01‏/12‏/2011

فيلم ممر الى الهند لديفيد لين .

ممدوح شلبى .
جودى ديفيس فى فيلم ممر الى الهند
لا يبدأ فيلم ممر الى الهند بنفس المشهد الافتتاحى للرواية التى كتبها اى ام فورستر واصفا مدينة  شاندرابور الهندية فى عشرينات القرن العشرين اثناء الاحتلال البريطانى للهند ، ففورستر يستعرض المدينة وتاريخها ويتوقف عند الشخوص الهندية موضوع روايته ، بينما فيلم ديفيد لين يبدأ من احد شوارع لندن ، حيث نتعرف على بطلة الفيلم  ادلا كويستد  ( جودى ديفيس – ممثلة استرالية الاصل عرفها جمهور السينما العالمى فى الفيلم الامريكى My Brilliant Career  ، اننا نرى ادلا كويستد تتوقف امام الواجهة الزجاجية لاحدى شركات السياحة والسفريات ، ثم تدخل لكى تحجز تذكرتين للهند واحدة لها والاخرى للسيدة مور  ( بيجى اشكروفت ) التى سنتعرف عليها لاحقا . 
ان رحلة السيدتين الى الهند تستهدف زيارة ابن السيدة مور -  رونى هيسلوب ( نيجل هافرس ) ، الذى انجبته من زواجها الاول ، والذى يعمل قاضيا فى مدينة شاندرابور ، وتربطه علاقة عاطفية بادلا كويستد لكنهما ليسا مخطوبين .

ومع لقطة بانورامية للميناء الهندى ، نعرف ان السفينة وصلت ، ومع وصولها نستمع الى المارش العسكرى الذى تعزفه البحرية الهندية احتفالا باستقبال احد الشخصيات البريطانية الرفيعة ، ثم تتواصل الرحلة فى قطار يقل السيدتين الى المدينة ، انها براعة مخرج عظيم مثل ديفيد لين الذى لا يفوته ان يقدم الهند بسحرها ضمن سرده الفيلمى وفى سياق الرحلة ، فديكور قطار النوم وايقاعه ومشهد مرور القطار فوق احد الكبارى عابرا احد انهار الهند ، ثم محطة القطارات وازدحام الهنود وفوضويتهم وايضا الرائحة الكريهة ، اننا امام مخيلة ديفيد لين الذى كتب السيناريو بنفسه معتمدا على رواية فورستر ومسرحية معدة عن نفس الرواية قامت بكتابتها سانثا راما راو  فحشد ديفيد لين  في فيلمه كل هذه التفاصيل الدقيقة ، فقد عُرف عنه عشقه لهذه الرواية على مدى عشرين سنه قبل ان يتشجع لاخراجها فى فيلم .

ان الفيلم يقدم لنا الاستعمار من وجه نظر نقدية من ابناء الامبراطورية البريطانية نفسها ، فكل من فورستر وديقيد لين يدينان روح التعالى لامبراطوريتهم ، فالجالية البريطانية فى مدينة شاندرابور نقلت ارستوقراطيتها  معها من بريطانيا الى الهند ، فملعب سباق الجياد  وملعب الكريكت والنادى البريطانى وحفلاته الغنائية المسائية ، والفيلات التى تقيم فيها الجالية ، والخدم من الهنود ، كل هذا يتناقض تماما مع واقع حال الهنود التى يلخصها الدكتور عزيز ( فيكتور بانارجيى ) ، ذلك الطبيب الهندى الذى يُعانى الفاقة ويسكن فى منزل وضيع ، ان المخرج يلخص هذه العلاقة  بلقطة توديع السيدة مور لعزيز فى اول لقاء لهما ، فعزيز يودع مور على باب النادى فتذهب اليه بينما يبقى عزيز امام البوابة ، تلك التى تحظر على امثاله ولوج مثل هذه الاماكن ( لعلنا نتذكر ايضا فيلم غاندى الذى ركز على نفس هذا السلوك الاستعمارى المقيت اثناء ركوب غاندى لاحد القطارات وارغامه على الانتقال الى الدرجة الادنى لانه ليس بريطانيا ) .

ان الظهور الاول لبطل الفيلم ( دكتور عزيز ) يأتى فى ادانة واضحة للاستعمار البريطانى ومنذ اللحظة الاولى  فالسيارة التى تقل الشخصية البريطانية الرفيعة تكاد تصدم وتسحق عزيز وصديقه اللذان يركبان دراجتين فيقعان على الارض بينما السيارة تواصل تقدمها الجنونى ، لقد اراد ديفيد لين ان يحدد موضوع فيلمه الاحتجاجى اللاذع من اللحظة الاولى لظهور عزيز.

ان الفيلم يرصد العلاقات الانسانية بين المجتمعين فى ظرف استثنائى ، فعزيز يتعرف على السيدة مور عن طريق الصدفة ، فبينما كان قابعا وحيدا فى المسجد ربما ليرثى حاله فهو ارمل وفقير ، فيُفاجأ بدخول السيدة مور ، فقد اتت بدافع الفضول ، ومنذ تلك اللحظة يصيران صديقين .

ان عزيز له صداقة ايضا بناظر المدرسة ريتشارد فيلدينج  ( جيمس فوكس ) ، وسوف تُذكرنا هذه الشخصية بشخصية القس فى فيلم غاندى ، ان فيلدينج يختلف عن البريطانيين المتغطرسين ، انه الوجه العظيم للبريطانيين العظماء ولكنهم للاسف لا يملكون سوى الاحتجاج ، فالروح السائدة معادية للشعوب ومتعالية عليهم .
يستقبل فيلدينج عزيز فى منزله اثناء الاستحمام ، فنرى عزيز منبهرا  بديكور المنزل ومقتنيات فيلدينج ، لكن عزيز لا يحسده ، ومن خلال هذا الناظر يصير الدكتور عزيز صديقا للآنسة ادلا كويستد اثناء حفل تعارف فى منزل فيلدينج يحضره ايضا جادبول ( اليك جينيس ) وهو فيلسوف هندى ، يٌبدى نوعا من التعلق بالسيدة مور التى تحضر اللقاء والتى تُباغتها نظرات جادبول فتتهرب منها .

سيتوجب على الدكتور عزيز ان يُنفق الكثير على ضيوفه الاربعة ، الآنسة ادلا والسيدة مور والناظر فيلدينج والفيلسوف جانبول ، فسوف يصطحبهم لزيارة كهوف مارابان على نفقته الخاصة ، تلك الكهوف المنحوتة فى الكتلة الصخرية ، والتى لا تحتوى على اى آثار دينية او تاريخية ، انها مجرد فجوات فى الكتلة الصخرية  ، وهناك فى هذه الكهوف تنفرد ادلا بعزيز بعد ان شعرت السيدة مور بالتعب ففضلت الجلوس ، وبعد ان تخلف الرجلين عن الرحلة بعد ان فاتهما القطار .

ان ادلا تسأل عزيز عن زوجته المتوفاه ، فيهرب عزيز منها ويبتعد عنها ليدخن سيجارته وربما راثيا حاله كأرمل ، وعندما يعود لا يجد ادلا .
ان ادلا تعود الى المدينة ، ولكنها تكون فى حالة مزرية ، فخفافيش احد الكهوف نهشوا جسمها . وبينما يتم علاج ادلا ، تكون قد تسربت شائعة تقول ان الدكتور عزيز اعتدى جنسيا على ادلا فى احد الكهوف ، فيتم القبض عليه لمحاكمته .

تلك المحاكمة هى الخطاب النقدى الحاد الذى يتشارك فيه كل من مؤلف الرواية ومخرج الفيلم ، لتوجيه اشد نقد ممكن الى امتهم البربطانية ، ان هذا النقد لا يبدو تطهيريا من جيل ديفيد لين الذى شهد فى حياته انتهاء الامبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس ، لانه ببساطة كان نقد فورستر مؤلف الرواية الذى كان معاصرا لهذه الامبراطورية فى عشرينات القرن العشرين فى اوج الامبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس -  فقد عاش فورستر 81 عاما وتوفى فى عام 1970 ، ما يعنى انه كان فى بداية الثلاثينيات من عمره عندما كتب هذه الرواية التى تُؤرخ لعشرينات القرن العشرين فى الهند .

تلك الروح النقدية تنتمى للنقد الذاتى ، وهى تتخذ عند هذين العبقريين شكل الجلد لشعبهمها البريطانى ، وربما لهذا السبب يتم وضع رواية ممر الى الهند ضمن احسن مائة رواية فى تاريخ الادب البريطانى الحديث ، ويتم وضع الفيلم ايضا ضمن اروع ما انتجته السينما فى تاريخها كله ، فقد حصل هذا الفيلم - ولأول مرة فى تاريخ الاوسكار الامريكى  - على 11 ترشيحا .

ان مشهد المحاكمة  سبق التقديم له باعتقال عزيز بمجرد وصول القطار الى المدينة ، ولان اتهام عزيز بالاعتداء الجنسى على ادلا يبدو اتهاما بشعا وغير ممكن الحدوث بالنسبة لمن يعرف عزيز عن قرب ، مثل الناظرفيلدينج والسيدة مور واصدقاء عزيز من الهنود  ، فان هذا الاتهام يقود الى تظاهر الهنود  تعبيراعن استياءهم ، كما يُهدد فيلدينج بالاستقالة من النادى البريطانى احتجاجا على اتهام عزيز بهذه الوقاحة دون وجود دليل مادى ، لكن الجالية البريطانية تتمادى فى  سفهها ، ويمثل عزيز فى المحاكمة التى تحضرها ادلا ، ويطلب محامى عزيز حضور السيدة مور لكى تُدلى بشهادتها ، لكنها كانت قد سافرت كما كان مخططا لذلك منذ المشهد الافتتاحى للفيلم ، فتذكرتها لها موعد عودة محدد .

ان السيدة مور توافيها المنية فى عرض البحر ، وبينما يبدو ان الدليل الوحيد على براءة عزيز قد غاب بغياب السيدة مور ، فان ادلا تتحدث عن الواقعة وتنفى حدوث تحرش من عزيز ، فيتم تبرأة عزيز ، فنرى رد الفعل على الهنود المحتشدين خارج قاعة المحكمة ، فقد تحولت القضية من مجرد حادثة سلوكية عادية يصح فيها الادانة او البراءة ، الى قضية الاستعمار نفسه .

ان ديفيد لين لا يسرد لنا تفاصيل ما حدث فى الكهف اثناء حدوثه ، ولكنه يسرد لنا هذه التفاصيل بصيغة الفلاش باك فى مشهد المحاكمة من وجهة نظر ادلا .

ان المعالجة الدرامية لفيلم ديفيد لين يمكن النظر اليها من عده وجوه ، فهو قد حول الحدث الى مُفاجأة درامية ، على حين ان الحدث يمكن تقديمه بصيغة المفارقة الدرامية ، فالمشاهد عندما يعرف تفاصيل ما حدث فى الكهف سيعرف ان عزيز بريئ ، وغنى عن القول ان المفارقة الدرامية اوقع من المُفاجأة الدرامية لانها تسمح بمشاركة المشاهدين للحدث وتوريطهم عاطفيا ، لكن ديفيد لين ربما كان واعيا الى ان فيلمه فذ وسوف يكرر الجمهور مشاهدته مرات اخرى ، ما سيؤدى الى تحويل المفاجأة الى مفارقة فى المرة الثانية للمشاهدة ، ربما ايضا ان ديفيد لين اراد ان يُكثف الزمن فى مشهد المحاكمة - وهو المشهد الرئيسى للفيلم - من اجل تحويل الحدث من الشكل الروائى الى الشكل الدرامى ، وربما اراد ديفيد لين الا يُعيد سرد وقاع ما حدث ، فيقع فى رتابة التكرار ، وربما تأثر ديفيد بنوعية الفيلم الحداثى الذى بدأ فى ستينيات القرن العشرين مع افلام الموجة الجديدة فى فرنسا وألمانيا ، حيث مالت السينما الى عزل المشاهدين عاطفيا عن الحدث الدرامى بهدف استفزاز الجمهور لكى يتخذ موقفا عقليا فى موضوع لا يقبل الا ان نناقشه بدلا من التسلى به كدراما .

ان ما فعله ديفيد لين يُصادف معظم كتاب الدراما عندما يُحُولون الادب الروائى الى فيلم سينمائى ، وغالبا فان اختيارهم سيكون عكس اختيار ديفيد لين لاعتبارات نظرية ، اما ديفيد لين فانه يقلب الثوابت ليستكشف  بفنه مناطق لم تطأها قدم درامتورج  – وهو جدير بذلك – فالفيلم يبدو افقا لا يستطيع احد ان يصل اليه وسرا من اسرار السينما الخالدة .

ان فيلم ممر الى الهند ينتمى الى نوعية افلام الملاحم ، وهى النوعية التى بدا ديفيد لين متخصصا فيها ، فله فيلم لورانس السعودى وجسر نهر كيوى - ولقد شاهدنا الفيلمين مرارا فى التليفزيونات العربية - حيث نجد ان الاحاطة البانورامية بالمجتمع تسيطر على الاحداث اكثر من الشخصيات وان اطراف المجتمع تتداخل جميعا فى سياق الفيلم ، دون التخلى بالطبع عن الشخصيات الرئيسية ، وغالبا فان سلوكها يكون مرهونا بهذا الظرف الاجتماعى والتاريخى  ، وانها تمثل رموزا اكثر من كونها حالات شخصية .

ان الفيلم الملحمى يهتم بالحبكات الصغيرة التى تصيغ الموضوع الرئيسى ، وربما لهذا السبب فان الحكم على الافلام الملحمية بنفس قواعد الفيلم الدرامى سيكون نوع من التجنى ، لاننا على سبيل المثال سنلاحظ فى فيلم ممر الى الهند ان اطراف الصراع ليسا شخصين وانما مجتمعين ، ورغم ذلك سنجد نوع من التركيز على شخصية ادلا وعزيز ، رغم انهما لا تربطهما علاقة يمكن متابعتها كموضوع درامى ، فهما مجرد صديقين ، لكن الفيلم يتابع ادلا ويتوقف عندها كثيرا مثل ولوجها على دراجة الى منظقة اثرية هندية ، وكذلك عزيز وما يتعلق به كأرمل محروم عاطفيا ، لكن هذا التركيز على الشخصيات ليس دراميا ، انه نوع من الدراسة عن قرب لنماذج انسانية ، نجد انفسنا متشوقون لمعرفتهم عن قرب بصرف النظر عن خلو الفيلم من المواقف الدرامية المخطط لها باحكام فى الفيلم الدرامى التقليدى .

اود ايضا ان انبه الى اصطلاح آخر لكلمة ملحمى ، وهى صيغة غير درامية للفيلم السينمائى او المسرحية ، هذا الاصطلاح تم استحداثه فى ألمانيا على يد الرائد المسرحى بريخت ، بهدف تأسيس فن غير درامى وانما سردى لعزل المشاهدين شعوريا عن الحدث ، وينتمى فيلم ممر الى الهند لنفس النوعية ، فنحن لا نتوحد مع الشخوص ، اننا نرقب ما يحدث ، تمام مثلما تمنى بريخت ، لكن لديفيد لين اسلوبه المتفرد فى الملحمية بوسائل غير بريختيه ، فهو لا يطلب من الممثلين عدم التمثيل او النظر الى الكاميرا مثلما اعتاد جان لوك جودار ، او ان يقسم الفيلم الى اجزاء منفصله يحمل كل قسم لوحة مكتوب عليها عنوان ، او غير ذلك من وسائل كسر الايهام ، ان ديفيد لين يحقق كسر الايهام عن طريق السيناريو فقط ، فالبنية ملحمية – سردية – لا تسمح لنا بالتوحد مع شخوصه ولكن مراقبتهم .

لقد قام ديفيد لين بعمل المونتاج بنفسه لهذ الفيلم ، ومن المعروف انه بدأ عمله السينمائى كمونتير ، ثم تخلى عن هذه الوظيفة فى كل اعماله كمخرج باستثناء هذا الفيلم ، ولعلنا نفهم مقدار تعلقه الشخصى بهذا الفيلم الذى اراده ان يكون خطابا تقريزيا لشعبه .
 

مع اجمل تحياتى :-