03‏/10‏/2011

فيلم اجورا : تراجيديا الموت المعلن دفاعا عن الحرية


ممدوح شلبى .


ينقسم فيلم اجورا الى قسمين يفصل بينهما عشرون سنة ، ففى القسم الاول تتوضح معالم المجتمع الوثنى فى مدينة الاسكندرية ، حيث حبيشة السكندرية فى القلب من الاحداث كعالمة فلك ورياضيات وفيلسوفة ، اعتادت على تعليم طلابها هذه العلوم فى جو من التسامح والاخوة ، فطلابها مسيحيين ووثنيين على حد السواء ، فالاسكندرية يتعايش فيها الجميع فى سلام رغم اختلاف عقائدهم .

ان الفيلم يبدأ وينتهى بلقطة لكوكب الارض بشكلها الكروى ، كتلخيص لرأى مخرج الفيلم الاحتجاجى على ميراث الكنيسة الذى كان يُحارب العلم ، فمن كان يناقش فكرة ان الارض تدور حول الشمس ، فان مصيره كان الحكم عليه بالزندقة ، فيما عُرف بمحاكم التفتيش فى العصور الوسطى، وهذا لا نراه فى الفيلم ، ولكنه ماثل فى عقولنا جميعا ، وهذا فى حد ذاته بلاغة فنية ، عندما يكون مالا يُقال حاضرا وجليا ، وعندما ينبنى الفيلم كله على مفارقة درامية نستحضرها من ميراثنا المعرفى .

ولذلك فثمة تأكيد على نظرية الكون طبقا لارستاكوس والالحاح عليها من مخرج الفيلم ، فالارض تدور حول الشمس ، وهى جرم سماوى كروى ، هذه النظرية تظل حاضرة طوال الفيلم ، حيث يحرص الفيلم على تقديم حبيشة فى مشاهد يغلب عليها الطابع التسجيلى ، منغمسة كلية فى هذا الامر لكى تجد الاجابات لما بدا غامضا فى نظرية ارستاكوس ، تلك النظرية التى طواها النسيان تماما مع تدمير مكتبة الاسكندرية على يد المسيحيين .

ان تدمير المكتبة يتم بصورة وحشية على يد المسيحيين فى اعقاب استلامهم المكتبة والمعبد القيصرى على اعقاب صراعهم مع الوثنيين الذين ينهزمون تماما ، ليس فقط فى الاسكندرية ولكن فى العالم كله ، وعنما يتسلم المسيحيون المعبد القيصرى فانهم يُحولونه الى كاتدرائية ، اما مكتبة الاسكندرية فانها تتحول الى خرابة يعشعش العنكبوت على جدرانها مكان اللفائف العلمية .

ان قسمى الفيلم يفصلان بين زمنين وفى نفس الوقت يبدو ان بنية القسم الاول الدرامية مختلفة تماما عن بنية القسم الثانى الذى يهتم بتوثيق ظهور المسيحية بممارسات وحشية ضد اليهود وبقايا الوثنيين ، حيث حبيشة نفسها تموت رجما بالحجارة فى نهاية الفيلم .

فدراما القسم الاول تنتمى الى الثالوث الدرامى المقدس – امرأة فى علاقة مع رجلين – ولكن هذا الثالوث الدرامى ليس كوميديا او هزليا كما عرفناه فى المسارح العالمية ، لكنه فى فيلم اجورا ثالوثا دراميا محوره حبيشة التى يحبها اورستس ذلك النبيل السكندرى الذى يكرس نفسه للموسيقى بحثا عن الهارمونية التى تسبب حبه لحبيشة فيها ، وعاطفة حب ثانية من ديفيس عبد حبيشة الذى يعتنق المسيحية ليس فقط كخلاص دينى ولكن طلبا ايضا لمعجزة لكى ينال حبيبته حبيشة .

هذه الدراما تنتهى تماما فى القسم الاول من الفيلم ، فحبيشة ترفض حب اورستس لانها تُكرس نفسها للعلم ، بينما ديفيس يجد حبيشة تُحرره فينتهى القسم الاول برحيله ، ولا يتعاطى القسم الثانى من الفيلم مع هذا الثالوث الدرامى وكأننا امام فيلمين ، فالسيناريو الذى كتبه أليخاندرو امينابار مع ماثيو جيل ، وقد اشتركا ايضا فى كتابة فيلم امينابار السابق عليه ( داخل البحر ) ، وهو ما يجعلنا نعتقد ان هذه ليست هفوة منهما ولكنهما ارادا بنية جديدة لفيلمهما اجورا ، يمكن ان نعتبرها نوع من التجريب السينمائى ، وهى مغامرة كبيرة ، فالفيلم ينتمى لنوعية افلام الميزانيات الكبيرة ، حيث تم تصوير الفيلم فى مدينة ديليميورا بمالطة وسط ديكورات كثيرة وملابس ومشاهد مجاميع ، يحتشد الفيلم بها مثل مشاهد الحرب التى يبدأها الوثنيون على المسيحيين ، على اثر الاهانات التى يُوجهها المسيحيون لآلهة الوثنيين ، وتنتهى بانتصار المسيحيين .

لكن الرهان بكتابة سيناريو بهذه البنية التجريبية ، كان رهانا محسوبا ، فالافلام التى تتناول تاريخ المسيحية ، هى واحدة من الموضوعات الاثيرة عند المُشاهد الغربى , الذى لا يتفاعل فقط مع السينما الجديدة بحماسة ، ولكنه ايضا يتفاعل بقوة مع الافلام التى تنقد المسيحية مثل فيلم شفرة دافنشى ، فكلا الفيلمان ينقدان تاريخ المسيحية صراحة .

لقد اعجبنى الفيلم جدا واعجبنى قسميه ، ففى القسم الثانى والذى يبدأ ايضا بكوكب الارض ثم تتقدم الكاميرا تدريجيا حتى نرى مدينة الاسكندرية ، وهى فعلا لقطة بديعة فالكاميرا تواصل تقدمها حتى نرى المعبد القيصرى الذى اصبح الآن كاتدرائية مسيحية ، بينما نسمع من خارج الكادر صوت نحيب نسوة .


فالقسم الثانى من الفيلم يبدأ بتولى الاسقف الشاب سيريل امر كنيسة الاسكندرية ، وعلى اثر ذلك يتبدل الحال فى هذه المدينة ، فالسلام الاهلى الذى عاشته المدينة يُصبح على المحك ، حيث يبدأ المسيحيون فى عهده ومباركته فى اضطهاد اليهود ويُجبرونهم فى النهاية على الهجرة من الاسكندرية بعد ان قاتلوهم بينما حكومة الاسكندرية قد اختارت الصمت ولم تبذل اى جهد فى حماية اليهود ، وهو ما تحتج عليه حبيشة بشده ، حيث بات من المؤكد ان تصاعد هذه الممارسات سيؤدى الى النيل من حبيشة نفسها ، التى تظل وثنية رغم جميع التهديدات ورغم ان الجميع قد تحولوا الى المسيحية ، مثل اورستس الذى نراه فى القسم الاول من الفيلم شديد الحماس الى الوثنية ومقاتلا عنيدا فى صفوفها ، بينما نراه فى القسم الثانى من الفيلم مسيحيا وقد اصبح محافظا للاسكندرية .

ان شخصية حبيشة تتشابه فى القسم الثانى من الفيلم مع انتيجون سوفوكليس ، فثمة صراع تواجهه مع العالم كله من اجل التزام وحق لا تستطيع التهاون فيه ، ان حبيشة شخصية تراجيدية بالمفهوم الارسطى ، وجميع مشاهدها تُركز على صمودها وهى تختار نهايتها باصرار حتى ولو كان ثمن موقفها هو الرجم ، ولعل هذه الشخصية نفسها هى سبب جودة هذا الفيلم ، فالسيناريو يبدو كما لو كان معدا عن تراجيديا لسوفوكليس .

واذا تأملنا الفيلم جيدا سناحظ ان شخصية ديفيس هى الشخصية الدرامية الرئيسية فى الفيلم ، فثمة ازمة وصراع وذروة فى بنية هذه الشخصية التى يلعب زمن الفيلم دورا كبيرا فى صياغتها على هذا الشكل ، فالمسيحية تُمثل خيارا له اثناء العبودية فهى طوق نجاه من الرق ، وفى نفس الوقت يبتهل ديفيس الى خلاص آخر فيما يتعلق بعاطفته المشبوبة تجاه حبيشة سيدته .

ان قسم الفيلم الاول ينتهى برحيل ديفيس ، لكننا نراه فى القسم الثانى من الفيلم حاضرا ايضا ، فالرحيل كان رمزيا ، فقد رحل ديفيس من براءته وانتمى فى القسم الثانى الى مجموعة مسيحية مُتشددة تستخدم احجار الرجم والسيوف فى تثبيت المسيحية ، وهو تحول جذرى فى شخصيته حيث لا نرى اى رابطة بينه وبين القسم الاول من الفيلم الا فى نهاية الفيلم ، حيث يبدو كما لو انه افاق على حفيفة حبه لحبيشة التى يترصدها الآن الجميع من اجل تنفيذ ( فتوى ) سيريل فى حقها كدجالة ، فطبقا لهذه التهمة فان اعدام حبيشة اصبح مقررا .
ان مشاهد اعادة الوعى لديفيس تتشابه مع مشاهد الانقاذ على آخر لحظة – تلك التى اختبرناها فى السينما كثيرا – وفعلا يصل ديفيس الى حبيشة فى لحظة الرجم وينفرد بها ، حيث نراها ترفع يدها وتكتم انفاسها فيضع ديفيس يده على يدها حتى تلفظ انفاسها الاخيرة ، كنهاية تليق ببطلة تراجيدية مثل حبيشة .

ويتميز هذا الفيلم ايضا بعنصر التمثيل ، وسوف يبهرنا الممثل الفلسطينى اشرف برهوم فى شخصية امونيس فقد اداه باسلوب مسرحى يتناسب مع الطابع الخطابى لشخصية  ذلك المسيحى المتشدد .

ان فيلم اجورا يستحضر زمنا استثنائيا فى تاريخ العالم عندما انتهى التاريخ القديم وبدأ التاريخ الحديث للانسانية ، وقد تم عرض الفيلم قبل بضعة اشهر من ثورة الشعب اليونانى التى انتهت باقصاء اليمين من حكم اليونان ، ثم توالت الثورات فى تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا واوغندا وشيلى وحتى الصين وايران وبريطانيا ، وكأن العالم الآن على مفترق طريق فى تاريخه ، انها قد تكون مُصادفة ، لكننى اراها نبوءة ، فالفيلم وبرغم التزامه التاريخى الا انه يبدو كما لو انه يتحدث عنا باسلوب التأريخية البريختية ، لكن الفيلم – ويا لها من حقيقة - سبق الحدث نفسه .



نشرت هذه المقالة ايضا فى موقع عين على السينما
مع اجل تحياتى .
ممدوح شلبى