الراقصة في الظلام |
مقالة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
1- مقدمة
في مقال عن المخرج الإيراني عباس كياروستامي، كُتب عام
1998 لاحظ فيرجوس دالي أن هناك أتفاق عام حول الأستاذ الإيرانى في أواخر التسعينات،
ويعتقد أن هذا إنعكاس للعصر. وقال "ويبدو أن ثمة إجماع أكبر كان فى الستينات فيما
يتعلق بالتصنيف الحداثى المتطور لبرجمان وبريسون وأنتونيونى وبونويل أكثر من
الإجماع الموجود الآن فيما يتعلق بلارس فون تريير وألكسندر سوكوروف وشاروناس
بارتاس وحتى آتوم إجويان" .. (سينما الغرب)
ويحق لنا أن نُضيف أنه لا يوجد فقط عدم إجماع الآن، ولكن المخرجين
المعاصرين العظام أيضاً لم ينالوا حظاً وفيرا فى توزيع أفلامهم. فالمخرج بارتاس
مازال مجهولاً فى المملكة المتحدة، وبالنسبة لأفلام بيلا تار وكياروستامى فإنها
ستحتاج إلى سنين عديدة قبل أن تٌعرض فى السينمات، وبعض من أجمل أفلام هو هسياو
هسين لم يتم عرضها هنا مطلقاً عرضاً عاماً، بينما أفلام جودار وبيرجمان وبونويل
وأنتونيونى كان الجمهور يترقبها بشغف فى الستينات، أما الآن فليست هناك ضرورة
مُلحة لمشاهدة أفلام عدد من أعظم المخرجين المؤلفين المعاصرين فأفلامهم لم تحصل
سوى على ظهور عرضى فى مهرجانى أدنبرة ولندن السينمائيين، والإنسان يشاهد أفلامهم
بندرة: مثل فراشة تًصطاد بصورة عابرة فى الشبكة السينمائية، وسط سينما مجبرة على
محاكاة التيار.
2 – مايكل هانيكه
وعلى أية حال، إذا نحينا جانباً عائد شباك التذاكر وما يستحسنه النقد
السينمائى السائد ( النقد فى الصحافة)، وفكرنا بدلاً من ذلك فى الأشكال السينمائية
الجديدة المبتدعة والجماليات ذات الصلة، عندئذ سنجد حفنة من مخرجى السينما فى
الألفية الجديدة والذين يُثبتون أن حقبة الستينات ليست فقط هى الحقبة التى أنتجت
مخرجين ذى مكانة عالمية، بل أن الزمن الحاضر أيضاً أنتجهم، وبالطبع ، هناك بعض
منهم معروف على نطاق واسع وأفلامهم يتم توزيعها جيداً فى السينمات، فالمخرج المؤلف
النمساوى مايكل هانيكه لديه القدرة على إثارة الجدل ويحظى بالتقدير.
إنه يوفر صوراً شديدة الإستفزاز ضمن محتوى يتناول بطريقة استقصائية قضايا
الإنحلال الإجتماعى، فى فيلم "ألعاب مرحة" وفيلم "شفرة غير
معروفة" وفيلم "المخفى" وفيلم "الأرنب الأبيض" فإنه يفكر
بإمعان وترصد فى التفسخ الإجتماعى سواء فى نطاق محدود أو بشكل عام، كما يتناوله فى
الماضى والحاضر، فى فيلم "ألعاب مرحة" تستحيل رفاهية الطبقة المتوسطة
إلى حالة إنزعاج حقيقية.
زوج وزوجة وابنتهما يمضون أجازة فى منزل عطلاتهم ذى البوابة، ويأتى إثنان
من الجيران يريدان بيضاً، ويبدو الأمر كما لو أنهما لابد لهما أن يعانيا قليلاً
لكى يصنعا نوعاً معيناً من الأومليت، هذان الوقحان الذان يفرضان نفسهما هما أيضاً
فضوليان، يبدو عليهما رغد العيش ولكنتهما تنم عن مستواهما الإجتماعى الراقى، لكن
لديهما ميل إلى الفوضوية، بينما المخرج مايكل هانيكه يصنع فيلماً ليس عن الإنحلال
الإجتماعى، ولكن عن مخاطر نوع من الإندماج الإجتماعى.
بوابة المنزل قد تحمى العائلة من جحيم المتطفلين، لكنها لا تستطيع حمايتهم
عندما يكون للمتطفلين ميول سادية، كما أشار جيلبرتو بيريز، النظام الأمنى والذى من
المفترض أن يحميهم من العالم فى الخارج، يجعلهم فريسة داخل عشهم الذهبى.
"فيلم ألعاب مرحة ليس مجرد إحتجاج على سينما العنف وعلى جمهورها، لكنه صورة
مُزعجة عن العنف المتصاعد فى المجتمعات الإنعزالية المُحصنة.
ففى البداية عندما تصل العائلة إلى المنزل، وتنغلق البوابة أوتوماتيكياً
خلفهم، يُثبت مايكل هانيكه الصورة لمدة طويلة إرهاصاً بكارثة، وناقلاً الإحساس بأن
البوابة المُصممة لكى تحميهم هى فى الحقيقة شرك لهم". من مجلة (لندن ريفيو
اوف بوكس).
وفى نفس الوقت، يعارض فيلم مايكل هانيكه السينما كوسيط للعنف الذى نبتهج به
فى غالب الأحيان، فمعظم الأفلام تُشبع شهواتنا الدموية، لكن تصديق أن الأجسام تتقطع
هو شان يخص ليلة السبت -العطلة الأسبوعية- حيث تحلو لنا مُشاهدة هذه الأفلام... ولا
يزعجنا الأمر باقى أيام الأسبوع إلا إذا تصادف أننا نعيش فى دولة حيث تكون الألعاب
النارية فى الواقع هى أنفجارات فى مستشفى أو مدرسة.
هناك بلا شك بُعد ساخر عند هانيكه، وإدانة حادة لكامل الرفاهية الغربية
(الموسيقى ولقطات رد الفعل وفعل البطولة وما يترتب عليها) فهو يؤمن بأن كل جماليات
السينما يجب أن تتغير "هذه الأفلام تجعل العنف غير حقيقى ويمكن تعاطيه، فالأمر
يشبه ركوبك لقطار الأشباح فى الملاهى، أنا أتعمد أن أسمح لنفسى أن أرتعب لكننى
أعرف أن لا شئ يمكن أن يحدث لى، أنا أتذكر عندما عُرض فيلم "خيال صرف"
للمخرج كوينتين تارنتينو، كنت جالساً فى عرض صباحى يكتظ بالشباب، والمشهد الشهير
الذى أنفجر فيه رأس الصبى تسبب فى ضجة كبيرة فى دار السينما، وإعتقدوا أنه مشهداًعظيماً
وماتوا تقريبا من الضحك " (دير شبيجل).
ولكن بلاغة هانيكه ليست بهذه البساطة: فأسلوبه معقد على
مستوى الشكل وعلى مستوى الطرح على حد سواء.
إنه غالباً ما يوظف مساحة لما يحدث خارج الكادر (مثل موت الطفل فى فيلم
ألعاب مرحة) أو يقدم لقطة تحتوى على شئ فى مقدمة الكادر وشئ فى عمق الكادر فلا
يكون من السهولة أن نعرف ما الذى يجب علينا ان نركز عليه. (اللقطة الختامية فى
فيلم المخفى). فى فيلم "شفرة غير معروفة" نجد أن مشكلة المعيشة فى مدينة
باريس تتجزأ وتتشوش، وهانيكه يقدم اللقطة المشهد ناظراً إلى عدد من مظاهر الحياه
فى باريس وهذا لا يُضيف شيئاً إلى القصة، كما لو أن مشكلة االعُزلة يجب أن تُفصح
عن نفسها سينمائياً بطريقة التجزء أيضاً.
3- لارس فون تريير
لارس فون تريير مثل مايكل هانيكه، يُعد مخرجاً مؤلفاً من النادر أن نُبخس
أفلامه، وهو يُشارك جان لوك جودار القدرة على الجدية التامة وحس الفكاهة فى آن
واحد، لعل لديه نقطة تتعلق بالعقيدة
النازية، مثل زلته الشهيرة فى مهرجان كان، لكن هذا المخرج الدنماركى لا يمكن أن
يكون نازياً إلا فقط على النحو الهجائى الذى قام به.
أفلامه تحتوى غالباً على نفس الحاجة المُلحة إلى تقديم أكثر القضايا
الهامة، وأن يضمنها نبرة قد تجعلنا نتساءل هل يجب أن نأخذ هذه القضايا بجدية تامة،
فيلم "دوجفيل" يرهص بإمكانية أن الإنتقام هو الحل الوحيد، وفيلم
"ماندرلاى" يبدو كما لو كان يقول بأن العبودية أفضل من الحرية حتى من
وجهة نظر العبيد.
فى فيلم "دوجفيل" نجد أن المعاملة الوحشية التى تعاملت بها جريس
الطيبة فى بلدة أمريكية جبلية، يجعلها تطلب الإنتقام عندما يعود رجل العصابة
والدها إلى البلدة. وفى فيلم "ماندرلاى" تُحرر جريس العبيد من الأسر فى
مزرعة أمريكية، وبعد أن يتحرروا ويتمكنوا من تدبير أمورهم، يسوء الوضع بدلاً من
تحسنه.
لارس فون تريير يقول ببساطة أن الإنتقام ضرورى وأن العبودية هى أفضل
الخيارات المتاحة، لكن تخليه عن تقديم المعنى الجيد البسيط فى إدراكه، ربما يقود
العديدين بدلاً من ذلك إلى رؤية الأمر كنوع من الخبث والوضاعة، وعلى أيه حال،
أفلامه لا يمكن نكران نية الاستفزاز فيها للهروب من بساطة الأحكام الجاهزة، فهو
يريد أن يقول أن الناس لكى يجدوا طريقهم خلال المزيد من الفهم العميق فإنهم يتعرضون
لنوع من الإغضاب .
وإذا كان الكاتب الروائى والمسرحى النمساوى العظيم "بيتر هاندكه" كتب فى أحد
المرات مسرحية عنوانها "إغضاب الجمهور"، فهذا العنوان يمكن أن يكون
مناسباُ كعنوان مقالة عن سينما لارس فون تريير.
وحتى إذا أظهر المخرج أنه غير ليبرالى كما نتخيل فيما له صلة بالإستنتاجات
السردية لفيلم "دوجفيل: وفيلم "ماندرلاى"، فإن لارس فون تريير يستطيع
"إعادة الإغضاب"، فتترات نهاية فيلم "دوجفيل" تعرض صوراً للفقر
المدفع فى الولايات المتحدة الأمريكية فى القرن العشرين: وينتهى فيلم
"ماندرلاى" بصور تعرض لسوء معاملة السود فى الولايات المتحدة الأمريكية،
وكلا الفقرتين صاحبهما فظاعة ديفيد بوى "الأمريكيون الشباب".
ونضيف إلى هذا، وهناك حقيقة معروفة جيداً – نضيفها هنا – وهى أن لارس فون
تريير لم يعش أبدأ فى الدولة التى ينتقدها بإصرار، ونحن نلاحظ اصراره على مواصلة
هجومه فى أفلامه السينمائية، لارس فون تريير واحد من أعظم المُصرين على الإغضاب فى
السينما.
إنه أيضاً يجيد هذا الأمر حتى أنه لا يحتاج إلى إمتلاك سبباً فيما وراء
تجربة السينما، لكن يمكن إفزاع الجمهور بالإشارة إلى لا شئ سوى استجاباتنا فى
المشاهدة الدقيقة.
فيلم "إنكسار الأمواج" قصة مؤئرة عن علاقة مقلقة بين رجل وإمرأة
عندما تذهب جان إلى الشاطئ، ويُترك "بس" وهو المضطرب عقلياً وصاحب
الميول الدينية، ورغم ان المخرج يوظف العديد من حرفيات التغريب (مثل أستخدام فواصل عبارة عن أغانى السبعينات المشهورة، والتغريب المتعمد بكلاشيهات ميلودرامية)، وقد تقود
النهاية المُشاهد إلى الإعتقاد بأنه يشاهد فاصلاً كوميدياً أكثر من كونه ميلودراما
ثقيلة.
ويُنهى لارس فون تريير الفيلم بأجراس مٌعلقة فى السماء،
إنها لحظة عبثية، تجعلنا نتساءل عما إذا كُنا نؤمن بالمعجزات أم نتقبل الفيلم
بصفته يكسر التقاليد السينمائية فيما يتعلق بتعطيل الشك، يقدم لارس فون تريير هذا بطريقة
متحفظة بحيث تكون ردود أفعالنا على مسؤوليتنا، لكن شخص ما قد يتأثر بالإحداث قبل
ظهور الأجراس التى ربما تجعله يشعر كما لو كان شخصاً حُكيت له قصة حزينة عن موت
طفل محبوب، بينما الراوى يُعلن فى النهاية أنه كان يمازح المستمعين.
لارس فون تريير مخرج يتمتع بحس فكاهة حقيقى، فهو يستطيع
جعل أكثر الموضوعات جدية مجرد سبب لأعمق الضحكات، فى فيلم "البلهاء"
يكشف المخرج عن مجموعة من الناس أعمارهم تتراوح بين نهاية العشرينات وبداية
الثلاثينات، وهم يتظاهرون بانهم لا يعرفون كيف يتصرفون مع الأشياء الغير المعتادة.
ويوضح لارس فون تريير أن الشخصيات لديها منطقها، ولكن هل
توجد طريقة أفضل لكى يعبرون عن منطقهم؟ وللمرة الثانية يبدو لارس فون تريير متحفظاً:
فمن الواضح وجود إمكانية للإستياء، ولكن هل يستطيع أى شخص أن يقول بكامل الثقة أين
حصلت الإهانة؟ هذا ليس نوع من التوفيقية من جانبه لكن الإهانة المقصودة موجودة على سبيل المثال فى
فيلم "شئ ما عن ميرى" حيث تُصرح شخصية مات ديلون بجمال كاميرون دياز
التى يعانى أخيها من صعوبات التعلم، فهو يحب التسويف، وهذا قاسى جداً كما إنه
متنافض جداً.
ولا يبحث لارس فون تريير فقط عن الضحكة الصادمة، لكنه
يتأمل أيضاً فى أشكال إجتماعية تبدو كعثرة فى الزور عندما تنحرف عن المفاهيم
السائدة، الكوميديا واالإصالة يترابطان بطريقة غريبة " هذه االأصالة تمتزج
بالكوميديا، والكوميديا ليست فى الواقع شيئاً تربطه بالأصالة" - من كتاب
"تريير أون فون تريير"-
وعلى هذا النحو يشترك كل من مايكل هانيكه ولارس فون
تريير فى اللإستفزاز: فبالنسبة لهانيكه فهو يمثل السينما الأوروبية التقليدية
وبالنسبة لفون تريير فهو مهرج بلاط، وكلاهما، على أية حال، يبدوان مخرجان لسينما
الألفية، مخرجان عيونهما معاصرة ويبحثان عن جماليات موازية.
يتعامل هانيكه عادة مع اللقطة المشهد كإطلالة ثاقبة: عين
الكاميرا لا تغمض تريد أن تكون عكس الجماليات العابرة للكثير من الثقافة المعاصرة،
ثقافة عابرة تبحث عن إذهال إنتباهنا ليس أكثر.
أما لارس فون تريير فهو يتلاعب بهذا الإذهال، فهو يستخدم
الكاميرات المحمولة وتكنولوجيا الديجيتال دائماً ليجعل العين لا تثبت على مكان
واحد، ولكى يسحب البساط من تحت أقدامنا.
وإذا كان مايكل هانيكه يُعد بمثابة فاسبندر بالنسبة
للعصر الجديد، لكنه يتمتع بقدر أكبر من النظرة الصارمة والإنتقامية، فإن فون تريير
يُعد بمثابة كارل دراير بالنسبة للسينما الإسكندنافية المعاصرة.
ملاحظة مايكل هانيكه الشهيرة عن إجبار الجمهور على
الإستقلال لا تختلف كثيراً عن بحث فاسبندر – مخرج السينما الألمانية الجديدة
العظيم- عن إحساس جديد، "لا يجب أن توجد فى أفلامى أحاسيس يستوعبها الناس، فالأفلام
لابد لها ان تخلق أحاسيساً جديدة بدلاً من ذلك".
وفى أفلام كل من كارل دراير ولارس فون تريير، فإن الروح
وعالمها يتم التصريح بهما خلال الجنون أو الشر، والإضطراب الإجتماعى أو الإنحراف
الشخصى، وعبر الرعب والكراهية، لكن الفيلم المعاصر الدنماركى لا يوفر البطء فى حركة
الكاميرا كما فى أفلام كارل دراير ولكنه يوفر الكثير من جماليات الحركة الدائمة.
4- بيلا تار
الروح كانت من الموضات القديمة، لكنها حاضرة دائماً فى
التجديد السينمائى، ولارس فون تريير ليس هو الأستاذ المُعاصر الذى يهتم
بإستحضارها، فبيلا تار وسوكوروف والاخوان داردن، كل هؤلاء مغرمين بحركة الروح، ومع
كل مخرج، على أية حال، فالموضوع يتحقق بطرق مختلفة.
وعلى الرغم من ان المخرج المجرى بيلا تار أعلن أنه ليس
مهتماً بالمسائل الميتافيزيقية او بالرمز فى أعماله، فهذا أشبه ما يكون بتصريح من
شخص شديد الذكاء لا يعرف نفسه حق المعرفة.
إنه ربما يؤكد "لا توجد تأملات فى أى من أفلامى ولا
توجد رموز ولا أى نوع من تلك الأشياء الميتافيزيقية" (من كتاب إنثاوسيزيم) ومع
ذلك يشعر الإنسان بأن المخرج غارق فى الرمز والميتافيزيقيات، وأنه عبقرى جداً فى
هذا الأمر فى أفلامه التى تشمل ، "إدانة" و"تانجو الشيطان"
و"هارمونيات ريكميستر" و"رجل من لندن" و"حصان
تورينو"، فكل هذه الأفلام مفعمة بتعقيدات قضية أكثر جداً من التجسيد الفنى.
وإذا كان جاك رانييه فى "مستقبل الصورة" يرى
أن الكثير من الصور هى مناسبات حية تكتشف مواطنها فى امكنة التصوير المختلفة
(السينما، التليفزيون والمعرض التشكيلى)، فصور بيلا تار هى ما يمكن ان نُطلق عليه
الصور المقاومة للتغيير.
إنها تريد أن تكون صوراً سينمائية ولا شيئ آخر، وبينما
كان بيلا تار يُخرج أفلامه، كان العديد من المخرجين المعاصرين العظام ليسوا شباباً
ويقبلون طبيعة الميديا المختلطة لأعمالهم، مثل (جودار واكرمان وفاردا).
عندما اعلن بيلا تار إعتزاله كمخرج بعد فيلم "حصان
تورينو" فهذا بدا إعلاناً متصنعاً أكثر مما يمكن ان يُعلنه العديد من
المخرجين الآخرين لأن بيلا تار يعمل فى إطار تصور مُحدد للسينما يتطلب شهوراً من
التصوير ويتطلب معدات متطورة ونظام تسويق تتيح لأفلامه أن تُعرض على شاشات السينما.
وإذا كانت السينما بالنسبة للعديدين تًصنع بالكومبيوتر
وتُشاهد بواسطته، فإن بيلا تار يؤمن بما يُطلق عليه الفرنسيون: التهيؤ الكامل للتجربة
السينمائية.
فعلى مستوى التيمة والمحتوى نجد بيلا تار جديداً لأنه موضة قديمة، وهناك
مفارقة – وإن كانت فى غير السياق ولكنها مفهومة- إذا وضعنا فى إعتبارنا ان واحدة
من أهم النقاشات فى ثقافة السينما المعاصرة هى أطروحة موت السينما.
وسواء كانت هذه الأطروحة قد أُلقيت فى نهاية التسعينات من خلال سوزان
سونتاج أو ديفيد دينبى وآخرين حيث أعلنوا أن التجرية السينمائية أنتهت، كذلك
بالطبع رأى جودار ونيكول برينيز ... إلخ.
ومن المعروف جيداً أن فكرة موت السينما هى بُعد رئيسى فى
بقاء السينما (أستشهد بمقولة برينيز فى "تحولات الفيلم") أو التصريحات
الحديثة التى قالها ستيفن سبيلبيرج وكيفين سبيسى الذين أصرا على أن الكثير من
الفنون والحرف إنتقلت إلى التليفزيون، فإنتهاء السينما أطروحة حديثة.
وفى هذا السياق، فإن أفلام بيلا تار تبدو من الناحية
السينمائية كما لو كانت صادرة من عصر ما بعد موت السينما، فالساعات السبع أو يزيد
التى يستغرقها فيلم "تانجو الشيطان" لا تجعله من أفلام التليفزيون التى
تشاهدها فى عطلة الأسبوع مع باقة الأفلام الجنسية والرومانسية.
فمشاهدة الفيلم تجربة صعبة، وأفضل مكان لمشاهدته هو صالة
السينما بجوها الصامت الذى يُشبه الكنيسة، ربما بيلا تار مغرماً بالعوالم الملحدة،
لكن أفلامه مُفعمة ببُعد التجربة الدينية.
هناك ثمة تباين بين أحداث الفيلم التى تبدو فظيعة وبين
الرؤية السينمائية التى تبدو شعرية، وتكتمل الدائرة بموسيقى ميهالى فيج، وهو
المؤلف الموسيقى الملازم لبيلا تار والذى يوفر غالباً درجة من الإحساس الخيالى
الجنونى تتعارض مع الأحداث التى تتم على الشاشة.
فى فيلم "هارمونيات ريكميستر" تسير الشخصية
الرئيسية (لارس رادولف) فى الشارع بعد
أمسية فى حانة، وهذا الشارع مُصور بنعومة تامة.
ربما توشك البلدة على الإنقسام بعد زيارة الأمير -القزم
مثير المشاكل- لكن هناك هدوء قبل وبعد العاصفة، وهذا الهدوء يتولد بشكل أساسى من
خلال موسيقى ميهالى فيج.
وأيضاً هناك دليل آخر نجده فى أسلوب التصوير الذى يلتزمه
بيلا تار، فحتى وفى أثناء العاصفة تظل الصور تأملية – فهناك إثنين من الفقرات
الطويلة نرى فى أحدهما الحشود االكبيرة تسير بطول الشارع وبعدئذ ينقل إلى مستشفى-.
ويمكن أن يُقال نفس الشئ عن أكثر اللحظات فظاعة فى سينما
بيلا تار، وهى لحظة تعذيب وموت قطة فى فيلم "تانجو الشيطان": فالكاميرا
تلتزم بمسافة معينة، إنها تظل شاهدة بأسف على الأحداث أكثر من كونها متفاعلة معها.
ورغم أن أفلامه الأولى مثل "عش العائلة" و
"ناس جاهزون" تحتوى على جماليات مباشرة توحى بذبابة على الحائط، فإن
أفلامه العظيمة إبتداءاً من "إدانة" وما تلاه تشير إلى مزيد من رد الفعل
باللامبالاة والضعف: (إنها سحلية أكثر من كونها ذبابة).
5- ألكسندر سوكوروف
على حين ان الروح فى أفلام بيلا تار تأتى من خلال السؤال
عن قدرة الإنسان- فالمخرج يقدر على تأطير الإجابة جمالياً أكثر كثيراً من تأطيرها
على أساس أنها قضية وجودية، وموحياً بأن الأمر غالباً يبدو أكثر من كونه فناً هذا
الذى يكون أمام أعيننا- أما المخرج الروسى ألكسندر سوكوروف فهو يحافظ على حالة من
التفائل، أو لعله يكون متديناً ليس أكثر.
إنه يربط شغفه رسمياً بالأمور اللاهوتية، قائلاً
"بالنسبة لى، السينما ليست محيط دائرة وليست مجال، ولكنها مُسطحة... فى الوقت
الحالى، الفيلم مُسطح تماماً ومازال بعيد جداً عن التجسيد كمجال من هذا العالم
الكونى للمجال" ( حواس السينما) ففى كل أفلامه بداية من فيلمه "الأم والإبن" إلى "الكنزالروسى"، ومن "فاوست" إلى "أصوات روحية"، فإن سوكوروف
هو مخرج شكلى يبحث عن الجنة، كما لو أنه يريد أن يستخدم الفيلم كوسيلة يقترب من
خلالها من الله.
لا يجب أن نتعامل مع الكسندر سوكوروف كعبد تابع للكلمة،
والأحرى إنه يريد أن يكتشف الصورة ذات الدلالة، إنه يريد أن يعثر على الصور التى
يمكن ان تربطنا بعمق بوجودنا وليس فقط بقلب عصرنا، الدين يساعدنا فى ذلك، ومتحدثاً
عن فيلمه ذى اللقطة الواحدة "الكنز الروسى" يقول سوكوروف "أنا
أرى الزمن فى مجملة- مضارع مستمر، ويجب أن أكون داخل هذا المضارع المستمر، يجب أن
أكون جزءاً لا يتجزأ من هذا الفضاء الفنى، كمعمار متناغم ومُتوحد، فلا توجد لقطات
كلوس أب- فالفيلم كله عبارة عن لقطة بانورامية وحيدة فقط" (السينما الروسية)،
هذا أيضاً له علاقة بما نادى به من أن "أنا أعتقد أن ذلك الإيمان يتشكل خلال
التربية والتعليم، "لم تكن نشأتى قائمة على أى توجه دينى.... مجرد توجيهات
عامة مثل المعرفة بقواعد النحو ليس إلا، وفى المعرفة بقواعد الدين، يجب على
الإنسان أن يتعلم.... الدين بالنسبة لى عامل على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة للعقل
والقلب" (Cineaste)
الدين ليس منحة من السماء، ولكنه يتطلب جهداً شاقاً على الأرض، إنه محاولة من
الإنسان ليسمو ويتجاوز واقعه.
البعض يرى بالضرورة توجهاً رجعياً لدى سكوروف: حيث
إهتمامه بتعظيم الوجود يعنى أنه يخاطر بمعرفة شرور معينة، وعن افلامه عن
الديكتاتوريين، مثل فيلم "برج ثور" عن لينين، وفيلم "معبود
الشر" عن هتلر و فيلم "الشمس" عن
هيروهيتو – يتساءل النقاد عما إذا كان سوكوروف
قد تجاوز الخلافات الرئيسية.
"ربما لا يهتم سوكوروف بالسياسة والتاريخ، لكن
السياسة- كما يمكن أن نقول- مهتمة به، فهو يضع إثنين من القادة الرجعيين فى القرن
العشرين – هتلر وهيروهيتو- مع الماركسى الإشتراكى الفذ لينين، فى نفس الطائرة
("على المستوى الإنسانى" كما يحلو لسوكوروف أن يقول)، المخرج يقدم خطاباً
سياسياً رجعياً بتميز.
فهو يساوى بين البلشفية والفاشية من جهة، ويُدين لينين
على الجرائم الستالينية من جانب آخر." (ستيفان ستينبرج – الموقع الإلكترونى
للإشتراكية الدولية). وربما هذه نقطة عادلة، لكن سوكوروف هو المخرج الذى يريد
عندما يستعرض القوة أن يصنع أفلاماً عن الهوة بين الروح والمهزلة "هؤلاء
الناس- الناس الذين فى السلطة- حولوا حياتهم إلى مسرح، وهم يُقادون بالأسطورة، إنهم
يفلسفون حياتهم ويقوموها، فالميزانسين موضوع لهم مقدماً وسلوكهم خاضع لطقوس المناسبات
الإحتفالية" (ألكسندر سوكوروف WSWB)
ما هى أفضل طريقة لعمل فيلم عن الفجوة بين الكينونة
والسلوك، بين نوع من المباشرة فى السلوك التى يقدمها فى التصوير الحميمى لأناس
عاديين كما فى فيلم "أم وإبن" وفيلم "أب وإبن"، كما أن التعرض
للتاريخ ملازم له فى أفلامه عن السلطة السياسية؟ يجيب سوكوروف السؤال بإظهار سيطرة
أقل فى العمل لكن الإنسان ينفر من نفسه ومن وجوده فى أفلامه عن الديكتاتوريات.
لينين يموت فى فيلم "برج الثور" وهتلر يضيع فى
ذروة إنسحابه فى فيلم "إله الشر" وهيروهيتو يُجن وينعزل فى فيلم
"الشمس" إنهم يمتلكون السلطة ولكنهم يفتقدون إلى أى سلطة أخلاقية، حيث
فى فيلم "أم وإبن" وفيلم "أب وإبن" نجد الناس تفتقر إلى
السلطة ولكنهم يمتلكون ذلك البًعد الأخلاقى.
رد سوكوروف على هؤلاء الذين يرون أفلامه كأفلام محافظة
ربما يكون أننا نخلط بين السلطة والقوة: التحكم فى الآخرين أكثر من التحكم فى
الذات. وغرض الشخصية أن يستحوز على سلوك يجعله قريباً من طبيعته: وليس بمعزل عنها.
للمخرج ألكسندر سوكوروف عدد كبير من الأفلام وهذا يجعل
التعميم فى تقيمه أمراً خطأ (له خمسين من الأفلام الروائية والتسجيلية)، ولكن
العمل يقبع دائماً فى هذا السؤال عن كيفية إعطاء شكل وملمس سينمائى يحترم العالم.
ورغم أن صور سوكوروف توفر أحياناً ملمحاً طبيعياً، فإن
الواقعية تكون فى حالة تعارض دائم بسبب مؤثرات فنية بإستخدامه للفلاتر (كما فى
فيلم الخيال العلمى "أيام كسوف الشمس" على سبيل المثال). إنه المخرج
الذى يريد أن يكتشف فى أفلامه بيئة للروح بالمعنى المزدوج للجملة: شكل جمالى
ووسيطاً لمناجاة الله.
6- الأخوان داردن
شغف الأخوان داردن بالروح يتحول عندهما إلى أسلوب واقعى
فلا تبين الروح مطلقاً فى الصور، بينما ألكسندر سوكوروف يريد كل ملمح من الصورة أن
يُذكرنا بالله، المخرجان داردن البلجيكيان لا يوظفان مفهوم الروح بوصفه تجلياً
روحياً، ولكن كنقطة البدء لوجودنا.
وسواء حدث هذا مع روزيتا التى تخون شاباً أرتبط بها
بصداقة حينما عملا معا فى بيع الفطائر، والوالد فى فيلمهما "الإبن"
يختار أن يعمل بجانب الولد المتسبب فى مقتل إبنه، أو برونو الصبى فى سن
المراهقة، الذى يبيع طفله فى فيلم "الطفل"، ويتساءل المخرجان داردن ماذا
تساوى إنسانيتنا وقيمنا الأساسية عندما تتعارض مع المجتمع الذى يعطينا أسباباً
كثيرة لنتغاضى عن هذه الإنسانية، أو عندما تظهر المواقف التى تمتحن نوايانا
الطيبة.
طريقتهما السينمائية تعتمد غالباً على الكاميرا المحمولة
وشكل التحقيق السينمائى، ودائماً يصاحبان الشخصيات المحورية عن قرب وكذلك وجهات
نظر هذه الشخصيات، ففى فيلم "روزيتا" يتجنبان بشكل عام اللقطات
التأسيسية: نحن نكون قريبون من الشخصية التى يحمل الفيلم إسمها ونحن نراها فى حركة
دائمة عاقدة العزم على أن تكون شخصية محترمة كإنسانة لها عمل.
وفى فيلم "الطفل" نجد برونو نقيضاً لرغبة روزيتا فى البحث عن عمل، فهو يقول فى أحد اللحظات أن الأحمق فقط هو الذى تكون لديه وظيفة، إنه بدلاً من ذلك يسير ويفاوض، حتى إذا عنى هذا أن يجر عربة طفل خالية بعد الإتفاق على بيع طفله مقابل المال.
وفى فيلم "الطفل" نجد برونو نقيضاً لرغبة روزيتا فى البحث عن عمل، فهو يقول فى أحد اللحظات أن الأحمق فقط هو الذى تكون لديه وظيفة، إنه بدلاً من ذلك يسير ويفاوض، حتى إذا عنى هذا أن يجر عربة طفل خالية بعد الإتفاق على بيع طفله مقابل المال.
فى كلى المثالين، على أية حال، المشكلة هى نفسها: كيف
تولد نظام القيم الذى يمكن أن يمنح قيمة لوجودنا.
المنادة الأكبر تأتى فى الحد من المطالب الأصغر: فى
إدراك على سبيل المثال أن الصداقة أثمن فعلاً من الوظيفة: إن طفلك أكثر أهمية من
محفظة نقود سميكة، الأخوان داردن فى الحقيقة مخرجان حداثيان حتى إذا كانت أخلاقهما
وجمالياتهما تعتمد بشكل كبير على المخرجين المؤلفين الأوائل للواقعية الإيطالية
الجديدة على وجه الخصوص: ورغم ذلك فهما يوصفان غالباً بأنهما مثل شارلى شابلن.
ما يجعل أفلامهما حداثية هو الدقة فى واقعيتهما ( فلا
وجود لموسيقى تصويرية تصدر من خارج الكادر، وكذلك المحافظة على لقطات وجهة النظر
أكثر من القطعات المونتاجية العكسية للتشويق، كذلك رفض السماح لأى رسالة أن تصدر
فى الحوار).
مشاهدة ولو فيلم جميل مثل "إنها تمطر أحجاراً"
أو "الخنفساء" للمخرج كين لوتش، ففيلم "الخنفساء" وأفلام
الأخوين داردن تدل على مدى ما تحقق فى الواقعية الحديثة عندما تُقارن بالنماذج
الواقعية الأولى فى السينما.
وأيضاً، وبينما يريد كين لوتش غالباً أن يمنح حيزاً
للشخصية، فيستخدم العدسات الطويلة ليركز على الشخصيات وسط الجموع، ففى أفلام
الاخوين داردن فإن الجموع هى غالباً واحدة، فالكاميرا فى فيلم "روزيتا"
شديدة القرب حتى أن روزيتا فى كثير من الأحيان تظهر بشكل ضبابى فى الكادر: فتظهر
لنا شاشة حمراء أو زرقاء.
7- كلير دينيه
الأخوان داردن هنا يلتزمان بنظرية جمالية لا تحتاج على
الإطلاق أن توصف بشئ إلا الواقعية، وهذه الواقعية المدهشة تسود معظم السينمات فى
السنوات الحديثة، حيث نجد المخرجة كلير دينيه من بين أهم المُطورات لها.
فهذه المخرجة الفرنسية تحب أيضاً أن تستخدم لقطات
الكلوس، ولكن إذا كان الاخوان داردن غالباً ما يلعبان على حركة الشخصية، فإن كلير
دينيه دائماً ما تفكر كثيراً فى إختيارها للشخصيات وفى الكاميرا المًصوبة عليهم.
فى فيلمها "ليلة الجمعة" ثمة ليلة حب بين
إثنين من الغرباء يهربان من زحمة المواصلات فى يوم الجمعة، بينما الفيلم يأخذ زمن
الإنتظار الفارغ و يمنحه فى المقابل إلى الشخصيات كنظرات طويلة ومداعبات خفيفة
ووجبة عشاء يتم تناولها بهدوء.
فيلم كلير دينيه على أية حال، يوظف الموسيقى التصويرية
من خارج الكادر، وهذا الأمر يختلف عليه أعظم المخرجين الذين نتناولهم، فنحو 65%
منهم يتجنبون إستخدام الموسيقى التصويرية فى مقابل 35% يستخدمونها، فعباس
كياروستامى والاخوان داردن ومايكل هانيكه يتجنبونها إلا فى حالات نادرة، على عكس
كلير دينيه وبيلا تار وسوكوروف ولارس فون تريير وديفيد لينش وونج كار وى، فهم
يُشجعون إستخدام الموسيقى التصويرية، بينما المخرج هو هسياو هسين فموقفه بين بين.
القضية ليست هل إستخدام الموسيقى التصويرية جيد أم سيئ،
ولكن ما الذى تخدمه، والمخرجة كلير دينيه واحدة من هؤلاء المخرجين مثل بيتر
جرينواى الذى يعمل مع المؤلف الموسيقى مايكل نيمان، ومثل فليينى الذى يعمل مع
المؤلفة نينا روتا، وتريفو الذى يعمل مع جورج ديليريو، ومثل ألفريد هيتشكوك الذى
عمل مع برنارد هيرمان فى اوخر الخمسينات وبداية الستينات، وبالطبع المخرج المجرى
بيلا تار الذى عمل مع المؤلف الموسيقى فيج، فإن كلير دينيه ترتبط بعلاقة مع المؤلف
الموسيقى.
" الموسيقى بالنسبة لى ليست نوعاً من التجميل الذى
تُضيفه فى غُرفة المونتاج" هكذا تقول دينيه. "يجب أن تكون الموسيقى
جزءاً من الفيلم: وإلا فإننى لن أستخدمها" ( توكينج موفيز). إنها إستخدام
لبُعد إبداعى آخر أبدعه فنانون لهم أهميتهم فى مجالهم، والمخرجة دينيه دائماً ما
تعمل مع فرقة (تندرستيكس) فأشعارهم الجنائزية وألحانهم الحزينة تُعطى لأفلام كلير
دينيه مرأى سوداوى.
فيلم "مشكلة كل يوم" هو تقرير عن رجل وإمرأة
زوج كل منهما مُصاب بداء الكلب الذى أصابهما فى أفريقيا منذ عدة سنوات، ويكشف
الفيلم عنهما وهما يُخرجان رغباتهم فى أكل لحوم بشر الآخرين، لكن القضية ليست فى
أن الفيلم ليس من أفلام الرعب المُثيرة، بقدر ما هو أستقصاء مؤلم عن رغبات الإنسان
المنحطة.
مع عملها مع مديرة التصوير أنى جودار، فإن الأسلوب
البصرى يبدو حميمياً، لكن شريط الصوت (سواء كان همسات مسموعة، أو أصوات التنفس، أو
موسيقى فرقة التندرستيكس ذات النغمات الروحية التى تصيغ الفيلم) فإن شريط الصوت
يمنح أفلامها خاصية الإحاطة ثلاثية الأبعاد، فأنت عندئذ تكون امام فيلم لكلير
دينيه، وحتى ولو لم تكن تعرف تماماً ما الذى يحدث.
فى فيلم "الدخيل" يحق للمرء أن يتفاجأ من
جريمة القتل: ولكنه يظل واعياً بالدوافع التى قادت لجريمة القتل، وفى فيلم
"معاناة العاشق" تقفز القصة بينما يتذكر "جالو" – شخصية
الفيلم المحورية – مغامراته فى الفيلق الأجنبى.
ولكن الفيلم يكاد يعتمد على الفكرة التصنيفية للفلاش
باك، ويتأرجح الفيلم بين كادرات فى أزمنة مختلفة بدون معالم واضحة، كما لو أنها تنطلق من تاملات
"جالو"، كذلك فإن المعانى تتداعى، ومشهد رقصة الفيلم الختامية تغلف
التناقض الرئيسى للفيلم بصورة جيدة: إيقاع تمارين واعمال الفيلق أثناء النهار،
وإيقاع الليل، تُغلف أغنية "كورونا".
8- ونج كار وى
ثمة تشابهاً بين المخرج ونج كار وى وبين المخرجة كلير
دينيه، فالمخرج المؤلف الهونج كونجى مهتم جداً بإيقاعات الجسد التى يتم تصويرها بالمصور
كريس دويل، وكذلك فى إستخدام الموسيقى
لتغلف المود والإحساس. فأغنية "الماماس والباباس" وكذلك أغنية
"التوت البرى" مهمان جداً فى فيلم "تشانكنج إكسبريس" وموسيقى
مايكل جالاسو وأغنيات نات كينج كول جوهريان فى فيلم "فى حالة حب".
كل من كلير دينيه وونج كار وى مخرجان يوظفان غالباً الروح
الشبابية المنطلقة وهذا يمكن ان يجعل أفلامهما تظهر أكثر حداثة من مخرجين مثل بيلا
تار والكسندر سوكوروف، كلير دينيه وونج يوفران منتجاً ثقافياً كعاشقين للسينما
معتدلين، لكن هذا لا يجب ان يؤخذ عليهما: انهما، وكما يتصادف أحياناً، يستكشفان
المواقف التى تناسب طموحهما التمثيلى جيداً.
الأجسام الجميلة فى الفيلق فى فيلم "معاناة
العاشق" السحر الشبابى لفينسنت جالو وزوجته فى فيلم "مشكلة كل
يوم"، طاقة الإندفاع للشخصيات فى فيلم "تشانكنج إكسبريس"، واناقة
الشخصيتين الرئيسيتين فى فيلم "فى حالة حب"، كل هذه المظاهر ذات جاذبية
تمثيلية.
فلديهم أجسام وملابس قد تلتقى مع تصور المرء عن الانا،
وفى هذا السياق، فإن الشخصيات فى عالم بيلا تار، على سبيل المثال، لا تستطيع
بسهولة أن تتأقلم مع الموضة، إنهم على النقيض تماماً، بينما معظم شخصيات مايكل
هانيكه كارهون جداً أن يرتقوا إلى مستوى الشخصيات القدوة.
ما يجعل المخرج حديثاً ليس حداثة التمثيل، او التصور عن
الأنا التى يمكن ان تمثلها شخصياتهم، ولكن المعيار هو الأصالة الجمالية، ونج وكلير
دينيه فى هذا السياق مهمان مثل أهمية بيلا تار ومايكل هانيكه. حيث المخرجان المجرى
والنمساوى يوفران جماليات اللقطة المشهد المتقشفة والتى تحافظ على مسافيتها، بينما
ونج وكلير دينيه يبتدعان سينما أكثر حميمية تُصور حركة الافعال، كما ان الكاميرا
تقترب من الوجوه لتحصرهم فى اللقطات المُقربة.
وعلى حين تستخدم كلير دينيه الصوت من خارج الكادر
أحياناً، فنفس الحال نجده من ضرورات أفلام ونج، مثل شخصية "يلدى" فى
فيلم "أيام البرية" الذى يتساءل بينما يرقد محتضراً، ما هى أهم لحظة فى
حياته، والشرطى رقم 223 فى فيلم "تشانكنج إكسبريس" يتأمل حبه لفتاته
السابقة. هذا يوفر بُعداً عاطفياً وتعاطفياً من مخرج العمل: كما لو أن الشخصيات لا
تستطيع أن تتفاعل مع العالم كلية إلا إذا كان هذا من خلال أفكارهم ومشاعرهم التى
يؤمنون بها.
أحياناً يتداخل هذا مع حديث الشخصية إلى نفسها، مثل
الشرطى رقم 663 الذى يُعلق على ملابسه الرديئة فى فيلم "تشانكينج
إكسبريس" : وأحياناً بتشغيل موسيقى عاية جداً حتى أن الشخصية لا تستطيع سماع
ما تقوله أى شخصية أخرى – مثلما نلاحظه أيضاً فى فيلم "تشانكينج
إكسبريس" عندما تُشغل "فاى" أغنية "كاليفورنيا تحلم"
بدون إنقطاع أثناء عملها فى كشك الوجبات السريعة.
لكن وونج مغرم أيضاً بتداخلات الأزمنة فى قصة الشخصية،
وخاصة خلال شخصية "يودى" فى فيلم "أيام البرية" وفيلم
"مستر تشو عام 2046" فالبنسبة لشخصية "يودى" فهو تتملكه الأفكار
عن أمه التى تركته عند ولادته، وبالنسبة ل "تشو" فالعلاقة ربما تكون
متضمنة وربما لا (والتى تشكل القصة فى فيلم "فى حالة حب").
9- ديفيد لينش
كان ثمة وقت اُعتبر فيه ديفيد لينش أيضاً مخرجاً لسينما
السينفيلا: أفلامه كان من المعتاد ان تظهر على أغلفة مجلات الأزياء مثل مجلة
"فيس" وكان ذلك فى اواسط الثمانينات وبداية التسعينات، وتزامناً مع عرض
فيلمه "الأزرق المخملى" وفيلم "البرية فى القلب"، وأيضاً
وبالطبع بسبب الحضور لسلسلة أفلامه التليفزيزنية المسماه "توين بيكس"،
فديفيد لينش يقدم نفسه بصفته مخرجاً مُخضرماً عظيماً.
بدلاً من قص ملابسه لتناسب الموضة، فهناك رؤية فنية
واحدة يحافظ عليها منذ أول أفلامه الروائية المعنون "رأس الممحاة"
وصولاً إلى آخر أفلامه المعنون "إمبراطورية أرضية"، إنه مهووس بالجسد
كماكينة لا تعمل، أفلام هذا المخرج الأمريكى تفتقد السيطرة نوعاً ما لأن شخصياته
لا تتبع القواعد والأعراف فيما يخص السلوك المبنى على دافع، ولكنه غالباً يظهر
بدلاً من ذلك كسلوك خاطئ أو غير متسق.
فى فيلم "رأس الممحاة" وفيلم "الرجل
الفيل" وفيلم "الكثبان" فإن التركيز يكون على السلوك الخطأ: بينما
فى فيلم "الأزرق المخملى" و فيلم "البرية فى القلب" وفيلم
"الطرق السريعة المفقودة" فإنه يركز على السلوك الغير متسق.
فى فيلم "الرجل الفيل" نجد الزوائد القبيحة
البشعة وهى تخرج من راس جون ميريك، وفى فيلم "الكثبان" نرى البثور لبارتون هاركونن، وفى آخر أفلامه
فإن الشخصيات أكثر إضطراباً من الناحية النفسية، وإن كانوا من الناحية الجسدية على
ما يرام نوعاً ما. مثل شخصية فرانك بوث فى فيلم "الأزرق المخملى"،
وشخصية بوبى دو بريز فى فيلم "البرية فى القلب"، وشخصية مستر إيدى فى
فيلم "الطرق السريعة المفقودة"، فجميعهم متجمدون بصورة كبيرة أكثر من
كونهم كيانات آدمية، كذلك فنحن لا نعرف على وجه اليقين كيف نتقبلهم.
يتحول بوث من الحب إلى الكراهية فى ثوانى، وفى فيلم
"الأزرق المخملى" عندما يتلقى جيفرى – الشخصية المحورية – ضربة مصحوبة
بقبلة، وبوبى دو بريز فى فيلم "البرية فى القلب" يٌجبر لولا على الجنس
وبعدئذ وفى اللحظة الأخيرة يتراجع فى معاناة وخوف عما بدر منه. مستر إيدى يفقد
أعصابه ويحتفظ برباطة الجأش وهو يطلق نار مسدسه على شخص يقف عند علامة من علامات
الطريق.
إذا كانت التشوهات فى أفلامه الاولى تعنى أن الأمر ليس سهلاً أن نعرف أين نضع أعيننا، ففى أفلامه الاخيرة فنحن لسنا متأكدين أين نضع توقعاتنا.
إذا كانت التشوهات فى أفلامه الاولى تعنى أن الأمر ليس سهلاً أن نعرف أين نضع أعيننا، ففى أفلامه الاخيرة فنحن لسنا متأكدين أين نضع توقعاتنا.
ما يبقى ثابتاً فى أفلام لينش، هو أن العالم ليس مكاناً
عقلانياً، واهميته فى الألفية الجديدة تكمن جزئياً فى تناوله للعديد من الأفكار
الهيتشكوكية وقلبها رأساً على عقب: فى إتجاه الامنطق أكثر من المنطق.
ومثلما قارن العديد من النقاد بين هيتشكوك وبين الفيلسوف
الإسكتلندى ديفيد هيوم، وبين شغف هيوم بالعلاقات التى تكون خارجة من سياقها، كذلك
أفلام ديفيد لينش غالباً تجعل من المستحيل القبول بمعطيات العلاقات، وبتعبير آخر، إذا
كان هيتشكوك عبقرياً فى جعل أفلامه شديدة الجودة فى منطقيتها حتى أننا نسنتنج من
هو القاتل بدون لبس فى فيلم "النافذة الخلفية" ونحن نعرف ذلك قبل أن
يتوفر لنا شئ مؤكد، وفى أى نقطة سيجب على البروفيسير ملاحظة ماذا يكون فى الحبل،
وهذا لأن هيتشكوك يتوقع منا أن نعمل عقلنا جيداً ونستجلى ما يحدث.
دعونا نفكر فى تلك اللحظات من أفلام هيتشكوك عندما تدور
الطاحونة بطريقة خاطئة، وعندما لا يناسب المفتاح الباب، أو حتى عندما تسبق
الكاميرا الحدث، الكاميراالتى تتقدم بإندفاع قرب نهاية فيلم "الشمال والشمال
الغربى" تخبرنا أن أناساً مُعينين لا يؤتمنون وأن راحة روجر وهناه سوف
يتدمران قريباً، وعندما تتقدم الكاميرا ناحية المال فى فيلم "سيكو" فهذا
يخبرنا أن ماريون سوف ينزل بالمال، يخلق هيتشكوك وعياً عند الجمهور الذى سينشغل
كلية لحل الألغاز والتلميحات.
ديفيد لينش على العكس مع التوقعات، ويطلب منا أن نبقى فى
حالة ثابتة من الإرتباك المعرفى والتكثيف العاطفى، عندما تتقدم الكاميرا إلى
التليفون فى فيلم "الطرق السريعة المفقودة"، فهذه ليست المرة الثانية
التى على الجمهور ان يخمن المشكلة، ولكن المعاناة مع صورة غريبة بينما الشخصية
المحورية يحاول أن يتقرب من حبيبته، بينما ماريون يُقتل فى الحمام ويختفى من
الفيلم، على حين أن فريد ماديسون يختفى بعد أن يتحول إلى شخص آخر فى زنزانة سجن
بعد قتل زوجته.
الجريمة فظيعة فى فيلم هيتشكوك ولكنها ليست هراءاً على
الإطلاق، بينما فى فيلم ديفيد لينش فإن التحول إلى شخص آخر يبقى عصياً على التفسير
المنطقى، وفى فيلم "أتصل تليفونياً ب إم" وبالنسبة لجريمة القتل فإن
هيتشكوك يكشف لنا عن تونى وينديس يرتب لقتل زوجته، بينما فى فيلم "مولهولاند
درايف" فإن الممثلة الفاشلة ديان تُصاب بضربة من منافستها فى فيلم ديفيد
لينش، وعلى الرغم من ذلك، نجد القصة لا تستند على هذا الفعل.
وهذا يحدث فى وقت لاحق ويوفر الفيلم اسلوب السرد الإنكشافى
جزئياً ما يعنى أن ثمن الضربة دُفع كاملاً فى عالم موازى حيث ثمة علاقة بشخص هو قاتل
محترف تم استئجاره، وكما فى فيلم "الطرق السريعة المفقودة" هناك حالات
وتأثيرات، لكنهم ليسوا مترابطين مع بعضهم بعضاً بطريقة منطقية كما فى أفلام
هيتشكوك، ولكن الترابط يتخذ شكلاً غير منطقى، فعلى سبيل المثال فى فيلم
"الطرق السريعة المفقودة" يُنصت بت ديتون إلى الراديو، فيسمع عزفاُ لآلة
السكسفون التى سمعناها سابقاً والتى يؤديها فريد ماديسون.
تبدو شخصية ديتون كما لو انه أصبح فى زنزانته، ويستطيع
ديتون التعرف على الموسيقى موحياً بأنه هو الشخص نفسه، حتى ولو لم يقر أى شخص بهذا
الأمر، فكل شخص يرى ديتون كما لو كان شخصاً واحداً، وليس الشخص الذى تتملكه روح
شخص آخر.
هذه ليست قصة تقليدية عن الإستحواز مثل فيلم "طارد
الأرواح" او فيلم "الفأل" كما يرفض ديفيد لينش القبول بلامنطقية ما
نجده متملكاً فى الحياه، وهذا يوفر أيضاً نوع من المنطقية فى الخيال، ويصر ديفيد
لينش على أننا لن نقبل باللامنطق سواء فى شكل واحد أو آخر، و هذا يُضاف إلى الصدمة
الإدراكية.
هذه النوعية لا يجب تجاهلها فى السينما الأمريكية التى
عادة لا ترحب بالغموض الصرف، وكما يقول ديفيد بوردويل فى كتاب "الطريقة التى
تحكى بها هوليوود" "الأفلام ذات الغموض الصرف نادرة فى السينما
الأمريكية.... وربما ديفيد لينش هو الوحيد الذى يُخرج هذه النوعية"
10-
هو هسياو هسين
يعتبر "هو هسياو هسين" على النقيض من ديفيد
لينش من عدة وجوه، لكنه يظل مخرجاً محيراً أيضاً، إذا كشف ديفيد لينش عن شخصية
تتحول إلى شخصية أخرى، فالمخرج التايوانى هو هسياو هسين يجعل من الصعب أحياناً
تمييز شخصية عن الاخرى، فروبين وود يعترف بأن كتابة فيلم "أزهار شنغهاى"
كانت تجربة صعبة.
فمخطط الفيلم فى الواقع تم عمله بمهارة كبيرة حتى أن
الأمر يتطلب مشاهدة الفيلم ستة مرات على الاقل، (بالإضافة إلى أعادة المشاهد واللحظات
الفردية أكثر مما استطيع حصره)، لفصلهم عن كل تفاصيل الإدراك" (سين أكشن) هذا
لأن هو هسياو هسين لا يميز بقوة الشخصيات فى علاقتها بالسلوك والملابس، ولكنه
أيضاً يعرض غالباً أحداثاً من وضع لا نعتاد عليه، او مع إشارات غير محددة وشخصية تتبدل
يتم تصويرها بالطريقة التى تجعلها ضبابية أكثر منها واضحة.
فعلى سبيل المثال، فى أحد مشاهد فيلم "وداعاً أيها
الجنوب، وداعاً" ينهار رجل عجوز فى الخلفية، لكننا نكون مُركزين على مقدمة
اللقطة، وهذا الأمر يتطلب وقتاً قبل أن ندرك ما حدث.
وفى مشهد آخر تتجادل شخصيتان، لكننا لا نرى وجه أى
منهما، فأحدهما يقف فى مواجهة الثانى، والكاميرا تصورهما من خلف هذا الشخص، وكتب
كيفن بى لى أنه عندما كتب إشادة عن فيلم "مدينة الحزن" لهو هسياو هسين
فى أحد المنتديات، إحتج أحد المشاركين فى المنتدى بأن الفيلم غامضاً ومُملاً.
كما يتوالى النقاش فى المنتدى على النحو التالى "
الظهور المتميز بين نوعين من الأفلام: الأول نجد فيه الفيلم يدور حول المُشاهد،
والثانى يدور فيه المُشاهد حول الفيلم، وانا أقدر أن من 80% إلى 90% من الأفلام تم
صناعتها بناءاً على الفرضية الأولى، أما فيلم "مدينة الحزن" فإنه يتبع
الفرضية الثانية بدون لبس، ففى الواقع، إنه واحداً من أفضل الأمثلة التى أعرفها عن
الفيلم الذى يبدو موجوداً بصورة مستقلة عن المشاهدين، فهو مُكتفى ذاتياً فى تعاطيه
الخاص لزمن ومكان محدد" (اللقطة العكسية)
فيلم هو هسياو هسين يبدو غامضاً بصورة كبيرة، ولأسباب
عديدة مختلفة. الفيلم غالباً له خصوصية تتجاوز المشاهدته العابرة، فمستوى الإضاءة
منخفض جداً حتى أنه من الصعب التعرف على الشخص الذى نشاهده، بينما وضع الكاميرا
يمكن أن يترك المُشاهد غير متأكداً مما يحدث، وغير مُتهيئأ للأحداث التى تدور.
قرب نهاية فيلم "وداعاً أيها الجنوب، وداعاً"
تندلع معركة، ولا نتفاعل معها بسبب وجود القليل من وسائل التوتر التى تًوظف عادة
لجعلنا مستعدين للتفاعل.
على أية حال، وعلى الرغم من أن "لى" يقدم
تفريقاً مفيداً بين الأفلام التى تتوجه إلى الجمهور، والأفلام المكتفية ذاتياً،
فإن ديفيد يوردويل ربما يحتج على هذا التصنيف، فهو يرى فى أفلام "هو هسياو
هسين" صعوبة بالتأكيد، لكن صعوبة الإنتاج هى فقط التى تجعل المُشاهد يجتهد
أكثر من المعتاد.
وعلى أية حال، يتحدث بوردويل عن هو هسياو هسين بأعتباره
:- "يعتمدعلى الجمهور العالمى"،
ويعتقد بأن بعض مطالب الإنتاج للمخرجين تأتى ليس من تجاهل المُشاهدين، ولكن بإيجاد
نوع معين من الجمهور. "فالأمر يبدو كما لو أن إعتماد هو هسياو هسين على
الجمهور العالمى، أكسب أفلامه أيضاً قيمة فيما تحويه من فكر" من كتاب (أشكال
مرصودة فى الضوء).
وعلى أية حال، يقول فيرجوس دالى أن أفلام هو هسياو هسين
لا تهتم بالتلاعب بتصورات الجمهور، لكنها تبحث بقوة عن الكينونة، وهو يصر على
أربعة قواعد فى أفلام المخرج: أن الذاكرة التاريخية ليست شخصية، وأن الذكريات لا
تتعلق بى، وان مركز تركيز اللقطة دائماً ينحرف عن الهدف، واننا نُمنح مجموعات من
العلامات والمؤثرات نحصل عليها من خلال الضوء" ( عن الصيغ الأربعة الركيكية
التى تُلخص أفلام "هو" الشعرية). هذه الأنطولوجيا تمنح الفيلم شكلاً،
وطريقة للنظر إلى العالم حتى نجد أسلوباً نستطيع به الإحاطة بهذا العالم.
إذا كان فيلم " لاعب الدمى" يتعامل مع الذاكرة
كعملية تاريخية للشخصية التى تحمل إسم الفيلم وهو يمر خلال التاريخ، فهو شخصية
تتأرجح فى الزمن، ويكون مطلوباً منه فى أحد المراحل أن يوفر عرضاً دعائياً بالدمى
فى أثناء الحرب، بعدئذ وفى فيلم "أزهار شنغهاى" نجد الفيلم يتعامل مع
الشخصيات كبقع من الضوء، تبين وتختفى ليس لأنهم داخل أو خارج الكادر، ولكن لأن توزيع
الإضاءة يسمح لهم أن يبينوا بوضوح أو يكونوا مختفيين.
بينما يقول بوردويل " مجتمع المهرجانات السينمائية
يتوقع من المخرجين المؤلفين أن يعرضوا أسلوباً متميزاً (أو كما يقول المتشائمون-
ماركة تجارية مُسجلة) وهو هسياو هسين لا يخيب ظنهم"، بينما فيرجوس دالى يجسد
المعنى على نحو أدق قائلاً أن هو هسياو هسين لا يبتدع فقط علامته التجارية، لكنه
يوفر الفرصة لإستكشاف أسلوباً للنظر إلى العالم ينكره الشكل المعتاد للسينما.
وبوردويل شديد التميز فى تحليل هذا الأسلوب، فهو يقول عن فيلم "لاعب
الدمى" على سبيل المثال "إنه يتناقض مع دلالات الإضاءة الثلاث: فالضوء
الناعم عادة ما يغلف ضوء النهار فى لقطات الطبيعة، واللون البديع لعروض الدمى: حيث
الديكورات تبدو داكنة ومشبعة" لكنه أقل إهتماماً ببحث مدلول ذلك، بينما
فيرجوس دالى يريد أن يلمح إلى معنى أنطولوجى فى استخدامه لمثل هذا الإسلوب.
كل هذا جيد بالنسبة للناقد لكى يقول مثلما قال بوردويل
"اللعب على الفروق الطفيفة يمكن الاستدلال عليه فى التوجيه الدقيق للممثلين
الذى يفعله هو هسياو هسين، فى أوضاعهم خلال تطور المشهد، وغالباً فإن مسألة
الديكور والإضاءة لا يكون لهما أهمية بمقدار أهمية الإيماءة..." إنه من
المفيد جداً فهم بعض من خيارات هو هسياو هسين الرئيسية، لكن هذا يجعل الأمر شديد
الصعوبة على المُشاهد، كما لو كان كلمات متقاطعة لا يمكن حلها بحلول بسيطة فالأمر
يتطلب حلولاً معقدة؟
وربما من المفيد أكثر أن نرى هو هسياو هسين ليس فقط
كمخرج مهتم بالطريقة الأكثر تعقيداً فى حكى قصة، ولكن أن ننظر إليه بإعتباره يهتم
بالقصة أقل من إهتمامه بالمواقف.
عندما قال "أنا دائماً أفضل الفعل الذى يخفى نفسه –
أو أفضل الفعل الذى يُعلن عن فعل آخر"، وهذا يمكن أن يساعدنا فى فهم الحدث
ليس بوصفه وحدة معلوماتية فى مقابل القصة، ولكن بوصفه تجسيداً للموقف.
كل مشهد فى أفلام هو هسياو هسين هو أحداث أكثر من كونه
وحدات، وهذا يساعد فى تفسير الصعوبات التى تتولد، نحن فى القصة عادة ما نُلقن
بوضوح ما نتوقعه، وأين ستوصلنا الوحدة السردية فى الرواية، لكن فى افلام هو هسياو
هسين فهذا الأمر غير واضح، وكما يقول بنفسه والإشارة إلى كلامه مأخوذة من كتاب
"أشكال مرصودة فى الضوء"، فهو يقول "اللقطة المشهد تبدو بالنسبة لى
أكثر الأشكال مناسبة لمعالجة أى لحظة
بطريقة منفصلة ومستقلة".
11- عباس كياروستامى
وبينما يُقر هو هسياو هسين بأهمية الفعل الذى يخفى نفسه
والذى يكشف عن فعل آخر، نجد عباس كياروستامى مُغرماً بحجب الفعل والتغاضى عن
نتائجه، فى فيلم "ستحملنا الريح جميعاً" تحمل سيارة أناس من المدينة وهم
فى طريقهم إلى قرية صغيرة لسبب غير واضح، ومعظم الناس الموجودين فى السيارة يظلون
خارج الكادر طوال الرحلة، كما ينطبق نفس الحال مع عدد من الشخصيات الأخرى.
وقرب نهاية الفيلم فقط فإننا نتعرف على ما تفعله الشخصية
الرئيسية فى القرية، المهمة التى ذهب هناك لكى يُنجزها تصبح غير مهمة مقارنة
بأشياء أخرى، وخاصة الطريقة التى يتعامل بها مع الناس فى القرية والطريقة التى
يتعامل بها الناس معه، وفى فيلم "وتستمر الحياة" نجد مخرجاً وإبنه
يحاولان أن يذهبا إلى القرية التى سبق للمخرج أن أخرج عنها فيلماً من قبل، والتى
شهدت زلزالاً، ولا يُركز الفيلم على الوجهة ولكن على الرحلة.
وإذا كان هو هسياو هسين غالباً ما يعرض تعقيدات الحدث
بتلاعب معقد بالضوء والظل، ومقدمة اللقطة وخلفيتها، والأحداث التى تبدو أنها تخفى
أحداثاً أخرى، فإن كياروستامى ليس أقل منه كمخرج متجاوز ولكن لأسباب مختلفة،
وبينما الحدث أكثر أهمية من القصة فى أفلام هو هسياو هسين، فإن الرحلة فى أفلام
عباس كياروستامى أكثر أهمية من الوجهة.
فأفلامه فى الغالب الأعم تجرى أحداثها فى سيارات مثل
أفلامه "وتستمر الحياة" وفيلم "طعم الكريز" وفيلم
"عشرة"، ودائماً ما تتعلق الأفلام بأناس يحاولون الوصول إلى وجهة وأن
هدفهم سيتم إحباطه بطريقة أو بأخرى مثل فيلم "وتستمر الحياة " وفيلم
"أين منزل الصديق" وفيلم "المسافر"، ومثله مثل هو هسياو هسين
يريد منا عباس كياروستامى أن نتعامل مع القصة بدون جدية كبيرة، لأن ما يهم أكثر من
متابعة المعلومات المنتقاة التى تقود إلى نهاية روائية هو تضارب الإحتمالات
المحيطة بالمعلومات التى يوفرها.
وهذا يجعل القصص موجودة فى أفلامه، على الرغم من إنه أخرج
أكثر من فيلم تجريبى، مثل فيلم "خمسة"، فأفلامه فى الغالب تحتوى على
حبكات درامية نستطيع أن نسردها، فى فيلم "أين منزل الصديق" يريد صبى أن
يُعيد دفتر الواجب إلى صديقة، وفى فيلم "طعم الكريز" يريد الشخصية
الرئيسية أن ينتحر ويبحث عن الشخص الذى سيدفنه بعد موته، وفى فيلم
"المسافر" يريد طفل صغير أن يحيط بلعبة كرة قدم.
وعلى أيه حال، فما يمكن أن نحصل عليه من إجابات على
الأسئلة يبدو قليلاُ جداً، فالأفلام تهتم أكثر بحالة السكون والمتابعة، كما لو أن
عباس كياروستامى يريد أن يستخدم الشكل السينمائى لكى يسأل أسئلة حول مكاننا فى
العالم، فأفلامه فى كثير من الاحيان تستطرد فى حوارات فلسفية مثل فيلم "خلال
أشجار الزيتون" أو مناقشة عن الإنتحار كما فى فيلم "طعم الكريز" أو
الإستغراق فى اللقطة التأسيسية لجمال الطبيعة أكثر من اللازم بدءاً بفيلمه
"أين منزل الصديق" وحتى فيلمه "ستحملنا الريح جميعاً".
12- خاتمة
السؤال الملح بالنسبة للكثيرين المهتمين بالسينما فى
مطلع القرن الحادى والعشرين وكما نوهنا عنه عندما تحدثنا عن بيلا تار، ما هى
السينما؟ أهى فى الميل إلى صُنع الأفلام الديجيتال بديلاً عن أفلام السلولويد،
والإتجاه إلى عرض الأفلام عروضاً تبدو كما لو كانت معارضاً فنية تجعل الفرق بين
السينما والفن التشكيلى يختفى؟، ما الذى يمكن أن نسمى به السينما فعلاً؟
وكما أشار كريس ديركون فى مقالة منشورة عن فيلم
"دوار" لهيتشكوك نُشرت فى عام 2002، بعناون " إستكشاف
المستقبل" حيث كتب "التعبيرات السينمائية خلال الخمس سنوات الماضية
والتى وجدت طريقها فى المعارض الفنية وعروض البينالى والمناسبات الأخرى حول العالم
تكشف عن شكل مًتشدد مختلف عما كان موجوداً من قبل: من تجارب فنانى الطليعة مثل
أنجر و كونر وديرين وشارتيس وسنو – وأفلام الفيديو للفن الطليعى لنيومان وهيل
وفيولا" ويُضيف كريس ديركون " الأعمال الفيديو التى صنعها فنانون شباب
مثل بيير هايجه، أودوجلاس جوردون، أوشارون لوكهارت، أوبيير بيسموث، أومارك لويس، أوجورجينا
ستار، أوماثيو بارنى، أوستان دوجلاس، أو سام تيلور وود، فهى محاكاة بدائية للسينما
أو لنظمها الإنتاجية، "وعلى أيه حال، ليس المهم عدد المخرجين الذين أشار
إليهم كريس ديركون الذين إستوعبوا السينما أو أخرجوا أفلاماً أو حققوا مكانة، هل
يمكن لهم أن يدعوا ضمن المفهوم السينمائى أنهم مساوون للمخرجين الذين إخترنا أن
نركز عليهم فى هذا الكتاب؟
هل يتملكهم الإهتمام بالسرد والتشكيك فيه فى نفس الوقت
من حيث مدته، فالأفلام المعروضة على شاشات السينما يمكن أن تجبرنا أن نكون واعين
بتأثير حالة الإستحواز فى تجربة المشاهدة؟ أن نمضى 20 دقيقة فى مشاهدة فيلم لبيلا تار بنفس طريقة مشاهدة بعض اللوحات
فى مكان آخر فى معرض فن تشكيلى ليس شبيهاً تماماً بوقت مشاهدة فيلم "تانجو
الشيطان" الذى يدوم أكثر من سبعة ساعات.
تجربة السينما تجعل الوقت أكثر حضوراً فى مروره لأننا لا
نشعر أننا نستطيع أن ننهض فى أى لحظة ونغادر صالة العرض السينمائى لكى نتطلع إلى
شئ آخر، وعلى الرغم من أن الكثير من المخرجين فى مطلع هذا القرن ليسوا سعداءاً
بالشكل التقليدى والإحساس، فإنهم فى عمومهم مازالوا مهتمين بالسينما كفن يتم عرضه
فى فضاءات دور العرض السينمائى.
ربما الطريقة الوحيدة لتوضيح الأمر، هى أن نرى السينما
كمكان نحصل فيه على مقعد، بينما معرض الفن التشكيلى فإننا نراه فرصة لكى نسير
بإستمرار، فى السينما بشكل عام تتحرك الصورة بينما نحن ساكنون، وفى معرض الفن
التشكيلى فإننا نتحرك بينما القطع الفنية تظل فى مكانها، وهذا بالطبع واحد من
الأشياء التى تتلاعب بها الأفلام التى تتناول المعارض التشكيلية، لكن ما يقع عليه
إختيارنا لكى نستكشفه هنا هو الأفلام التى لازالت ترى السينما بالأساس كمكان نجلس
فيه، حيث تنغلق الأبواب وتتلاشى الأضواء، والبعد الزمنى فى نهاية المطاف يخص
المخرج ولا يخص المُشاهد.
والسؤال هو هل السينما فى هذه الحالة هى أكثر الفنون التى
تتجدد فيها الصورة والذات؟