دراسة:- تونى مكيبين
ترجمة:- ممدوح شلبى
لا يُخرج ألكسندر سوكوروف الأفلام أساساً كموضوعات
للتأمل، لكن أفلامه دائماً تولد فضاءاً تأملياً يوحى بالحرية فى الفكر وهى نفس
الحالة التى يجد فيها الشخص نفسه عندما يقف أمام لوحة فنية: ونفس الحالة عندما
يستدعى الإنسان أفكاره وهو فى حالة إستماع إلى الموسيقى.
لا نريد على أية حال أن نُبالغ فى هذه الحرية، ومن المهم
أيضاً ألا نقلل من أهمية الحرية.
فكرة سوكوروف عن السينما انها شكل فنى يحتل مكاناً منخفضاً،
"الأفلام لا يجب عليها تكون مُتطفلة ومفروضة قسراً، يجب على الأفلام أن تكون
متواضعة وأن تظل فى مكانها فى هيكل الثقافة العالمية، وهو مكان منخفض فى الأسفل،
فالقمة يحتلها الأدب والرسم والموسيقى والعمارة والعلم ..إلى آخره" ( من مجلة
" Senses of Cinema ").
نحن لا نحتاج أن نوافق على ما يقوله سوكوروف الذى يريد
أن يجد الحجة فيما يتعلق بأفلامه، عندما يُضيف قائلاً "الشكل البصرى يمكن أن
يُدمر كامل عالم الإنسان الداخلى"
ونستطيع أن نرى ذلك
فى إصراره على أن تخلق أفلامه فضاءاً للفكر يبحث فيه المخرج عن وسائل يمكن
بمقتداها الإرتقاء بالسينما من طبيعتها كفن ترويحى بصرى.
وعلى الرغم من أن الكثير من كتب تعليم السينما تتحدث عن
الأهمية البصرية للسينما على حساب الحوار، فالحاجة إلى أن نرى أكثر من الحاجة إلى
الكلام، لعل سوكوروف يرى هذا كجزء من مشكلة السينما وليس جزءاً من حل مشكلتها.
عندما حلل أستاذ السيناريو المُبجل ويليام . سى. مارتيل
لحظات معينة من فيلم "دوار" لهيتشكوك، فإنه قال "لا يوجد أى حوار
فى أى مشهد من المشاهد الثلاثة، ومع ذلك فهى مُفعمة بالعاطفة.
إنها تكشف لنا ما تشعر به شخصية ستيوارت، عندما يحوم حول
المكان خارج مكان "إيرنى" فنحن نعرف أن قلبه يدق ولم يكن فى حاجة لأن
يقول كلمة واحدة" (من كتاب "أسرار السيناريو").
إنها لحظات – كما فى الكثير من أفلام هيتشكوك- حيث
يتلاعب المايسترو هيتشكوك بالصورة على حساب الحوار، لكننا لا يجب علينا أن نبالغ
فى هذه البلاغة فى التعبير، لان هيتشكوك يستخدم موسيقى برنارد هيرمان فى شريط
الصوت لكى يجعل ما يشعر به ستيوارت واضحاً ومفهوماً.
وهذا ما صاغه آدام مارس جونز ببلاغة فى صحيفة الجارديان
حيث كتب ما يلى "موسيقى الفيلم كما يتوجب أن نفهمها، هى مثل الصديق الذى يتمم
الجُمل من أجلك.
" فيلم "دوار" عظيم، ليس لأنه يجعلنا
نُشاهد أكثر مما نسمع، ولكن بسبب طريقته فى ما نراه وما يُقال: عندما يرى سكوتى
ماديلين فى المطعم، فهذا شيئ نراه ونسمعه، إنها صورة مسموعة كما أنها تساعد فى
إتمام جُملنا من أجلنا.
ربما تكون مشكلة سوكوروف مع السينما هى أنها تجد الكثير
جداً من الطرق التى يمكن بها إتمام جُملنا، سواء تصادف أن تُلخص أحداث القصة التى
ستحدث، أو بأن كان الحوار شارحاً، أو من خلال لقطات رد الفعل أو من خلال الموسيقى
المٌنبعثة من شريط الصوت.
كيف يمكن للسينما بالكثير من الحرفيات البسيطة أن تُصبح
شكلاً فنياً كبيراً؟.
إنها تفعل ذلك بشكل أساسى من خلال التواصل أكثر من الإتصال،
من خلال طرح أسئلة للمُشاهد أكثر من الأجوبة المُعدة.
عندما يُصر سوكوروف بأن "الفيلم لا يحتاج إلى
مُشاهد، المُشاهد هو من يحتاج إلى الفيلم"، ( من مجلة " Senses of Cinema ")، فهذا يتوافق مع نظرية جمالية تطلب من المُشاهد أن يدخل فى
التجربة أكثر من أن يجلس وينتظرها.
ولكى نفهم نظرية سوكوروف الجمالية أفضل، دعونا نفكر
أولاً فى ثلاثة من أفلام هذا المخرج: وهم القسم الأول من فيلم "أصوات
روحية"، وفيلم "الأم والإبن" وفيلم "مولوك".
سوكوروف فى الفيلم الأول يبدأ بالتأمل فى حياة موتسارت،
مُفسراً كفاحه وعبقريته وقبحه، بينما الصور الشتوية فى الخلفية تتغير بطريقة غير
ملحوظة فى القسم الذى يستغرق 40 دقيقة.
" إنه – يقصد موتسارت- حقق البراعة وموسيقاه شاهدة
على ذلك، إنها موسيقى آسرة ومحبوبة على مستوى العالم، إنها تُذكرنا بالمًصاب الجلل
الذى حل بالموسيقى بعد وفاته".
هذا هو الصوت من خارج الكادر الذى يُلمح إلى الصدق فيما
يقوله، لكن تقديم هذا الصوت بنبرة إستجداء يؤدى إلى عكس ذلك.
فى حين أن جميع صوره لا تتغير كثيراً طبقاً لضبطها: مثل
تغيير الضوء فى كل الفقرة، أوعندما يعبر قطار فى عمق اللقطة وهكذا.
يوحى شريط الصوت بالتركيز المطلوب فى الراديو، وما
يسترعى إنتباهنا فى الصورة أنها تبدو مثل اللوحة المرسومة، السينما فى عمومها تبدو
"كصديق" يُتمم جُملنا، أما أفلام سوكوروف فهى بدلاً من ذلك تبدو كدعوة
إلى حوار.
وسواء طلب منا أن نستمع بدقة إلى موسيقى موتسارت، وتكلم
عن الإختلاف بين موتسارت وبين المؤلف الموسيقى الحداثى مثل "مسيائين"، وعلى
هذا النحو فإن الفيلم يناشدنا ولا يُملى شيئاً علينا.
عندما نستمع إلى موتسارت هنا، فهذه دعوة لسماع الموسيقى،
وليست أمراً: كما أن الصورة تتغير بعض الشيئ، كما لو أنها تطلب منا أن نأخذ وقتنا
للتفكير فيما نراه أمام أعيننا كما لو أنها تُشير إلى الأفكار وراء عقولنا.
هذا التواصل بدلاً من الإتصال يتم التعبير عنه عندما
يقول سوكوروف فى حوار جميل مع كيريل جالتسكى أن الذى يراه "سينما ليست وسيلة
إتصال، بل سينما بمثابة حياة أخرى" (Cineaste,
xxvi, no3)
وفى فيلم "أم وإبن" يركز سوكوروف على أم تموت،
عمرها الزمنى ليس مُحدداً كما انها تنال الرعاية من إبناءها، ويعرض الفيلم موتاً
حزيناً وجليلاً، الفجوة بين الإنسان والطبيعة تتلاشى عندما أنجز سوكوروف الموت. قد
تكون صيغة غريبة لكن وبينما تعرض كل الأفلام الأخرى موت شخصية، فإن المخرج الروسى
سوكوروف يتمكن من تصوير موت إنسانة كما لو كانت ورقة تسقط من شجرة وترقد هامدة.
وبينما يقدم لحناً أساسياً يُسمع كما لو كان من خلال
نافذة مفتوحة، والصور التى تبدو مُشوهة من خلال عدسات مُشوهة، يحذرنا سوكوروف، كما
لو كان يهمس لنا، عن طبيعة الموت.
وكذلك فإن كلمة التحذير تبدو غير قوية بما يكفى حيث يقدم
سوكوروف الفيلم بحكمة القدماء.
"الأمر الأكثر ضرورة هو علاج الروح أكثر من علاج
الجسد: فالأفضل بالنسبة للإنسان أن يموت بدلاً من أن يعيش بطريقة سيئة." (من
كتاب الخطابات)، إيبكتيتوس يتحدث هنا عن البُعد الروحانى للوجود بإعتباره اكثر
أهمية من العنصر الجسمانى، ولكن، أليس الموت الإكلينيكى يُزيل غالباً هذا الإحساس
بإستعداد الجسم للموت كما أنه يركز بدلاً من ذلك على الحفاظ على الجسد حياً، بصرف
النظر عن طريقة الحياه السيئة التى يحيى بها الجسد بهذه الطريقة؟
فى مقالة أسبوعية ظهرت فى صحيفة الجارديان تحت عنوان
"فن الموت بطريقة لطيفة" يتحدث كن موراى كاتب المقالة – وهو أستاذ
إكلينيكى مساعد للعلاج الأسرى- يتحدث عن زميل سابق له إكتشف ورماً فى بطنه
"طلب من الجراح أن يفحص المنطقة، وجاء التشخيص مؤكداً وجود سرطان بنكرياس.
هذا الجراح واحد من أفضل الجراحين فى المملكة المتحدة،
ووصلت براعته إلى حد إبتكار طريقة جديدة لإزالة هذا السرطان والذى يمكن أن يمنح
المريض ثلاث أضعاف المدة التى كان المريض سيحياها بالسرطان – ففرصة الحياة كانت 5%
وطريقته منحت المريض فرصة تصل إلى 15% - رغم أن نوعية الحياه ستكون بائسة.
تشارلى لم يكن مُهتماً، وعاد إلى منزله فى اليوم التالى،
وأغلق عيادته، ولم يذهب إلى المستشفى مرة أخرى، وأختار أن يكرس وقته لصُحبة عائلته
وأن يشعر بأنه أفضل حالاً قدر إمكانه، وبعد عدة أشهر مات فى منزله.
لم يتلق أى علاج كيميائى أو إشعاعى أو جراحى".
هذا الموت كان يحدث للقدماء، وهو لا يختلف كثيراً عن موت
الأم فى فيلم سوكوروف.
أليس كل التقدم الطبى الذى لا نستطيع إنكاره والذى يساعد
على إطالة الحياه، لا يجعلنا نعيش إلا حياه بائسة – بائسة بمعنى أننا لا نحيا نفس
حياتنا السابقة الطبيعية، وأننا حتماً سنموت ونُدفن تحت التراب ونتحلل إلى رماد، هل
الأمر لا يتعدى كونه مجرد طريقة للإبقاء على الحياه بوسائل صناعية؟
عندما نشرت صحيفة الإندبندت خبراً عن أرملة فرنسية أُجبرت
على دفع التكاليف العلاجية لزوجها الذى دمر جهاز تنظيم ضربات القلب، فهذا التقدم
العلمى بدا ككوميديا هابطة.
إنه نتيجة لأنه كان يحيا بطريقة بائسة من وجهة نظر
معينة.
بالطبع لسنا هنا بصدد الدخول فى نقاش حول الأمور الطبية وعما
إذا كان ما نحتاجه طبياً ليس فقط أن نعيش أطول ولكن أن نجعل الحياه التى نعيشها
قابلة أكثر على الإحتمال، لكن سوكوروف يقدم طبيعة الحياه والموت بشكل طبيعى، هدفه
لا أن نتسائل مطلقاً عن طبيعة المرض وإمكانية علاجه، لكنه يركز على حالة الإنسان
الطبيعة أكثر من حالته تحت العلاج.
فى منتصف الفيلم نرى الإبن يمشى فى طريق رملى حاملاً أمه
بيديه، بينما رياح البحر تُسمع فى شريط الصوت ونسمع حفيف الأعشاب التى تحركها
الرياح، يقطع الفيلم ونرى الإبن مازال يحمل أمه لكن من زاوية أخرى، كما لو أنهما
فى طريق عودتهما إلى البيت.
الرياح تُسمع خافتة، والأعشاب لم تعد تتحرك، قبل أن يقطع
سوكوروف مرة ثانية على لقطة أخرى تكشف عن حقل من العشب فى لقطة نصف مُسطحة.
من البرية إلى السكون بقطعة مونتاجية، ويعود ثانية إلى
البرية، يعرض سوكوروف الطبيعة بنفس طريقة عرضه لموت أم، كما لو كان يقول أن
الطبيعة لا يمكن لها دوماً أن تشفى أحداً ولكن يمكنها أن تساعد.
عندما يقترحان فى بداية الفيلم أنهما سيتمشيان، تكمن
المفارقة فى أن الإبن سيحمل الأم أثناء هذه التمشية: إنها ليست فى حالة صحية تسمح
لها بالمشى، وهنا توجد فرصة قليلة للطبيعة فى تقديم بُعد تعويضى. كما يوجد تعويض
فى أشكال متنوعة، سوكوروف مُغرم بفكرة إيبكتيتوس عن علاج الروح أكثر من علاج
الجسد.
إنه هنا فى فيلم "الأم والإبن" حيث يتقابل
الفن والطبيعة. "الفن يجعل الإنسان مُستعداً للموت، إنه يساعده فى الإستسلام
للموت كأمر واقع." (Cineaste,
xxvi, no.3) يشير سوكوروف إلى أهمية الطبيعة فى الروح،
لكن وفى نفس الوقت يُشير إلى طبيعة السينما من خلال الفنون الأخرى، نافياً حتى أن للسينما
الواقعية أى فرصة لعرض العالم الطبيعى.
وبدلاً من ذلك فهو يختار تسطيح الصورة ليكشف جانبها
التصويرى ثنائى الأبعاد أكثر من الإشارة إلى العمق فى الصورة التى قد تكون أكثر
شبهاً بالحياة. "أنا أُدمر الطبيعة الحقيقية وأخلق عالمى الخاص"، هكذا
قال فى حواره مع بول شرودر فى مجلة "فيلم كومنت".
ربما يؤكد سوكوروف على أن الطبيعة تؤكد على الروح، لكن
هذا يأتى عبر طريقة جمالية تكشف الطبيعة بشكل مُشوه بكل معنى الكلمة.
التصوير خلال شرائح زجاجية، وإستخدام الضوء المنكسر، فإن
النتيجة تكون صورة أكثر تسطيحاً مما نتوقع.
ربما يتحدث سوكوروف عن الرغبة فى إيجاد طريقة إطارية
للسينما، لكنه هنا يقدم العكس، ولكن هذا يُشير إلى تناقض، إلى مزيد من السينما
المُضادة. إنه يريد أن يتجنب التبسيط فيما يتعلق بالصورة التى يمكنها أن تقدم
إنطباعاً بمحاكاة الحياة، وبدلاً من ذلك فالإنطباع الذى يتكون عندنا هو كيف أن
الصورة من الممكن أن تُسجل تعقيدات أكثر تجريداً.
ربما طريقة وحيدة لفهم هذه الدعوة للتجريد تكمن فى
التعليقات التى كتبها "إيمانويل كانت" بخصوص الجماليات والتسامى، ففى
الملخص الذى كتبه روجر سكروتون تحدث عن مفهوم التكثيف الجمالى "على سبيل
المثال" يقول روجر سكروتون "عندما شرح ميلتون مشاعر الإنتقام للشيطان،
فإن كلماته الحماسية تنتقل لنا، نحن نشعر بأننا لا نستمع لعاطفة مُستجدة بشكل أو
آخر، كما يحق للفرد أن يقول، لكن إلى جوهر الإنتقام.
يبدو أننا نتجاوز القيود المُتضمنة فى كل مثال طبيعى،
ونكون على علم بشئ غير موصوف ينعكس عبر هذا" (إيمانويل كانت).
إذا كان سوكوروف قد أخرج بطريقة طبيعية زوال أم فى فيلم
"الأم والإبن"، فربما كانت لدينا خشية من الموت الذى يمكن أن نحس به
جاثماً، لكن هذا قد لا يتحقق بسهولة عبر التكثيف الجمالى، وطريقة سوكوروف فى تجنب
الواقعية تسمح لهذا التكثيف أن يتحقق.
فى المثال الثالث (مولوك) يركز سوكوروف على حياة هتلر فى
فقرة مختصرة، بينما نحن نراه يقف مواجهاً إيفا برون وهما فى "لبرجوف"
على الحدود النمساوية الألمانية، يقدم سوكوروف هنا شيئاً غير معتاد، ويلمح بشكل متواصل
أن هتلر هو الآخير فى عصر المدرسة الرومانتيكية، إنه ربما يكون من قضى عليها كحركة
فنية من خلال العصاب التيوتونى الحاد، ومن خلال تحويلها إلى حركة تُصعد الوعى
الوطنى وتقتل الملايين الذين ليس لهم الحق فى المشاركة فى الأحاسيس المترفعة التى
كانت حكراً على العنصر الإنسانى الأرقى.
ورغم ذلك يوجد مشهد غريب حيث يبدو هتلر كما لو كان لا
يعرف شيئاً عن معسكرات الموت، وهذا لا يعنى أن سوكوروف يتصدى للدفاع عن الديكتاتور
المولود فى النمسا، بل أن سوكوروف أراد بدلاً من ذلك أن يصور العلاقة بين
الرومانتيكية - التى بدأت بالمناجاة الذاتية مع الروح فى أفضل تجلياتها الألمانية
عند جوته وهوفمان وكليست وكاسبر ديفيد فريدريتش ويوهان كريستان دال وجوزيف أنتون
كوش - وبين الهستيريا الهائلة للروح الجمعية التى أظهرت نفسها فى ظل الحكم النازى.
تكمن المفارقة المفزعة فى هذه الهوة بين الصور التى تعرض
التقاليد الرومانتيكية كحالة من التأمل الجمالى وبين النازية، وهذا واضح فى شكل
الفيلم الذى يدين للوحة "شلال شمادرباخ" لكوتش، ولوحة
"السُحب" لدال، ولوحة "سطوع القمر فوق البحر" لفريدريتش، لكن
هذا ضمن فكرة أن هتلر لم يعد بعد الآن منتسباً لهذه المناجاة الرومانتيكية الصريحة
فى إطلاقها للمشاعر.
وسواء كان هذا مُتضمناً فى تعليقه على معسكرات الموت، أو
فى الشريط الفيلمى المعروض والذى بدا كما لو أنه لا يعبر سوى عن البؤس الإنسانى،
هل هتلر لم يفقد الحق فى أن يظهر كشخص جيد، وأن نتسائل عن التقاليد الرومانتيكية
التى تربى عليها؟
إنها مفارقة مفزعة أن هتلر بنى منزله الشاعرى ( تم تكليف
مارتن بورمان ببناء هذا المنزل كهدية لهتلر فى عيد ميلاده الخمسين) وهذا المنزل
بُنى ضمن المدرسة الرومانتيكية وظل هتلر فى هذا المنزل بينما القيم السياسية التى
وضع مبادئها بنفسه كانت تتحطم.
مثل مقالة سيبربرج الطويلة والقاسية عن هتلر تحت عنوان "فيلم من
ألمانيا"، وعلى عكس الأعمال الأكثر تقليدية عن هتلر: مثل فيلم "مهنة
وإنهيار" يبحث سوكوروف عن تكثيف جمالى مختلف تماماً عما فى فيلم "أم
وإبن"، لكن بلا ادنى مراعاة للإيجاز. يركز فيلم "لا تترك حدود عش النسر
أبداً" على إيفا برون بشكل أساسى بينما هى تدور حول القلعة المحصنة وهى عارية،
بغلاف الروح الرومانتيكية التى تتضمن جسد أريان المثير للإعجاب.
عندما يصل هيتلر لاحقاً ويتخفى حول المبنى فإن الروح هى المرتعشة
وليس الجسد هو المرتعش، التباين بين برون وهيتلر واضح، لكن بدلاً من الكشف المبسط
لسطوة الرجل الناضج فى مقابل جمال المرأة الشابة، يريد سوكوروف أن يكثف جمالياً
إشكالية أكبر كثيراً حيث يصور سقوط هتلر بدلاً من تصوير زوال الحركة الرومانتيكية
الألمانية.
مرة أخرى يبدو أن إهتمام سوكوروف بالتواصل بدلاً من
الإتصال غير ذى صلة، وبدلاً من ذلك فهو يكشف بإصرار عن الطبيعة الشريرة لهتلر،
فالفيلم يتناول تأثير هتلر ليس كمجرم ولكن كشخص متردد، ولا يركز بصورة متعمدة على
الدمار الذى أحدثه لليهود ولكنه يركز على الدمار الذى أصر أن يُحدثه فى التصورات
الجمالية الرومانتيكية.
ورغم ان عنوان الفيلم يتصل بالإنجيل، ويُعرف دائماً كشخص
أو شئ يطلب تضحية كبيرة بالنفس، فإن سوكوروف يوحى بأن من ضُحى بهم لم يكونوا الشعب
اليهودى ( الذى تعرض لفظائع وتجنب كبار الفنانين والكُتاب والمخرجين لسنوات أن
يتعرضوا لها) لكن الفيلم أيضاً عبر ببساطة عن التضحية بالنفس: مثل الكشف عن
معسكرات الموت، وثانياً فإنه كشف عما أصبح عصياً على الفهم لكى نستطيع أن نحكم على
الرؤى الخيالية بعد الحرب العالمية الثانية، فيما يتعلق بإستمرار الرومانتيكية
الألمانية.
القضية السابقة تناولها جاك رانيير فى كتاب "مستقبل
الصورة" حيث تسائل فى أحد المقالات بعنوان (هل ثمة أشياء لم تُقدم؟).
رانيير هنا يناقش فكرة أن الهولوكوست تم تقديمه، ولكن
القضية هى إيجاد الوسائل لتقديم الهولوكوست، ومُتحدثاً عن فيلم "المحرقة"
لكلود لانزمان، فإنه كتب "حقيقة الهولوكوست الذى تم تصويره هو فى الحقيقة
واقع إختفاءها، وواقع طبيعتها الغير قابلة للتصديق.
فيلم "المحرقة" فشل فى تقديم معسكرات الموت،
هكذا قال رانيير، ولكن الفيلم بدلاً من ذلك نجح فى إيجاد طرقاً يعرض من خلالها
الفجوة بين شخص نجى من الموت فيعود إلى حياته التى تشبه الجحيم، وبين غياب الجحيم
الذى عبر عنه هذا المكان فى بادئ الأمر، "الفيلم يجد أفكاراً يقدمها"، "المكان
يُحسب على إنه واقعياً فى الكشف عن الإبادة وعملية محو لآثارها".
ولكن إذا كان فيلم المحرقة، وكذلك العديد من الأفلام
الاخرى الأقل أهمية، يركز على الشعب اليهودى وإبادتهم فى ظل النازية، عندئذ أليس
من الضرورى أن نسأل عن محو حساسية معينة من أجل الفظائع أيضاً؟
يكشف فيلم "مولوك" فى أحد اللحظات عن هتلر
وآخرين على جانب الجبل ويعطينا سوكوروف صورة لضابطين نازيين نراهما فى الخلف، فى
إضاءة "سلويت" يتطلعان إلى البرية، هذه اللحظة تقدم أكثر مما تم تقديمه
فى لوحة "الهيام فوق ضباب البحر" لكاسبار ديفيد فريدريش، هل يقدم
سوكوروف الصورة ليقول أن هذا ما حدث للرومانتيكية الألمانية؟
الكثير من الأفلام عن هتلر والنازية لا تستدعى التأمل، أنها
أكثر ميلاً لإستدعاء السخط، هناك رموزاً تعبر عن الشر أكثر من هتلر، وهذا ليس من
إهتمامات سوكوروف. حتى أن الواحد منا قد يتسائل إن كانت الإشارة التى توحى بهتلر
والتى تتجاهل الهولوكوست وُضعت هنا ليس كمناشدة من المخرج ليقدم تعاطفاً أكثر مع
هتلر، لكن لأن سوكوروف لا يريد أن يطغى السخط على التأمل.
فالأهمية بالنسبة له هى إظهار الشخص الذى دمر الرومانتيكية
الألمانية، وليس من دمر الشعب اليهودى، ليس لأن سوكوروف مهتم بنكران مظاهر
الهولوكوست أكثر مما يريدنا أن نواجه أشلاء تقاليد الرومانتيكية الألمانية، قد
يدعى البعض أن هذه جماليات سوكوروف، فالفن بالنسبة لسكوروف له الأولوية على
السياسة.
هذا الإدعاء قاله العديد من النقاد من بينهم ستيفان
ستينبرج فى الموقع الإلكترونى للإشتراكية الدولية، الذى قال "الإنسان ليس
مجرد مجموع الوظائف البيولوجية والإنعكاسات النفسية التلقائية، إن أكثر ملامح
الإنسان الجوهرية تبرز فى محيطه الإجتماعى، بينما الإنسان عند سوكوروف يشير إلى
مخلوق خارج التاريخ والمجتمع، الإنسان بالنسبة له وعاء فارغ وشفرة، وهذا ما حدث
عندما تناول شخصيات قيادية فى القرن العشرين وهذا الأسلوب قاتل بلا شك".
ولكن التناقش بشكل موازى فى مسالة هل الفنانين لابد لهم
أن يشغلوا أنفسهم بالقضية الجمالية حتى إذا تصادف أن الموضوع له ثقل سياسى. إذا
إتجه فيلم "شواه" التأملى الكبير فى إتجاه واحد نحو توثيق الهولوكوست،
فإن سوكوروف يتجه فى الإتجاه الآخر بعرض هتلر ضمن سياق الصورة الرومانتيكية التى
ساعد فى تدميرها.
الإنسان عندئذ لا يحكم على الوضع السياسى لهتلر، ولكن
يحكم على نوع معين من الجماليات البربرية، كان هتلر رسام فاشل بالطبع، لكن إنتقامه
من الفن الألمانى لم يتوقف عند هذا الحد.
وإذا كان عبر فيلم "أصوات روحية" يستطيع
الراوى أن يقول عن موتسارت أن الإتقان الرائع الذى فى الفيلم يُعد شاهداً على
موسيقاه الساحرة والمحبوبة عالمياً، فليس لهذا إلا أن يذكرنا بالخسارة الفادحة
للموسيقى التى حدثت بسبب موته" هل يحق لنا أن نقول أن حياه هتلر ساهمت فى الخسارة الفادحة للمدرسة
الرومانتيكية، و أثر على التأمل الذاتى خلال التسامى؟
تلك هى القضية التى نقترحها بنفس سهولة التساؤلات التى
طرحها سوكوروف، ولكن ومثلما فى فيلم "أصوات روحية" وفى فيلم "أم
وإبن" يخلق سوكوروف الإطار لمثل هذه الأفكار: أليس هذا أيضاً يمكن أن ينطبق
على أفلامه الأخرى والتى تشمل "الكنز الروسى" و"فاوست"
و"أيام الخسوف"؟
فيلم "أيام الخسوف" يُعد فيلم خيال علمى بشكل
واضح، ولكنه فى نفس الوقت يبدو كما لو كان فيلماً تسجيلياً عن الأزمة الروحية
لشاب، ربما تماشياً مع أفلامه الروائية الأخرى.
يعتمد الفيلم على رواية "مليون عام قبل نهاية
العالم" للأخوين ستروجاتاسى الذان كتباً أيضاً رواية "رحلة الطريق
الجانبى" التى إعتمد عليها فيلم "المطارد" لتاركوفسكى، ولكن وبينما
يتعامل تاركوفسكى مع الحيوات المكتشفة، ولن يختلط الامر على أى أحد فى تصنيف الفيلم
كفيلم تسجيلى بل هو فيلم روائى، أما سوكوروف التى تتأرجح أفلامه بين االروائية مثل
"الكنز الروسى" و"مولوك" و"فاوست" و"أب
وإبن"، إلخ، وبين الأفلام التى تتأسس على وقائع حقيقية مثل "حوار مع
سولوزيستيت" و"مرثية موسكو" و"أصوات روحية" أو المزج بين
الأمرين كما فى فيلم "أيام الخسوف" الذى يطل على حياه الناس الشعبيين
الفقراء، والذى تم تصويره فى تركمانستان السوفيتية، ويلمح الفيلم إلى نفس نوعية
سينما الإدانة التى قدمها بيلا تار وشاروناس بارتاس وكيرا موراتوفا وبالطبع
سوكوروف نفسه الذى أبدى إهتماماً بهذ النوعية من السينما لاحقاً عندما قدم فيلم
"صفحات هامسة" المُعد عن دوستويقسكى.
هذه هى آخر السينمات السوفيتية اليائسة، والتى تكشف عن
مظاهر التفسخ، وكدليل على ذلك تلك الصور الأرشيفية التى لا لبس فيها عن الجوع وعن
عبثية السلوك فى فيلم "أيام الخسوف"، فأحد فقرات الفيلم نجده يعرض الركلات
واللكمات التى يتبادلها إثنان من المراهقين حيث يبدو أحدهما أقوى من الآخر، ويحاول
طبيب أن يفض هذا الشجار فيستدير المراهقان إليه، ويركله المراهق الضعيف فى وجهه
بينما الطبيب جاثياً على الأرض، هذا عنف لا معنى له لكنه يتماشى مع الكثير من البلادة
التى وُجدت فى سينما المعسكر الشرقى عندما إنهار المعنى.
فيلم "الكنز الروسى" يبدو كفيلم يريد أن
يستعيد المعنى مرة أخرى، هذا الفيلم عبارة عن لقطة واحدة "ستيدى كام"
تتناول أربعة حقب من التاريخ الروسى، وقبل الديجيتال حيث كان الفيلم لا يمكن أن
تزيد اللقطة فيه عن عشر دقائق كحد أقصى للقدرة التخزينية، وحتى الأفلام المُصورة
بنظام الفيديو كاست "بيتا"، فقد كان الحد الأقصى للقطة لا يزيد عن 46
دقيقة، لكن سوكوروف قرر أن يستخدم قرص مُدمج يسمح له بزيادة زمن اللقطة إلى مائة
دقيقة، ما حدا بمارك كازينس فى مجلة "وايدسكرين، أن يصف هذا الفيلم بأنه
إنجاز عظيم.
الكنز الروسى |
" بدأ التخطيط للفيلم على مستوى لا يمكن
تخيله، وإقتضى ستة أشهر من البروفات، و867 ممثلاً وأكثر، وثلاث فرق أوركسترالية
تعزف موسيقى حية أثناء التصوير، ونحو 22 مساعداً للإخراج، ونحو 33 معرضاً تتضمن
رسومات رمبرانت ودافينشى، ووجب إضاءة كل هذا المكان لكى تستطيع الكاميرا أن تتحرك
بزاوية 360 درجة" ويُضيف كازينس، "ولأسباب متعددة توجب أن يتم تصوير
الفيلم يوم 23 ديسمبر، وكان هناك أربعة ساعات فقط لضوء النهار فى ذلك الوقت من
العام فى سانت بطرسبورج. وهذه اللقطة المشهد الواحدة للفيلم إستغرقت ساعة
ونصف."
هذا المزج بين الشكل والمضمون للقطة مشهد واحدة وأربعة
حقب من التاريخ الروسى، تشير إلى مخرج أصر على منح معنى لكل من السينما والثقافة،
لقطة مشهد واحدة هى بلا شك علامة على براعة، ومثلما قال المخرج الامريكى براين دى
بالما بعد مشاهدة لقطة مشهد معقدة لفيلم "الثور الهائج" لسكوسيزى.
"إعتقدت أننى قادر جداً على عمل هذه النوعية من اللقطات، ولكننى بعد ان شاهدت
هذا قلت أووووه" وعلى إثر ذلك بادرت بعمل مثل هذه اللقطات المُعقدة جداً بالإستيدى
كام" ( حوارات مع براين دى بالما).
إنها وسائل من خلالها تضع المعنى داخل الشكل مثلما يضع
الرياضى المعنى فى السباق، وهى تستهدف أيضاً إلحاق الهزيمة بالمتنافسين، أو محاولة
لإنجاز وقت قياسى.
سوكوروف حقق الأمرين حقاً، وهذا يتجاوز كل ما فعله براين
دى بالما بخصوص اللقطة المشهد الذى يتجاوز البراعة فى حدها الأقصى التى تحققت عند
هيتشكوك وأوسون ويلز وسكوسيزى وألتمان وبراين دى بالما لمثل هذه اللقطة المشهد.
إذا كان جون أور قد تحدث عن أذرع سينما الخيال العلمى
التى وثبت خلال أواخر الستينات والسبعينات عند كوبريك وتاركوفسكى كأمثلة، حيث قدم
كوبريك فيلميه "2001" و" البرتقالة الآلية" وحيث قدم
تاركوفسكى "سولارس" و"المطارد" ( من كتب – الفن والسياسة
للسينما)، فهل سوكوروف هو تلميذهم الذى أطاح بما أنجزاه؟.
نستطيع أن نفهم بسهولة كيف أننا عندما ندخل لمشاهدة
سينما عادية فيمكن إعتبارها منافسة للتبول والذى يتميز فيلمه فى هذه المسابقة
بالطول هو الذى يثبت البراعة، لكن سوكوروف يريد أيضاً أن يجد الوسائل التى
بمقتضاها يمكن تغطية تاريخ بطريقة تمنح السينما والثقافة معنى والذى يبدو خالياً
من كل ملامح سينما ما بعد الإتحاد السوفيتى الذى تحلل إلى دول منفردة.
سوكوروف لم يكن يوماً شغوفاً بالتجديد، ويقول عن هذا
الأمر "كثيراً جداً- وخاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية- أسمع كلاماً عن
"الفن الجديد"، لكن هذا لا يستدعى فى داخلى إلا الإبتسام"
سوكوروف ربما يؤمن بأن المخرجين الامريكيين يريدون أن
يحققوا البراعة بحيث يتفوق كل مخرج على باقى المخرجين، فهل فيلم سوكوروف الذى
يتكون من لقطة واحدة ينهى هذا الجدل إلى الأبد؟
يجب ان نتذكر دائماً أن سوكوروف يعتقد أن السينما شكل
فنى متدنى، وان هدفها ليس أن تمتطى حصاناً عالياً وتكون مثيرة للعجب، ولكن أن تقر
بطبيعتها كوسيلة يمكن بها ان تعكس الإمكانيات الروحية فى مظاهر متنوعة.
فى فيلم "الكنز الروسى" بدا الهدف منه ان
يرتقى بروح روسيا وأن يصور شيئاً من هذا الذى أراد أن يفعله، ألا وهو "التاريخ فى نفس
واحد"، وكانت النتيجة اننا نمتدح التاريخ أكثر من أن نمتدح المخرج الذى صور
هذا التاريخ فى متحف سانت بطرسبورج.
وبالطبع نحن لا نستطيع أن نفصل هذه الروعة السينمائية عن
السياق الفنى والموسيقى الذى نشاهده، لكن وإذا كان فيلم "أيام الخسوف"
يمكن أن يبدو كفيلم شبه تسجيلى مؤرق لمخرج يعانى من مازق روحى بعد ان تمعن فى
القدرات التى يمتلكها، وبعد أن تفكر أيهما يجب عليه أن يوظف من أجل رفاهة وصالح
مجتمع يعانى من فقر لا رجاء فيه، فإن فيلم "الكنز الروسى" هو النقيض.
إنه عمل فنى ضمن أعمال فنية، فهو يبدو كقطعة كبيرة تتصدر
أفلامه الروائية الأولى، "صوت منفرد لإنسان" (من بلاتونوف) و "أيام
الخسوف" و"صفحات هامسة"، حيث أفلامه الأولى ترمز إلى اليأس فى
نهاية الشيوعية، فيلم "الكنز الروسى" يعود بالزمن ليحتفى بتاريخ روسيا
قبل الثورة.
وبينما يمر الفيلم خلال المتحف مع شخص أوروبى غريب يطرح
الآراء ويناقش أهمية فن أوروبا الغربية، فإن صوت سوكوروف نفسه يُسمع خافتاً ينتقد
ويفند كلام الأوروبى، وكما قال سوكوروف فى حوار أُجرى معه قبل إخراج الفيلم
بسنوات.
"التأثير الأكبر، وبدون أى مفاجأة، أتانى من فن
الرسم الكلاسيكى... التقليد الروسى بدأ مع توبينينى وبيردفيزنيكس... وبالطبع
فروبل، هذه المدرسة الواقعية كلها تقدم الفن بعمق وإستثنائية ووقار ووحدة عبر
إحترافية فنانيها"
الشخص الذى يقودنا فى الفيلم يشيد بعظمة الفن الغربى،
لكن صوت سوكوروف الهامس وهو يُعلق يريد أن يجعل الفن الروسى مُقدراً أيضاً، فيلم
"الكنز الروسى" يُغالى بحيث يريد منا أن نوقر ونحترم هذا الفن، وفى نفس
الوقت يوفر شكلاً يؤكد فيه على عظمة نوع معين من الفن الروسى.
لعلنا بهذا نبدو كما لو أننا نقر بقدرة سوكوروف على
التنافس والتفوق - تماشياً مع تعليق براين دى بالما- كما لو أن اللقطة المشهد
تتشابه مع أناس يتسابقون من يبقى طويلاً تحت الماء بدون تنفس، لكن سوكوروف بدلاً
من ذلك يبدو أقل رغبة فى التنافس مقارنة برغبته فى إعادة إحياء الفن الروسى وبعثه
بعد أن لفظ أنفاسه تماماً.
إنه يريد أن يضع التاريخ الروسى فى جملة سينمائية طويلة
واحدة ويقول أن هذا الفن يستحق وأن الروس لابد لهم أن يعترفوا بأهمية هذا الفن.
إذا كان أى أحد مهتماً باللقطة المشهد كلقطة مشهد فإنه
لم يفهم المقصود من الفيلم، ويجب أن نضع فى إعتبارنا ما قاله سوكوروف نفسه
" لا أريد أن أتعامل مع الفن العظيم بإعتبار جودته
تتأصل قياساً إلى الجهد البدنى المبذول فى صناعته، مثل السينما، لأن السينما يوجد
فيها القليل من الفن العظيم المتأصل"
ربما نجد هذا تصريحاً غريباً من مخرج يشوه الصورة فى
فيلم "ام وإبن" ويقدم لقطة مشهد واحدة فى فيلم "الكنز الروسى"
ويستدعى تقاليد الرومانتيكية الألمانية فى فخامة كما فى فيلم "مولوك"،
لكن سوكوروف يقر هنا أنه لا يعتبر التقنية شئ ثمين، ولكن الثمين هو الحيز التأملى
الذى توفره التقنية.
إذا بالغنا فى تقدير براعة فيلم "الكنز
الروسى" عندئذ سنفتقد البعد المأساوى الذى يوحى بالحاجة إلى كنز تكون له
الصدارة، الكنز الذى يمثل فضاءاً وقائياً ضد عدائية التيار المتصاعد، وسوكوروف،
الفنان الذى يتبنى جماليات محافظة، أكثر إهتماماً بالتقاليد وليس التحديث، ويوجد
مثال على هذا فى تعليقه الذى ورد فى الاعلى، إذا نحن بالغنا بنفس طريقة مارك
كازينس الذى يعتبر فيلم "الكنز الروسى" روعة فى إنجازه، فإننا سنقلل من
أهمية الفيلم مثلما فعل فيرجوس دالى فى سياق آخر وأسماه "الإتحاف".
"يوجد اليوم العديد من أنواع الإتحاف، أكثرها
وضوحاً نراه فى مشاهدة فيلم (الكنز الروسى)" من كتاب "حوارات
تجريبية"، يتحدث دالى هنا عن عشق السينما والوسائل التى بمقتضاها نستطيع
إستيعاب السينما. "نشاهد بإنتباه الآلاف من الأفلام، التى تخلق نوعاَ فريداً
من الإنسان، وثمة علاقة تتأسس بين الذات والعالم وبين الفكر والذاكرة- ونتأكد أن
تلك العلاقات المثمرة هى جهد فى تنظيم أداء الذات التى تجد نفسها متورطة فى عشق للسينما
الجيدة."
وبالنسبة لفيرجوس دالى، فهذا ما يعنيه الإتحاف، وفى نفس
السياق، ألم يكن هذا أيضاً ما دعى سوكوروف أن يعمل فيلم "الكنز الروسى"؟
إذا تمتع سوكوروف ببعد التنافس، فهذا لكى يقول فقط أن
الفن الروسى لا ينبغى أن يُهمل أو يُتجاهل، وأنه إذا كانت التقنية هامة جداً،
عندئذ فإن المخرجين الروس يمكن لهم إنجاز أعمال شديدة التقنية فنياً مثلهم مثل
الآخرين، ولكن الأهمية لا تكمن فى ذلك.
ربما كان سوكوروف يستهدف أن نذرف الدمع مدراراً، وهذه
الدموع ليست وقتية لتخدم حالة، ولكنها دموع حقيقية غائرة عصية على الوصف، تلك
الدموع تأملية، ولكى ندرك الفرق بين هدف سوكوروف وبين هدف مخرج آخر أكثر منهجية،
نستطيع أن نفكر فى إستغراق سوكوروف فى حياه جنود فى سن المراهقة فى الجيش الروسى
فى الأجزاء الأخيرة من فيلم "أصوات روحية"، وموت الرقيب إلياس فى فيلم
"الفصيلة" للمخرج أوليفر ستون، فى فيلم سوكوروف، الغاية لا أن يعرض
الجنود وهم يموتون من الخارج، ولكن أن نتفكر فى الهدم الداخلى الذى يحدث لهم عندما
ينزلون للحرب فى هذه السن الذى هو سن الذهاب إلى المدرسة.
يركز سوكوروف على أبسط التفاصيل، (تحدث سوكوروف عن مشاعر
عدم الرضا عندما مشى فى أفغانستان مع الجيش، وأورد ملاحظة عن رحلة جنود إلى القطب
الشمالى ولم يغتسل هؤلاء الشباب لإسبوع وأحياناً أكثر من أسبوع، إننا نتأثر بهذه
المحن فعلاً، لكن هذه المحن لا تستدر شفقتنا.
أراد أوليفر ستون هذه الشفقة تحديداً بينما يكشف عن
الرقيب إلياس (ويليام دافو) وهو يموت بالتصوير البطيئ مع موسيقى ألفها صمويل
باربر، ومهما كان أوليفر ستون يؤمن بانه يتحدث عن فقد للبراءة (ألم يكن إلياس
دوراً نموذجياً للشخصية المحورية "كريس تايلور"، وان فيتنام كانت شعيرة
عابرة فى حياة كريس الشاب؟)، إنه يركز هنا بشكل خاص على إنسان واحد وإستجابة
تعاطفية متفردة، بينما وبمصاحبة موسيقى باربر التى أُستخدمت فى آخر الفيلم، أراد
أوليفر ستون أن يدخل بنا إلى أخص المشاعر من أجل الحصول على أقصى نتيجة تعاطفية.
بصرف النظر عن الإستجابة العاطفية العامة التى يبحث عنها
أوليفر ستون، فإن ما يهم هو أننا نتأثر بموت إلياس، وسوكوروف أكثر ميلاً للتقليل
من المشاعر ويوزعها على عدد كبير من المشاهد، وليست هذه هى تفاصيل التراجيديا التى
يعرضها سوكوروف لنا فى فيلم "أصوات روحية". (الكثير من الفقد المؤلم
للروح فى بيئات من الصعب أن تتعلق بها).
ويوجد إستدلال على ذلك فى الفيلم من خلال قائد السفينة،
الذى تكشف يومياته لنا أنه من المهم أنه لا يعير إهتماماً إلى الخطر بينما روحه
تتألم خلال قراءة أعمال أدبية عظيمة.
فالفقد فى نظر سوكوروف عابر، بينما يؤكد اوليفر ستون أن
الفقد جسيم.
هذا التباين فى وجهات النظر فى حقيقة الأمر يعيدنا إلى
بعض الرؤى عن فكرة التنافس الروسى- الأمريكى مرة أخرى، لكن وبدلاً من ذلك، فإنه
لابد أن يعيدنا إلى إختلافات أساسية فى الحساسية، أليست السينما الامريكية تطلب عادة
مشهداً أساسياً عاطفياً، مشهداً كبيراً للمشاعر التى لا تدع مساحة للمشاهد لكى
يتفرد بإستجابة تخصه؟، هذا خلاف فى فاعلية المشهد الرئيسى لكنه يخدم غرضاً
مشابهاً، إنه يجمع خيوط السرد من أجل هدف محدد.
وبهذا المعنى فإن المشهد العاطفى الرئيسى ليس أكثر
تأملية من الفقرة الإنفعالية: الهدف يكمن فى التلاعب بإستجاباتنا أكثر من توليد
عملية تفكير، وإذا قارنا بين سوكوروف وبين السينما الامريكية ووضعناهما على طرفى
نقيض فإننا نفعل ذلك ليس بصفة خاصة لأننا نؤمن بأن السينما الأمريكية أدنى من
سوكوروف، ولكى نستوضح أكثر، فإن ما يفعله سوكوروف هو الهروب من سينما يراها سطحية،
وهذا يقود إلى فكرته عن أن السينما شكل فنى متدنى.
وفى الختام، فالسينما ربما تكون فى خطر دائم أن تصبح فى
ميثاق مع الشر، وبينما وبالطبع يتفكر سوكوروف فى طبيعة مواثيق السلطة فى أفلامه
الثلاثة عن الثلاث قادة الديكتاتوريين (هتلر ولينين وهيروهيتو)، ورابع أفلام
الرباعية من المقرر أن يكرس نفسه للميثولوجيا: فاوست. وهو فيلم بميزانية ضخمة وقد
يقول البعض أنه يتعامل مع السلطة بشاعرية. "لن يرى الفيلم النور مالم يوفر له
فلاديمير بوتن التمويل" هكذا قال سوكوروف ، والمصدر صحيفة الإندبندت.
وعلى أيه حال ومهما كانت التنازلات المبذولة من سوكوروف على
المستوى الشخصى، فالفيلم يتسق تماماً مع سعى سوكوروف لإستكشاف مساحة تأملية على
حساب التوجه الإنفعالى أوالمنحى العاطفى.
القليل
عُمل فى الميثاق الفاوستى، مع الفرح والندم اللذان يمكن أن نستخرجهما من فيلم
يتعامل مع شخص باع روحه.
وتقديم مشروع كهذا يجعل سوكوروف متهماً بسوء النية: إنه
يُعلى من أهمية القصة من أجل الإثارة واستدرار الندم، بل إنه لا يوفر الوقت لمسألة
فقدان روح الشخص، وبدلاً من ذلك فهو يركز على العلاقة بين فاوست ومفيستوفيليس،
ويصف أ.أو. سكوت الإثنين قائلاً "إنهما ليسا فريسة ومفترس، بقدر ما هما شريكان
مشاكسان يتنافسان ، إنهما صورة ميتافيزيقية لإنسان بنصفين لا يتماشيان مع بعضهما"
(من صحيفة نيويورك تايمز).
هذه ليست المتعة التى نحصل عليها من فيلم عن فاوست حيث
يذهب النجاح إلى الرأس والقلب و الظفرات، لكن الأكثر هو دوام الجدل الميتافيزيقى.
التعامل مع أسطورة فاوست أغوى مارلو وجوته ومان فى
الماضى، وفى السينما أغوى أيضاً مورنو، يستخدم سوكوروف هذه الأسطورة كإمتداد
لأفلامه الأولى عن السلطة.
فى فيلم "مولوك" وفيلم "توروس" وفيلم
"الشمس" يتم التركيز على أناس سلطة فى نهاية حياتهم، وهنا يفكر فاوست
كيف لمعاهدة كهذه مع الشيطان أن تأتى إلى حيز الوجود.
ما يتبقى من أفلامه الأربعة عن السلطة هو نشوة أدرينالين
بجرعة كبيرة، كما لو كان التركيز على هذا النحو لابد أن يكون بمثابة توقيع نفس
المعاهدة، معاهدة يرى سوكوروف بالطبع إن معظم السينما توافقت عليها وإن الفن
السينمائي الصادق يحتاج أن يتجنبها.
"الفن لابد أن يمنح سمواً بسيطاً وقوياً، وأن ينحو
إلى الرقى. ولكى تكون لديه القوة الكافية ليرتفع إلى أعلى من المستوى العادى، فإنه
من الضرورى إبتداع عالم إنسانى خاص داخل المؤلف" (Cineaste xxvi, no.3)
التركيز على السلطة كسلطة، والتركيز على الثروة
المُكتسبة والإنغماس فى الجنس والعناصر المادية، قد يترك القليل من الوقت والحيز
للتركيز على التواصل الذى يسعى سوكوروف إليه بإستمرار.
وعلى هذا النحو يمكن لنا أن نرى سوكوروف غالباً مفتوحاً
على إمكانيات إستكشافية للأنا فى مختلف تجلياتها، سواء على مستوى الشكل أو
المضمون، وسواء تحقق هذا ببراعة فنية فى فيلم "الكنز الروسى"، أو نظام
التصوير السطحى الذى إتبعه فى فيلمى "الأم والإبن" و"مولوك"،
أو الحديث عن السلطة فى فيلمى "مولوك" و"فاوست" وأيضاً
"توروس" و"الشمس".
ولكنه بدلاً من ذلك يبحث بشكل رئيسى عن حيز للتفكير فى
عظمة الثقافة أو مشكلة السلطة حتى ان ما يتبقى هو الإحساس الهادئ بالروح فى معيه
أرواح أخرى، والإحساس بقوة بعض هذه الأرواح –كما فى فيلم "الأم والإبن"،
وضعف بعضها – كما فى فيلم "مولوك".
إذا كان هيدجر قد قدم صياغتة الشهيرة إن أكثر شئ يُربك التفكير هو أننا
مازلنا لا نفكر، ويتسائل سوكوروف عن هذا الأمر فى السينما فهى عن الزمن الذى نبدأ
به، إنها قد تكون حالة من التفكير العميق، لكنها تأتى من المشاعر الشخصية للمخرج
عن الإنسانية فى أكثر الفنون تواضعاً. وكما تسائل، "رؤيتى للفن هى إنه يشبه السلسلة نوعاً ما، ولا يوجد فخر، لكننى قد
أجد قمة الإفتخار إذا قال لى شخص ما إنه يعتبرنى جزءاً من هذه السلسلة... وحتى لو
كنت مجرد وصلة صغيرة فى هذه السلسلة". (Cineaste
xxvi, no.3)