28‏/11‏/2013

نظرية السينما الشكلية

الابدية ويوم

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
الشكليون هم اؤلائك الذين يعتبرون السينما وسيطا للمعالجة الفنية، فالمخرج يحتاج ان يتجاوز فوضى الواقع وان يحول المادة الفلمية الى شكل سينمائى نقى وان هذا التشكيل يسمح للفيلم ان يكون فنا.

 وهذه بعض العبارات الشكلية حتى نفهم هذه النظرية، يقول بيلا بيلاس فى كتاب (نظرية الفيلم) على سبيل المثال، (المخرج يجب عليه ان يستخدم كل وسائل التعبير المتاحة فى فن السينما لكى يتجاوز ضبابية الواقع المشوشة ولكى يستطيع اظهار الحقيقة) ومن جانب آخر يعتقد سيرجى ايزنشتين كما ورد فى كتاب (فهم السينما) ( ان العمل الفنى - فى مفهومه العلمى – هو عملية ترتيب الصور فى مشاعر وعقل المُشاهد)

 ويستشهد الناقد الشكلى رودولف آرنهيم فى كتاب ( السينما كفن) بمشهد من فيلم المدرعة بوتمكين الذى يكشف عن (اسد حجرى ينهض ويزأر. المشهد مصنوع من ثلاثة تمائيل مختلفة للأسود، التمثال الأول لأسد يزأر، والتمثال الثانى لأسد ينهض، والتمثال الثالث لأسد يقف وفمه مفتوح للزئير، الطريقة التى اعطت الحياة للحجر بمساعدة المونتاج كانت شيئا عظيما)

 فهذه الاستشهادات تؤكد على نحو ما بان الفيلم يحتاج ان يُؤلف، ورغم ان بعض الشكليين يميلون اكثر الى التقليل من اهمية توجية الجمهور ويولون الاهمية للقصة، فان آخرين يفعلون العكس.

ويعتقد ارنهيم (انه فى الفيلم الجيد، يجب على كل لقطة ان تساهم فى الفعل) واعطى مثالا بحالة تُخالف هذه القاعدة، عندما يقطع المخرج على لقطة مأخودة من مستوى ارتفاع شخص يتحدث مع شخص آخر الى لقطة مثلها للشخص الآخر، قبل ان يقطع على لقطة من اعلى للشخصين.

 وفى نفس السياق، وعلى الرغم من ان بودوفكين وايزنشتين يُعدان من الشكليين الروس الا انهما اختلفا فى عدد من النقاط الرئيسية، فايزنشتين كان يرى ان السينما ديناميكية، ويعتقد فى اطروحته عن (الكينو فيست) – ان الصور المتداخلة قد تجعل المشاهد يثور، اما بودوفكين فى كتاب (تقنية الفيلم والتمثيل السينمائى) فيعتقد ان المخرج السينمائى يجب عليه ان يولى الاهمية القصوى للسرد (عملية التحليل والتفكيك الى عناصر، يمثلان معا نقطة البدء فقط، ويجب ان تُتبع بتجميع كل الاجزاء معا)

ويوجد مثال فى اول مشاهد الاقتتال فى فيلم (الأم) لبودوفكين، فهو يُزيد التوتر باستخدام لقطات مقربة عديدة ليس فقط للوجوه ولكن ايضا للايادى والاشياء المتوفرة فى المشهد بهدف سرد القصة بطريقة درامية.

الدرجة التى قد يتلاعب بها المخرج مع الحقيقة يختلف فيها المُنظرون، لكن لا احد منهم وصل الى ما وصل اليه اندريه بازن - اشهر مُنظرى الواقعية – عندما قال فى مقالة (ما هى السينما) فى المجلد الثانى (التسجيل السينمائى البسيط للواقع ليس ردة جمالية، بل على العكس، هناك تقدما فى التعبير، وتطويرا ناجحا للغة السينما فى تأكيد اسلوبيتها)

ومن المؤكد ان معظم الشكليين الحاليين مثل نويل بورش وبول شريدر وديفيد بوردويل وكرستن تومسون يعتمدون على اندرية بازن ليشرحوا ويفسروا افكارهم الخاصة، ففى كتاب (الاسلوب المتجاوز فى السينما) على سبيل المثال، يبدو شريدر انه يميل بوضوح الى هواجس بازن الدينية، بينما بوردويل فى كتاب (اشكال مرصودة فى الضوء) يبحث فى استخدام اللقطة المشهد خلال تاريخ السينما- وهى احد الركائز الاساسية فى الواقعية البازينية- لكنه يوظفها لاهداف مختلفة.

فاذا كان بازن يؤكد على رحابة الشكل، فان بوردويل يعتقد ان (قبل ان يرغب المخرجون فى نقل الافكار والمزاج العام، او اثارة المشاعر والتيمات او تصدير ايديولوجيات و قيم ثقافية، عليهم ان يكونوا منتبهين لبعض الامور الدنيوية) هذه الامور الدنيوية يُسميها فى مقالة (التدرج فى العمق) بانه (يجب عليهم ان يجعلوا صورهم واضحة) لتوجيه اهتمام المُشاهد بدقة.
هيروشيما حبيبى
نريد فى محاضرة اليوم ان ننظر الى افكار النظرية الشكلية التى من الممكن ان تساعدنا على فهم الافلام التى سنناقشها، وايضا نعرض التباين الذى تحتويه النظرية الشكلية.

 كان فيلم (هيروشيما حبيبى) من افلام الستينات التى تميزت بابتكارات مونتاجية، فرينية كلير اراد باسلوبه المونتاجى لا ان يتلاعب بهدف توليد عقيدة ايديولوجية – كما يحب ان يسميها ايزنشتين وبودوفكين- ولكن ان ينتقد قناعات سياسية محددة.

وبعد فيلم رينية كلير ظهرت سلسلة من الافلام التى تستخدم المونتاج بطريفة جديدة نسبيا، وبالطبع كانت هناك افلام مبكرة اهتمت بالمونتاج والذاتية ابتداءا بفيلم (مدام بوديه المُبتسمة) لجيرمين دولاك فى العشرينات، الى فيلم (انسجام وقت العصارى) لمايا ديرين فى الاربعينات، لكن رينية كلير تميز باشكالية ذاتية عميقة فى افلامه مثل (العام الماضى فى مارينباد) و (ميوريل) و ( احبك..احبك).

وبعد ذلك ظهر مخرجون عديدون تأثروا باسلوب رينية كلير، ومن بينهم جوزيف لوزى- مخرج فيلم (الحادث) وجون بورمان - مخرج فيلم (نقطة بيضاء) ونيك روج بشكل خاص فى افلامه (مسرحية) و(الرجل الذى سقط على كوكب الارض) و (توقيت سيئ) فهذه الافلام جميعها انتهجت اسلوب مونتاج جديد يختلف تماما عن عقيدة مخرجي المونتاج الأوائل الذين كانوا يميلون الى استبعاد الذاتية.

فايزنشتين – على سبيل المثال – كان مهتما بالحشود وكان يحب النمطية كما نلاحظ فى فيليمه ( اضراب) و (المدرعة بوتمكين) على سبيل المثال، ومثلما اوضح جيمس موناكو فى كتاب (كيف تقرأ فيلما) ( الممثلون يتم اختيارهم للادوار ليس بسبب كفاءاتهم الشخصية ولكن بسبب الانماط التى يمثلوها) ولكن افلام المونتاج - المُنوه عنها- تفعل العكس، مثل فيلم (هيروشيما حبيبى) و ( حادث) و ( توقيت سيئ) وايضا فيلم ( نقطة بيضاء) فهذه الافلام مهتمة بكيفية التقاط خصوصية احد الاشخاص فى عالمه الخاص.

ونستطيع ان نرى هذا بوضوح فى فيلم (هيروشيما حبيبى) حيث يخدم الفلاش باك المُتكرر افكار واحاسيس الشخصية المحورية، ففى احد المشاهد نراها تبدأ فى الحديث عن ماضيها لحبيبها اليابانى، فينقل رينية كلير بحساسية الى تاريخها الشخصى.

نحن نصنف ايزنشتين وبودوفكين ورينية كلير ونك روج على انهم شكليين مونتاجيا، وهم صنعوا افلامهم بابتكارية اعطوا الاهمية الأولى فيها الى المونتاج، لكننا ايضا نستطيع ان نتحدث عن الميزانسين فى النظرية الشكلية، وعن المخرجين الذين استخدموا اللقطة المشهد الدقيقة فى افلامهم مثل ميكلوس جانكسو وثيو انجلوبولوس وبيلا تار.

مثل فيلمى (الجولة) و ( المزمور الاحمر) لميكلوس جانكسو، وافلام (نظرة اوليسيس) و ( الابدية ويوم ) و (العُشب الباكى) لانجلوبولوس، وكذلك افلام (اللعنة) و (تانجو الشيطان) و (هارمونيات ريكمستر) لبيلا تار، فالمخرج يتلاعب من خلال التخصيص الدقيق حيث تحوم الكاميرا حول الفضاء السينمائى لتخلق نسيجا دقيقا لامتاع المُشاهد.

فى كل فيلم من هذه الافلام نحس بوطأة القطع، مثل هذه الطريقة تُعيد لكلمة مونتاج بُعدها المحسوس، هذه لقطة – مشهد - وليس من الضرورى ان تعبر عن الواقعية افضل تعبير، طبقا لرأى بازن: الذى قال انها افضل ما يعبر عن طبيعة شكل الفيلم اكثر حتى من الروابط الوثيقة بين فن الرسم والواقع.

وثمة دليل من فيلم (العُشب الباكى) لانجلوبولوس حيث يُجلى القرويين من منازلهم الغارقة، كما نجد اللقطة المشهد ايضا فى المشهد الافتتاحى من فيلم (تانجو الشيطان) حيث تظهر لنا مزرعة وحيوانات فى مسار جانبى ، فهذه اللقطة المشهد تحل محل اللقطة التأسيسية لتصوير المكان بنفس فضاءه الحقيقى، وتحقق مزايا التجريد، كما يمنحنا بيلا تار احساس عميق بنسيج الصورة فى علاقة مع ما تعرضه لنا اللقطة المشهد، وكما يقول بوردويل فى كتاب (اشكال مرصودة فى الضوء) (زخم الحكى فى فيلم انجلوبولوس يتبدد دائما من خلال اللادرامية) هذه هى اللادرامية التى تأتى من خلال فن الرسم.

لكن لادرامية الشكليين يمكن ان تخدم ايضا نمطا معينا من سينما تعبر عن الروحانيات، وفى الحقيقة فان انجلوبولوس وبيلا تار قد يكونا جزءا من هذه الطريقة السينمائية، لكن الاسس الرئيسية وضعها روبرت بريسون وكارل دراير، ومن المخرجين الحاليين برونو ديمونت.
مثل هذه الافلام التى تميل الى الروحانيات تقول عنها سوزان سونتاج فى كتابها (ضد التأويل) (انها فن انعكاسى، حيث يظهر شكل العمل الفنى بطريقة مؤكدة) وتُضيف (المؤثر الفنى الذى يجعل المُشاهد واعيا بالشكل، يؤدى الى اطالة او تأخير العواطف)
سوزان سونتاج
وفى بداية السبعينات يعتقد بول شريدر فى كتابه (اسلوب الفيلم المتجاوز) ( طورت السينما فى السنين الاخيرة اسلوبا مُتجاوزا يوظفه عديد من الفنانين من مختلف الثقافات للتعبير عن المقدسات).
يمكن لهذا الاسلوب – واضعين فى الاعتبار رأى سوزان سونتاج – ان يُخرجنا من احساس الزمن حيث نعيش اليوم بيومه، ومن الاولويات العملية فى تيار السينما السائدة، ويضعنا فى بُعد سينمائى آخر حيث يتحقق شكل من اشكال التنازل: التنازل عن التمنيات التى تضعنا فيها معظم الافلام، وبدلا من ذلك ننشغل بفهم جماليات الآخر

فى حالة بريسون، فهو على العكس من ذلك، لا يستخدم اللقطة المشهد مثل بيلا تار وانجلوبولوس ولكنه يستخدم اللقطات القصيرة، فهى لقطات وصفية تترجم المعلومة الروائية على ما يبدو باسلوب لا درامى قدر الامكان، وهو يصف ممثليه بانهم مثل الموديلات، انهم يشرحون القصة: ولا ينخرطون دراميا فى المشهد.

يمكننا ان نرى ذلك فى فيلمه (النشال) حيث تتفاعل الشخصية المحورية مع الآخرين فى مجموعة من المشاهد بدت باردة لدرجة اننا نتفاجأ عندما تعترف الشخصية بالحب فى النهاية، او كما فى فيلمه (يوميات قسيس ريفى) حيث نرى القسيس يستمع بلا مبالاة الى احد الاشخاص يتحدث عن طبيب مات لتوه، فالقسيس تستقطبه افكاره الخاصة فنسمعها كصوت تعليق، هكذا قدمها بريسون.

عندما قال بريسون فى كتابه (ملاحظات للسينمائى) ان لديه مشكلة مع التمثيل، كتب (التمثيل يكون فى المسرح، فهو فن اجتماعى) وهذا ربما يقبع جزئيا فى فهم المسرح على انه وسيط اجتماعى جدا، وكذلك فان التمثيل يُركز غالبا على دراما المشهد من خلال تراكم التفاصيل التى تُتيح لبريسون ان يستكشف روح الشخصية، هذا هو الممثل طبقا لموديل بريسون، وليس لهذا الممثل شيئا يفعله مع نمط ايزنشتين.

 بريسون فنان شكلى يستبعد الدراما من خلال خطابية المشاهد، اما برونو ديمونت الذى تأثر بشكل واضح بالاستاذ وارسل له فى احد المرات خطاب اعجاب، فانه بدلا من اسلوب بريسون نراه يُطيل المشاهد، رغم انه ايضا ينكر على المُمثل انخراطه الانفعالى المعتاد.

فى احد لقطات فيلمه (الانسانية) نرى شخصية فرعون ينظر الى الرسومات، ويُبقى ديمون اللقطة مدة اطول من اللازم، لكنه ايضا مثل بريسون يرفض شكل المشهد الدرامى، فليس مسموحا للمثل ان يُمثل، والاكثر من ذلك ان الكاميرا فى افلامه تُراقب ما يدور.

اذا كان ايزنشتين وبودوفكين ينشدان منظورا شكليا لتصعيد الدراما او لتوليد قناعة ايديولوجية، بخلق دراما تتجاوز التمثيل وتستخدام التمثيل النمطى، فانهما يتوقعان من المونتاج ان يحقق درامية المشهد.

الشكليون الذين ذكرتهم يتبنون وجهات نظر متباينة مثل بريسون وديمونت. هنا الحد الادنى من التمثيل لا يخدم المجتمع ولا الدراما لكنه يُعلن عن الروح.

النظرية الشكلية بالطبع فضاءا رحبا لقدرتها على توحيد ايزنشتين الشيوعى ببريسون الكاثوليكى.

القضية التى ناقشناها اليوم كانت عن اشكال من الحالات الانسانية التى تستطيع النظرية الشكلية ان تحتويها.

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى



21‏/11‏/2013

نظرية فيلم التحليل النفسى


خدعة العنكبوت

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى


كيف نكون مُلتحمين بالفيلم، او طبقا لمصطلح مُنظرى التحليل النفسى، كيف نكون مُعشقين فى النص؟ واحد القضايا التى يحب منظرى التحليل النفسى تناولها هى طبيعة السينما من الناحية الرسمية فى علاقتها بالطبيعة الذاتية للعقل البشرى.
وعلى سبيل المثال، يستخدم المحلل النفسى العظيم جاك لاكان- الذى ينتمى الى مدرسة ما بعد الفرويدية - يستخدم مصطلح ( العوز) ليصف حالة الرغبة التى لا يمكن اشباعها.

 هل السينما تخلق عالما سينمائيا يُنكر هذا العوز وتُولد بدلا منه الوفرة والاشباع ضمن تجربة المشاهدة المعروفة لنا بوضوح؟

 هذه ليست فقط مسألة التوقع فى الفيلم الروائى، حيث تنتهى الاحداث نهاية سعيدة وحيث شرير الفيلم يلقى الهزيمة فيلتأم شمل الحبيبين، انها ايضا تتضمن الطريقة التى تُمنتج بها اللقطات لخلق عالم سلس يستطيع المُشاهد ان يميزه.
فعندما نسمع طلق نارى من خارج الكادر – على سبيل المثال – فاننا نتوقع ان تتحرك الكاميرا او ان يقطع الفيلم على ما يحدث حتى نعرف بسرعة مستجدات الحدث، واذا قدم لنا الفيلم لقطة تأسيسية لشخصيتين فى محادثة، فاننا نتوقع ان الكاميرا ستنتقل الى اللقطات المقربة حتى نستطيع ان نعرف بدقة التعبيرات على وجهى الشخصيتين.

 وكما يقول روب وايت فى (كتاب السينما) تعليقا على البُعد السيكولوجى فى كتابات استاذ السيمياء كريستين ميتز (بينما يجلس المُشاهد قابعا.. فانه يتناسى الحالة الحقيقية له كمجرد شخص يجلس فى دار السينما مع آخرين، كما يتناسى الاساليب الفنية للفيلم الروائى مثل حركة الكاميرا والمونتاج والاضاءة والميزانسين... ألخ، ويترك المُشاهد نفسه مستسلما الى نوع من التصديق لافكار فاسقة وماكرة وجشعة) هذا التصديق يلعب (الدور الرئيسى فى المُشاهدة، ويوفر للمُشاهد الاحاطة بتطورات القصة فى الفيلم)

ولكى نفهم لماذا يُنظر الى هذا الامر باعتباره احد القضايا بالنسبة الى منظرى التحليل النفسى، فاننا نحتاج ان نتحدث قليلا عن فكرة لاكان عن ( مرحلة المرآة) ونعرض ايضا لرحلة افلاطون الشهيرة الى الكهف فى كتابه ( الجمهورية).

 فى مقالة ( مرحلة المرآة كملمح تكوينى فى الانا طبقا لطريقة التعبير عنها فى ممارسة التحليل النفسى) يناقش لاكان كيفية ادراك الطفل لصورته فى المرحلة السنية بين ستة اشهر وثمانية عشر شهرا.
(عندما يكون عمر الطفل قصيرا، فان الشمبانزى يتفوق عليه فى الذكاء رغم ان الطفل يستطيع ادراك صورته فى المرآة) وهذا الادراك الوهمى يمنح الرضيع احساسا زائفا بالتفوق.
تُصدق الأنا نفسها بانها مركز العالم، وهنا نص كلمات لاكان ( التصور البهيج للصورة الزاهية التى تتكون لدى الطفل عن نفسه فى مرحلة الرضاعة، تتلازم مع عجزه عن الحركة.... قبل ان يتم توكيدها من خلال جدلية اثبات الذات من خلال الآخرين، وقبل ان تُثبت اللغة له صورته كموضوع) 


فى الكتاب السابع من (الجمهورية) يتحدث افلاطون عن قبو تحت الارض مملوء بالناس المقيدين بالسلاسل منذ الولادة ولا يستطيعون ان يتحركوا ولا حتى ان يحركوا رؤوسهم، وهناك حائط فى مقابل الكهف، ونظرا لوجود نيران كبيرة مشتعلة فى الاعلى، فان الناس يرون ظلال ناس يعبرون ويُلقون امام الحائط، ويعتقد افلاطون ان هذا هو واقعهم، انهم ظلال وليسوا اناس من عظم ولحم.
 
ويستطرد افلاطون ( قلت لهم ان الحقيقة قد لا تكون شيئا سوى ظلال الصور) وعندما يتصادف ان يتم اطلاق سراح السجناء من الكهف، يستطرد افلاطون ( يشعر الواحد منهم بآلام لا تُطاق، ويتأذى من النور ولا تكون لديه القدرة على رؤية الاشياء على حقيقتها- تلك الاشياء التى كان يراها فى السابق كظلال)
 
دوار


ويستمر افلاطون فى القول ( ألا يتخيل الفرد ان الظلال التى رآها فى السابق اصدق من الاشياء التى تتراءى له الآن؟) ويأتى الرد ( اصدق تماما)

نستطيع ان نعرف من الاستشهادات التى اخذناها من لاكان وافلاطون كيف اهتم منظرى التحليل النفسى بالادراك الثانوى الذى يتحول الى ادراك زائف، ألا تمنحنا السينما غالبا احساسا زائفا بالتفوق وتُبقينا فى حالة من الأسر المتنامى؟ أليست – فى احيان كثيرة – تتركنا معتقدين بأن الظلال اكثر حقيقة من الواقع؟

كم مرة تداعت السينما الى اذهاننا؟ وطبقا لرأى جان لوى بودرى وآخرين ينتمون الى ( النظرية المادية) فان الكهف يصبح هو السينما ( باستجداء السينما ان تقدم الحلم الذى تعبر عنه) ويواصل حديثه فى مقالة تسمى ( المادية) قائلا ( نحن واعون بتحطيمنا لرمزية الكهف عبر التعامل مع السينما ( الخيال) كحقيقة منذ زمن طويل من خلال بنية السينما المادية)

 وفى مقال آخر عنوانه ( التأثيرات الايديولوجية لاسس المادية السينمائية) يقول بودرى ( الاسقاط والانعكاس يحدث فى مكان مغلق، والذين يمكثون فيه- وسواء كانوا واعين بحقيقة الامر ام لا- ( لكنهم ليسوا واعين) يجدون انفسهم مقيدين بسلاسل او مقبوض عليهم او مسجونين)

 من الواضح ان بعض النقاد لديهم مشكلة مع هذا الموقف المتطرف من مُنظرى نظرية المادية السينمائية، ويقول روب وايت فى (كتاب السينما) ( لكى يضحدا الرأى الذى يتحدث عن ارتداد المُشاهد السينمائى الى عالم الطفولة......... احتاج ميتز وبودرى الى ادعاء ان القدرة على نقد الضمير وبداهة المنطق يتم تعطيلهما كجزء من عمل المادية السينمائية، فى حين انهما يوظفان هذه القدرة النقدية فقط ليصلا الى هذا الاستنتاج)

 يؤمن ديفيد بوردويل انه وعلى الرغم من ان النظرية المادية لم يعد لها حظوة فى الثمانينات، وانها فشلت ليس لان العديد من اطروحاتها لم يستطع احد اثباتها (كما يعتقد) ولكن لان النظرية تحولت الى اهتمامات جديدة كانت مُنتقدة ايضا، ويقول بوردويل فى مقالة عن مابعد النظرية، ان كما هائلا من الاعتراضات على هذه النظرية لم تتناول وهن منطقها) هكذا كان بوردويل وآخرين شديدى التحامل على هذه النظرية.

على اية حال ليس هذا مكان احلال نظرية مكان نظرية، فأكثر النظريات منطقية هى التى ستفوز فى ايامنا هذه، نحن نكرر شعارنا، النظرية هى التطبيق، هل يستطيع مُنظرى نظرية التحليل النفسى ان يحدوثنا بافاضة عن الطريقة التى نمارسها فى مشاهدة السينما؟ دعونا نوضح ذلك من خلال فيلمى ( النافذة الخلفية) و( دوار) لهيتشكوك، ومن خلال فيلم (خدعة العنكبوت) لبرتولوتشى، وفيلم ( الازرق المخملى) لديفيد لينش، فالافلام الاربعة يمكن اعتبارها افلام تحليل نفسى.

فشخصية (جف) القعيد فى فيلم النافذة الخلفية يشبه السجناء فى كهف افلاطون، بينما الناقدة النسوية لورا مولفى فى مقال مشهور لها عن التحليل النفسى - نتعرض له تفصيلا فى محاضرة عن نظرية فيلم النوع - تحدثت عن (دوار) كفيلم حيث النظرة هى محور الحبكة بعد ان فندت الاستخدام السياسى للتحليل النفسى. 
 
النافذة الخلفية

 واستشهادا بكريس ويجستاف فى مقالة منشورة فى مجلة سايت اند ساوند، فان برتولوتشى استغرقته نظرية التحليل النفسى قبل وقت قليل من اخراجه لفيلم ( خدعة العنكبوت) كما استشهد ميشيل شيون بكل من فرويد ولاكان فى كتابه عن ديفيد لينش، فهذه الافلام الاربعة فعلا افلاما تنتمى الى التحليل النفسى.

 ويبدو ان فيلم النافذة الخلفية لهيتشكوك يطبق نظرية التحليل النفسى فى السينما قبل ان تتشكل هذه النظرية، ففيلم هيتشكوك كان فى عام 1954، بينما نظرية التحليل النفسى السينمائية لم تظهر قبل نهاية الستينات، فهيتشكوك يأخذ شخصية فيلمه المسلوب الحركة ويقوده الى معرفة اكبر بما يحيط به.

 فبينما باقى شخصيات فيلم النافذة الخلفية يمارسون حياتهم باجسامهم السليمة، فان ( جف) الذى مثله جيمس ستيورت يتقوقع فى وضعية ليست بعيدة عن رأى ميتز عن المُشاهد السينمائى التى نوهت عنها قبل فليل، ربما ( جف) يرى الواقع وليس الظلال لكن عجزه الجسمانى يدفعه الى حالة التلصص على العالم، ويتكون مفهومه عن العالم من خلال هذا العجز.

لكن هذا لا يقود بالضرورة الى الفهم الوضوح للعالم، فهذا من الممكن ان يخلق وجهة نظر مهتمة بالعالم الحقيقى، ويستخدم الناقد ريموند دورجانت – فى مجلة سايت اند ساوند – مصطلح الوساوس ليصف بها طريقة التأويل التى مارسها العديد من النقاد الذين تناولوا فيلم هيتشكوك، لكن هذا الوصف ينطبق ايضا على الطريقة التى يضع فيها هيتشكوك جمهوره. 

فى فيلم النافذة الخلفية، عدم قدرة ( جف) على الحركة تقوده الى فضول يستبد به، فيعمل تفكيره فى ربط الاحداث التى تتم فى الشقق المجاورة، المزج بين الادراك الحسى وموهبة هيتشكوك فى التركيز على الطبيعة السلبية لهذا الادراك الحسى تقود الى تشويق روائى وفى نفس الوقت يضع قيودا تسمح بقدر ضئيل للمشاهدة.

ويستطيع ( جف) قرب نهاية الفيلم ان يحل لغز الجريمة، لكن هذا يتطلب ان تذهب ليسا ( جراس كيللى) الى شقة القاتل، ويأتى الكثير من التشويق بسبب رهافة ليسا وعجز (جف) عن عمل اى شيئ، ويرى جان دوشيه - من مجلة كراسات السينما- ان الفيلم كناية على السينما، لكن هذا الكناية تنطبق ايضا على رأى كل من ميتز وبودرى عن الجمهور مسلوب الفكر.

وايضا قد تقول الناقدة النسوية مولفى ان وجهة نظر (جف) فى ليسا يمكن اعتبارها نظرة ذكورية تلك التى اعتادت السينما السائدة على تقديمها، وهذه النظرة الذكورة بارزة بوضوح فى فيلم آخر لهيتشكوك هو فيلم دوار، حيث تُحول نظرة الحب من سكوتى ( جيمس ستيورت) لمادلين ( كيم نوفاك ) الى معبودة.
 
الازرق المخملى

لكن هذا ليس الا استشكال العبادة، اذا كان (جف) يبحلق فعلا وليس تمثيلا، فان بحلقة سكوتى مريضة لكل معارفة القادرين على الحركة ( يجب علينا ان نستدعى عجزه النفسى عندما يصل الى ذروته ) انه مُضلل ادراكيا.

 حتى انه يقع فى الحب مع مادلين، وتُسيطر الاحداث الغير منطقية على الحبكة فى النصف الاول من الفيلم، وتراجيديتها تسيطر على النصف الثانى، انه من الواضح ان الجمهور فى الفيلمين يتم التلاعب به من خلال المخرج، ولكن هل هذا التلاعب يقود الى معرفة ( الى فهم عظيم للعالم) ام الى نوع من الاعتقال المتنامى المُتضمن فى مرحلة المرآة التى تحدث عنها لاكان وكذلك فى كهف افلاطون؟

يبدو فيلم ( خدعة العنكبوت) لبرتوليتشى اكثر تحديا من رائعتى هيتشكوك، ومن الواضح ان برتولوتشى تأثر بماركس كما تأثر بفرويد وتأثر ايضا بتقنية المسافية التى اسسها بريخت، هذا الفيلم - عن الادراك الذاتى - اُعد عن قصة قصيرة لبورجس.

تدور احداث الفيلم فى بلدة ايطالية، حيث يعود آثوس ماجنانى الابن ليكتشف الكثير عن والده الذى استشهد بسبب الشيوعية فى نهاية الثلاثينيات اثناء ذروة الفاشية، ويكسر برتولوتشى القواعد السينمائية التى تتبناها السينما التقليدية عن ايهام المُشاهدين، ويبدو فيلمه انه يكشف بوضوح ان الظلال هى الظلال على المستوى الواقعى، وان الناس ليسوا كما يتم تصويرهم على مستوى السينما.

وفى نهاية الفيلم يجد الجمهور نفسه مشوشا مثل بطل الفيلم، ويبدو كما لو انه خرج من الكهف بنفسه غير قادر على التمييز بين الحقيقة وغير الحقيقة ( لا شك ان برتولوتشى كان يعرف اسطورة افلاطون: انها تُناقش فى الفيلم من خلال تصوير الماضى الذى اتبعه برتولوتشى فى فيلم خدعة العنكبوت وكذلك فى فيلم المُمتثل، ومرة ثانية نجد توظيفا للتحليل النفسى ولكن فى اتجاه آخر غير الاستشكال.

فى فيلم (الازرق المخملى) يدخل جيفرى بومونت الى عالم الجريمة بدون ارادته، وعندما تسأله احداهن انها لا تعرف ان كان مخبرا ام مجرما بينما جيفرى ليس اى منهما، لكنه يصبح فضوليا بعد العثور على أذن مفقودة، ويتطلب الامر منه بعض الشجاعة ليمثل انه مخبرا.

ويذكرنا هذا بما كتبته الناقدة النسوية مولفى حينما تحدثت عن التلصص والسادية الموجودة فى فيلم (دوار) فتقول ( لقد اختار ان يكون شرطيا بحرية تامة لانه كان محاميا ناجحا - بكل ما يُصاحب ذلك من مطاردة وتحرى) فى فيلم ديفيد لينش يتم الخلط بين المجرم وبين المخبر، بين اللاشعور وبين عالم الجريمة، كما لو ان ديفيد لينش اراد ان يعمل فيلم اثارة به قدر اقل من الاثارة ( فحبكة الفيلم عادية) ولكن به قدر اكبر من استشكال الرغبة حيث جيفرى الشاب ليست لديه القدرة على فهم اسباب فضوله.

حاولنا فى هذه المحاضرة الا نتوسع فى توضح الاضطهاد الذى تعرضت له المادية السينمائية، ولكن ان نوضح الاساليب التى تستكشف بها الافلام القضايا النفسية ضمن اطار سينمائى خالص، وهناك العديد من الافلام شديدة التطرف عما ناقشناه اليوم، لكن فيلم النافذة الخلفية ودوار وخدعة العنكبوت والازرق المخملى تنتمى جميعها الى تصورات غنية عن السينما والتحليل النفسى، وهو ما ناقشناه اليوم بالتفصيل.

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى