23‏/07‏/2014

القصة السينمائية وأشكال السرد


محاضرة: - تونى مكيبن
ترجمة: - ممدوح شلبى
كفارة شوشانك

"لا توجد قصة فى أى فيلم من أفلام أنطونيونى" هكذا قال موراى بوميرانس فى مقالة " Michelangelo Red, Antonioni Blue " وهذه الفكرة تستحق أن نحتفظ بها فى عقولنا،  حيث يوجد الكثير جداً من أساتذة السيناريو والنصوص الذين يصرون على أهمية القصة فى الفيلم، روبرت مكى " Robert McKee " فى كتاب "القصة " كتب ما يلى "فن القصة هو القوة الثقافية المهيمنة فى العالم، وفن السينما هو الوسيط المهيمن فى هذا النشاط الثقافى الكبير".
" وكما قلت مراراً، جوهر الدراما هو الصراع: فبدون الصراع لن تجد فعل: وبدون الفعل لن تجد شخصية: وبدون الشخصية لن تجد قصة: وبدون القصة لن تجد سيناريو" ويتفق سيد فيلد مع هذا الراى فى كتابه "السيناريو".

ومتحدثاً عن السيناريو يقول سيد فيلد "ليس لديك سوى عشرة صفحات لكى تلفت إنتباه القارئ أو المُشاهد: ولهذا السبب فهناك الكثير جداً من الأفلام التى تبدأ بمجموعة مشاهد مثيرة للإهتمام مثل إفتتاحية فيلم "الفك المفترس"... وفيلم "كفارة شوشانك" " Shawshank Redemption " وفيلم "الساعات" وفيلم "غزاة العالم المفقود" " Raiders of the Lost Ark " ...... فبمجرد ان تًؤسس هذا المشهد او مجموعة المشاهد – والتى تسمى عادة حث الأحداث- فإنك تستطيع أن تبنى بقية القصة"

ويصر الناقد البريطانى جون يورك فى مقالة له عن الحكى السينمائى – نُشرت فى صحيفة الجارديان – على أن القصة تحتاج قوى معادية "فأحياناً يتصادف أن الشخصية المحورية يتم إلقاءها بعيداً وتجد نفسها مجبرة على الدخول فى عالم لم يسبق لها أن رأته، ونجد أن الصبر ينفذ ونجد ان جريمة تحدث....إلخ، كل هذه الأفعال لها تبعات: والتى فى المقابل تثير عقبات – التى يُطلق عليها القوى المعادية –  وهى  مجموع كل العقبات التى تعوق شخصية فى سعيها لتحقيق ما تتمناه".

هذا كله جيد للكثير من الأفلام، لكنه غير مفيد لأفلام أخرى، وهدفنا فى هذه المحاضرة أن نناقش فكرة القصة ليس بإعتبارها أمراً مفروغاً منه ولكن بإعتبارها بُعداً من أبعاد الفيلم، وبدلاً من النظر إلى السينما كشكل فنى أو صناعة تحكى لنا قصصاً – على الرغم من ان هذا هو ما يحدث غالباً- فمن المفيد لأهداف المحاضرة أن نقترح أربعة طرق لمسالة السرد السينمائى، فإذا قسمنا طرق الحكى الفيلمى إلى "الصريح" و"الإنقلابى" و"التأملى" و"واللاروائى" عندئذ نستطيع ان نهرب من التصورات السائدة عن السينما بإعتبارها شكل قصصى.

الطريقة"الصريحة" هى ببساطة أكثر الطرق شعبية لسرد قصة، وهذا حيث يبنى الفيلم مشكلة يمكن ان تستشكل وتنتهى بحل لهذه المشكلة، والإستشكال والحل يتمان بطريقة تتسق مع صعوباتنا فى الإدراك– بمعنى أن تتسق طريقة  السرد مع المحرك الزمنى للقصة، فعندما نرى شخصية مايكل كورليونى التى مثلها أل باتشينو وهو يفقد روحه ببطء فى فيلم "الأب الروحى"، وشخصية راتسو ريزو التى مثلها داستين هوفمان وهو يفقد صحته فى فيلم "راعى بقر منتصف الليل" " Midnight Cowboy "، وشخصية إيثان إدوارد الذى مثلها جون واين وهو يجد إبنه أخيه فى فيلم "الباحثون"، والثلاثة رجال فى المركب (روبرت شو وروى شيدر وريتشارد درايفوس) وهم يمسكون سمكة القرش فى فيلم "الفك المفترس"، والشخصية المحورية وهى تقوم بإخراج الشرير فى فيلم "شين" "ٍ Shane " فإن الفيلم يكون عادلاً مع المشاهدين: ما نراه هو ما لدينا، ورغم ذلك ستكون هناك تطورات تالية، لكنها ليست مثل المفاجاة الدرامية.
الأب الروحى -الجزء الثانى

فى فيلم "الأب الروحى" يؤكد مايكل كورليونى لزوجته كاى "دايان كيتون" إنه ليس مثل عائلته، لكن مع نهاية الفيلم سيكون مثل عائلته وأكثر، حتى ان كاى سيتم الكذب عليها بخصوص أهداف الإستمرار العائلى فى الإمبراطورية الإجرامية، وشخصية إيثان إدوارد لا يقتل إبنة أخيه، فقد قبض عليها الهنود الحمر، وصديق ريزو - جو باك-  "جون فوى" لا يصبح ناجحاً فى نيويورك كما كان يأمل عندما وصل إلى المدينة، معظم هذه الأفلام هى أفلام هامة، لكننا وبسبب الهدف من المحاضرة سوف نصنفها على انها أفلام "صريحة".

كل فيلم من هذه الأفلام له قصة واضحة تنمو وتجعلنا نتابع قصتها، وليس مطلوباً منا ان نخمن شيئاً، ومن المؤكد أنه سيكون هناك توتر فى المواقف، وسيكون هناك تفكيك للقصة إلى أجزاء، لكن وحتى فى الجزء الثانى من فيلم "الأب الروحى"، ورغم ان القصة تعتمد على الفلاش باك، فالفيلم يتكون من زمنين (دون كورليونى فى الماضى: ومايكل فى الحاضر) فإننا لا نتوقع من الفيلم أن يفاجانا فى تصوراتنا عن الاحداث.

فى طريقة السرد "الإنقلابية" " peripital " يقال لنا أننا كنا مخطئين فى تصديق تصوراتنا، المصطلح الذى نستخدمه هنا ماخوذ من إستخدام أرسطو لكلمة الإنقلاب " peripity " فى الاحداث، وكما يقول أرسطو "التغيير من الحالة الاولى للأشياء الموجودة فى المسرحية إلى نقيض الحالة الموضحة، وهذا ينطبق أيضاً على الطريقة التى نقول عنها أنها سلسلة الاحداث المحتملة او الضرورية: كما نرى تطبيقاً لذلك فى مسرحية "أوديب" على سبيل المثال: هنا نجد نقيض الأشياء يحدث من خلال الرسول الذى يأتى لكى يُبهج اوديب ولكى يزيل مخاوفه ومخاوف امه، لكنه يكشف عن سر ولادته".

العديد من الأفلام ليس بها مثل هذا "الإنقلاب": فما نراه هو كل ما لدينا، ونحن ننتظر الزمن حتى يؤكد التصورات، الطريقة "الصريحة" - كما شرحناها- تشبه لعبة كرة القدم حيث النتيجة غير معروفة حتى تنتهى المباراة، بينما الطريقة "الإنقلابية" تكون نتيجة المباراة معروفة مسبقاً، لكننا لم نكن على معرفة بما يدور خلف الكواليس. 
فى الفيلم التحريضى الرائع " Manderlay " للمخرج لارس فون تريير، نكتشف أن العبد الأسود الذى مثله دانى جلوفر كان مشتركاً مع صاحب المزرعة  فى إبقاء الوضع على ما هو عليه، معتقداً بانه إذا لم يظل الوضع على حاله فان الموقف سيزداد سوءاً بالنسبة لكل العبيد: فقد يحصلون على حريتهم لكنهم سيجوعون وسيتقاتلون مع بعضهم بعضاً.

هذا هو "الإنقلاب"، فبينما نفترض شيئاً فإننا ندرك لاحقاً عكس ذلك، نحن كنا نعتقد أن الأمر ببساطة هو قضية رجل أبيض يقمع الزنوج، لكننا نرى الرجل الأسود يمكن ان يكون متورطاً فى الظلم.

فى أفلام مثل "الحى الصينى" " Chinatown " و فيلم "نادى العراك" " Fight Club " وفيلم "الحاسة السادسة" " The Sixth Sense " وفيلم "تذكار" " Memento " وفيلم "حرارة جسم" " Body Heat " وفيلم "جزيرة القفل" " Shutter Island " وفيلم "اللعبة" " The Game " وفيلم "دوار" " Vertigo " وفيلم "ساحر أووز" " The Wizard of Oz " وفيلم "سايكو" " Psycho "، نحن على خطأ عندما نقيم تصورات يقينية، فالفيلم لا يكشف فقط عما لا نعرفه لكنه يكشف أيضاً عما كنا نخمنه كحقيقة.

عندما يقتل بطل الفيلم شخصية جاك بالانس فى نهاية فيلم "شين " أو عندما يزداد فساد مايكل كورليونى داخل العائلة، او عندما يموت رازو ريزو، هذه اللحظات تعتمد على الظروف المستجدة: مستجدة بمعنى أننا ليست لدينا معرفة مسبقة تجعلنا ندرك أن ريزو سوف يموت، وان "شين" سيفوز، و أن مايكل سيصبح نقيض ما قاله عن نفسه فى بداية الفيلم، الزمن هو الذى يكشف هذه التغييرات.

فى سينما "الإنقلاب" على أية حال، فان وجهة النظر أكثر من الزمن هى التى تكشف عن هذه التغييرات، سكوت "جيمس ستيوارت" يكتشف أنه تم التلاعب به من صديقه القديم جافين فى فيلم "دوار": فقد تم توظيفه ليتبع مادلين ليس بسبب أنه شرطى سابق عظيم، ولكن لان سكوت كان عاجزاً عن الحركة وقعيد، ويستطيع جافين أن يرتب لموت زوجته من خلال الإستفادة من مرض الرهاب من المناطق العالية الذى يعانى منه سكوت، وفى فيلم "الحى الصينى" يدرك جاك نيكلسون "جى جى جيتس" أنه كان فى الطريق الخطأ عندما تعلن فاى دوناواى "إيفيلين مولوارى" انها إبنة أبيها وفى نفس الوقت حبيبته، وفى فيلم "اللعبة" تكتشف شخصية مايكل دوجلاس أن أخيه رتب سلسلة من الأحداث لكى يوفر له إحتفالاً سعيداً بعيد ميلاده.

فى كل حالة من الحالات السابقة ثمة حدث كان موجوداً مسبقاً والمُشاهد يكتشف ما حدث بأثر رجعى، فى فيلم "الفك المفترس" وفيلم "الباحثون" وفيلم "راعى بقر منتصف الليل" ورغم أن لا احد يستطيع ان يعرف مسبقاً أن سمكة القرش ستُقتل، وان إبنة الاخ سيتم إنقاذها، وان راتسو سيموت، هذه احداث ضمن الزمن "الظاهر" فى الفيلم، اما فى "الإنقلاب" فإن الحدث يكون قبل القصة او خارج الكادر، إذا شعرنا احياناً بالخدعة فى مثل هذا الامثلة، فهذا لاننا عرفنا أدلة لمحت إلى دوافع متنوعة وراء أفعال الشخصيات.

فى فيلم "دوار" ربما يبدو جافين أو مادلين مشبوهاً فيهما، وربما تلك اللحظة فى فيلم "الحى الصينى" حيث تبدو مولوارى فى حالة قلق بعد أن يحس جيتس أنها تتلاعب به، هل يقودنا هذا ان نسأل كثيراً عما تخفيه مولوارى فعلاً، وربما يجب علينا ان نعرف ان شخصية "ويليس" فى فيلم "الحاسة السادسة" هو رجل ميت.

بينما قد يجد البعض ان مثل هذا "الإنقلاب" علامة على التلاعب من جانب المخرج تجاه المُشاهد، وهذا يعيدنا إلى التراجيديا الإغريقية التى نجدها فى واحد من أروع أفلام السبعينات، إنه فيلم "الحى الصينى" ونجدها فى أفلام واحد من أكثر المخرجين المعاصرين تأثيراً، إنه لارس فون تريير، إشارة إلى ان "الإنقلاب" شكل سردي ممتازً، ويمكن ان يقال نفس الشيئ على فيلمى "الحاسة السادسة" و "نادى العراك" فيمكن تشبيه السرد الإنقلابى بالبضاعة المشتبه فيها التى تباع خلف الشاحنة.

أيضاً هدفنا هنا ليس أن ندافع او نهاجم، ولكن أن نناقش، وبينما يوجد هؤلاء الذين يعتقدون ان "الإنقلاب" المفاجئ يشير إلى تلاعب، فإن البعض ربما سيصر على أن المخرجين الذين يصنعون أفلاماً تناسب التصنيف الثالث "التأملى" " tentative, " يمكن ان يبدون كسولين.

فالأمر يبدو كما لو أن المخرج الذى يصر على التحايل والمفاجاة هو مخرج يقدم عملاً صعباً لكنه ليس عادلاً، بينما مخرج الفيلم "التأملى" يبدو انه يلعب على كل المستويات إذا فكرنا فى المقارنة برياضة من الرياضات، ألا يبدو المخرج الذى لا يتيح شيئا،ً شبيها بلاعب كرة القدم الذى يُضيع الوقت؟ إذا كان لدينا مثال بلعبة جيدة، فماذا تشبه هذه اللعبة عندما يتم لعبها: لعبة بفريقين يحاولان ان يحرزا الإنتصار بأقل مجهود؟

هذا غير عادل لنوع السينما التى يصنعها عباس كيلروستامى وأنطونيونى واندريه تاركوفسكى ولوى بونويل وهو هسياو هسين ومايكل هانيكه، لكنها يمكن ان تبدو غير مفهومة للوهلة الاولى بالنسبة للمشاهدين المبتدئين.

الناقد الامريكى جدفرى شيشاير يقدر كثيراً أفلام كياروستامى، لكنه أيضاً يقر بان "أفلامه تبدو غير معنية على غير العادة بقضية الجمهور". ويضيف أيضاً، على أية حال، أن "الإفتقاد الواضح للإهتمام بالجمهور يخفى معناً عميقاً بالقلق والمسؤلية على نفس القضية". الإثارة السطحية للعبة يحل محلها تحرى وتحقيق لطبيعة الأشياء، وسواء حدث ان تكون نهاية فيلم "طعم الكريز" التى ترفض الكشف عما إذا كانت الشخصية المحورية ستواصل الحياة أم لا، بعد ان بحثت الشخصية المحورية عن أناس لكى يواروا جثته فى التراب عندما ينتحر، وفى فيلم "المطارد" لتاركوفسكى، نراه يسمح للشخصيات الثلاثة الرئيسية ان تدخل النطاق، ولكن بالنسبة إلى معنى النطاق فإنه يظل غامضاً، أو أنطونيونى الذى يتراجع عن كشف الجريمة الموجودة فى فيلم "تكبير الصورة"، المخرجون الثلاثة كلهم قد يكونوا معذورين ليس فقط برفضهم ان يلعبوا اللعبة فى ظل أسلوبهم البطيئ حيث لا شيئ يحدث، ولكن أيضاً فى عدم اللعب بعدالة عن طريق تأسيس إحتمالات الكشف التى كانوا يحجبوها.

لكن هدف الفيلم "التأملى" ليس أن يخفى عن الجمهور شيئاً فى بداية الفيلم ثم يكشفه فى الختام كما نتوقع من الفيلم "الإنقلابى"، ولكن ان يخفى كل شيئ من اجل الكشف عن وجهة النظر المختلفة للمًشاهد الذى يتصادف أنه يشاهد الفيلم، كياروستامى وتاركوفسكى وانطونيونى وبونويل لم يكونوا جميعهم خالقين الألعاب التى يرفضون عندئذ أن يجيبوا عليها، لكنهم بدلاً من ذلك يريدون "الألعاب التساؤلية"، ألعاب لا يوجد لها حل سهل.

أحد الأسئلة التى سألها كياروستامى فى فيلم "طعم الكريز" كانت، ماذا لو كان الإنسان يريد أن ينتحر؟، بينما فيلم "المطارد" لتاركوفسكى يتسائل ماذا يعنى أن نؤمن؟، وفيلم "تكبير الصورة" لأنطونيونى يتفكر حول طبيعة الفضول، أراد المخرجون أن يقدموا سؤالاً أعظم من الإجابة القصصية الجاهزة، ولكى يخلقوا مساحة للمشاهدين حتى يجيبوا على السؤال بأنفسهم.

فيلم بونويل "سحر البرجوازية الخفى" " The Discreet Charm of the Bourgeoisie " هو فيلم "تأملى" حتى ان القصة لا يمكن أن تتطور نظراً لان الشخصيات لا تحصل مطلقاً على الوجبة التى يعدوا أنفسهم بها بسبب مقاطعات متنوعة، يلعب الفيلم مع توقعاتنا بينما نحن على ما يبدو نكون فى حالة واحدة فقط وهى أن نجد أنفسنا مستيقظين وخارجين من هذا الموقف بينما نلاحظ ان ما يحدث كان مجرد حلم لاحد الشخصيات، وعندئذ مرة اخرى، عندما نستسلم لواقع القصة نكتشف أننا فى حلم شخصية أخرى، نستطيع أن نرى هذا "التأمل" بطريقة إستفسارية فى أفلام كياروستامى، رغم ان المخرج يقول - فى مجلة فيلم ميكر- "من الواضح ان البشر هم انفسهم أينما كانوا"، فكياروستامى أيضاً يبحث عن الإستجابة على الصعيد الشخصى..

وقال له محاوره زكارى ويجون "انت تذكر الجمهور سواء تعلقوا بأشياء محددة ام لا،  انا عرفت بملاحظتك التى تقول فيها ان السينما غالباً تنقل معلومات كثيرة مثل الأفلام البورنو، وأنك تحب أن تحتوى الأفلام على معلومات أقل، انت تريد من الجمهور أن يعمل فكره كثيراً حتى يفهم ما يجرى، هلا تحدثنا عن إخفاء الفيلم للمعلومات حتى تمنح المشاهدين مساحة حتى ينخرطوا فى الموضوع؟" وكان رد كياروستامى "المنتجون والمخرجون السينمائيون قرروا ان المقاعد فى السينمات تم صناعتها لكى تحول عقول الناس إلى عقول بليدة، وبمجرد ان يدخلوا إلى دار السينما فإنهم يصبحون مستهلكين بلهاء ويجب عليهم أن يتغذوا على المعلومات، نفس هؤلاء الناس عندما يغادرون دار السينما، وعندما ينظرون من وراء الستائر فى منازلهم فإنهم يكونون فضوليين تجاه جيرانهم، إنهم يمكنهم ان يخمنوا إذا كان جيرانهم إخوة أم زوج وزوجة، وما هى اعمارهم، وما هى وظائفهم، إنهم يكونون فضوليين فيما بين بعضهم بعضاً ويمكنهم ان يفهموا بعضهم بعضاً بدون أن يتغذوا بالمعلومات"

نحن فى الحياة لدينا الحرية أكثر من معظم الأفلام لأننا نستطيع أن نمارس فضولنا بدلاً من أن نحصل على المعنى والمعرفة التى فُرضت علينا، فى بداية فيلم "طعم الكريز" ربما نتسائل ما الذى تفعله الشخصية المحورية وهى تقود السيارة خارج ضواحى مدينة طهران: هل سبب قيادته المتأنية للسيارة أنه يبحث عن عامل يستأجره، أم انه يبحث عن صديق؟.

القليل من الناس كانوا يخمنون انه يبحث عن شخص لكى يوارى عليه التراب بعد ان يموت، وفى هذه الفضاءات خلق كياروستامى معانى مختلفة ، وبالتأكيد فإننا فى فيلم "طعم الكريز" سنكتشف ما تبحث عنه الشخصية المحورية مع توالى الفيلم، لكن هناك ثمة توتر إستفسارى فى الفيلم حتى يجعلنا فضوليين بفعالية بدلاً من تقبل الأمر بسلبية.

فى فيلم "ستحملنا الريح جميعاً" هذا الفضول بفعالية يؤخذ إلى آفاق جديدة، وكما يقول جدفرى شيشاير فى "النيويورك برس" "ليست الفرضية الأساسية للقصة فقط هى التى تتركنا مشوشين وغير متيقنين خلالها، ولكن الشخصيات الإحدى عشر الهامة – ومن ضمنهم حفار القبور، والمراة الميتة ورفقاء بيزهاد – فكل هذه الشخصيات ليست مرئية، فكياروستامى ينوه عنهم أو يدعنا نسمع أصواتهم، ولكنه يبقيهم مختفيين".

عندما لاحظنا أن الأفلام العظيمة مثل "سيكو" و"ساحر أووز" هى أفلام "إنقلابية" عظيمة، فقد يجوز لنا أن نضيف أن إنقلابهما يعتمد على منع إظهار الشخصيات على الشاشة، فى فيلم "سيكو" نكتشف أن الأم هى فعلاً نورمان باتس، إنه يطلق صوته حولها، وفى فيلم "ساحر أووز" فإن الصوت الطلق العميق للساحر ينتمى إلى ساحر لا إعتبار له، تلك الأشكال هى ما أطلق عليها مُنظر الصوت العظيم مايكل شيون "أصوات خارج الكادر" "نحن نستطيع وصف الأصوات خارج الكادر بانها الكثير من الشخصيات الغامضة والثرثارة المختفية وراء الستائر، فى الحجرات أو المخابئ، حيث شريط صوت الفيلم يقدمهم لنا: مثل أستاذ الجريمة  فى فيلم المخرج فريتز لانج "" عهد الدكتور مابيوس"، ومثل الام فى فيلم "سيكو" لهيتشكوك، ومثل الساحر المزيف فى "ساحر أووز" الذى أنتجته شركة مترو جولدن ماير......" من كتاب "الصوت- رؤية".

يستطيع المرء أن يرى طموح كياروستامى "التأملى" فى منحنا إحدى عشر من هذه "الأصوات خارج الكادر" بينما فريتز لانج وألفريد هيتشكوك منحانا صوتاً واحداً فقط.

فى أحد اللحظات من فيلم "ستحملنا الريح جميعاً" يُلقى عالم آثار بعظمة إلى الشخصية المحورية التى تتلقفها، وبعد ذلك يتم نقله إلى المستشفى بعد حادث تعرض له فى حفرة، أيضاً فإنه يظل من الضرورى وجود الشخصيات خارج الشاشة حيث يتيح لنا كياروستامى ان نتكهن بمظهر هذا الشخصيات.

وفى فيلم "عشرة" لكياروستامى نجد انه أقل طموحاً ولكنه مازال مهتماً بموضوع "الأصوات من خارج الكادر"، فهو يعرض بداية نقاش بين صبى صغير وبين امه بينما هما فى سيارة تسير، ولدقائق قليلة تتثبت الكاميرا على وجه الصبى بينما امه تُسمع من خارج الكادر وهى تجادله قبل أن يقطع المخرج على الأم ونرى انها إمراة شابة جميلة ترتدى نظارات شمسية، هل تفاجئنا من هذه الصورة، هل كنا نتوقع إن المرأة من ربات البيوت؟ إذا قطع الفيلم بين الإثنين من بداية المشهد، فإن كياروستامى كان سيحذف هذا الإحساس اللاشعورى الذى يحعلنا نتسائل عن ماهية هذه المراة وما هو شكلها، لأننا سنراها فى الحال، لكن طريقة كياروستامى تسمح لاى مُشاهد ان يخمن - سواء شعورياً او لا شعورياً- شكل هذه المرأة.

وكما قال روبير بريسون فى احد المرات فى كتاب "ملاحظات للسينمائى" الصوت يستدعى للأذهان صورة، لكن الصورة لا تستدعى فى الأذهان صوتاً، وبالتأكيد فإن فيلم بريسون عن السجين الهارب المسمى "رجل يهرب" " A Man Escaped " كان فيلماً عبقرياً ليس فقط بسبب الطريقة التى تستحضر الإستشهادات خلال شريط الصوت الذى يعتمد على مكونات بصرية وجدت مكانها فى الشخصية المحورية بينما هو حبيس زنزانته، فهناك شخصيات عديدة تصبح مسموعة من خارج الكادر، وحتى الأشياء يمكن ان تكون لها أصوات أيضاً بينما نحن نتسائل من هم الذين نسمع أصواتهم.

من الواضح انه ليس كل المخرجين يقدمون التأمل والتخمين بنفس هذه الطريقة، ربما يضيف كياروستامى عندما يتحدث عن قدرة المشاهدين على الإستدلال فى حياتهم الخاصة قائلاً "لماذا يجب أن يكون الأمر مختلفاً فى السينما؟" لكن هذا قد يكون مختلفاً جداً عن نوع التخمينات التى يقدمها انطونيونى وإنجمار برجمان وتاركوفسكى ومايكل هانيكه وهو هسياو هسين، واى تحليل جيد للسرد التأملى يمكن أن يكشف عن الكيفية التى يستخدمها المخرجون، أنطونيونى على سبيل المثال قد يتفق مع كياروستامى عندما قال ان أصول الفيلم تبدأ "من تخميناته عن الحياة الحقيقية، هذا النوع من التخمين يصبح نوعاً من الغذاء الروحى، او الطعام الفكرى" لكنه أيضاً يقول أنه "يعترف أنه إذا كنت تريد ان تعبر عن عالمك الشعرى فيجب عليك ان تتجاوز الواقع"، من كتاب "الهندسة المعمارية للرؤية البصرية" " The Architecture of Vision ".

إذا كان ميزانسين كياروستامى واقعياً بصرامة، فإن الواقعية الموجودة فى أفلام انطونيونى تمتلك بُعداً لما وراء الحياة الأرضية، فمدينة لندن فى فيلم "تكبير الصورة" تبدو خالية تماماً وتمتلك بعداً يعبر عما بعد القنبلة النيوترونية، والمنزل فى مقدمة الصخرة فى فيلم "نقطة زابريسكى" هو عبث معمارى مثل الإحتمالات المستقبلية، وبرج الماء فى بداية فيلم "كسوف الشمس" يبدو نذيراً بالإبادة النووية.

عندما سئُل انطونيونى من الناقدين سيرجى دانى وسيرجى توبيانا فى مجلة "كراسات السينما" لماذا لم يُخرج فيلم خيال علمى، فلم يبدو هذا كسؤال أحمق كما يبدو من الوهلة الاولى، أنطونيونى بدا كما لو كان يبحث عن بُعد مستقبلى من الناحية الفكرية، واى تطور قصصى في أفلامه يتم تحجيمه بسبب هذه الإشكالية الفكرية، إذا بقت قصص أنطونيونى نصف حاضرة رغم إمكانية تصويرها ( فثمة إمراة مفقودة فى فيلم "المغامرة"، وثمة جريمة قتل يتم إرتكابها فى فيلم "تكبير الصورة" وثمة رجل يحمل هوية قاذف بندقية فى فيلم "المسافر" – فهذا لأن التصور الذهنى أكثر اهمية من السرد القصصى، وحتى عندما يصور العمارة القوطية فى فيلم "المسافر" فإنه يفعل ذلك لكى يعطى الإحساس بان الشخصية صغيرة فى الكادر.

عندما تحدث جيل دولوز فى مجلد السينما 1 – الصورة المتحركة- عن ان الكادر له شكل تماثلى "analogue"، فقد أصر على ان الكادر يجب أن يعتمد على نظام المعلومات اكثر من إعتماده على النماذج اللغوية، المعلومات القصصية عند انطونيونى تبدو دائماً ثانوية بالنسبة إلى معلومات الأسلوب: فتجميع المعلومات البصرية لا يمكن ان يقلل من محتويات القصة، لكنه يبدو كإنجراف إلى عالم بصرى غير معتاد، وبالتالى فربما يوجد ثمة بُعد للخيال العلمى فى أفلام أنطونيونى.

أفلام تاركوفسكى تمتلك عنصر الخيال العلمى بدون شك، لإنه اخرج فيلمين ينتميان لهذه النوعية من الأفلام وهما فيلم "سولاريس" وفيلم "المطارد"، وهى إعدادات من روايات خيال علمى بصرف النظر عن الطريقة الغير تقليدية للفلمين، لكن إذا كان أنطونيونى ينشد فى أغلب الاحوال معانى غامضة لأفلامه خلال ما يفرضه من امكنة، فإن تاركوفسكى ينشد فى أغلب الأحيان سينما يمكن فيها للغموض ان يعلن عن نفسه فى الموضوع بدون تهميش وتغيير الموضوع، ولكن حيث الإعتقاد الذاتى يمكن ان يؤثر على موضوع إهتمام الشخص.

فى فيلم "سولاريس" نجد ان الشخصية المحورية "كريس" والآخرين الذين يدورون في المدار الفلكى، لديهم القدرة على خلق أناس بدون ذاكرة، وبناءاً عليه فإن زوجة كريس السابقة التى إنتحرت تعود إلى الحياة، وفى فيلم "المطارد" فإن النطاق يحقق أعمق رغبات الإنسان، لكنه يعكس أيضاً الضعف الإنسانى: أحد الشخصيات يُصبح غنياً بطريقة لا يمكن تخيلها، وعندئذ  ينتحر بعد وقت ليس طويلاً، العالم والكاتب اللذان يذهبان إلى النطاق مع المطارد يشعران بالفزع بينما يقتربان من النطاق، عارفين أنه ليس موضوعاً خارجياً ولكنه إتصالاً وتواصلاً مع أفكارهما ومشاعرهما.

غموض تاركوفسكى فى هذه الأمثلة ياتى من اللعب بالذاتية على حساب الموضوعية، من التلميح بعالم المستقبل الذى يمكن ان يزيل الحدود بين المادة والذاكرة.

الذى نجده غالباً فى المخرجين العظماء "التأمليين" هو ان الغموض ليس دائماً مجرد قضية السرد، إنه يتصل بعناصر الحيز والمشكلة الإدراكية أيضاً، وهذا لا يقتصر فقط على أنطونيونى، إنه عنصر محورى لبعض أفلام مايكل هانيكه وبعض أفلام هو هسياو هسين.
اللقطة الختامية الشهيرة فى فيلم "المخفى" لمايكل هانيكه تحتاج ان تُحلل بسبب صلتها بالمعلومات، فأولاً واخيراً، وقبل أن نستطيع حتى ان نبدأ فى تخمين ماذا تعنى، نحن نلاحظ أن إبن الشخصية المحورية يتحدث إلى الإبن الذى تبناه أبيه، وقد نتسائل إذا ما كانت هذه لحظة وفاق بين الجيل الأصغر فى غياب للجيل الأكبر، ام أنهما متورطان فى حملة إرهاب موجهة ضد الشخصية المحورية.

ربما يريد منا مايكل هانيكه أن نخمن ما يحدث، لكن، اولاً وأخيراً، يجب علينا ان نرى الشقيقين فى الكادر، فيكشف لنا هانيكه عنهما فى لقطة عامة مع عدد كبير من الشخصيات الاخرى الموجودة فى اللقطة أيضاً، وفى أفلام هو هسياو هسين أيضاً هناك غموض فى اللقطة، فى عدد من مشاهد فيلم "وداعاً، وداعاً أيها الجنوب"، فالغموض يتعلق بالطريقة التى يضع بها المخرج الشخصيات فى الكادر – احياناً يواجه احد الأشخاص شخصاً آخر بينما هو هسياو هسين يصور من وراء أحدهما حتى لا نستطيع ان نرى التعبير على وجه أى من الشخصيتين- فالغموض هو غموض فى دوافع الشخصيات أنفسها.

وعلى أية حال، فإن مخرجين مثل هانيكه وانطونيونى، وكذلك تاركوفسكى وكياروستامى، مازالوا مخرجين للسينما القصصية بشكل عام، لكنهم أصبحوا مخرجى قصة - موجهة وأصبحوا جزءاً من السرد "اللا روائى"، ففيلم "خمسة" لكياروستامى، على سبيل المثال، به عنصر قوى من الفيلم المركب ذى الاجزاء، بسبب اقسامه الخمسة، والتى تشمل قسماً حيث قطعة من الخشب تطفو على سطح البحر، وقسماً آخر عن اناس يتحدثون على الشاطئ، فلا توجد قصة تتطور، ويقول كياروستامى فى فيلم تسجيلى تم صنعه عن مراحل عمل فيلم "خمسة" انه كان مُتضايقاً جداً لأن الناس كان يستريحون فى القيلولة أثناء عمل الفيلم، وكان هذا فى الحوار الذى ادلى به للناقدة ناسيا حميد فى مجلة "سايت اند ساوند" منذ عدة سنوات" إذا خرجت من السينما ونسيت ما شاهدته لتوك، فمن الأفضل لك بدلاً من ذلك ان تُقضى الساعتين فى النوم، فهذا على الأقل قد يمنحك بعض الطاقة، معظم أفلام هذه الايام تستنفذ طاقة الإنسان" – مجلة "سايت اند ساوند" عدد فبراير 1997- كياروستامى يتحدث عن الأفلام التى لا تخلق حيزاً كبيراً للغموض، وهى أفلام التسلية والترويح عن النفس، لكن الأفلام التى تقف على الطرف القصى لتيار السينما السائدة هى أفلام تتمتع بحرية فى طريقة السرد، حتى النوم يمكن ان يكون جزءاً من رد الفعل الشخصى على مشاهدة هذه الأفلام، والفيلم يخلق حيزاً لإمكانياته.

قد تكون طريقة كياروستامى فى عمل فيلم "خمسة" شبيهة بالنقد الذى كتبه داى فوجان عن فيلم "إمباير" للفنان اندى ورهول- الذى يدوم ثمان ساعات -  وهو فيلم يركز على مبنى الإمبير ستات، فعن هذا الفيلم التسجيلى ألمح فوجان أنه "يحتاج ليس إلى ان نشاهده ولكنه يحتاج فقط ان يُعمل"، فحضورنا الفعال غير دى صلة.

واحد من المشاكل التى يصادفها العديد عند مشاهدة الأفلام التى تفتقد إلى العنصر السردى "السينما اللاروائية" هى ان السينما وسيط يتميز بالإستمرارية، على عكس فن الرسم، فالفيلم فن مكانى وزمانى، ألا يكون الموقف غير مفهوماً أن يغضب احد الاشخاص إذا كان فرض الزمن موجود بدون امكانية للقصة؟

إذا أصر شخص ما ان أى اللوحة الفنية يجب أن يتم التطلع إليها لمدة زمنية معينة، فهل بعض من نفس الإحباط والهياج يدخل فى اللعبة؟ إن بعضاً  من الاهداف للسرد "اللا روائى" هو ان يستكشف الزمن بدون الإصرار على تلبيسه فى الحدث القصصى، الكثير مما يُدعى السينما التجريبية تهتم بهذه القضية, وسواء كان هذا فيلم "طول الموجة" " Wavelength " لمايكل سنو أو فيلم "الغروب" " Nightfall " لجيمس بيننج، أو فيلم "ليتوانيا وإنهيار الإتحاد السوفيتى" " Lithuania and the Collapse of the USSR " لجوناس ميكاس، أو فيلم "النوم" " Sleep " أو فيلم "بنات تشيلسى" " Chelsea Girls " او فيلم "خدعتى" " My Hustler " لورهول، فإن الفرد يجد ان الأفلام تبحث عن مزج بين الصرامة وبين السرد الطليق.

فيلم "طول الموجة" لسنو عبارة عن حركة زووم بطيئة تستغرق 42 دقيقة، ولا تغير الكاميرا مكانها أبداً، فهى تتحرك بهذا البطء فى إتجاه صورة مُعلقة على الجدار فوق كرسى أصفر، وفيلم "غروب" لبيننج يتبع زوال الضوء فى احد الأمسيات فى غابة بالولايات المتحدة الأمريكية، بينما في فيلم "ليتوانيا وإنهيار الإتحاد السوفيتى" تتركز الكاميرا على ميكاس وهو جالس على كنبة يشاهد الأحداث على شاشة التليفزيون، يركز ميكاس الكاميرا على سكونه اكثر مما يركز على الموقف الليتوانى كلحظة تاريخية، فميكاس المولود فى ليتوانيا والذى يقيم فى أمريكا يمس قضايا البُعد والسلبية فى مقابل التغيير التاريخى، فى فيلم "النوم" يصور وارهول جسماً نائماً لمدة ست ساعات.

وفى فيلم "انا لا أعرف ما أحبه " " I Do Not Know What It Is I am Like " للمخرج بل فيولا، فإن الكثير من وقت الفيلم يتم تمضيته على مشاهدة الطيور والحيوانات والأسماك.

عندما يتحدث النقاد او المخرجون أنفسهم عن الأفلام، فإنهم يناقشون التفاصيل التكنيكية او التفاصيل المتوفرة، عندما نوه بى آدامز سيتنى عن فيلم "النوم" فى " Visionary Film " فقد قال "نصف دستة من اللقطات تُشاهد على مدار ست ساعات، ولكى يتحقق هذا التطويل فقد إستخدم وارهول شريط "اللوب" المطبوع فى المعمل لشريط الفيلم الذى يبلغ مائة قدم، وفى النهاية إستخدم الصورة الثابتة الموجودة أعلى رأس الشخص النائم".

فى فيلم بل فيولا، نحن نشهد الشكل الفنى فى العمل: فنحن عادة نستطيع مشاهدة كاميرا المخرج منعكسة فى عين احد الطيور.

على أية حال، لا يجب علينا ان نبالغ فى إظهار مراحل التصوير على حساب الحدث، وكما يقول ستيفن دوسكين عن فيلم "طول الموجة" "إنه فيلماً بسيطا جداً (عبارة عن زووم مستمر بطيئ خلال حجرة) فهو ليس أكثر من حركة مكانية، حركة تتقدم خلال حيز مرئى، وهناك أربعة احداث تتم فى الفيلم على فترات: يتم إدخال حقيبة كتب إلى الحجرة، وتستمع فتاتان إلى الراديو – كان الراديو يذيع أغنية "حقول الفراولة" لفرقة البيتلز- ورجل يدخل الحجرة ويسقط على الأرض: وتدخل فتاة وتتحدث تليفونياً مع شخص ما وتقول له ان الرجل مات" – من كتاب "الفيلم هو" –

فى فيلم ميكاس، من الواضح ان ثمة احداث هامة تحدث أثناء مشاهدته للتليفزيون، لكن هذه الاحداث يتم إحتواءها داخل حالة السكون، داخل النموذج الرئيسى للفيلم الذى يجعل اى إنشغال بالحدث أشبه ما يكون بامر ثانوى بالنسبة للهدف الرئيسى للفيلم.

ينطبق هذا أيضاً على مشاهد ميكاس التى صورها عن حياة اندى وارهول، حيث البعد التوثيقى يتم تدميره بسبب الشكل الفنى للفيلم، وفى فيلم "مخملية تحت الأرض" " Velvet Underground’ "، فإن ما سجله ميكاس يتم عمل المونتاج له كما لو ان العملية المونتاجية اكثر اهمية من الوثيقة المُصورة، فثمة قطع مونتاجى مفاجئ، ومؤثرات بصرية وأصوات مشوهة، وهذا جعل الفيلم وكانه وثيقة لا صلة لها بما تم تصويره ولا صلة له بالهدف الذى كان وراء تصوير الفيلم.

عندما يبدأ شريط الصوت فى فيلم "طول الموجة" فإننا نسمع صوت ضربة حادة، إنها مزعجة جداً حتى انها تصم آذاننا وتسيطر علينا اكثر من الحدث الذى تعرضه الشاشة.

لكى نفهم هذا الفرق عن السينما الروائية العادية، يمكن لنا ان نتذكر الصوت فى فيلم "لا رجعة فيه" للمخرج جاسبر نوى، حيث كان الصوت مزعجاً بشكل واضح، لكنه سيجعل المُشاهد مرعوباً من الحدث الذى يدور على الشاشة - ومن ضمنه مجموعة مشاهد طفاية الحريق الشهيرة - وعن توصيف شريط الصوت فى فيلم "لا رجعة فيه" يذكر " IMDB "  ان "الدقائق الثلاثون الأولى من الفيلم بها خلفية من الضوضاء ترددها "28Hz "  وهذا تردد منخفض، وغالباً غير مسموع، وهذه الضوضاء تشبة الضوضاء التى يُحدثها الزلزال، وهى تتسبب فى الغثيان للإنسان، كما تتسبب فى المرض والدوار، وكانت هذه الضوضاء هى السبب فى خروج الناس من دار السينما أثناء عرض القسم الاول من الفيلم فى اماكن مثل مهرجان كان ومهرجان سان سبستيان، وفى الحقيقة، فإن هذا الصوت تم إضافته للحصول على رد الفعل هذا".

لكن هندسة الصوت هنا تدعم السرد، بصرف النظر عن بناء الحبكة "الإنقلابية" حيث يتوافق شريط الصوت المقرف مع الصور التى تعرض نفس القرف – عملية إغتصاب، ومشهد لطفاية حريق-.
 فيلم جاسبر نوى يحتوى على "التجريب"، لكنه من المبالغة ان نقول انه طليعى فيه، فعادة ما تهتم الأفلام "اللاروائية" بالتقنية،  وهذه خيارات رئيسية على حساب السرد وعلى حساب حتى العناصر التمثيلية.

ربما هذه التصنيفات عامة جداً وغير كافية، لكنها تتيح لنا ان نرى السينما فى علاقتها بالسرد ليس بوصفة سلسلة من الأشكال، ولكن بوصف السينما متصلة بالسرد "الظاهر" فى احد الأطراف، وبالسرد "الغير روائى" فى الطرف الآخر، فبعد كل شيئ، فحتى فيلم "جمال أمريكى" " American Beauty " يمكن ان يتضمن بداخله مشهداً حيث يمكن ان يكون قطعة من السينما التجريبية- إنه مشهد الحقيبة البلاستيكبة-  بصرف النظر عن صوت التعليق والموسيقى التى تؤكد المعنى.

فى فيلم "كلوس أب" لعباس كياروستامى هناك لحظة نرى فيها علبة صفيح تتدحرج فى الشارع، وتصويب الكاميرا على هذه الصفيحة يمكن ان يُلمح إلى السرد "اللا روائى"، بينما فى فيلم "المطارد" لتاركوفسكى هناك مجموعة مشاهد حيث تنفصل الكاميرا عن القصة وتتبع أشياءاً تحت الماء.

وبناءاً عليه، فإن الملمح "اللاروائى" قد لا يغطى كل الفيلم، لكنه مجرد لحظة داخل الفيلم تنتمى ظاهرياً إلى تصنيف آخر، وفى الواقع، فإن فكرة الموضوع الدخيل على الفيلم – كما فى فيلم "جمال أمريكى" وفيلم "كلوس أب" – أخذت حظها من الاهمية، فالكاتب الواقعى السينمائى سيجفريد كراكور يقول " المشهد المسرحى يركز بالحتمية على الممثل، بينما الفيلم سينمائى لديه الحرية فى التركيز على وجود الممثل وكذلك تفاصيل الأشياء المحيطة به". (من كتاب "نظرية الفيلم" " Theory of Film ").

ربما نقول فى الختام، أن الطريقة الوحيدة للهروب من القصة، نقيضاً لكُتاب مثل "مكى" وسيد فيلد ويورك، هى ان نفكر فى إهتمام كراكور بالموضوع، وكذلك ملاحظة جيل دولوز عن أنظمة المعلومات، إذا كنا نرى الفيلم بشكل أساسى بصفته موضوعات داخل نسق مرئى، عندئذ يمكن ان يكون السرد وسيلة يتم من خلالها ترتيب الحقل المرئى ولكن بعيداً عن الموضوع الواحد.


20‏/07‏/2014

تأملات فى سينما النجوم

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
كل رجال الرئيس

1
فى مشهد عظيم من فيلم "كل رجال ارئيس" لدينا ما يشبه المواجهة التقليدية بين إرادتين، داستن هوفمان وروبرت ردفورد صحفيان مشهوران، هما "برنستين" و"وودوارد" وسرعان ما تظهر فضيحة ووترجيت، لكن برنستين لا يعتقد ان وودوارد يستطيع الكتابة عن الفضيحة فيعيد ترتيب موضوع الفضيحة تلقائياً.

وهذا قلب نظرية الصراع المنصوص عليها فى الكتب: نظرية الصراع التى تصر على أن شخص ما يريد شيئاً وان عقبات كثيرة تقف فى طريقه حتى يتمكن من الوصول إلى هدفه، لكن ما يثير الإهتمام فى روبرت ريدفورد أنه فى مستوى لا يجعله فى قلب الصراع، وإنما يتبع نظام القيم الذى يُضحى بالطموح الشخصى لصالح المبادئ، فالمصلحة العامة تفوق مصلحة الانا، هذا بالطبع ما يلتقى مع شخصية ريدفورد السينمائية الفائقة فهو فى حياته الشخصية من نُشطاء الحفاظ على البيئة، ومن فاعلى الخير الإجتماعى الذى يريد أقل قدر ممكن ليفعله مع هوليوود والشهرة.

وكما يقول بنفسه، انه يكره فكرة ان بعض أفلامه السينمائية تُعلى من قيمة الموضوعات التى تطرحها، وهو يعتقد أن هذا ينطبق حتى على فيلم "كل رجال الرئيس" والفيلم الذى اخرجه بنفسه عن صيد السمك "اللطش" تحت عنوان "نهر يجرى خلالها" " A River Runs Through It " والذى يقود إلى زيادة فى أعداد الصيد اللطش الذى يهدد إستقرار البيئة لأنهار معينة.

لكن روح الإيثار هذه موجودة كثيراً جداً فى أفلامه، وإذا قارنا مشهداً شهيراً من فيلم "إرين بروكوفيتش" حيث تُثبت جوليا روبرتس كفاءتها كمساعدة فى مكتب محاماة، وتكشف انها تستطيع أن تهدد كل المدعين المتورطين فى القضية، قبل أن تقول للمراة أنها تكره أسلوبها فى اللبس، نستطيع – بهذا المثال- ان نرى كيف يتفادى ريدفورد هذا الصراع المحورى.

فبينما ينزل ريدفورد ليرى ما فعله هوفمان بعمله، ويلاحظ أن هوفمان أجاد العمل، فيتراجع إلى منضدة هوفمان ويقول إنه على حق، فهذا أحسن كثيراً، لكنه وبينما هو سعيد ان هوفمان قام بتحسين النص، فهو لم يكن سعيد بخصوص الطريقة التى عُمل بها الموضوع، هل كان يتوجب على هوفمان ان يستشيره؟ ما فعله ريدفورد هنا هو تحويل الصراع إلى مستوى الروح: إلى القول أنه لا يوجد صراع بين ذات وذات فى العمل (برنستين هو الكاتب الأفضل بشكل واضح) لكنه بسوء نية اخلاقية يريد بسرعة ان يعيد كتابة الموضوع.

يوجد فى افلام ريدفورد هذا الإحساس بان روح الإيثار والمنفعة العامة أكثر اهمية من اى إحساس بالمنفعة الشخصية. (فى تناقض كامل لنظرية الصراع المحورى التى تقول مقدمتها الاساسية ما يلى " تبدا القصة عندما يريد شخص ما ان يحصل على شيئ ما وان شخصاً آخر لا يريده ان يحصل عليه" ). فى فيلم مثل "بروباكر" " Brubaker " يلعب ريدفورد دور مامور لسجن وهو يحاول ان يُحسن من حقوق المساجين، لكن فى نهاية الفيلم نراه يرحل بكرامة، وهذا يعنى ان العمل الإصلاحى فى تحسين حقوق المساجين سوف يذهب أدراج الرياح، لكن ريدفورد لابد ان يتمسك بنظام القيم فوق أى إحساس بالمنفعة: ما معنى ان تحسن حياة على المدى القصير إذا كان من اللازم علينا ان نُضحى بقيمنا العامة فى سبيل هذه الاهداف قصيرة المدى؟ فى فيلم " Up Close and Personal " يكون طموح ريدفورد كصحفى مجرد شيئ ثانوى بما يلمح انه لن يتنازل.

وبهذا المعنى فإن شخصية ريدفورد ليست برجماتية على الإطلاق، وأيضاَ فإن هذا ليس نوع البرجماتية التى نتوقعها من الرجال القادة الذين لديهم فكرة فى عقولهم ولن يوقفهم شيئ عن تحقيقها. هذه ليست عقلية الرجل الذى سيفعل ما يجب عليه ان يفعله، مثل نموذج كلينت إستوود وبريسون ولى مارفين، على الرغم من انه بالطبع معاصر لهم، لكن بدلاً من ذلك هناك طريقة معينة للبقاء فى العالم حيث يجب ان تحترم نفسك، وتحترم الآخرين وتحترم البيئة، ريدفورد مشهور بانه يرفض أدوارأ تمثيلية اكثر من التى يقبلها، ونحن نتسائل عما إذا كان موقفه الرافض فى قبول ادواراً يلمح إلى الطريقة البديلة للنظر إلى العالم على عكس ممثل آخر سيصر على تمثيل هذه الادوار.

2

إذا كان ريدفورد يلمح إلى الشخصية التى لا تؤثر الذات، فإن توم كروز يقدم ذاتاً وثابة دائماً، ذات لن يكون لها وجود إذا لم تركز على هدف على حساب أى نظام قيم حقيقى، وهذا بالطبع لا يجعل توم كروز ممثلاً غير اخلاقى، ففى الكثير من أفلامه يوجد مشهد لتوم كروز وهو يفيق، حيث يلاحظ ان شخصاً ما يجعله يفيق ويجعله يتنازل عن قيمه، او يتسبب فى جعله يعيد عملياته الفكرية، شخصية توم كروز نادراً ما تكون ألمعية، على عكس ريدفورد، فانت لا تحصل على الإحساس ان ادواره يمكن ان تفهم كل المتغيرات فى الموقف.
أعمال محفوفة بالخطر

وهذا يرجع جزئياً لأن توم كروز – وكما يلمح إسمه – انه دائماً يدفع نفسه إلى التقدم للامام، إن إسمه حقيقى، ولكنه يبدو كما لو كان إسمه من صنيعة وكالة للممثلين، نحن نرى توم كروز على الدوام يركب طائرة، مثل فيلم "اوائل المقاتلين" " Top Gun " او فى سيارة سرعة، مثل فيلم "أعمال محفوفة بالخطر" " Risky Business" وفيلم "المهمة المستحيلة الجزء الثانى" أو يجرى من مكان إلى مكان، كما فى فيلم "الشركة" وفيلم "تقرير الأقلية" إنه كممثل مثل محرك دفع، وعندما يكون فى لحظة تامل – كما فى فيلم "مهمة مستحيلة الجزء الثانى" – فإن الفيلم يمنحه صحراء كاملة، كما لو ان توم كروز يحتاج مساحة واسعة من البرية لنفسه.

لكن دعونا لا نكون قساة على الممثل، وبدلاً من ذلك نفكر مرة ثانية فى الروح وفى النمط، ما هو نمط الشخصية الذى يرد إلى فكرنا بخصوص شخصية توم كروز؟ بغض النظر عن ان توم كروز الآن فى الخمسينات من عمره، شخصياته عادة تشير إلى مرحلة الشباب، فهى شخصيات فى مرحلة التعليم نوعاً ما (ففى كل أفلامه يلاحظ أنه ينحرف قليلاً عن الطريق الصحيح) لكن وبينما يتقدم فى السن فهذا الامر يتغير، لكن بعض الثوابت الأساسية قد تظل ملازمة لشخصيته، حيث ينتقل من فيلم الحركة إلى فيلم التحرى والتحقيق، فى أفلام الحركة كان السعى أساساً ناحية النضح العاطفى الخاص بالمرء، ونستدل على ذلك من فيلم "اعمال محفوفة بالخطر" و"اوائل المقاتلين" وفيلم "لون المال" وفيلم "كوكتيل" وفيلم "الشركة" حيث يمثل توم كروز دور شاب طموح يريد ان يتعلم قليلاً من الدروس عن الحياة.

لكن فيلم "الشركة" يميل أيضاً إلى نوعية فيلم التحقيق، فتوم كروز محامى شاب يقرر ان يعرف الفساد الحاصل فى الشركة التى يعمل فيها، وفى مجموعة افلام "مهمة مستحيلة" وفيلم "العيون الواسعة تغمض" " Eyes Wide Shut " وفيلم "تقرير الاقلية" فهو لا يهتم كثيراً بطبيعة شخصيته بقدر التطلع إلى حل المشكلة الموجودة هناك فى العالم، ولكننا نستطيع ان نقول ان ثوابت شخصيته تظل هى نفسها: حيث توجد فكرة عن الهدف المحدد الذى يسعى إليه- حتى وإن كان الهدف المحدد أقل حضوراً  كما فى فيلم "العيون الواسعة تغمض" للمخرج كوبريك)، توم كروز ليس أفضل ممثل فى العالم فى التعبير عن حالة عدم اليقين، إنه ممثل للصراع المحورى اكثر من الصراع الذى يدور داخل الشخصية.

ويمكن لنا ان نقول ان ريدفورد وكروز يمثلان شكلين مختلفين من الامريكيين حتى ولو كانا يبدوان من نفس النوعية، لكن كل منهما من النجوم الأمريكيين الوسماء فى كل أجيالها، وكل منهما مولع بكشف المستور– (حتى وإن كان ريدفورد قد قدم هذا فقط فى فيلمين هما "كل رجال الرئيس" وفيلم "ثلاثة أيام للكوندر" " Three Days of the Condor " كما ان كل منها كان قادراً على إنتقاء وإختيار أفلامهما طوال مشوارهما الفنى.

ولكن روح كل منهما تختلف عن الآخر، فريدفورد يلمح إلى أمريكا الغنية التى تمنح ثراءها لمواطنيها: حتى ان الديمقراطية تكمن فى قدرة الفرد على إحترام الآخرين وإحترام العمل المُشرف وإحترام البيئة، وفى أفلام توم كروز فإن أمريكا بشكل أساسى هى موطن الفرص: وهى غالباً موطن الفساد، لكنها أيضاً المكان الذى يسمح لك أن تكون أى شيئ تريده لنفسك، وبالنسبة لريدفورد فهذا قد يكون نصف المشكلة، وبالنسبة لتوم كروز فهذا يبدو كأنه حقيقة مقررة.

إذا كان الممثلان الإثنان يعملان غالباً مع اللقطة الكلوس أب، فإن الكلوس أب لريدفورد يشير إلى إمعان تفكيره فى الأحداث (كما فى المشهد الذى يدور بين "باتش كاسيدى" " Butch Cassidy " و"طفل صندانس" " Sundance Kid " حيث نرى صندانس يشاهد قتال باتش): اما الكلوس أب لتوم كروز فهى تُظهر طموحه وتطلعاته، مثل فيلم "لون المال" الذى مثله مع بول نيومان.

3

الممثلة إيزابيل هوبير ممثلة فرنسية عملت مع العديد من كبار مخرجى السينما الفرنسية مثل جودار وشابرول وبيالا، كما عملت مع مخرجين عظام آخرين خارج فرنسا مثل، كلود جوريتا وورنر شرتتر، وغالباً فإن تمثيلها يحتوى على عنصر غير قابل للتفسير، مثل المشهد الهام فى فيلم "معلمة البيانو" " The Piano Teacher " فإيزابيل هوبير جامدة الإحساس بشكل أساسى حتى عندما تُمثل بإنفعال، إنها معلمة البيانو التى تضع كوباً " glass " فى جيب التلميذ، لكن هذا كان مجرد رد فعل مُبالغ فيه على حادث عرضى، واننا سوف نسأل ماذا وراء هذا وماذا وراء الغيرة التافهة.
معلمة البيانو

دائماً ما يوجد فى ادوار هوبير مزيج من الفعل الحاسم والفعل غير الحاسم وهذا يتركنا فى حالة من التفكير فى دوافعها، فى فيلم "شكراً على الشوكولاتة" " Merci pour le chocolat " تبدو عاقدة العزم على قتل إبنة زوجها بدون اى سبب واضح: فالأمر يبدو كما لو انها تريد قتلها لمجرد انها تستطيع قتلها، فالأمر بهذا القدر من البساطة وأنه فى نفس اللحظة شديد التعقيد أيضاً؟

ولجعل شيئ ما سهل، فإن المخرج سيخلق دافع واضح للفعل: مثل الطمع والغيرة والطموح، وهذا الدوافع تبدو ذات صلة بافعال شخصية هوبير، لكن لا توجد اسباب لهذه الدوافع سوى شحنات فوضوية مختزنة، وهى قد ترتكب فعلاً فظيعاً مثل الفعل الذى تقوم به فى المشهد المشار إليه من فيلم "معلمة البيانو" وهو بدون سبب، ولكنه ربما لمزيج من الأسباب التى لا تستطيع ان تفسرها لنفسها، فهى أسباب معقدة يصعب تفسيرها، وأن هذه الأسباب بدلاً من ذلك تكشف عن نفسها فى التصرفات الحادة، كذلك فثمة حالة من رد الفعل فى شخصية هوبير، وهذا يظهر خلال مشهد فيلم "معلمة البيانو".

فهى إلى حد ما يكون لها رد فعل عندما يغازل تلميذها والتر عازفة البيانو، لكن يمكن ان يكون لها رد فعل لانها لا تعتقد أن عازفة البيانو جيدة – والدليل على ذلك فى المشاهد الاولى حيث تقول لوالدة الفتاة أن إبنتها تحتاج إلى بذل مجهود كبير، هل عندما وصلت إلى حد قولها ان الفتاة تحتاج ان تبذل مجهوداً اكثر – هل قالت هذا لانها لا تحب الفتاة، أم ان ما قالته كان رأيها المهنى الحقيقى؟ فبعد كل شيئ، وفى احد مستويات الفيلم أثناء إختبارات والتر لدخول مدرسة الموسيقى التى تعمل فيها هوبير، وبينما جميع المدرسين الآخرين يعتقدون أنه لابد ان يدخل المدرسة، بينما هوبير كان لها موقف منه واصرت على انه لا يجب ان يدخل المدرسة.

ما نجده كثيراً فى شخصيات هوبير هو رد الفعل، لكنه رد فعل لا يتمحور على سبب واحد، ولقطاتها الكلوس أب أكثر تعقيداً من لقطات الكلوس أب لريدفورد وتوم كروز، فى فيلم "الحفلة" " La Ceremonie " على سبيل المثال، تريد شخصية هوبير فعلاً ان تنتقم من العائلة البرجوازية الثرية التى يعمل صديقها عندها، ولكن وحيث صديقها كان قاد ترك العمل لتوه فقد كان لديها مبرر منطقى للغضب، لكن إنتقام هوبير لم يكن محدداً، وتصاعد غضبها حتى وصل لحد الإنتقام، وعقدت العزم على أن العائلة لابد ان تُقتل.

هذا النمط من التمثيل وهذا النمط من الشخصيات يقود إلى شكل مختلف جداً من السينما التى إعتدنا على مشاهدتها، إنه النمط الذى يُعتبر توم كروز أستاذاً فيه، فنحن نمضى القليل من الوقت نترقب الحدث التالى لكى نقيم علاقة مع الصور، على الرغم من ان إيماءات هوبير الحادة تميل كثيراً إلى التشويق، مثل فيلم "معلمة البيانو" لكننا نتعامل مع الدوافع المحتملة التى قد تولد فعل حاد.

يختلف تمثيل هوبير فى الأفلام الأمريكية التى مثلتها مثل فيلم "بوابة السماء" " Heaven’s Gate "  وفيلم "الهاوى" " Amateur " وفيلم "أنا احب عائلة هاكابى" " I Heart Huckabees " واحياناً تقدم نفس صورتها، لكن فى فيلم "انا احب عائلة هاكابى" فإن التمثيل مغلف بروح الدعابة، أما فى فيلم مثل "معلمة البيانو" فإننا نعمل فكرنا لكى نفهم ما يرمى إليه  هذا الفيلم.

4

من العناصر التى نادراً ما يتم التحدث عنها فى علاقتها بالممثلين هى مسألة حجم الممثل ووزنه، بغض النظر عن اهميتهما فى الأفلام الكوميدية، ألا تستسفيد كوميديا لوريل وهاردى من الفارق فى حجمهما؟ لكن دعونا ألا نُقصر الحجم على الكوميديا ودعونا نناقشه فى السينما بشكل عام، ممثلون معينون يوحون بالسمنة والبعض الآخر بالنحافة، كما ان البعض يتميز بطول القامة والبعض الآخر يتميز بانه صغير الحجم.

والآن دعونا نتحدث عن هذا الأمر فيما له علاقه بحقيقة حجم الممثلين، فالممثل ليام نيسون قصير جداً على الشاشة، لكن ممثلين آخرين يتميزون بطول القامة ومع ذلك لا يعطون نفس الإنطباع على الشاشة مثل الممثل وارن بيتى، وأحياناً يظهر احد الممثلين طويلاً على الشاشة رغم انه غير ذلك فى الطبيعة مثل أرنولد شوارزنيجر، فهو على الشاشة يبدو أطول عدة سنتيمترات.

يمكننا القول إذن ان الحجم والوزن يمكن النظر إليهما بمصطلح "حضور" الممثل: ما هو نوع التأثير الجسمانى الذى يستدعيه الممثل على الشاشة؟ فمما لا شك فيه ان الممثل "براين بلييسد" رجل قصير القامة، لكنه وبسبب صوته الاجش وطبيعته الجريئة يبدو ضخماً، ونستطيع ان نقول ان نقيضه هو الممثل جونى ديب، فهناك دائماً شكلاً كرتونياً له فى عدد من أفلامه، مثل فيلم "إدوارد سيزورهاندز" وفى فيلم "سليبى هولو" وكذلك وبشكل خاص فى فيلمه الأحدث "شارلى ومصنع الشوكولاتة"، ومن المصادفات ان له بنية تشبه ممثلى الأفلام الموسيقية والراقصين فى الأفلام القديمة مثل فريد أستر وجين كيللى.
شارلى ومصتع الشكولاتة

ويقول المخرج تيرى جيليم عن جونى ديب فى كتاب سيرته الذاتية " Gilliam on Gilliam " وهو يستدعى تجربة العمل معه فى فيلم "الخوف والكراهية فى لاس فيجاس" " Fear and Loathing in Las Vegas " فيقول "إنه أروع ممثل من الناحية التكنيكية فى السرعة والإبتكار ....." وإنه يتخطى بعدة مليميترات العلامة - او الخط الذى لابد للممثل ان يتخطاه حتى يكون فى الوضعية الصحيحة داخل الكادر-

وبناءاً عليه فإن جونى ديب ممثلاً جيداً بالنسبة للمخرجين الذين يعنون كثيراً بالميزانسين، ويستخدمون الممثلين كجزء من تصميماتهم الحركية الجمالية، بعض المخرجين – ومن ضمنهم كن لوتش ومايك لى – نوعاً ما – ومخرجى حركة الدوجما الدنماركيين – يحبون ان يتركوا الممثل على حريته حتى انهم يضبطون "فوكس" الكاميرا على المنظر ويتركون الكاميرا تلتقط الاداء التمثيلى.

ومع مخرج شديد الاسلوبية مثل جيليم او المخرج تيم بارتون أستاذ الاسلوبية  – والذى عمل معه جون ديب فى عدد من المناسبات – نجد ان التوكيد يكمن فى الكيفية التى يكون فيها الممثل متوافقاً مع النموذج البصرى، فيبدو جونى ديب وكانه جزء من تصميم المشهد أكثر من كونه دخيلاًً عليه.

من هو الممثل او الممثلة التى ترد إلى ذهننا عندما نتحدث عما يمكن ان نسميه "ميزانسين التمثيل"- الممثلون الذين يتميزون بالرشاقة والجمال؟

الممثلة ميشيل فايفر لديها هذه المواصفات، وكذلك الممثل لورانس اوليفيه عندما كان شاباً – كما فى فيلم هاملت – وكذلك الممثل إيرول فلين والممثلون الموسيقيون الذين ذكرناهم لتونا – فريد أستر وجين كيللى، اما الممثلون الذين لا يملكون هذه الصفات فمن ضمنهم روبرت دى نيرو وكذلك الممثل بينيشيو دل تورو، فكلا الممثلين مثلا فى أفلام المخرج تيرى جيليم – روبرت دى نيرو مثل فى فيلمه "برازيل"، والممثل دل تورو مثل فى فيلمه "الرعب والكراهية فى لاس فيجاس" – وكليهما تسببا فى مشاكل للمخرج تيرى جيليم لان اسلوبهما كان ببساطة شديد الإختلاف عن أسلوبه.

وكما يقول جيليم "بينيشيو كان يشبه روبرت دى نيرو فى فيلم "برازيل": كان الأمر صعب لاننى لم أستخدم إيقاع" بينما دى نيرو ودل تورو أرادا الدخول فى أداءهما التمثيلى، جيليم أراد التمثيل ان يتماشى مع الميزانسين اولاً وقبل أى شيئ، دى نيرو ودل تورو فى هذا المشهد كانا ممثلان "ثقيلان" مثل مارلون براندو وشون بن الذى يعطى الإنطباع بأنه يعمل من خلال الشخصية أكثر من الكادر، وعلى هذا النحو نستطيع ان نرى أن الوزن لا يكمن فقط فى الحضور الجسمانى الطبيعى ولكنه موجود أيضاً فى الطريقة التى يمثل بها الممثل امام الشاشة.

5

الممثلة جولى كريستى تجمع فى شخصيتها بين الروح السماوية والروح الدنيوية فى آن واحد، كما لو أن مكانها فى هذا العالم مؤقت، فهى ببساطة تنتمى إلى العالم السماوى، وهذا بالطبع موجود فى واحد من أعظم ادوارها – شخصية لورا باكستر فى فيلم "لا تنظر الآن " Don’t Look Now " لكن هذا موجود أيضاً فى لحظات من فيلم "بيلى الكذاب" " Billy Liar " حيث تبدو وكانها خارج المكان الذى تعيش فيه فى البلدة الشمالية، وكذلك فى فيلم "حرارة وغبار" " Heat and Dust " حيث كانت مُنتجة للبى بى سى تبحث عن جذور عائلتها فى الهند، وعلى أيه حال، فإن بعض النقاد يجدها أقل إثارة للإهتمام كممثلة.
لا تنظر الآن

فالناقد السينمائى ديفيد تومسون على سبيل المثال يذكر فى "قاموس السير الذاتية  للسينما" انها "واضحة فى جهدها...خرقاء، وواعية" ويعتقد ديفيد شيبمان على أيه حال أن "دخول جولى كريستى فى فيلم "بيلى الكذاب" يُعد واحداً من أكثر الأشياء الممتعة فى سينما الستينات" دعونا نتجاهل راى تومسون الفظ، ونسال أين تكمن جاذبية جولى كريستى، فى حواراتها الصحفية تبدو متواضعة دائماً، وعادة فإنها تستهجن نفسها، وهى صادقة عندما تتحدث عن الادوار التى أخذتها وعن حظها الجميل فى أن تعمل مع مخرجين كانوا يتفهمون قدراتها، ولكنهم ربما بدلاً من ذلك كانوا مخرجين يعرفون كيف يستحثون قدراتها، وهى التى قالت فى "سير ذاتية للسينما البريطانية" " An Autobiography of British Cinema " انها ممثلة لا تهتم كثيراً بالدور الذى تمثله، "انا اهتم بالمخرج وانا اعتقد ان هذا الأمر لن يتغير الآن،  انا مؤمنة تماماً بالمخرج، وأعترف أن المخرج هو الشيئ الوحيد الذى يستحق الإهتمام، فهو أو هى سيصنعون الفيلم أو يحطموه" وهذا ربما لأن المخرجين يمسكون بعنصر من شخصيتها امام الكاميرا اكثر مما تجده هى فى الشخصية المكتوبة فى السيناريو.

قد يبدو هذا غامضاً بعض الشيئ، ولكن دعونا نفكر فى تعليق قاله المخرج الفرنسى روبير بريسون فى كتابه "ملاحظات للسينمائى" – وهو الكتاب الذى إستشهدنا به فى المحاضرة التى تتعلق بالأسلوب- فهو نقيض المخرجين الذين تحب جولى كريستى ان تعمل معهم، فقد قال "انا نادراً ما أغير زوايا الكاميرا، فالشخص ليس هو نفس الشخص، إذا رأيناه من زاوية فإنه سيكون شخصاً مختلفاً تماماً فى الزوايا الاخرى".

مثلت جولى كريستى مع مخرجين مثل نيكولاس روج وريتشارد ليستر وجون شيلسنجر وروبرت ألتمان، وقد صوروها فى زوايا متعددة، فاوحت بفروق طفيفة من لقطة إلى أخرى، دعونا نفكر فى مشاهد من فيلم "لا تنظر الآن" حيث المخرج نيكولاس روج يلتقط إيماءات كريستى القليلة، مثل الطريقة التى تحرك بها يدها فى بداية الفيلم بمعنى أن إبنتها تعلمت التمثيل الصامت، أو الطريقة التى ترتب بها نفسها امام المرآة بعد أن مارست الجنس.

نحن نعرف ان مثل هذه اللحظات ليست فى السيناريو، لكنها لحظات كان المخرج هو الذى يوجهها، انها ليست الممثلة التى توحى بالصلابة الممثلات العظام مثل كاثرين هيبورن وبت ديفيس وميريل ستريب وجودى دينش، هؤلاء ممثلات يمكن للمخرجين ان يوظفنهن بسبب براعتهن التكنيكية، ومهارتهن فى النطق وجودتهن فى الإلقاء، لكن المخرجين يوظفون جولى كريستى أكثر بسبب حساسية ذوقها.

ومن المثير ان جولى كريستى تحدثت عن الطريقة التى "يخدم بها النجوم هدفاً فى عالم لا دين فيه، انا وصلت إلى هذا الإستنتاج فى أمريكا... انا فهمت بنفسى هذه النظرية التى تعتبر النجوم مثل الرموز الدينية: نحن لسنا حقيقيين، وإنه من الحمق ان نتظاهر اننا حقيقيون" وكذلك فإن كريستى ليست افضل ممثلة فى "التظاهر" – فى التمثيل- إنها تمنح لنفسها الحق فى كل دور تمثله ان تتجاوز كونها ممثلة حرفية، أو نجمة مثل النجوم، وذلك حتى تقدم شيئاً حقيقياً تماماً، وربما يظهر هذا فى اللهاث "النهجان" والصوت الرخيم، وإستعدادها للسماح للمخرجين ان يصوروا وجهها من زوايا متنوعة، وإيماءاتها التى تقول الكثير.