقلق التى تميز بها المخرج، الفيلم يحكى بطريقة خيالية عن لص يبحث عن ذلك الإناء الذهبى الذى يُضرب به المثل.
 
الفيلم بطولة بيتر أوتول وعمر الشريف وكريستوفر لى، ومن المشين ألا يتم الترخيص لهذا الفيلم بالعرض السينمائى، فالترخيص بعرضه فى أمريكا إختص فقط بشرائط الفيديو – مثله مثل فيلم "الناب"، إنه يستحق ان يحظى بمُشاهدة عامة فى السينمات.
 
 
فيلم رقصة الحقيقة " The Dance Of Reality " 2013
 
رقصة الحقيقة
 
وبعد غياب عن السينما كمخرج دام ثلاثة وعشرين عاماً، ترددت خلالها شائعات عن مشاريع افلام مثل "إبناء إل توبو- أبيليكان" " The Sons Of El Topo/Abelcain " – الجزء الثانى من فيلم "إل توبو"- وفيلم "الملك أًصيب بطلق نارى" " King Shot " والفيلمان يشبهان المخطط السينمائى لفيلم "الكثبان" الذى لم يتحقق فى مراحل إنتاجية متنوعة، فيلم "رقصة الحقيقة" بدا أنه تم تنفيذه من لا شيئ.
 
كان جودوروفسكى وقتها فى الثمانينات من عمره وكان يعود بذاكرته إلى طفولته، فيلم "رقصة الحقيقة" يمكن وصفه بإنه سيرة ذاتية روائية مختصرة، مثل فيلم "اماكورد" لفللينى 1973، وفيلم "أيام الراديو" لوودى ألن 1987، فيلم "رقصة الحقيقة" يتناول حياة المخرج عندما كان طفلاً يتعامل مع أب قاسى وأم حنونة، وهى الشخصية الوحيدة فى الفيلم التى تتحدث غناءاً بصوت أوبرالى.
 
الفيلم به مبالغات ومُفعم بالعاطفة، وأحياناً مفعم بالإثارة، وهذا كان بمثابة عود محمود وجميل من مخرج عظمته حقيقية، فيلم "رقصة الحقيقة" فيلم شديد الحساسية وشديد الذاتية بالنسبة لجودوروفسكى، حيث نراه فى الفيلم يدخل إلى الشخصية أو يبتعد عنها ليعكس لحظات من ماضيه، ويعود بذاكرته إلى الخلف كرجل أكبر سناً، فالفيلم فعلاً متفرداً ومُؤثراً جداً.
 
فهو بحق فيلماً جميلاً وصعباً، ولكنه صادف صعوبات فى عرضه حول العالم طوال العام الماضى، وسوف يُوزع الفيلم فى نُسخ "دى فى دى " "بلو- راى" فى الشهور القادمة فى الولايات المتحدة الأمريكية.
 
 
فيلم "الكثبان لجودوروفسكى" " Jodorowsky’s Dune " 2013 من إخراج فرانك بافيتش
 
الكثبان
 
فيلم "الكثبان لجودوروفسكى" فيلم تسجيلى يكشف عن محاولات جودوروفسكى التى بدات عام 1974لعمل فيلم عن الرواية الكلاسيكية التى كتبها فرانك هربرت.
 
هذا الفيلم التسجيلى قصة مؤثرة عن الإستحواز والوله من جانب جودوروفسكى، فالمخرج نفسه هو محور وواجهة الفيلم التسجيلى، حيث يظهر لنا وهو فى الثمانينات من عمره ومازال حاد الذكاء مثل الحديد.
 
يتناول الفيلم التسجيلى كيف ان فيلم "الكثبان" بأفكاره اللغير مسبوقة وبفلسفته فيما يتعلق بخطة الإنتاج والمؤثرات الخاصة والممثلين، كان شديد الإختلاف عن الطريقة الهوليودية.
 
فالممثلون والفريق السينمائى الذى كان جودوروفسكى يخطط لهما لفيلمه المأخوذ عن رواية "الكثبان، يمكن وصفهما بانهما مُذهلان، فالفنانون الموجودون فى الفيلم يشملون فنان الجرافيك ميبيوس، ومصمم المناظر جيجر والكاتب دان أوبانون ومايك جاجر كممثل لفيد روثا وسلفادور دالى يمثله إيمبرر شادان، واورسون ويلز يمثله بارون هاركونان، وهندسة الصوت لبينك فلويد والمؤثرات البصرية للبريطانى الساحر كريس فوس.
 
وغنى عن القول، أن هذا واحد من أكثر الأفلام المغرية فى تاريخ السينما، وبالنسبة لمصادقية الفيلم عالمياً، فهو يناقش حقيقة أن عدم إنجاز الفيلم كان يكشف عن خوف هوليوود من جودوروفسكى وولعه التام بالمشروع، هوليوود مُمثلة برجال أعمال، وهى ببساطة كانت لا تريد شخصاً مثل جودوروفسكى لأنه لا يفكر بنفس طريقتها فى التفكير.
 
الفيلم التسجيلى يقدم أيضاً حوارين رائعين مع المخرجين ريتشارد ستابلى ونيكولاس ويندنج رن، هذان المخرجان أحب ان أعتبرهما احفاد جودوروفسكى الروحييين سينمائياً، وفى الحقيقة، فإن المخرج رن يُهدى فيلمه الأخير لجودوروفسكى، إنه الفيلم السريالى "الله فقط هو من يُسامح" " Only God Forgives " 2013، ومع مرور الأيام أصبح الإثنين صديقين حميمين، إنه المخرج رن الذى يأخذنا خلال سيناريو وصفى رائع إلى ما كان فى عقل جودوروفسكى بخصوص فيلم "الكثبان".
 
ورغم ان رؤية جودوروفسكى لفيلم "الكثبان" لم تتحقق أبداً، فإنه من الممتع أن نُشير إلى تأثير مشروعه على صناعة السينما فى العقود التالية، فجيجر وأوبانون عملا لاحقاً فى واحد من أكثر الأفلام أهمية وإدهاشاً فى تاريخ السينما، إنه فيلم "الاجنبى" لريدلى سكوت عام 1979، فالتصميم الإبداعى كان لجينجر، وفى الأفلام الأحدث نستطيع ان نلتقط المركبة الفضائية فى فيلم "حُراس المجرة" للمخرج جيمس جن، على حين ان كريس فوس صمم أمتع ما قدمه إستوديو مارفل.
 
ومن المثير أيضاً ان نُشير إلى أن خوف هوليوود من إستثمار أموالهم فى فيلم من إخراج جودوروفسكى كان خوفاً من ضياع أموالهم التى سينفقوها على المشروع، ومن المفارقات الحادة، انه بعد خمس سنوات، تعرضت هوليوود لكارثة مالية وإفلاس بسبب فيلم "بوابة السماء" 1980 الذى اخرجه مايكل سيمينو. 
 
لماذا كانت هوليوود خائفة من جودوروفسكى، فهذا المثال على طريقة هوليوود فى إدارة صناعة السينما سيظل واحداً من أعظم أسرار هذه الصناعة.
 
فيلم "الكثبان لجودوروفسكى" الذى أخرجه فرانك بافيتش في عالم 2013  يمنح المشاهدين رؤية قوية لا تُنسى عن الحياة وعن فلسفة جودوروفسكى ذلك الفنان الأصيل الذى يعد وواحداً من اهم السينمائيين.


20‏/09‏/2014

بيلا تار

بيلا تار
مقالة:- دانييلا يوجا
ترجمة:- ممدوح شلبى

فى عام 1986 علق بيلا تار مازحاً على إشتراكه فى المهرجانات السينمائية قائلاً "منذ أن أصبح إسمى بيلا تار وانا اتعامل بإحترام فى المهرجانات الدولية". فالإسم الأول فى المجر وإسم العائلة يتم كتابتهما بطريقة عكس الشائع فى اللغات الأوروبية، فإسم العائلة يأتى أولاً وإسم الشخص وأبيه ياتى بعد ذلك، وبناءاً عليه، عندما يخاطب المجريين شخصاً أجنبياً فإنهم عادة يقلبون ترتيب الأسماء مما يجعل هذا الأجنبى يتعجب، وعندما نرى أو نسمع أن إسم أحد المجريين مكتوباً بطريقة عكسية فنحن نعرف أن هذا الشخص إما ان يكون خارج المجر أو أنه مُشار إليه فى نص أجنبى. " وكون ان الأسم أصبح بيلا تار فهذا معناه انه نال شهرة عالمية".
إكتسب "تار" شهرة عالمية وتقديراً متزايد، وكان التقدير الذى ناله فى بلاده يختلف عن التقدير الذى يستمتع به عالمياً، فعلى مدار ستة عشر عاماً كان "بيلا تار" مختلفاً عن "تار بيلا".
وُلد بيلا تار عام 1955فى "بيكس" فى جنوب المجر، وفى عيد ميلاده الرابع عشر حصل على كاميرا "8 مللى" من والده، وفى عمر السابعة عشر تسببت هذه الكاميرا فى جلب المتاعب له، وفى أثناء دراسته فى المدرسة الثانوية، إنخرط أيديولوجيا فى بعض الحركات اليسارية التى تنتمى للماوية، هذه المجموعات اليسارية وعلى الرغم من انها كانت تتكون من مثقفين وفنانين، إلا أنها أنشأت وعياً فيما يخص الطبقة العاملة والعمال اليدويين.
وهذه المجموعات تحلقت حول فرق موسيقية مثل فرقة مونزون " Monszun " وحول فرق مسرحية مثل فرقة أورفيو "Orfeo"، وبينما كان بيلا تار مازال طالباً فى المدرسة الثانوية، فإنه ذهب للعمل بإنتظام فى ترسانة لبناء السفن، وإنضم لهذه المجموعات فى زياراتهم المتواصلة للمناطق العمالية والمساكن العمالية، وفى احد هذه المناسبات، تقابل بيلا تار مع مجموعة من العمال الغجر الذين كتبوا رسالة إلى "جانوس كادار" سكرتير عام حزب العمال الإشتراكى المجرى، يطلبون منه أن يمنحهم تصريحاً ليتركوا المجر لكى يعملوا فى النمسا، لأنهم لا يستطيعون العثور على أعمال كافية فى المجر.
بد هذا الطلب شديد العبثية فى عام 1971 فى بلد كان يُلزم من يريد ان يزور قريباً له فى الخارج أن يستخرج تصريحاً خاصاً، وهذا الأمر كان يضع الشخص الذى يحاول ذلك فى محنة كبيرة.
هذه القصة ألهمت بيلا تار الذى كان عمره ستة عشر عاماً أن يطلب من هؤلاء العمال الغجر أن يتحدثوا عن موقفهم ودوافعهم أمام كاميرته، وبمساعده من إثنين من أصدقاءه، أنشأوا مجموعة سينمائية أسموها "دزيجا فيرتوف" (تشبها بمجموعة دزيجا فيتوف التى أنشأها جان لوك جودار وجان بيير جورين).
وعملت مجموعة دزيجا فيرتوف لبيلا تار فيلماً تسجيلياً عن هؤلاء الغجر- وهؤلاء العمال الذين ظهروا فى هذا الفيلم إختفوا منذ ذلك الحين- وأرسل بيلا تار الفيلم إلى مهرجان سينمائى لأفلام الهواة حيث فاز بالجائزة الأولى.
هذا النجاح جعل بيلا تار شديد الفخر بفيلمه، حيث تمنى ان يشاهده كل الناس وخاصة العمال، ولذلك فقد كان يأخذ آلة العرض وشريط الفيلم ويذهب ليعرضه مرات عديدة أسبوعياً فى أماكن إقامة العمال، وكان ينصب الشاشة ويجهز المعدات ويعرض الفيلم على العمال العائدين من المصنع إلى بيوتهم، لقد رسم بيده لوحات دعائية "بوستر" عن الفيلم للإعلان عن هذه العروض السينمائية فى اماكن سكن العمال.
وبالنسبة للعمال فقد إستقبلوا هذه العروض بحماس، لكن الحزب الشيوعى لم يرق له الأمر، وفى احد الأيام وبينما هو فى المدرسة تلقى بيلا تار أمراً بأن يذهب إلى مكتب الحزب فى الحى لكى يشرح لهم ما يقوم به ولكى يعرض الفيلم على مسؤولى الحزب، وعندما شاهد مسؤولى الحزب هذا الفيلم لم يقولوا شيئاً، وتركوه يذهب، ولم يترتب على ذلك أى شيئ، لكنه وبعد عام عندما انهى المدرسة الثانوية، أراد ان يلتحق بالجامعة، فقيل له أن يصرف نظره عن ذلك ولا حتى ان يفكر فيه، فكان محروماً من التعليم فى اى مؤسسة تعليمية فى المجر، وبناءاً عليه فقد ذهب للعمل فى ترسانة بناء السفن وإستمر هناك عامين، لكن بنيته الجسمانية الهزيلة لم تكن مناسبة للعمل الشاق الذى يتطلبة العمل فى بناء السفن، فأرسل طلباً لقسم الفلسفة فى جامعة "إلتى" "ELTE" ببودابست.
وفى إمتحانات القبول صدم بيلا تار الأستاذ الذى يمتحنه عندما قال له ان البيان الشيوعى لماركس كان مثل العمل الادبى أكثر من كونه برنامجاً سياسياً، وان الشيوعية كانت حركة اكثر من كونها تشكيلاً سياسياً مؤسسياً، فلم ينل بيلا تار الموافقة على طلبه، وحصل على وظيفة بواب لأحد المراكز الثقافية فى واحدة من المناطق العمالية فى بودابست، وفى هذه الأثناء واصل بيلا تار إخراج أفلام الهواة، وحصل أحدها على جائزة ثانية فى مهرجان ثانى لسينما الهواة، وكانت لجنة التحكيم تتكون من مخرجين من بينهم إستفان دارداى وجيورجيز زالاى، وهما عضوان مهمان فى جماعة لمخرجى السينما التسجيلية يعملون فى نوع من السينما شبه التسجيلية وشبه الروائية، وحصل بيلا تار على دعوة منهما للعمل كمساعد فى مشروعهما القادم، فيلم ساجا (فيلم –ريجينى 1977).
وفى سن العشرين من العمر توفر لبيلا تار أن ينتمى للإخراج السينمائى الإحترافى.
فى هذه الأثناء، كان لدى بيلا تار بالفعل مشروعاً سينمائياً يعمل فيه، وجزء من هذا المشروع كان الفيلم الذى فاز بالجائزة فى مهرجان سينما الهواة، وهذا الفيلم كان عن شابة تُسمى إيرين زايكى، والتى قابلها بيلا تار عندما كان يصور فيلماً فى المنطقة العمالية فى ضواحى بودابست، وهى المنطقة التى كانت تتعرض للإزالة فى ذلك الوقت.
كانت إيرين تسكن بطريقة غير قانونية فى أحد الشقق، لكن تصادف ان المجلس المحلى للمدينة أجبرها على الرحيل، وقرر بيلا تار الذى كان يعمل مستقلاً فى ذلك الوقت، ان يعمل فيلماً يتناول قضية إخلاء السكان، ووجد مخبئأً فى مبنى مجاور يمكن من خلاله أن يصور الفيلم بسرعة، فمكث هناك نصف ساعة قبل أن يصل موظفى المجلس المحلى للمدينة ومعهم قوة من الشرطة.
وإكتشفت الشرطة وجود بيلا تار وبدأت الإجراءات بالقبض عليه أولاً ثم أخذوه إلى مقر الشرطة، فظل محبوساً هناك لنصف يوم، وفى أثناء ذلك أكمل موظفى المجلس المحلى مهمتهم، وبعد ذلك أُخلى سبيل بيلا تار.
كانت إيلين لا تملك مكاناً تذهب إليه – بعد ترحيلها من الشقة - إلا مكان زوج امها، حيث كانت المقيمة الثانية عشر فى هذا المكان، هذه القصة كانت مصدر الفيلم الروائى الطويل الأول لبيلا تار، الذى يحمل إسم "عش العائلة" " Family Nest " عام 1977، حيث مثلت إيرين زايكى البطولة النسائية، كما مثلت أدواراً رئيسية فى أفلام بيلا تار التالية، مثل فيلم "تانجو الشيطان" "Satantango" وفيلم "هارمونيات ريكميستر" " Werckmeister Harmonies ".
فيلم "عش العائلة" تم إنتاجه من خلال ستوديو بالاز بيلا، وهو ستديو مستقل للمخرجين الشباب، وتم عرض الفيلم فى عام 1979
وعندما كان بيلا تار فى سن 22 سنة، لم يكن فقط أصغر مخرج سينمائى فى المجر بسبب العرض الرسمى لفيلمه الروائى الطويل "عش العائلة"، لكن هذا الفيلم أيضاً أكسبه شهرة على المستوى المحلى والعالمى، كما فاز الفيلم بالجائزة الكبرى فى مهرجان مانهاتن الدولى للسينما عام 1979، وفى نفس الوقت كان بيلا تار مثار إهتمام لأنه لم يحصل على أى تدريب إحترافى.
لم يكن الأمر فقط أنه صغير جداً، لكنه أيضاً كان من خارج المجتمع الإحترافى للسينما، وهذا المجتمع كان شديد الحرص ألا يسمح لأحد أن يقترب من إنتاج فيلم إلا إذا كان قد نال تعليماً رسمياً، وبالنسبة لبيلا تار، فقد كان يأخذ بجدية أمر التعلم كمخرج سينمائى وقد نُصح ان يلتحق بمعهد رسمى للسينما، وعلى الرغم من أنه مُنع قبل سنتين من التعليم فى أى مؤسسة تعليمية فى المجر، فإنه وبعد إنجازه لفيلم "عش العائلة" أصبح من السهل عليه أن يلتحق بمعهد للسينما، فإلتحق فى الفصل الدراسى لميكلوس زينيتار، وهو فى الأساس برنامج لتعليم الإخراج التليفزيونى، ولكنه تحول فى عام 1978 إلى برنامج لتعليم الإخراج السينمائى.
ونظراً لأن بيلا تار كان دخيلاً على معهد السينما، فإنه لم يكن يحضر العديد من المحاضرات، وأخرج فيلمه الروائى التالى "الدخيل" " The Outsider " عام 1981 ، وسُمح له بان يعمل ما يروق له ولم يكن مطلوباً منه أن يعيش الحياة العادية لطلبة المعهد، كان فيلم "الدخيل" إنتاجاً إحترافياً رسمياً.
الدخيل
وبعد عرض الفيلم، شرع بيلا تار فى عمل مشروعه الثالث، وهو فيلم "الناس الجاهزون" " Prefab People " عام 1982، وفى نفس العام أخرج فيلم "ماكبث" 1982، وكان فى الأساس أحد أعماله كطالب، لكنه أعيد إنتاجه بعد ذلك للتليفزيون.
وعند تخرجه من معهد السينما، كان قد أخرج بالفعل ثلاثة أفلام وحصل على جائزتين عالميتين، أحدهما تنويه خاص من مهرجان لوكارنو عن فيلمه "ناس جاهزون"، وكانت تلك بداية مُكثفة وغير عادية للمسار المهنى لمخرج سينمائى فى هذا السن الصغير.
فى عام 1980 كان بيلا تار واحداً من مؤسسى ستوديو سينمائى جديد يُسمى "ستوديو تارسولاس" وقد تكون هذا الإستوديو من مجموعة من الناس المهتمين بتيار معين من السينما المباشرة، ثم إلتحق بهم آخرون كانت لديهم أفكاراً عن صناعة أفلام خارج الشكل النموذجى لأفلام الواقعية السياسية التى كانت سائدة فى السينما المجرية، كانت مهمة هذا الإستوديو من الناحية الرسمية خلق وترويج أسلوب السينما الشبه تسجيلية والشبه روائية التى كان المؤسسون قد بادروا بها منذ خمس سنوات، وعلى أيه حال، فإن المخرجين الذين كانت لديهم رؤية وطموحات طليعية، إنضموا أيضاً وأخرجوا أفلاماً لهذا الإستوديو.
وأصبح ستوديو تارسولاس بسرعة كبيرة أكثر ستوديوهات المجر فى إنتاج السينما الإبداعية، لكن ستوديو تارسولاس كان عمره قصيراً، فالمخرجون من الإستوديوهات الأخرى لم يوافقوا على تشكيل ستوديو تارسولاس لسبب بسيط وهو أنهم كانوا يعانون جميعاً من تقلص التمويل الحكومى لصناعة السينما، ووجود ستوديو آخر معناه تقسيم هذا الأموال بين خمسة ستوديوهات بدلاً من أربعة، وبعد ست سنوات من المقاومة - فى عام 1985 - تم إغلاق ستوديو تارسولاس الذى كان يمثل الصيغة المؤسسية الوحيدة للسينما المجرية التى تنتهج الروح الإبتكارية.
أخرج بيلا تار فيلمين لإستوديو تارسولاس، وهما "ناس جاهزون" و فيلم "التقويم الشتوى" " Almanac of Fall " 1985، وفى نفس العام تمت موافقة الإستوديو على فيلمه "تانجو الشيطان" لكن إنتاج الفيلم لم يبدأ، وبسبب إغلاق ستوديو تارسولاس، فإن الفرص التى كانت متاحة لإنتاج هذا الفيلم إنتهت تماماً، وحاول بيلا تار ان يبيع الفكرة إلى العديد من الإستوديوهات الباقية، ولكن جهوده لم تُكلل بالنجاح، ووصل الأمر إلى حد أن قيل له من رئيس أحد هذه الإستوديوهات والذى كان من زملاءه المخرجين، إنه كان هاوياً ومن الأفضل له ان يعتزل الإخراج السينمائى للأبد.
التقويم الشتوى
وجد بيلا تار نفسه مُهمشاً فى صناعة السينما المجرية، التى لم يكن ينتمى إليها على أيه حال، وبدا الأمر كما لو أنه لن يكون قادراً على الإستمرار كمخرج ضمن الهيكل المؤسسى الموجود، وبدأ مشروعاً سينمائياً جديداً أقل طموحاً من فيلم "تانجو الشيطان" وكان عبارة عن فكرة كانت لديه منذ وقت طويل عن مُغنية بلدة صغيرة وزوجها، فكتب سيناريو فيلم "الإدانة" " Damnation " بالإشتراك مع لازلو كرانزناهوركاى، وهو مؤلف الرواية المأخوذ عنها فيلم "تانجو الشيطان".
إدانة
كان بيلا تار معتاداً على فكرة كونه دخيلاً وكان متقبلاً لحالة التهميش التى يعيشها، لقد جمع العديد من الرعاة الذين ليست لهم علاقة مباشرة بالإنتاج السينمائى، مثل معهد السينما المجرى، ووكالة الإعلانات المجرية، والتليفزيون المجرى، والشركة الحكومية لتوزيع الأفلام " MOKÉP " – التى إنضمت إلى المشروع لاحقاً- وإذا كان التليفزيون المجرى لم يُشارك فى إنتاج الفيلم لكان هذا الفيلم هو أول الأفلام المجرية الروائية الذى يتم إنتاجه كاملاً بعد الحرب العالمية الثانية خارج النظام الرسمى لصناعة السينما المجرية.
كان بيلا تار حتى ذلك الوقت غير معروف على نطاق واسع، وكل خطوة فى مسيرته الفنية كانت عشوائية وكانت تبقيه على هامش صناعة السينما، أو كما وصفت زوجته "آنيس هرانتيزاكى" الموقف على النحو التالى "لم يعامل بجدية كمخرج سينمائى، فهو بالنسبة للأستوديوهات كان مجرد حالم"، وتم تصنيفه كشخص ينتمى إلى حركة السينما الذى تلتزم أسلوباً يجمع التسجيلية بالروائية ولكن بدون ألمعية، إنه لم يرق حتى لمستوى رموز هذه الحركة من المخرجين الآخرين، وطبقاً لهذا الرأى فأفلامه لم تكن تكشف عن إهتمام كبير بالمباشرة السياسية، فيلم "التقويم الشتوى" كان بالفعل غير شبيه بفيلمه السابق وأثار حماس النقاد فى الخارج أكثر مما أثاره بالنسبة للنقاد فى المجر، لكن هذا الفيلم وضع الأساس لشهرته العالمية، وأصبح التناقض - بين الوضع الهامشي له في المجر وشهرته الدولية المتزايدة - أكثر وضوحا مع فيلمه التالى "الإدانة".
أثار هذا الفيلم عاصفة من المقالات النقدية الساخرة والقاسية، ورُفض بالإجماع من لجنة تحكيم "أسبوع الفيلم المجرى" عام 1988، لكنه وفى نفس الوقت نال عن هذا الفيلم "جائزة النقاد العالميين" كما حصل على جائزتين عالميتين من مهرجان "كان" ومهرجان "برجامكو"، كما ترشح لجائزة "الفيلم الأوروبى" وحصل على دعوات من عدد من مهرجانات السينما العالمية الأخرى فى جميع أنحاء العالم.
وفى العام التالى حصل بيلا تار على عضوية " DAAD2" للفنانين ليقضى عاماً فى برلين الغربية، وعند عودته، ترك بيلا تار وزوجته إنيس هرانيتزاكى شقتهما فى وسط بودابست وإنتقلوا إلى قرية صغيرة تبعد حوالى 30 كيلو متراً عن بودابست، وهناك بدأ الزوجان فى إعدادهما للتحفة السينمائية "تانجو الشيطان" وبدا الأمر كما لو أن إنتقال بيلا تار للعيش فى هذه القرية كان بسبب إستمرار تهميشه من الوسط السينمائى الإحترافى فى المجر، فهو لم يشارك فى أى نقاش إحترافى ولم يكن على إتصال بمعظم الشخصيات القيادية فى إنتاج السينما المجرية، وعلى أية حال، فمنذ هذا الوقت أصبح بيلا تار أستاذاً زائراً فى معهد السينما فى برلين، حيث كان يذهب إليه شهرين من كل عام، ومن المتناقضات أنه لم يتسلم أى دعوة على الإطلاق للتدريس فى معهد السينما المجرى.
وفى عام 1994 عُرض فيلم "تانجو الشيطان" فى "أسبوع الفيلم المجرى"، وإعتبر منظموا هذا الأسبوع ان إشتراك بيلا تار كان حدثاً هامشياً، فالفيلم لم يحظ بمشاهدة كبيرة بسبب الطول الكبير جداً لمدة عرض الفيلم، فهو يدوم سبع ساعات ونصف، وتم عرضه فى دار سينما صغيرة، فعدة مئات من المشاهدين رأوا هذا الفيلم، وعبروا عن سخطهم بأصوات عالية أثناء المُشاهدة، وهذا الفيلم حقق لبيلا تار شهرة كبيرة عالمية وسط عشاق السينما فى جميع انحاء العالم، كما أشاد به النقاد المعروفين.
تانجو الشيطان
ونتيجة لواقع ان بيلا تار كان هو من يؤمن مصادر تمويل أفلامه على مدى الخمسة عشر عاماً السابقة، فلم يكن مجرد مخرجاً بل كان مُنتجاً منفذاً، وبعد عرض فيلمه التالى "هارمونيات ريكميستر"، أنشأ بيلا تار شركته الخاصة للإنتاج " T. T. Filmműhely "بالإشتراك مع المنتج جابور تينى.
ومع حلول عام 2000 لم يعد بيلا تار مُهمشاً، فقد كان معروفاً جدا بسبب نجاحاته العالمية، كما نال الإعتبار بصفته مخرج غريب ولكنه شخصية هامة فى السينما المجرية، وعلى الرغم من ان تجميع رعاة فيلم "هارمونيات ريكميستر" إستغرق وقتاً طويلاً، فقد إستطاع أن يؤمن التمويل لهذا الفيلم أيضاً بما فى ذلك المنحة الحكومية الهامة، ونال بيلا تار فى عام 2003 أعلى جائزة قومية يمكن لفنان مجرى ان يحصل عليها، وفى عام 2009 وافق على عرض بأن يكون مرشحاً لرئاسة مؤسسة السينما المجرية، لكن لم يمر وقت طويل حتى أدرك أن هناك دعم صغير جداً لتصوره الراديكالى عن كيفية إدارة المؤسسة فتراجع عن الترشح، وفى عام 2010 اُنتخب رئيساً لجمعية المخرجين المجريين.
هارمونيات ريكميستر
صادف فيلمه "رجل من لندن" " The Man from London " إخفاقاً على عكس التوقعات بنجاحه الساحق، وكان هذا يُرهص بالصعوبات التى أحاطت بفيلمه التالى "حصان تورينو" " Turin Horse " 2011، وهو الفيلم الذى اعلن بيلا تار انه سيكون آخر أفلامه وسوف يتقاعد بعده، لقد أعلن عن ذلك عندما كان ناجحاً فعلا على المستوى المحلى والعالمى، وكان يحظى بالشهرة والتقدير فى الأوساط السينمائية الدولية، ففى لوس أجلوس كانت تُباع "تى شرتات" مكتوب عليها إسمه، كما ان مخرجين آخرين كانوا يقلدون أسلوبه السينمائى، وأصبح من المخرجين الذى يعشقه جمهور الفن السينمائى فى جميع انحاء العالم، فعندما إنتهت حالة التهميش ووضعية الدخيل التى كانت تصف حالته، وعندما أصبح واحد من أهم المخرجين فى ثقافة السينما الطليعية، إتخذ قراره بان الوقت قد حان لإعتزاله.