22‏/04‏/2014

تنويعات على سينما المؤلف

 
محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى 
1
مخرج سينمائى مثل إنجمار برجمان يُنظر إليه كأكثر المرشحين الذين ينطبق عليهم مصطلح سينما المؤلف بشكل لا لبس فيه، وكأكثر الأشخاص الذى يُعتبر أسلوبه معادلاً للمؤلف الروائى، فدائماً تيماته شخصية جداً، وهو يستلهمها من تجاربه الزوجية المتعددة وعلاقاته، وهو غالباً يختار للدور النسائى الرئيسى فى أى فيلم من أفلامه واحدة ممن سبق له أن أحبهن.
إنه أيضاً يكتب سيناريوهات أفلامه بنفسه، ويرى "جور فيدال" " Gore Vidal" أن المؤلف لابد ان يكون هو الشخص الذى يضع القلم على الورق ويكتب شيئاً من إبداعه، لكننا سنتجاهل رأى جور فيدال لأن فيلم "أفضل إنسان" " The Best Man "  – على سبيل المثال- والذى تم إعداده من مسرحية جور فيدال نفسه واخرجها فرانكلين.ج. شافنير، يُنسب إلى المخرج كما تقتضى التقاليد، لكن إذا إعتمد فيلم ما على سيناريو بصورة حرفية فإن النقاد الذين كتبوا مصطلح "سياسة المؤلف" " politique des auteurs " فى الخمسينات سيقولون أن هذا الفيلم لا ينتمى لسينما المؤلف على الإطلاق.
الصمت

فالفيلم الذى ينطبق عليه وصف سينما المؤلف لابد له أولاً واخيراً أن يكون قطعة من الفن البصرى، وبناءاً عليه، فالمخرجون الذين يعملون غالباً مع مادة لها مصدر ادبى هزيل – مثل ألفريد هيتشكوك ونيكولاس راى وروبرت ألدريتش- سيحظون بالتقدير لما قدموه بصرياً لهذه المصادر. ودعونا نعود مرة اخرى إلى إنجمار برجمان ونتفق أنه وعلى الرغم من انه عمل أفلاما ً شخصية، فهو يكتب سيناريوهاته بنفسه ويضع عشيقاته فى بطولة أفلامه، لكن الذى جعله مؤلفاً عظيماً هو رؤيته: الطريقة التى يقدم بها أفلامه وخاصة طريقة تعامله مع الوجوه.

لقطة الكلوس أب تعبر غالباً عن رد الفعل، فهى علامة سينمائية تُشير بوضوح إلى شيئ هام، وهذا يأتى على شكل لقطة رد فعل، فمثلاُ لو ان نيزكاً كان فى طريقه لكوكب الأرض، فإن الفيلم يقطع على وجوه مصدومة تتطلع إليه، أو إذا شذ احد الأشخاص عن قواعد المجتمع، فهذا الشخص فى متناول يدنا ليعطينا نظرة تعبر عن عدم الموافقة.

والكلوس أب تُستخدم أيضاً فى اللقطة واللقطة العكسية، فعندما يتجادل حبيبان فى حدة فإن الكاميرا تقترب من الوجوه، وثمة مخرجين يُثبتون الكاميرا أحياناً على وجه كنوع من التقنية المونتاجية، ولكن أفلام الغرب الأمريكى لسيرجيو ليونى جيدة فى إلاظهار الممتع للوجه وهو يقوم بلفتة تعبر عن الغدر أو الجشع او الخبث.

ولكن هل إستكشف أى مخرج الوجه بهذه البراعة مثل إنجمار برجمان؟ إنه نوع من المخرجين الذي سيطلى وجهاً بالمكياج حتى نستطيع أن نراه أكثر عرياً،: فالمكياج يكشف كل ما تحت السطح من ندبات، ويكشف عن خطوط الوجه الضاحك والشامات الظاهرة والتى لا يكشف عنها الوجهة الخالى من المكياج. يعرف برجمان ان المكياج فعال جداً فى إخفاء الشحوب، لكنه لا ينفع كثيراً فى إخفاء الندبات والإنبعاجات والتجاعيد البارزة، وهذا ما نراه فى وجة واحدة من الأختين فى فيلم "الصمت" " The Silence."
 
ما سيعرضه برجمان هو وجه له تاريخ حى- إنه ليس وجهاً لرد الفعل- ذلك الذى تحدثنا عنه منذ قليل، لكنه وجهاً مُتأملاً، هذا الوجه أحياناً سيكون مُتأملاً بفاعلية، فنحن عندما نرى "ليف أولمان" فى فيلم "سرابند" " Saraband " يتطلع إلى صور فى بداية الفيلم، وأحياناً يتطلب هذا تأملاً من الآخرين مثل شخصية إيرلاند جوزيفسون فى فيلم "صرخات وهمسات" " Cries and Whispers " عندما يتطلع إلى وجة ليف أولمان ويشرح كيف أنه تقدم فى العمر فيُعلق على كل خط وكل تجعيدة ويتحدث عن تاريخها.

 فى مناسبات أخرى، وعلى الرغم من ذلك، سيعرض لنا برجمان وجهاً ننظر إليه ونتأمله نحن، كما فى شخصية إحدى الأختين فى فيلم "الصمت" وهذا ليس معناه أن نقول أن افلام برجمان هى أفلام وجوه فقط، بالطبع لا، لكننا إذا بحثنا عن مفتاح لأعماله والسبب الذى يجعله متميزاً عن المخرجين الآخرين، فمن الأفضل أن نبدأ بإستخدامه الكثير للكلوس أب، ففى فيلم "شخصية" " Persona" -على سبيل المثال- يوجد مشهد شهير يكشف عن وجهي الممثلتين الرئيسيتين يتلاشيان داخل بعضهما، فهو كثيراً ما يقدم التحولات على انها ليست فقط بسبب الجدال ولكن أيضاً كمعارك أساسية لتحديد الهوية.
 
فى ذاتية برجمان هناك شيئ مُقلق دائماً، وبرغم ذلك فهو يريد ان يتحرك قريباً جداً من الوجه حتى انه يطمس ملامحه المميزة ويستحضر عيوبه فقط، نرى هذا فى مشهد من فيلم "الصمت" حيث الأخت الجذابة والتى تتمتع بصحة جيدة تبدو أقل جمالاً مما لو صورها فى لقطة متوسطة تقليدية أو كلوس أب.
 
برجمان نفسه يعتقد أن (يبدأ عملنا بالوجه الإنسانى...وإمكانية التصوير بالقرب من الوجه الإنسانى تُعد ركيزة أساسية وقيمة مميزة للسينما). وأخيراً فإن أسلوبه كمخرج- مُؤلف يكمن فى الكيفية التى يستخدم بها الكلوس أب أكثر من أى سينمائى آخر.
 
2
 
هناك لقطات كلوس أب معدودة فى أفلام فيرنر هيرتزوج، لكنه أثناء أعظم فتراته كمخرج فيما بين بداية السبعينات ومنتصف الثمانينات قدم الإنطباع بعدم الإنسجام البصرى. وكما يعتقد الناقد مامى فاربر فى كتابه "مساحة سلبية" " Negative Space (ان هيرتزوج يحافظ على الحيادية العاطفية لكاميرته وكذلك يحافظ على مسافة) هذه المسافة تتحقق لأن الإنسان فى أفلام هيرتزوج عادة هو عنصر من عناصر بيئته أكثر من مجتمعه، والأمر يبدو كما لو أن أسلوب تصويره لا يحتاج إلى التقاليد السينمائية والتى هى غالباً تقاليد إجتماعية: فعندما نفكر فى اللقطة التأسيسية، فإن اللقطة المتوسطة والكلوس أب لا يصلحان إلا فى تصوير أناس تربطنا بهم علاقة، فأى إحساس بالراحة سنشعر به إذا إقتحم شخص ما فضاءنا دون أن يمنحنا الوقت لكى ندرسه ونحكم عليه ... إلخ. هل مظهر وسلوك الآخرين له الأولوية؟
 
فبالنسبة لهيرتزوج فإن الغاية هى ان نجد (صُوراً تستقر عميقاً فى داخلنا) لذلك لا يعتقد أن الإبقاء على لقطة عامة لمدة طويلة قد تقود ظاهرياً إلى لقطة أكثر قرباً تكشف عما تقوم به الشخصية، لكن هيتزوج لا يفعل ذلك، وهو سعيد أنه يلتقط اللقطة التى لا تجعلنا نفكر فى العنصر الإجتماعى (التحرك نحو رؤية أقرب للشخصية) فالعالم عنده واسع وهذه الشخصية مجرد جزء منه.
 
لكنه فى بداية فيلم "أجويرا غضب الله" " Aguirre, Wrath of God " يكشف لنا عن جبال الأنديز المُدهشة، أنها بمثابة لقطة لإلتقات الأنفاس تُمثل اللقطة التأسيسية، وإذا وافقنا عادة على أن ما نتوقعه من اللقطة التأسيسية هو أن تكون مجرد مقدمة لفيلم محوره الإنسان، حيث الناس يتوسطون الصورة، لكننا فى فيلم "أجويرا غضب الله" نحن نحصل على مجموعة من اللقطات التأسيسية لجبال الأنديز قبل أن نرى وجه الشخصيةً.
 
ولعلنا نشير إلى انه إذا كان برجمان مخرجاً مؤلفاً بسبب أسلوبه المرئى بشكل خاص فإن أهمية هيرتزوج تتحقق بسبب أسلوبه فى جعل اللقطة التاسيسية ميتافيزيقية.
 
إنه يريد من اللقطة التأسيسية أن تستقر عميقاً فينا: عميقاً جداً حتى أننا لا ننظر إلى اللقطة المتوسطة والكلوس أب بنفس الطريقة التى بها ننظر إليهما فى معظم الأفلام، فهيرتزوج، بالطبع، توجب عليه أن يجد مناظراً طبيعية تبرر هذا التطويل فى اللقطة التأسيسية، وهو واحد من أعظم المخرجين المتجولين العالميين.
 
فعدد من أفلامه تم تصويرها فى غابات الامازون مثل فيلميه الروائيين "أجويرا غضب الله" و " فيتزكارالدو" " Fitzcarraldo " بالإضافة إلى فيلمه التسجيلى "أجنحة الرجاء" " Wings of Hope " لكنه إستكشف أستراليا أيضاً فى فيلمه "المكان الذى يحلم فيه النمل الأخضر" " Where the Green Ants Dream " كما إستكشف الولايات المتحدة الأمريكية فى فيلمه "ستروزك" " Stroszek " وإستكشف إفريفيا فى فيلمه الروائى "النحاس رداء رأس" " Cobre Verde " وفيلمه التسجيلى "سراب" " Fata Morgana " كما انه عرض منذ عدة سنوات فيلماً تسجيلياً تهكمياً عن البحث عن "وحش بحيرة لوخ نس" " Loch Ness Monster ".
 
هيرتزوج ليس مخرجاً لصور جميلة فقط، فثمة روحانيات تتخلل أفلامه حتى انه من الأفضل أن نصف أفلامه بأنها تركز على فكرة اللامجتمع. 
 
أجنحة الرجاء
فمرات عدة كان يركز على شخصيات لديهم مهام مجنونة وانهم عقدوا العزم على تحقيق مهامهم بصرف النظر عن إستحالة هذه المهام، ولعلنا نستدعى الشخصية الرئيسية "فيتزكارالدو" التى يتسمى بها الفيلم، فقد عقد العزم على بناء دار للأوبرا فى قلب أحراش الأمازون: وهيرتزوج نفسه فى الفيلم التسجيلى "بركان سوفرير"" Le Soufriere " قرر كمخرج أن يصطحب مدير تصوير الفيلم معه ويصعدا إلى فوهة هذا البركان الذى كان على وشك الإنفجار.
 
ولعلنا نعود بفكرنا إلى فيلم "ديرسو أوزالا" " Dersu Uzala " ونتسائل ماذا لو كان هيرتزوج هو مخرجه وليس أكيرا كيروساوا، وسبب إستحالة هذا يكمن فى بساطة شخصية ديرسو: فهو يتوحد مع الطبيعة ويتعايش منها رغم أن هذا الصياد يحاول أن يتأقلم مع الحضارة فى نهاية الفيلم الذى جاء كمقطع ختامى، أما بالنسبة لهيرتزوج فدائما يستحضر التباين، فتيمات هيرتزوج يستعيرها مما كتبه فرويد تحت عنوان "الحضارة وقرفها" " Civilization and its Discontents " ،فدائماً هو يعرض التباين بين الحياة فى الطبيعة والحياة الحضارية، فالحياة فى الطبيعة خالية تماماً من الفرص والمخاطر والإمكانيات الترويحية  للتهوين على نفوس شخصياته المُعذبة دوماً ونفس الحال فى موضوعاته التسجيلية. فهيرتزوج يتحرك بين شكلى الفيلم الروائى والفيلم التسجيلى مُشيراً إلى انه يوجد فرق قليل جدا بينهما، فهو ببساطة وبإستمرار يهتم بفعل الإستكشاف، بصرف النظر عن حقيقة ان الأفلام التسجيلية أكثر حميمية وأقل تقشفاً فى كوادرها.
 
3
 
لارس فون تريير يُعد مخرجاً - مؤلفاً بطريقة مختلفة، ففى بداية مشواره الفنى – فى فيلمى "عنصر الجريمة" " Element of the Crime " و"أوروبا" " Europa " – كان مخرجاً لتكوينات مُصممة بدقة وكان يستخدم إضاءة جميلة وكان يصور الممثلين بهذه الطريقة ويتوقع منهم ان يكملوا تصميماته لا أن يكون وجودهم خالقا لتصميمات.
وبعدئذ – فى حوالى منتصف التسعينات- عندما أخرج فيلم " إنكسار الأمواج" " Breaking the Waves " وكان فى مرحلة إعداد فيلمه "البلهاء" " The Idiots " بدا أنه يبحث عن شكل سينمائى جديد يعتمد كثيراً على الممثلين ويوظف التكوينات والإضاءة لتكون فى خدمة الممثل، ومن مرحلته فى التمثيل المفتعل الذى ظهر فى أفلامه الأولى إلى التمثيل غير المفتعل فى بعض أفلامه الأخيرة، بدا لارس فون تريير مُهتماً أولاً واخيراً بالتجريب، وهو نفسه الذى قال أنه يريد من كل صورة أن تتضمن فكرة.
البلهاء
 وهو لا يحبذ أن يضع الكاميرا فى أفضل مكان يجعل الحدث الدرامى يتطور، لكنه يحبذ أن تحدد الكاميرا حيز الحدث، أو أن يكون الحيز المكانى مفتوحاً على توقعات أكثر مما يطرحه مكان التصوير، لذلك فمشاهد فيلم "عنصر الجريمة" وفيلم "أوروبا" يعتمدان كثيراً على مكان التصوير حيث يملى مكان التصوير المحدد  نمطاً واحداً من التمثيل، فالتمثيل عادة يكون فجاً ومباشراً وتوجسياً، ومصير الشخصيات محتوم ومُقدر وهم يعرفون انهم فى ورطة مع العالم وهذه الورطة من صنيعة مخرج الفيلم.
 
ففى فيلميه الأولين نحس بالكاد أن الشخصيات تستطيع التنفس فى عالم فون تريير المُختنق والمُغلق، لكن فى فيلم "إنكسار الأمواج" و"البلهاء" ينفتح العالم لخلق الإنطباع بالواقعية المُفتقدة فى فيلميه الأولين، لكنه يوظف أساليب السينما البديلة التى تُحافظ على جعل أفلامه تنويرية. فى مواقع التصوير السبعة عشر لفيلم "إنكسار الأمواج" يُثبت الكادر على لقطات دخيلة فى نهاية كل قسم من الفيلم مع مُصاحبة لسبعة عشر أغنية نسمعها بوضوح فى شريط الصوت، وفى فيلم "البلهاء" يجرى المخرج حوارات مع الشخصيات الذين يُشكلون لجنة فى الفيلم، فنجد انفسنا فى فيلم داخل فيلم.
 
وسواء كان الفيلم يعطى إنطباعاً بأنه فيلم يتبع النظرية الشكلية أو النظرية الواقعية، فاهم شيئ عند فون تريير أن تتولد فكرة من الشكل الفنى للفيلم، ومعظم أفلامه تحتوى على بُعد ذهنى كما لو أن الفكر الجامد يتحول إلى فيلم ومن ثم يستخرج من هذا الفكر الجامد شيئاً شديد الخطورة.
ولذلك فعلى سبيل المثال، فى فيلم "العراقيل الخمسة" " The Five Obstructions " نجد ان  فون تريير يجعل جورجن ليث – مخرج من الستينات – يُعيد عمل فيلمه القصير "الإنسان الكامل: " The Perfect Human " لكن فون تريير يضع له فى طريقه عقبات صعبة، بما فى ذلك جعله يتناول وجبة كبيرة وفاخرة من اللحم فى حى من أحياء كالكتا الفقيرة فى الهند، وفى فيلم آخر نرى فون تريير يطبخ بدلاً من الإخراج، وفيلم "المعروضات" " The Exhibited " يستعير فكرة البرنامج التليفزيونى الشهير"بج برازر" " Big Brother " ويضع مجموعة من الناس معاً فى منزل، وبعد أن يقدم لهم تصوراً سريعاً عن الأدوار يتركهم يرتجلون الحدث.
 
فالمشكلة الوحيدة التى يواجها هؤلاء الناس هى أن الأضواء تنقطع ويساعد فون تريير فى تعريف الممثلين بما يتوجب عليهم من أفعال، كما انه يربط الفيلم بحبكة ثانوية تتناول قصة عن النمل فى نيو مكسيكو الأمريكية وهى القصة التى تتأثر بها الشخصيات وتنعكس على سلوكهم.
فون تريير واحد من أعظم السينمائيين الذهنيين الذى يحول تصوراته إلى شكل فنى سينمائى وينظر إلى ما يمكن ان تقود إليه تصوراته، ولعلنا نتذكر تعليقاً قاله المخرج الشيلى راؤول رويز " يوجد فى السينما نوع من الأفلام هى الأفلام الفظيعة، إلا أننى اجد هذه الفظاعة أكثر قرباً إلى الحياة الحقيقة مما فى السينما".
 
فيلم "البلهاء" لفون تريير تم إستقباله عادة كفيلم فظيع وعدائى، لكن القلائل نفوا أن الفيلم واحد من هذه الافلام الفظيعة (يرى أحد النقاد ان هذا هو فيلم الدوجما الوحيد الذى يمكن إعتباره طليعياً) وسواء كان فون تريير يعمل فى إطار الفيلم النوعى ام لا- ففيلمه "راقص فى الظلام" " Dancer in the Dark " ينتمى للفيلم الموسيقى، وفيلمه "إنكسار الأمواج" يُعد ميلودراما واقعية- لكن فون تريير لا ينطبق عليه التوصيف التقليدى لمصطلح المخرج – المؤلف، فهذا المصطلح ربما ليس مرنا بقدر كاف ليصف هذا الدنمركى الجريئ، ففون تريير فى محاولاته المستمرة لخلق شكله الفنى الخاص به يبدو مُتجاوزاً وأصيلاً فى تجاربه.
 
4
 
مايكل انجلو انطونيونى يجعلنا نستدعى عبارة الشاعر تى.إس. إليوت التى قال فيها ان الإنسان مذهول بالذهول من الذهول. ودعونا نأخذ مشهداً من فيلم "تكبير الصورة" " Blow Up " حيث نرى المصور ديفيد هيمنجز – الذى يعمل بالتصوير الفوتوغرافى فى لندن "الضائعة" فى الستينات - يدخل إلى محل للأنتيكات كان يفكر فى شراءه، ويشترى مروحة يشعر بالإهتمام نحوها لكنه بعد ذلك يفقد ولعه بها.
 
عندئذ وبعد ان ينطلق بالسيارة فى شوارع لندن يتقابل مع صديق ويعرض له أيضاً مجموعة من الصور التى صورها فى فندق رخيص، ويقول لصديقه انه يشعر بالملل من معيشته فى لندن، وهذا الكلام ياتى بعد وقت قصير من إعلانه أنه يريد أن يشترى محل الأنتيكات فى نفس هذه المدينة.
 
إنفجار
وبعد عدة لحظات يصل رجل خارج نافذة الحانة، ويقول هيمنجز لصديقه أنه سينتبه له بعد قليل، ثم يتابع الرجل خارج النافذة، ويرى الرجل يدخل إلى سيارة ويذهب فى طريقه، إنه لا يتحدث مع صديقه ولا يتحدث مع النادل الذى طلب منه الطعام منذ قليل، فكل خط وكل لحظة فى السرد تبدو انها منفصلة نوعاً ما، كما لو ان انطونيونى يريد أن يلمح إلى الضياع واللامعنى فى مرحلة الستينات من خلال شخصية مذهولة دائماً بما سيأتى من احداث.
 
بينما معظم المخرجين – مثل ريتشارد ليستر على سبيل المثال فى أفلامه مع فريق البيتلز قبل عام او إثنين من فيلم "العذاب ليل نهار، ساعدونى" " A Hard Day’s Night, Help " والذى كان يريد أن يصور حيوية هذا المرحلة- كان انطونيونى على العكس من ذلك ينظر إلى اللامعنى لهذه المرحلة والإحتمالات التى تنطوى عليه.
وهذا بشكل او آخر، موقف انطونيونى الثابت: فهو يلج إلى الشخصيات والمواقف حيث لا يمكن للمعانى أن تؤخد على علاتها، وفى فيلم "الزوال" " The Eclipse " تنفصل الشخصية المحورية عن حبيبها الذى عاشت معه مدة طويلة وترتبط برجل آخر لكنها تعتقد انها تتمنى لو تستطيع أن تُحب أكثر قليلا او أقل قليلاً: إنها تكون أسيرة لحالة حادة من عدم القدرة على إتخاذ قرار، وفى فيلم "المسافر" " Passenger " يتحدث ديفيد لوك – الشخصية المحورية- عن كيف ان الناس يختفون بمجرد أن يغادروا غرفة، وقبل ذلك فى فيلم " المغامرة" " L’avventura " تختفى إمرأة ويقع حبيبها فى غرام أقرب صديقاتها ويذهبان للبحث عنها بإخلاص مشكوك فيه.
 
وقد يدعى البعض ان أفلام انطونيونى نفسها بلا معنى: فهى عرض من اعراض المشكلة التى يحللها، لكن الامر شديد البساطة: فالأمر يبدو كما لو ان انطونيونى إكتشف شكلاً فنياً ليختبر فيه مشكلة اللامعنى، وهو شكل لا يتجاهل العنصر السردى لكنه فى نفس الوقت لا يعول عليه. فإذا كان للشخصية مشكلة فى افتقادها للمعنى من حياتها، فهل يكون المخرج مُهتماً جداً بالمشكلة إذا صنع قصة عن هذه الشخصية؟ لكن انطونيونى لا يبحث فقط عن المعنى من خلال سرد فكرى، لكنه أيضاً يفعل ذلك من خلال أسلوب سينمائى فكرى.
 
فليس من الشائع ان مخرجاً يقدم لقطات تبدو كما لو انها أكثر من مجرد تصوير لأفعال الشخصية، حتى اننا نجد أنفسنا نتسائل ليس فقط عن سبب نسيان الشخصية لقرارها السابق، لكن أيضاً عن سبب إختيار انطونيونى العمدى الا يتبع تحركات الشخصية. فى مشهد رئيسى فى نهاية فيلم "المسافر" تنحرف كاميرا المخرج عن تصوير السرير الذى يرقد عليه لوك ، وتتحرك ناحية النافذة: فالكاميرا تخرج من النافذة وبعدئذ تعود مرة ثانية لنرى الشخصية راقدة ميتة فى الفراش- فالكاميرا مفقودة بشكل كامل فى هذا التطور الهام فى القصة.
 
وملمح ثالث مهم من ملامح أسلوب انطونيونى نستدل عليه فى بعض من أفلامه الملونة، فهو يتلاعب باللون ليخلق جو عام غريب، ففى فيلم "الصحراء الحمراء" يلون الفاكهة باللون الرمادى، وفى فيلم "إنفجار" يلون العشب بدرجة مختلفة من اللون الاخضر، وعندما نجمع هذه العناصر الثلاثة (تجاهل السرد التقليدى- والكاميرا التى لا تتابع القصة والشخصية- ونظام الالوان الذى يتلاعب بألوان الطبيعة) فإننا نجد مخرجاً له رؤية فى أعماله، وهو بالطبع مخرجاً- مؤلفاً.
 
5
 
المخرج مايك لى " Mike Leigh " يُعد مخرجاً أكثر تقليدية بكثير من أنطونيونى، ومع ذلك فثمة عالم مميز لمايك لى، إنه يزاوج بين الواقعية وبين الميزانسين الإنطباعى حيث تتجلى الواقعية دون ان يخلق اى شيئ واقعى، وإذا اخذنا شقة تيموثى سبول وزوجته فى فيلم "أسرار وأكاذيب" " Secrets and Lies " فسنجد كيف تبدو الدقة فى كل شيئ بصورة مبالغ فيها، ونرى الصورة المتكلفة والغريبة التى تُصر الزوجة عل تقديم نفسها بها.
أسرار وأكاذيب
 
فالمخرج مايك لى يتناول الفروق الطبقية دائماً فى تيمات أفلامه، وكثير من هذه الفروق الطبقية تكون داخل نفس العائلة، فهو يستوضحها من خلال تمييز كل طبقة فى طريقة النطق والعادات وأشكال الملكية والديكور المنزلى، ونحن نستعير عبارة من فيلم " تمنيات عالية" " High Hopes " توضح أهم ملمح فى أفلام مايك لى، والعبارة تقول "مكان لكل الناس وكل إنسان فى مكانه".
 
لكن أى شخصية فى فيلم من أفلام مايك لى لا تُوضع بدقه فى مكانها، وعمل المخرج هو التعامل بمهارة مع المشاكل التى تظهر، وكثيراً ما نرى الشخصيات الصغيرة السن فى أفلامه وهى حادة الطباع وقُاسية - مثل جين هوريكس فى فيلم "الحياة لذيذة" " Life is Sweet " وكذلك فيل دانييلز فى فيلم "فى غضون ذلك" " Meantime " او جونى فى فيلم "عارى" " Naked " وبعد ذلك هناك شخصية المرأة المتزوجة التى لا تأمن على نفسها إجتماعياً، مثل شخصية ألسون ستيدمان فى فيلم " حفلة أبيجيل" " Abigail’s Party "، وزوجة ألفريد مولينا فى فيلم "فى غضون ذلك"، وزوجة سبول فى فيلم "أسرار وأكاذيب".
 
وإذا كنا نستطيع أن نرى عناصر سينما المؤلف فى إستخدام مايك لى للميزانسين ومن خلال تقديم عالم مُنمق، فإننا نستطيع ان نلاحظ ذلك أيضاً فى حوار أفلامه، فشخصياته دائماً تتحدث بنوع من الكلاشيهات، فثمة لغة تحتمل اكثر من معنى مما يجعلها عاجزة عن التعبير عما يريده الشخص، فكل شيئ يقال يحتمل معناً آخر ، وهذا المعنى الثانى ليس بالضرورة أن يكون عفوياً، لكن الأمر يبدو كما لو أن الشخصيات لا تجد اللغة التى يستطيعون التعبير بها عن نفوسهم.
 
ومع مخرج آخر هو "كن لوتش" الذى يقال عنه انه تؤام مايك لى، نلاحظ انه كثيراً ما يستخدم حواراً بليغاً وممتعاً، وتعبر الشخصيات عن أنفسها بطلاقة فى لغة حواراتهم، لكن شخصيات مايك لى تبدو تائهة لغوياً.
 
وهذا يمكن ان يخلق نوع من التوتر كما نلاحظه فى فيلم "أسرار وأكاذيب" فالشخصيات تبدو انها تتشاجر بدون وجود شجار حقيقى، فسلسلة التعليقات التى تقولها شخصية "برندا بليثين" لزوجة سبول ، وكذلك ما تقوله زوجة سبول لها يخلق حالة من الجمود الإجتماعى التى يوحى عادة بان مشهداً من الفوضى على وشك الحدوث.
 
ثمة قليل من العنف فى أفلام مايك لى، كذلك فثمة حالة توتر لها علاقة بالأسلوب العصبى لشخصياته، إنهم على وشك الإنهيار أوالبكاء أو التصدع، وهم غالباً يفعلون ذلك: كشخصية جونى وشخصية هوبريك وشخصية زوجة مولينا وشخصية إبنة بليثين فى فيلم "أسرار وأكاذيب"، وكذلك شخصية الإبنة فى فيلم "كل شيئ أو لا شيئ" " All or Nothing ".
 
عندما نجمع هذه العناصر المتعددة نشعر ان مايك لى خبيراً رائعاً فى اللغة الإنجليزية التى تصدر عن شخصيات لهم حيثية لكن أى منهم لا يناسب مكانه،  وعندما سُئل إن كان مخرجاً سياسياً، اصر مايك ليه على النفى القاطع، لكن عدم مناسبة اى شخص لمكانه نوع من السياسة، وهذه السياسية تكشف عن نفسها فى مواضع عدة من أفلامه.


09‏/04‏/2014

الأسلوب السينمائى

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
الزوال


الأسلوب فى السينما يشمل عناصر كثيرة جداً وقد يكون من المفيد أن نختصر مجال البحث فى عدد قليل من هذه العناصر، أحد هذه العناصر يختص بالكادر والطرق المتعددة التى تدخل بها الشخصية الكادر، وعنصر آخر يتعلق بالفرق بين المونتاج داخل الكادر وبين إيقاع اللقطة، ومن العناصر الأقل اهمية هو إمتلاء أو فراغ الكادر، وكذلك الطريقة التى يستخدم بها المخرجون اللون.
 
أزهار شنغهاى
المطارد

أولاً، إنه من المفيد أن نتحدث عن الكيفية التى يستخدم بها المخرجون الكادر، وكيف يوظفونه كمساحة تتسع للدخول والخروج، ففى مشاهد من فيلم "قواعد اللعبة" " La Regle du Jeu " لجان رينوار نلاحظ كيف أن المخرج يرى الكادر كمساحة لعدد كبير من نقاط الدخول والخروج، وعندما تحدث النقاد عن الطرق الستة التى تستطيع بها الشخصية الخروج أو الدخول إلى الكادر- من أعلى ومن أسفل ومن اليسار ومن اليمين ومن المقدمة ومن الخلف- وربما كان رينوار هو أكثر مخرج وظف الكادر كنقطة للدخول والخروج.

فمعظم المخرجين يبدأون المشهد بالشخصية وهى موجودة أصلاً فى الكادر ويُنهون المشهد بخروج الشخصية من اللقطة، أما رينوار فقد إبتدع الإحساس المحموم بالمفاجأة خلال فوضى تكويناته، وهذا قاد الكثيرين إلى تفنيد مهارة رينوار، لكن ناقداً مثل اندريه بازن " Andre Bazin " دافع عنه بقوة قائلاً أن رينوار من المخرجين المهتمين باللقطة أكثر من المونتاج.

ففى هذا السياق وبينما يعتقد المخرج والمُنظر السوفيتى العظيم سيرجى إيزنشتين ومعه مواطنه فلاديمير بودوفكين وكذلك المُنظر رودولف أرنهايم وبيلا بيلاش، أن اهمية السينما تكمن فى المونتاج (رغم ان أرنهايم يعتقد ان مخرجى المونتاج السوفييت يُبالغون فى هذه القضية) فإن أندريه بازن على العكس من ذلك يعتقد أن أهمية السينما تكمن فى الميزانسين وفى إخراج المشهد من خلال لقطة واحدة (اللقطة – المشهد).

وبينما كان هؤلاء المُنظرون يعتقدون ان القيمة الحقيقية للسينما تكمن فى إختلافها عن الواقع، كان أندريه بازن يعتقد أن اهميتها تكمن فى تشابهها بالواقع، وبناءاً عليه يكمن تقدير بازن الكبير لرينوار فى (إستبدال جزئى للمونتاج بلقطات مُتابعة "بان" ولقطات الدخول، وهذا يعتمد على إحترام إستمرارية الحيز الدرامى وزمن اللقطة بالطبع).

فكان رينوار يسمح للشخصيات أن تخرج وتدخل اللقطة وهذا الأسلوب جعل السينما تتطور، او كما قال بازن بنص كلامه (تصميم حركة الموضوعات بدقة من أجل تصويرها فى حركتها) وهذا منح السينما إحساس الحياة وجعلها تتنفس.

لكن وكما لاحظ بازن، إن إستخدام الكادر لم يكن هو العنصر الوحيد الذى جعل رينوار مُهماً من الناحية الأسلوبية، فهناك أيضاً إحساسه بالزمن فى اللقطة، فالزمن لا يكون موجوداً فقط فى مكونات الحدث الروائى كأجزاء من الفيلم يتم تجميعها مونتاجياً، لكنه يكمن أيضاً فى (المونتاج داخل الكادر) فرينوار يستخدم الحركة المُتابعة للكاميرا أو يحرك الكاميرا بدون قطع ليجعلنا نفهم الحدث الذى نحتاج ان نحضره كمشاهدين، هذا هو المونتاج داخل الكادر الذى يجعلنا أيضاً منشغلين جداً كمشاهدين ونرنو إلى الشخصيات وهى تنزل السلالم أوتأتى من الأبواب أو تتحدث مع بعضها بعضاً- وهذا المونتاج داخل الكادر هو الذى يمنحنا كل المعلومات التى نتوقعها فى الأفلام الكوميدية الهزلية (والتى قد تكون شبيهة بشكل أو آخر) لكن بكثير من التحرر البصرى

وهذا لا يعنى بالضرورة أن المخرجين يقولون أننا يمكننا أن نركز على ما يروق لنا، وهناك نقاد مثل ديفيد بوردويل ولوسى فيشر فندا القناعات البازينية المُتعلقة بالصورة الديمقراطية: أليس الشيئ الموجود فى مركز الكادر أكثر أهمية دائماً مما على هامش الكادر؟ ألا يستخدم المخرجون عادة ألواناً معينة ليثيروا الإهتمام باحد مكونات الكادر؟ وأى ديمقراطية تلك التى يريد المخرج من المشاهدين أن يحسوا بها؟ الفرق عادة يكون بين معلومات فرعية ليست هامة وبين معلومات فرعية هامة، ودعونا نستدعى القزمة فى فيلم "لا تنظر الآن" " Don’t Look Now " فثوبها الأحمر أكثر أهمية من موضع هذه القزمة فى الكادر، ولكنها عندما تصبح مهمة فى الحدث فإنها تحتل مركز الصورة.

كان رينوار مخرجاً عظيماً فى المونتاج داخل الكادر نوعاً ما لأنه كان يعطينا كل المعلومات الضرورية بهذه الطريقة والتى لا تجعلنا نُشكك فى اهمية ما نشاهده.

هذا التقليد الذى مارسه رينوار تكررت الإشارة إليه فى فيلم "لمسة شر" " Touch of Evil" لأورسون ويلز أستاذ القطة- المشهد، وفى فيلم "اللاعب" " The Player " لروبرت ألتمان، وفى فيلم "عيون الثعبان" " Snake Eyes " لبراين دى بالما وفى فيلم "أولاد طيبون" " Good Fellas " لمارتن سكورسيزى، وفى فيلم "ليالى الراقصة" " Boogie Nights " للمخرج بى.تى. اندرسون.

ففى هذه الأفلام يمنح المونتاج داخل الكادر كل المعلومات التى يحتاجها المشاهدون بدون أن يختلط عليهم الأمر فيما يشاهدوه عامة، ففى اللقطة الإفتتاحية الشهيرة من فيلم "لمسة شر" يغطى أورسون ويلز دولتين ويؤسس لقصة الفيلم حيث تتبع الكاميرا كل من تشارلتون هيستون وجانيت ليه " Janet Leigh " عند الحدود الأمريكية المكسيكية، فأورسون ويلز يصور هذا المشهد بلقطة واحدة خلاقة تجعل اللقطة فى حد ذاتها كفترة لإلتقات الأنفاس لما يحدث فى نهاية اللقطة حيث تنفرج القنبلة.

فثمة شكل من أشكال المونتاج داخل الكادر فى فيلم ويلز، ولكن من الواضح أن – إيقاع اللقطة – تلك التسمية التى اطلقها أندرى تاركوفسكى- " Andrei Tarkovsky " ليست موجود فى فيلم ويلز، رغم أن كل من ويلز وتاركوفسكى يعتمدان على اللقطة – المشهد: فيلم أورسون ويلز يتجنب المونتاج، لكن المونتاج موجود فى الكادر كما سبق أن نوهنا" فالكاميرا تتحرك لتعطينا كل المعلومات الهامة كما لو أن المونتاج موجود.

لكن إيقاع اللقطة يجعل المشاهدين أقل تأكداً فيما يتعلق بما يجب عليهم ان ينال تركيزهم، فعلى سبيل المثال فى الفيلم التايوانى "أزهار شنغهاى" " The Flowers of Shanghai" للمخرج هو هسياو هسين " Hou Hsiao Hsien " تنتحر شخصية فى خلفية اللقطة ومن الممكن جداً ألا يلاحظ المشاهدون ذلك لأنهم يركزون على ما يحدث فى مقدمة اللقطة.

وبينما يعتمد المخرج كثيراً على حركة المتابعة بالكاميرا او حركة "الزووم أن" لتصوير الشخص كما لو أنه على وشك القفز، أو يكشف عن الشخصية وهى ترتدى ملبساً له بريق لونى معيناً لينبهنا إلى هذا العنصر فى الكادر، فالفيلم يطلب منا أن نكون متنبهين دائماً لكل شيئ داخل اللقطة، كما لو أن المخرج سيكشف لنا عن حدث خطير ولكنه بهذا الأسلوب قد يجعلنا لا نتنبه إلى هذا الحدث، وفى إيقاع اللقطة يمنحنا المخرج غالباً أقل الفليل من هذا كله، ويتوجب علينا ألا نتفاعل كثيراً مع الحدث فى اللقطة ولكن مع الإيقاع، وكل من تاركوفسكى والمخرج اليونانى ثيو أنجلوبولوس والمخرج المجرى بيلا تار يستخدمون هذه الطريقة، ولكن الكثير من المخرجين الأسيويين يقدموا أسلوباً مختلفاً تماما فى إستخدامهم لهذا النوع من اللقطات مثل هو هسياو هسين وتساى ماينج ليانج وهونج سانج سو.

فى أحد مشاهد فيلم "المطارد" " Stalker " لتاركوفسكى، تذهب الشخصيات إلى نطاق يُغلفه سحر أخاذ، فالصورة أقرب ما تكون إلى كادرات رائعة للنيران أكثر من كونها سرداً بصرياً، وهنا يبدو الإيقاع مُهما بنفس أهمية المعلومات التى تنقلها اللقطة.

نوهنا بشكل مقتضب فى بداية هذه المحاضرة عن الكادر الفارغ والكادر الممتلأ، والمخرجون الذين يهتمون كثيراً بإيقاع اللقطة هم أكثر من يميلون إلى الصورة المُشبعة مثل جان رينوار وروبرت ألتمان، بينما اغلب مخرجى "اللقطة ذات الإيقاع" ينشدون الكادر الفارغ مثل بيلا تار وثيو أنجلوبولوس.

والحقيقة أنه لا توجد قاعدة صارمة فى هذا الموضوع، فمايكل أنجلو أنطونيونى واحد من أكبر مخرجى الكادر الفارغ، وهو لا يهتم بعنصر الإيقاع رغم انه يعمل دائماً بأسلوب اللقطة-المشهد.

ففى فيلم "إنفجار" وكذلك فى فيلم "الكسوف" " The Eclipse " وفى فيلم "المغامرة" " L’Avventura " وأفلام أخرى، يخلق انطونيونى أحياناً مساحة غير مهمة وبهذه الطريقة يُفرغ الكادر، فالمدينة فى فيلم "إنفجار" هى مدينة لندن، لكن انطونيونى يكرس الميزانسين لخلق محيط خالى بشكل غريب، وإذا كان جان رينوار يريد من اللقطة أن تزخر بالحياة، فإن أنطونيونى يقدم لنا العكس، فالإختلاف يكمن بين الكادر المُشبع عند رينوار وبين الكادر الفارغ عند انطونيونى.

وهذا ينقلنا للحديث عن قضية اللون، فأنطونيونى -الذى بدأ عمله السينمائى فى عام 1950- تم إعتباره واحداً من أعظم الملونين فى السينما رغم أنه لم يستخدم الألوان إلا فى عام 1964، وإن أسلوبيتة فى الفيلم الملون لم تتواجد فقط إلا فى ثلاثة من أفلامه هى "الصحراء الحمراء" و"إنفجار" و"نقطة زابريسكى" إنه مخرج يستخدم الألوان كما لو كان رساماً مثله مثل المخرج دوجلاس سيرك وفينسنت مانيللى ونيكولاس راى الذين كانوا فى حقبة الخمسينات: وهم لم يستخدموا اللون لغاية ميلودرامية ولكن لدواعى النبرة و"المود".

فى فيلم "إنفجار" كانت الألوان ميتة أكثر منها متلألئة كما لو ان انطونيونى يُحيد اللون بدلا من تشبيعه –بصرف النظر عن المشهد الشهير الذى لون فيه العشب باللون الأخضر القاتم.

هذا التلاعب بالألوان أصبح أكثر إستخداماً فى سينما اليوم، ويتحدث ديفيد بوردويل فى كتابه "الطريقة التى تقولها هوليوود" " The Way Hollywood Tells It " عن الألوان فى أفلام مثل فيلم "أفيتار" وفيلم "موسيقى جنائزية لحلم" " Requiem for a Dream" حيث يستخدم المخرجون اللون فى علاقته بالتطور الدرامى أو أن ينبهون إلى تغيير فى الحقبة الزمنية او تغيير فى فصول العام، واحياناً يكون هذا الامر مُعبراً كما فى فيلم "بعيداً عن الجنة" " Far From Heaven " للمخرج تود هاينيس " Todd Haynes’ ".

الشيئ الاخير الذى يجب التنويه عنه بإقتضاب يتعلق بالأفلام التى تتلاعب بالأبيض والأسود والألوان، بداية بفيلم "ساحر أووز" " The Wizard of Oz " إلى فيلم "المطارد" " Stalker " وفيلم "شان الحياة والموت" " A Matter of Life and Death " إلى أكثر الإستخدامات تشدداً كما فى فيلم "لو" " If" لليندساى اندرسون وكذلك فى فيلم "يوميات لص وصبى من شينجوكو" " The Diary of a Shinjuku Thief and Boy " لناجيسا أوشيما.

وهذه الأفلام تخلق تحولات مهمة فى "المود" والنبرة وأسلوب السرد بالإنتقال بين أحادية اللون وبين الألوان المتعددة، واحياناً يلمح الأبيض والأسود إلى أمر دنيوى كما فى فيلم "ساحر أووز" وأحياناً يلمح لشيئ سماوى كما فى فيلم "شأن الحياة والموت" وهذا المغزى المباشر يستدعى أحياناً جدلاً كما فى فيلمى أندرسون وأوشيما، فالإنتقال اللونى يلمح إلى معنى لكنه لا يعبر عنه تماماً.

ففى مشهد من فيلم "يوميات لص وصبى من شينجوكو" يتحول الفيلم من الألوان المتعددة إلى اللون الأزرق الواحد بعد أن يفقد الصبى قبعته، وهذا قد يرمز إلى شقاءه، لكن هذا يبدو كما لو انه يحيد مشاعر الشفقة عند المشاهدين تجاه الشخصية أكثر من كونه تعبيراً عن الشفقة، فالمغزى من هذا التحول اللونى ليس بليغاً – على عكس الأفلام الكلاسيكية- فإستخدامه فى فيلم "يوميات لص وصبى من شيكوجو" غير محدد ويحقق المسافية.

أهم شيئ يجب أن نضعه نصب أعيننا فيما له علاقة بكل ما نوهنا عنه فى هذه المحاضرة - دخول وخروج الشخصيات من وإلى الكادر، وإيقاع اللقطة، والمونتاج داخل الكادر، والكادر الفارغ والكادر الممتلأ، واللون، والإنتقال من الألوان المتعددة إلى الابيض والأسود – هو أننا لم ننشد أن نعمل قوائم تصنيفية عن إستخدام هذه الأساليب، لكننا ناقشناهم فيما له علاقة بما تنطوى عليه هذه الاساليب من إمكانيات.