25‏/09‏/2013

النظرية السيميائية والسينما

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
 
ما نريد ان نستكشفه فى هذا الاسبوع ليس فقط تعقيدات السيميائية التى تتأسس بشكل اساسى على علم الاشارات، ولكن ايضا ان نستوضح بعضا من تطبيقاتها، وعلى الرغم من ان بيير باولو بازولينى كتب مقالة ساحرة فى اواسط الستينات عنوانها "سينما الشعر" مزج فيها  الافكار السيميائية مع رؤية اندريه بازن المنحازة للواقع، لكن كريستيان ميتز كان اول من قام بالتنظير السيميائى وكانت خلفيته الاكاديمية هى علم اللغويات.
ارادت السيميائية ان تكون عكس الرأى الذى ينحاز الى الصورة الواقعية باعتبارها السائدة، وبينما كان اندريه بازن يؤمن بان السينما اقرب الى الحقيقة، فان ميتز وبيتر وولن واساتذة تحليل سينمائى آخرين مثل رولاند بارث وامبرتو اكو اوضحوا انه اذا لم تكن القضية قضية لغة فانها على الاقل مثل اللغة.
ولم يكن ميتز مهتما بكيف يكون الفيلم قريبا او بعيدا عن الواقع، لكنه اراد ان يفهم شفرات الفيلم، وكما قال جيمس موناكو فى كتابه ( كيف تقرأ فيلما) ( تحاول السيميائية ان تصف القوانين والانساق التى تحكم الظاهرة الثقافية، وهى تفعل ذلك باستخدام النموذج اللغوى، وبناءا عليه فالسيميائية فى السينما تنظر الى الفيلم بوصفه لغة).
ودعونا نستشهد بمقالة قصيرة لبارث فى كتاب ( الميثولوجيا عند يوليوس قيصر ) وهذه المقالة مكتوبة قبل وقت طويل من ظهور السيميائية كنظرية سينمائية،  لكنها مع ذلك تبدو وثيقة الصلة بالسيميائية، فبارث لم يكن مهتما بالحقيقة فى السينما او بمصداقية شكل سينمائى او آخر بقدر اهتمامه بما يقوله نسق الاشارة للفيلم.
ومن بين ما كتبه بارث ( كل الوجوه تتفصد عرقا بصفة دائمة.... ولقطات الكلوس اب التى تكشف هذا العرق  تُلمح الى ان وراء هذا العرق شيئا ما، فكل الناس تعرق لان كل الناس يتجادلون واحيانا يتجادلون مع انفسهم) والشخص الوحيد الذى لا يتفصد عرقا هو يوليوس قيصر ( .... اداة الجريمة تظل جافة لانها لا تعرف كما انها لا تفكر .... )

وامبرتو اكو يوضح هذا الامر بتشبيه ممتع للصراع بين الغرب الامريكى والهنود الحمر باعتبارهما اعداء، فامبرتو اكو يكشف ثمانية وعشرين كلاشيها من بينها ( ظهور الهنود الحمر فى الفيلم فى مجموعة صغيرة فوق التلال المحاصرة، والقيام باعمال حراسة فى امكان منعزلة تماما لا تحتاج مثل هذه الحراسة ) و ( الهجوم وتطويق العربات، ولكن تظل منطقة ما فى هذا التطويق بحيث يمكن ان يهرب منها الواحد وراء الآخر ) فالرموز والكلاشيهات دائما مترابطان.

ويشير كل من بارث واكو الى ان المخرجين يستخدمون الآلة الكاتبة فى كتابة السيناريوهات، وشرح تعقيدات الشخصية ودوافعها او محاولات الهنود فى التعريف بانفسهم، كل هذه الامور ليست ذات صلة بنظام الاشارات التى تجعل المشاهدين يفهمون الامور بسهولة.
وهنا توجد ثلاثة مجموعات من الاصطلاحات التى ربما تكون مفيدة فى التوضيح قبل ان ننتقل الى باقى الموضوع، اولا اصطلاحان ( الدال والمدلول ) وثانيا اصطلاحان ( المعنى الظاهر والمعنى الضمنى ) وثالثا اصطلاحان ( السينتاجماتك والباراديجمتك  )
الاصطلاحان الاولان يميزان بين الدال وبين ما يدل عليه، ويسمى هذا فى اللغة بالتصنيف، فهناك فرق كبير بين كلمة وردة وبين الوردة الحقيقية.
ان هذا من الممكن ان يُسمى شيئا آخر واذا نحن وافقنا جميعا على ان الوردة هى التيوليب فهذا جيد لانه لا توجد علاقة جوهرية بين الدال وما يدل عليه، وفى اللغة التى تعتمد على الكتابة لا يهم اذا كانت الكلمة تحمل معنا آخر فالمهم هو المعنى المقصود الذى تستحضره الكلمة.
لكن السيميائيين يشيرون الى ان الامر مختلف فى السينما، فصورة الورة والوردة الحقيقية تربطهما رابطة واضحة، فالفرق بين الاشارة وما تشير اليه قليل جدا، وبينما يتكلم سوسير عن الدال كصورة صوتية والمدلول كتصور وان الاثنين يصنعان الاشارة، فالسينما اقرب ما تكون الى رأى اندريه بازن الذى يتحدث عن ( حقيقة الصورة) بينما يميل بازولينى الى السيميائية فيما اطلق عليه ( اللغة المكتوبة للواقع ).
والاصطلاحان الثانيان هما (المعنى الظاهر والمعنى الضمنى) وهما يوضحان الفرق الحقيقى بين ماهية الشئ وبين ما يُلمح اليه.
فالوردة زهرة تنمو فى الطبيعة لكنها ايضا تحمل العديد من التلميحات، فعندما نرى شخصا يسير فى الطريق وفى يده وردة فاننا لا نفكر فى الوردة باعتبارها زهرة تنمو فى الطبيعة ولكننا نفكر فى ان هذا الشخص سوف يذهب ليقابل حبيبته، ودعونا نعود بفكرنا الى مقولة بارث.
لو انه وجد كل تلك الوجوه التى تتفصد عرقا شيئا سخيفا، فهذا يكمن فى ان المعنى الضمنى يطغى على المعنى الظاهر، هل كل الرومان يتعرقون بغزارة فى درجات حرارة اعتادوا عليها جيدا: ام انها الطريقة البلهاء للسينما لاعطاء معنى ضمنى يعبر عن ضمائرهم الخربة، كما يقول بارث؟
المجموعة الثالثة من الاصطلاحات هى الباراديجمتك والسينتاجماتك، وهما مفيدان فى فهم طبيعة شكل الفيلم، فعندما نشاهد لقطة، سواء بوعى او بدون وعى، فاننا نكون على علم بان اللقطة من الممكن ان تكون مختلفة جدا عما شاهدناه.
اذا كانت اللقطة مأخوذة من زاوية منخفضة للشرير وهو يطارد بطلة الفيلم خلال الشوارع، فاننا نكون على علم بتوفر خيارات اخرى متاحة للمخرج، فهو يستطيع استخدام لقطة الكلوس اب او لقطة مأخوذة من زاوية عالية او لقطة وجهة النظر لبطلة الفيلم عندما تلتفت لتواجهه، هذا مختلف عن السينتاجمتك حيث تكمن اهميته فى العلاقة بين اللقطة المختارة وبين كل اللقطات المختارة الاخرى.
 هذا هو الفرق بين الميزانسين وبين المونتاج، فالمخرج يجب عليه ان يختار كيف يصور مشهدا معينا – الباراديجمتك – لكنه يجب عليه ايضا ان يراعى ان يتوافق هذا المشهد مع التيمة الفنية لكل الفيلم – السينتاجماتك – وكما يقول جيمس موناكو فى كتاب – كيف تقرأ فيلما – ( اى الخيارات نعمل: السينتاجمتك .... كيف تُمنتج الفيلم: الباراديجمتك .......كيف نُخرج الفيلم.
الاصطلاحان باراديجمتك وسينتاجماتك مفيدان جدا فى فهم الاطار، والاصطلاحان – المعنى الضمنى والمعنى الظاهر- مفيدان لفهم المحتوى، عندما تحدث بارث عن يوليوس قيصر فانه اهتم بالحديث عن المحتوى، ولكى نفسر محتوى فيلم فانه من المفيد احيانا ان نتفكر فى الكيفية التى تقدم فيها السينما المعانى الضمنية بصرف النظر عن ان السينما لديها القدرة على تقديم المعنى الظاهر بصورة جيدة فيما له صلة بالواقعية.
السيميائيون يستعيرون الاصطلاحات من الفلاسفة – مثل س اس بيرس – ومن اللغويين مثل سوسير، ومن نظرية الادب استعاروا الكثير لتوضيح ان ادوات الفيلم مثلها مثل اللغة، ومن بين هذه الاصطلاحات الادبية، السياق والعلامة والكنية والكناية والرمز، هذه المصطلحات ليس من السهل التمييز بينها دائما، كما ان دلالة بعض من هذه المصطلحات متداخل، لكن تطبيقات هذه المصطلاحات اكثر اهمية من تعريفها.
ولنأخذ مثال الكناية وكيف يوظفها المخرجون فى علاقة مع الالوان، الكناية تعنى كيفية تعميم الوصف على الكل، ويُفرق عالم اللغويات رومان جاكوبسون الكناية عن الاستعارة بالقول ان الاستعارة تتطلب استبدال اما الكناية فهى تتطلب سياقا.
وبشكل عام فان السينما اطار يتعامل مع الاستعارة، وتفسح المجال لنفسها لتتعامل مع الكناية، وغالبا فان المخرجين يستخدمون تيمة اللون لاعطاء معنى اوضح لمشاعر الشخصيات ضمن امكانيات السرد، وعلى سبيل المثال فان فيلم - بعيدا عن الجنة – يخلق كناية واضحة من خلال اللون كما فى شخصية جوليان مور وزوجها اللذان يواجهان ازمات متعددة.
اذا قدرنا على التعرف على تشاؤمية ديفيد ثيوليس اولم نستطع ان نهرب تماما منها فى ( العارى ) فهل هذا لان المخرج مايك لى اصر على استخدام نظام ألوان باهتة حيث اللون الاحمر على سبيل المثال تم حذفه من الباليتة؟ هذا تحديد للكناية، حيث يمثل الميزانسين ملمحا للشخصية دون فصل ذلك عن ضرورات الواقع.
السياق من الممكن ان يكون طريقة مفيدة جدا للمخرجين الذين يريدون ان يعملوا بدقة كبيرة، او يعملون بميزانية منخفضة ويتجنبوا التكلفة العالية للتصوير ليحققوا اهدافهم، ونستطيع ان نلاحظ مثالا على السياق فى بداية فيلم -الالوان الثلاثة- فالازرق يعبر عن اصطدام سيارة ويتم تقديمه بصورة اساسية من خلال صوت من خارج الكادر ومن خلال رد فعل شاب على الحدث.
وهذا مُستخدم ايضا فى افلام بريسون مثل فيلم – النقود – حيث يركز بريسون اللقطة على اليد التى تدفع الرجل، ونستمع الى صوت من خارج الكادر لرجل يصطدم بمائدة، فى مثال الكناية هناك اثراء لفهمنا للفيلم اذا اردنا ان نعى استخدام اللون فى الفيلم، لكن امثلتنا عن السياق تتركز على فهمنا لاحداث الفيلم، فى فيلم العارى وفيلم بعيدا عن الجنة،  فان الالوان تُضيف الى التيمة التى يتكون منها الفيلم.
والكنية غالبا تُستخدم بالتبادل مع الكناية، ولكن يمكن توظيفها بشكل مفيد فيما يتعلق بموضوع او مادة توازيها او فى السمات الشخصية، انها الجزء الذى يستطيع ان يِشير الى الكل وغالبا فانها تحدد الشخصية دون اللجوء الى التفاصيل.
وفى نوعية فيلم الجريمة الابيض واسود المعروف باسم – الفيلم نوار – فان هذه النوعية تستهويها الكنية: ودعونا نتذكر سوار القدم لباربارا ستانويك الذى ترتديه فى فيلم – تعويض مُضاعف – انه يلمح الى معانى جنسية، او نتذكر السجائر التى تُدخنها ريتا هيوارث واورسون ويلز فهذا يعبر عن الاحباط والملل من جانب ريتا هيوارث فى فيلم – سيدة من شنغهاى – لاورسن ويلز، وفى فيلم – اضراب – لسيرجى ايزنشتين فان للسيجار الفاخر ملمحا سيميائيا يستمدها من الواقع، لكنه من الممكن ايضا ان يصبح اختزالا مفيدا للمخرجين الذين يسعون لتوضيح احساس الرضا عن النفس.
بعض  من افلام النوع تصلح كأمثلة على الاشارات اكثر من الافلام الخرى، فافلام الغرب الامريكى تبدو انها توظف العلامة ، فكل ما نحتاج ان نراه هو وادى مونيومنت - فى فيلم الباحثون لجون فورد وهو نفس الوادى الذى ظهر فى اعداد كبيرة من افلام الغرب الامريكى – فهذا الوادى يجعلنا نفترض اننا فى الغرب الامريكى، ان افلام النوع تمتلأ بصور العلامات مثل الفارس الوحيد على ظهر حصان وقبعة ستاتسون والمنزل المحاط بارض.
اذا اقتنعنا بان افلام الغرب الامريكى هى اكثر افلام النوع التى تستخدم العلامات، فهل هذا يكمن فى اعداد الصور التى تحدد لنا مكاننا فى العالم؟ وبناءا عليه، ومثل الكنية ولكن بطريقة مختلفة، فان العلامة تشير الى الوسط والبيئة التى يضعنا فيها المخرج.
دعونا نفكر فى كم الافلام التى تعرض برج ايفل ونوتردام لتوضح ان المكان هو باريس، او الافلام التى تكشف عن الاتوبيسات الحمراء او ساعة بيج بن لنعرف على الفور اننا فى لندن، العلامة تختصر المدينة بعرض جزء منها، وبناءا عليه فان الامر ينسحب على الكناية  لكن العلامة تبدو اوسع فى معناها واقل ألفة من الكنية.
ولكن اين نرى الرمز وسط كل هذه المصطلحات؟ فى فيلم – نهاية العالم الآن – فان ذبح جاموسة الماء يبدو انه يرمز الى ذبح الكولونيل كورتز ، فالقطع المونتاجى يتم عليه، لكن من الناحية السردية يقدم لنا الفيلم معلومات كافية تخبرنا ان الجيش الامريكى يعتقد ان كورتز يتحمل المسؤولية ويجب التضحية به للحاجة الى قائد عسكرى: اننا فى الحقيقة لا نحتاج الى الرمز وغالبا فان توظيفه يبدو مفتعلا.
لقطة من فيلم نهاية العالم الآن لفرانسيس فورد كوبولا
 
اذا لم يكن عنصر السرد محوريا فى الفيلم، فيمكن للتفاصيل ان تبرز ثراء الموضوع، ولكن فقط اذا ظهرت بدون مباشرة، وبعض المخرجين والنقاد يتحفظون على الرمز، وعندما سأل احد الاشخاص اندريه تاركوفسكى اى اللقطات رمزية، فقيل للسائل التعيس ألا يكون ابلها، ويصر ايريك رومر على انه ضد الرمز من الناحية المبدئية، ويقول فيلسوف السينما الكبير جيل دولوز فى حوار منشور فى – نظامان للجنون – انه لا يؤمن بالمستويات المختلفة فى استقراء الافلام.
اذا اصبح الرمز مباشرا بصورة فجة، فهل يعبر عن التأكيد المفتعل للمخرج؟ ففى تصوير رجل يمشى فى الشارع ومعه وردة فى يده فاننا نفترض انه سيقابل حبيبته، وهذا الترميز كافى: انه جزء من العلاقة الضمنية مع العالم باسره، ولكن عندما يقطع المخرج على امواج هائجة ليرمز الى شبق الحبيبين، او يقطع الى امطار غزيرة بعد فراق الحبيبين، الا يستطيع المخرج ان يصور الشبق والألم ببساطة دون ترميزهما ايضا؟ ان كل الحيل السيميائية – فى نهاية الامر - سلمت نفسها الى نوع من النمطية.
هل نريد ان نرى فيلما باريسيا آخر يقدم لنا باريس بلقطة لبرج ايفل، او رجل اعمال يتم تقديمه لنا بسيجار سميك؟ وخلاصة القول، اذا كانت السيميائية مفيدة، فهذا يكمن فى جعلنا واعين الى جودة او رداءة توظيف المخرج لبناء الصورة، واستخدامه للاطار وعمليات المونتاج.

محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى


21‏/09‏/2013

الصوت فى السينما بين الذاتية والموضوعية


لقطة من فيلم ستحملنا الريح جميعا لعباس كياروستامى
 
محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى
 
 الصوت يستدعى فى اذهاننا صورة، اما الصورة فلا تستدعى فى اذهاننا صوتا، هكذا كتب روبير بريسون فى كتابه "ملاحظات للسينمائى"، واستشهادا بمايكل شيون فى كتابه "الصوت - رؤية" فان روبير بريسون كان واحدا من صناع افلام قليلين من الماضى الذين اهتموا بالصوت.
 
"بالنسبة للكثير من الافلام التقليدية فهذا التجاهل – لمناقشة طبيعة الصوت او الضجيج  فى نظرية الفيلم – يتناسب مع الحضور الضئيل للصوت فى الافلام نفسها.... والاستثناءات المذكورة فى السينما الكلاسيكية دائما تكون هى نفسها، فاقصى جهدهم انحصر فى وضع القواعد: مثل كتابات تاتى وبريسون واثنين او ثلاثة آخرين".


ان شيون – بدون شك- لديه وجهة نظر، وهناك القليل من النقاد المؤهلين اكثر ليفهموا الموضوع: فشيون واحدا من اوائل المنظرين للصوت فى الافلام وهو موسيقيا ايضا.


وعلى ايه حال، فان ما نريد ان نستوضحه اليوم هو نماذج من الاستخدام الجيد لعنصر الصوت فى السينما، سواء كان الصوت محيطى او موسيقى صادرة من مصدر فى اللقطة او موسيقى تصويرية او الصوت العالى او الانفجارات وما الى ذلك من امثلة، ولكى نكون على مستوى الفهم لهذه الايضاحات، فاننا سنتعامل مع اصطلاحات مؤقتة لتساعدنا على طول الطريق: وهذه المصطلحات هى الصوت الذاتى والصوت الموضوعى، والصوت البؤرى والصوت المحيطى.


عندما قال المخرج المكسيكى كارلوس ريجاداس فى حوار لمجلة سايت اند ساوند (فبراير 2002) ان هناك صوت موضوعى وصوت ذاتى، فقد استشهد بعباس كياروستامى كمثال للصوت الموضوعى، واستشهد باندريه تاركوفسكى فى استخدامه للصوت الذاتى، وقد يرى البعض ان هذين المصطلحين تصنيفيين جدا، وبرغم ذلك فانهما احد وسائل فهم عمل المخرجين خلال تعاملهم مع شريط الصوت.


ومن الاسباب التى جعلت عباس كياروستامى يتجنب - وليس دائما - استخدام الموسيقى التصويرية فى افلامه مثل فيلمه "كلوس اب" و "طعم الكريز" و "ستحملنا الريح جميعا"، ان هذه الافلام يُنظر اليها على انها واقعية، والمقصود بالموسيقى التصويرية، انها الموسيقى التى نسمعها فى الفيلم دون ان يكون لها مصدر فى اللقطة مثل قرص مدمج او موسيقى فى الراديو، اما افلام تاركوفسكى فانها تكتسب اهميتها من استخدام الموسيقى التصويرية، وعندما استخدم كياروستامى الموسيقى التصويرية فى فيلم "اين منزل الصديق؟" فقد كان ذلك فى فقرات رئيسية فى الفيلم، كما استخدمها باقتضاب كبير فى فيلم "وتستمر الحياة" واستخدمها كذلك فقط فى نهايات افلامه "خلال اشجار الزيتون" و "طعم الكريز" و "ستحملنا الريح جميعا".


اما عند تاركوفسكى فالموسيقى التصويرية عنصر اساسى فى افلامه، وكما قال فى "النحت فى الزمن" "الموسيقى يمكن ان تُضيف الى المادة المُصورة حالة شعرية تتولد من تجربة المؤلف، ففى فيلم السيرة الذاتية "المرآة"، على سبيل المثال، يتم تقديم الموسيقى باعتبارها جزء من مادة الحياة، ومن التجربة النفسية للمؤلف، وبناءا عليه، فهى عنصر محورى فى حياه بطل الفيلم الشعرية"


وفى فيلم "حنين" هناك تللك اللحظة التى نستمع فيها الى صوت كورال فى شريط الصوت بينما بطل الفيلم ينظر الى يسار الكادر وتبتعد الكاميرا عنه حتى يخرج من الكادر ثم نراه يظهر مرة اخرى فى نهاية هذه اللقطة المتحركة امام المدفأة كما لو ان بطل الفيلم شخصين، فبدا الامر كما لو انه كان ينظر فى بداية اللقطة الى نفسه وها هو يظهر فى نهاية اللقطة.
لقطة من فيلم حنين لتاركوفسكى
 
الموسيقى تُضيف الى الرؤية الذاتية احساسا باننا لسنا فى عالم واقعى ولكننا فى عالم ميتافيزيقى، وهذا يوضح لماذا يستخدم تاركوفسكى الموسيقى فى افلامه دائما رغم بعض التحفظات، "يجب ان اقول بقناعة تامة اننى لا اعتقد ان السينما تحتاج الى الموسيقى على الاطلاق"، لكنه يعترف بان الموسيقى "دائما ما تجد لنفسها مكانا فى افلامى وانها تكون مهمة وجميلة"، وقد تكون موجودة فى افلامه على هذا النحو لانه، يستطرد "اود منها الا تُعبر بسطحية عما يدور على الشاشة".


وفى مشهد من فيلم "حنين" لانجد الموسيقى متوافقة مع المشهد، - انها لا تقول لنا كيف نحس – لكنها تكسر الهدوء، انها تجعلنا نتساءل ما هذا العالم الذى نتواجد فيه حيث نرى رجلا يبدو انه ينظر الى نفسه ليس عبر مرآة ولكن عبر زجاج جانبى.


ورغم اننا لا يجب ان نقر ان استخدام الموسيقى التصويرية يتلازم دائما مع الذاتية، فانها غالبا ما تكون احد العناصر التى تخفف من احساس الموضوعية فى المشهد، وفى فيلم "سولاريس" لتاركوفسكى نجد ان الموسيقى والصوت يجعلانا نعرف اننا لسنا فى عالم موضوعى، رغم ان  اصطلاح (ذاتى) مفرط فى التبسيط  ليصف الحالة التى يستحضرها المخرج.


واذا فكرنا فى المشهد الذى يعرض لنا الشخصية المحورية وهو يدخل الى حجرة فى المحطة الفضائية ويرى زوجته الاخيرة وهى تجلس على طاولة، فان الصوت والصورة يأخذانا الى عالم آخر، ومرة ثانية وكما فى فيلم "حنين" فان الكاميرا تبدو كما لو انها تراوغنا، مثل اللحظة التى يتجه فيها كريس كيلفين ناحية زوجته لمجرد ان يدور حولها فنرى زوجته خلفه.


وبينما الفيلم يقترب من وجه الزوجة، فانه يقطع على سلسلة من اللقطات والحركات الجانبية للكاميرا التى تصور لوحات بروجل، بينما الصوت المصاحب يتكون من اصوات لغناء الطيور ونباح الكلاب، كما نستمع الى موسيقى ولكنها قليلة، وعندئذ يقطع الفيلم على صبى صغير على تلة من الثلوج، وبعد ذلك نعود الى كريس وزوجته فى المحطة الفضائية، وبعد عدة لحظات نرى عوامة تطفو، ثم نرى زوجة كريس تسبح فى الفراغ، ان هذا ليس الكون الحقيقى ذلك الذى يخلقه تاركوفسكى، والقصة بلا شك تتوقف عند قدرة الكوكب على توليد تجسيدات الخطيئة: مثل اعادة الموتى الى شكل من اشكال الحياة – فكريس يستعيد زوجته الاخيرة – وبناءا عليه فان موضوعية الصوت فى افلام تاركوفسكى لا محل لها فى رؤيته.

 
ومما لاشك فيه ان المخرج المكسيكى ريجاداس يُصنف افلامه على انها تاركوفسكية، فهو مخرج يهتم بالسينما بوصفها قضية ميتافيزيقة وبوصفها طريقة لاستكشاف مسائل تتجاوز حياتنا العادية، وبرغم ذلك فهو يستخدم الصوت ليستحضر نوعا من التناقض بين الذاتية والموضوعية، ومثالنا على ذلك، مشهد المترو فى فيلم "معركة فى الجنة".
لقطة من فيلم معركة في الجنة لكارلوس ريجاداس
 
ففى هذا المشهد نرى بطل الفيلم يوقف صوت الساعات المنبهة التى يبيعها فنستمع الى اصوات الناس الذين يمشون فى المترو حتى يصبح هذا الصوت هو الاكثر وضوحا، فبينما ينسحب احد الاصوات فان الصوت الآخر يعلو تدريجيا حتى يسود المشهد، فالمخرج يتلاعب بمستويات شريط الصوت فى المشهد، فقد استخدم كل من تاركوفسكى وريجاداس الصوت لاستدعاء معان جديدة فى المشهد.


ولدينا مخرج آخر اشتهر باستخدامه لشريط الصوت بطرق غير تقليدية، انه بالطبع ديفيد لينش الذى استرعى انتباه شيون حتى انه ألف كتابا كاملا عنه بعنوان ديفيد لينش، ان افلام لينش تنحو الى تحرير شخصياته من الاحكام المسبقة، مثلما نجد فى تحولات الشخصية فى فيلم "الطريق السريع المفقود" و "محرك مولهولاند" لكنه قدم هذا ايضا من خلال التمثيل الصامت.


عندما غنى دين ستوكويل اغنية روى اوربيسون "الازرق المخملى" وجدنا انفسنا مأثورين بين الموسيقى المؤداة وفى نفس الوقت مع الموسيقى التى بدت انها نابعة من شخصية ستوكويل، وهذا الامر بدا واضحا اكثر فى المشاهد الصامتة فى فيلم "محرك مولهولاند" حيث المغنى الذى يقلد الاغنية يُغمى عليه على خشبة المسرح وتستمر الاغنية كما لو انها تخرج من جسده وتحلق حوله.
 
وفى المثالين السابقين نلحظ استخداما مبسطا للتمثيل الصامت يصبح استخداما مركبا للصوت، ومرة ثانية، كما فى تاركوفسكى وريجاداس فان الصوت ليس موضوعيا لكننا لا نستطيع ايضا ان نسميه ذاتيا على الرغم من انه ينتمى الى الذاتية اكثر من الموضوعية.


وثمة مثال أخر اكثر وضوحا على استخدام الصوت الذاتى نراه عند المخرج مارتن سكورسيزى، فمشاهد حلقة الملاكمة من فيلم "الثور الهائج" تعكس الضربات المُوجهه وضربات الخصم، بينما موسيقى برنارد هيرمان التصويرية فى فيلم "سائق التاكسى" تلتقط ببراعة حالة الجنون العقلى لشخصية بيكل، فمن الواضح ان استخدام سكورسيزى للصوت ليس سهلا.
 
لقطة من فيلم سائق التاكسى لمارتن سكورسيزى

فالموسيقى التصويرية التى نسمعها فى فيلم "سائق التاكسى" تبدو شديدة الصلة بمشاعر بيكل، ونحن نسمع هذه الموسيقى ايضا من مصدر فى المشهد الذى يرقص فيه هارفى كيتل مع ايريس الصغيرة، وفى فيلمى "أليس لم تعد تعيش هنا" و "لون المال"، يتحرك سكورسيزى بحرية بين الموسيقى التصويرية والموسيقى الصادرة من المشاهد، ففى الفيلمين نرى الشخصيات تستمع الى الموسيقى فى السيارة، وفى فيلم "لون المال"، على سبيل المثال، نرى بول نيومان يرفع صوت الموسيقى وهنا تصبح هى الموسيقى التصويرية للفيلم.
 
هذا الاستخدام المتكرر للصوت الذاتى فى الامثلة التى سقناها لا يعنى عدم وجود للصوت الموضوعى فى افلام هؤلاء المخرجين، فريجاداس كان حساسا جدا الى اصوات المدينة وشذرات حوارية تصدر من خارج الكادر واصوات صخب المدينة، ولسكورسيزى توظيفا واقعيا لعنصر الصوت فى افلام مثل "الشوارع القذرة" و"سائق التاكسى"، ومن الافضل لنا ان ننظر الى الذاتية والموضوعية  كطرفى نقيض، فالبعض مثل لينش كان غالبا يعمل مع طرف واحد، اما سكورسيزى فكان افرب الى الرأى الوسطى.

 
وايضا عندما نفكر فى مخرجين مثل الاخوين داردن وكياروستامى وموريس بيالا وكن لوتش، فيبدو لنا الامر كما لو ان شريط الصوت موضوعى، ولكن على الرغم من ذلك لابد ان نعترف بان هذا التصنيف تعسفى عندما نفكر فى الطريقة التى يستخدم بها كياروستامى الصوت فى المشاهد التى يتم تصويرها فى سيارات.


ففى فيلم "طعم الكريز"، على سبيل المثال، يبدو الصوت واقعيا فى المشاهد المبكرة حيث نرى السيد بديع يسأل اسئلة ويتلقى اجابات ويستمع باهتمام الى المناقشات التى تدور حوله بينما يقود سيارته فى ضواحى طهران، وعلى ايه حال، ففى لحظات لاحقة عندما يركب معه فى السيارة احد الركاب، فان الصوت يصبح قريبا بينما السيارة تبتعد، وفى المحادثة الاولى بين شخصية بديع والمحنط التركى- تم تصويرها فى لقطة عامة - لكن الصوت كان قريبا جدا، فالصوت موضوعى باساليب مختلفة، لكننا لا نستطيع ان نسمع محادثة تتم بعيدا عنا مالم تساعدنا المعدات الصوتية.



وعلى ايه حال، فالامر يبدو مجحفا ان نتناول الصوت فى افلام لينش وتاركوفسكى على انه صوت ذاتى، وسوف نتحدث قليلا عن هذا الامر لاحقا عندما نناقش الصوت البؤرى والصوت المحيطى.

وكذلك فالعديد ينظرون الى رومان بولانسكى كمخرج يستهويه الصوت الذاتى كما فى فيلم "التنافر" وفيلم "طفل روزمارى" وفيلم "النزيل"، لكن مهندس الصوت والتر مورش تحدث عن القاء بولانسكى محاضرة فى منتصف الستينات حيث "تحدث باحتفاء عن اصالة الصوت نفسه، وثمة مثال استخدمه تعلق بتنقيط  صنبور الماء وان هذا يخبرك عن شخص، وعن الشقة التى يعيشوا فيها وعلاقتهم باشياء عديدة"، صوت "المحادثات" هنا قد يكون موضوعى والموسيقى صادرة من المشاهد، ولكنها يمكن ان تلمح الى الحالة النفسية لبطل الفيلم.

ونفس الامر يمكن ان يقال عن الصوت فى بداية فيلم "النافذة الخلفية" لهيتشكوك، هناك اصوات موضوعية صادرة من الحى ونحن نسمعها، لكن هذه الاصوات تُسمع من خلال شخصية جيفرس الذى يعانى من الملل بينما يجلس وساقه موضوعة فى الجبس، واذا كانت الضوضاء الموضوعية فى فيلم بولانسكى تُلمح الى حالة الملل، فان فيلم هيتشكوك – فى هذه الحالة- يمكن ان يدل على الملل.


استخدام الصوت فى المشهد الاول من فيلم "النافذة الخلفية" يبدو مختلفا تماما عن طريقة استخدام هيتشكوك للصوت فى الخمسين فيلم الاخرى التى اخرجها، ففى المشهد الذى يتبع فيه سكوتى مادلين خلال شوارع سان فرانسسكو من فيلم "دوار" فان الموضوعية تبدو انها تفسح المكان للذاتية: فاللحن الرئيسى للفيلم والذى ألفه برنارد هيرمان يعبر عن وقوع سكوتى فى الحب، ان عمل لحن اساسى يعكس مشاعر الشخصية هو من الامور الشائعة فى السينما، فالامر لا يعدو ان يكون تأليف لحن اساسى يهدف الى التعبير عن هذه المشاعر.



وهناك ألحان اساسية لافلام تبدو انها مؤلفة لتتوافق مع الشخصية، كما فى تيمة فيلم "دكتور زيفاجو"، وكذلك تيمة هارى ليم فى فيلم "الرجل الثالث"، واحيانا يمكن لاغنية ان تعبر عن افكار ومشاعر شخصية رغم ان نص هذه الاغنية مختلف تماما، فاغنية وارن زيفون - ذئاب لندن - اُستخدمت فى فيلم "لون المال"، واغنية - جامبن - لجاك فلاش استخدمت فى فيلم "شوارع قذرة"، واغنية - وُلد ليكون حرا - استخدمت فى فيلم "إيزى رايدر".



وفى مناسبات اخرى يتم تأليف الاغنية خصيصا للفيلم ولكن كلماتها لا تنبع من نص الفيلم مثل اغنية - للاعلى ننتمى - فى فيلم - "الشرطى والجنتلمان" - واغنية - عين النمر- فى "فيلم روكى 3 ".



فى نهاية فيلم "الشرطى والجنتلمان"، عندما يدخل ريتشارد جير الى المصنع ويسحب دبرا وانجر بعيدا، فان اغنية جنيفر وارن وجو كوكر تعبر عن سعادة وانجر بعودته، بينما روكى يعود الى التدريبات على خلفية اغنية عين النمر التى ربما تكون اكثر ما نتذكره فى هذا الفيلم، انها اللحظة التى تعكس ارادة الشخصية وعزيمته بصورة جيدة.



وفى بعض الحالات تكون الموسيقى صادرة من المشهد -كما فى مشهد حمام السباحة فى فيلم "لون المال" - واحيانا نسمع الاغنية من خارج الكادر بدون مصدر لها من المشهد - كما فى فيلم "الشرطى والجنتلمان" - لكن المشهدين متساويين فى التعبير عن حالة الشخصية: انهما يعكسان احاسيسا معينة.



وبينما الاغنية فى فيلم "لون المال" والتى يستمع اليها بطل الفيلم قد تم توزيعها قبل اخراج الفيلم بسنوات، فان الاغنية فى فيلم "الشرطى والجنتلمان" قد تم تأليفها خصيصا للفيلم ولم نرى مصدر الاغنية فى المشهد لكنها كانت تعكس ايضا مشاعر الشخصية بنفس القدر.



وثمة مثال آخر جيد للموسيقى التى لها مصدر فى المشهد وتعكس حالة الشخصية نجدها فى اغنية - كاليفورنيا تحلم - من فيلم "تشانجكنج اكسبريس" لونج كار وى، فالاغنية تبدو كما لو انها ألفت خصيصا للفيلم فهى تعكس حالة الشخصية بدقة.



ان ما يجعل الموسيقى والصوت ذاتيا فى هذه الامثلة التى سقناها، انها تعكس افكار ومشاعر الشخصيات، وبناءا عليه فيمكن وصفها بانها ذاتية سواء كانت صادرة من المشهد ام موسيقى تصويرية وسواء أُلفت خصيصا للفيلم ام اختيرت له.

ولكن ما هو الصوت الموضوعى فى السينما؟ لقد ألمحنا الى كياروستامى على الرغم من اننا شككنا فى طريقة توظيفه فى افلامه، مثل فيلم "طعم الكريز" بسبب بعد مسافة السيارة عن المحادثة التى تدور فيها، ومع ذلك فالصوت فى هذا الفيلم ينتمى الى الصوت الموضوعى لسبب واضح وهو ان الصوت لا يخدم الذاتية، وفى فيلم "كلوس اب" لكياروستامى ايضا فموضوعية الصوت اكثر وضوحا.

 
ففى اول مشاهد الفيلم حيث يدخل الصحفى الى التاكسى مع اثنين من الشرطة، نسمع صوت السيارات التى تعبر الشارع بوضوح، وحتى عندما يتحدث الصحفى مع سائق التاكسى فى السيارة، فان صوت المحادثة يتداخل مع صوت السيارات العابرة واصوات الابواق وحتى اصوات صفارة انذار، فهذه الاصوات التى تأتى من خارج الكادر ليس لها اهمية، لكنها تعطى للمشهد احساسا قويا بالصوت المحيطى، فالعالم مستمر فيما وراء الشخصيات التى يتم التركيز عليها.
وعندما استخدم هيتشكوك الصوت المحيطى فى فيلم "النافذة الخلفية"، فانه لم يطغ على الصوت البؤرى للشخصية، بل كان الاكثر وضوحا، ونفس الحال نراه فى استخدام بولانسكى للصوت، فهيتشكوك وبولانسكى ارادا ان يستخدما الصوت المحيطى الذى يعبر عن الاجواء التى يعيش فيها الشخص بصرف النظر عن ان موضوعيتها امر ثانوى.

وعلى ايه حال، فثمة مخرجين شاركوا كياروستامى اهتمامه بنمط الموضوعية فى الصوت والذى يبدو مخالفا لافكار ومشاعر الشخصيات، هؤلاء المخرجون من بينهم موريس بيالا وكن لوتش والاخوين داردن، ففى فيلم "فى حبنا" لبيالا هناك مشهد افتتاحى فى بار يتابع ساندرين بونير لكنه لم يغض النظر عن الضوضاء من خارج الكادر، وبينما نسمع نقرات الكؤوس فى البار، فان النقاشات تبدو مقتضبة والشخصيات التى تظل خارج الكادر توجه حديثها الى ساندرين بونير، وبهذه الطريقة يملأ المخرج بيالا الفراغ باصوات عفوية لا يمكن لها ان تعبر عن الحالة النفسية للشخصية، وفى فيلم "لولو" يفعل نفس الشيئ مستخدما الصوت بطريقة تخالف شريط الصوت للشخصيات، وعلى هذا النحو يضع الشخصيات فى اجواء موضوعية وليس فى اجواء ذاتية، وفى احد مشاهد البار حيث تتعرض الشخصية المحورية للطعن، فان شريط الصوت لا يحتوى على شيئ يُشير الى انه يعبر عن الشخصية: فلا توجد موسيقى او اصوات معبرة فى شريط الصوت.

وثمة مثال جيد على الصوت الموضوعى نجده فى فيلم "ارض وحرية" الذى يتأسس على نقاش حول حقوق الارض، فبدلا من ان يتحول النقاش ليصبح نقاشا واحدا بين شخصيتين او ثلاثة اشخاص يتناقشون مع باقى الشخصيات التى تستمع ويتم تصوير لقطات لردود افعلها، فان المخرج كن لوتش يصور النقاش بطريقة يجعل فيها الناس يتحدثون واحدا وراء الآخر، وحيث الشخصيات الثانوية فى الفيلم لديهم اراء هامة فى الموضوع، وحيث الشخصية المحورية التى مثلها ايان هارت لم يكن له سوى قول مقتضب فى الموضوع، وثمة مقتطفات منها تم ترجمتها.

فى مثل هذه الامثلة، من بيالا ولوتش، فان الاحساس بالمكان وارتباط هذا بالشخصية يبدو واضحا اكثر من الامثلة التى يوظف فيها الصوت الصادر من المشهد  ليعكس وجهة نظر الشخصية. وهذه الفكرة عن الصوت الموضوعى وصلت الى آفاق ابعد بفضل الاخوين داردن، واذا كانا واقعيان بمثالية فهذا يكمن فى اقترابهما جدا من ابطال افلامهما دون ان يخلقا شريط صوت يعكس وجهة نظر هؤلاء الابطال.

فعندما تذهب روزيتا – فى الفيلم الذى يحمل اسمها – تذهب لشراء بعض الفطائر، فان الكاميرا تُعبر عن وجهة نظرها لكن الاصوات من خارج الكادر تظل ثابتة: حيث نسمع اصوات الدراجات البخارية السريعة واصوات مرور السيارات، وفى مشهد لاحق فى الفيلم فان هذا يصبح عنصرا اساسيا: فالصديق الذى تخونه يركب دراجة بخارية ونسمع صوتها من خارج الكادر حيث يحاول ان يجعلها تدرك خطيئتها، ويظل الصوت ثابتا على اصوات من خارج الكادر للمشهد السابق، ويكتسب اهميته من علاقته بالحالة النفسية لروزيتا، لكن هذا الصوت لا يتحول الى صوت ذاتى: انه يظل واقعيا باصرار فهو لا يعكس وجهة النظر كما فى افلام هيتشكوك وبولانسكى، وفى فيلم "الطفل" للاخوين داردن فان اصوات خارج الكادر لها حضور مستمر نظرا لولع الاخوين داردن بالصوت الواقعى، فبينما يدفع برونو بعربة الطفل الخالية حول البلدة، فان صوت السيارات لا يعكس افكار برونو، انه شريط صوت مختلف جاء ليكشف عن العالم وليس ليعبر عن وجهة نظر برونو.

ان هذا التنوية عن الاصوات من خارج الكادر لا يحتاج دائما الى استدعاء الواقعية، وسبق لنا ان تحدثنا عن المصطلحين الاخرين وهما الصوت البؤرى والصوت المحيطى – فالصوت البؤرى يخص الدرجة التى يكون فيها الصوت فى وسط فضاء الشاشة السينمائية -  اما الصوت المحيطى فهو يخص الدرجة التى يكون فيها الصوت معبرا عن وجهة نظر ابعد كثيرا عن الشخصية –

فى مشهد من فيلم "الفيل" حيث يخرج لاعب كرة القدم من ارض الملعب، فان المخرج جاس فان سانت يترك موسيقى بيتهوفن تُسمع همسا فى شريط الصوت واصوات متنوعة  تُسمع من بعيد ثم تقترب: انها عن اناس يدردشون فى متنزة واصوات لعزف على جيتار.

الصوت هنا لا يبدو انه يستدعى بواقعية فضاء خارج الكادر، انه يلمح الى عالم من الحساسية فيما حول الشخصية، ونستطيع ان نجد نفس الامر ايضا فى فيلم "اوزاك" لنورى بيلج جيلان فى مشهد المنتزة قبل ان يتقدم احد الشخصيات الرئيسية بطلب لوظيفة فى احواض السفن، كما نجد نفس الامر ايضا فى فيلم "الام والابن" لالكسندر سوكوروف، فى اللحظة التى يتنهد فيها الابن امام شجرة، فهذا يسمح بأكثر من اصوت خارج الكادر الحيادية.

وفى الامثلة السابقة يصبح الصوت حاضرا بصورة ملحوظة وقريبا الينا كمشاهدين، لكنه يختلف عن اسلوب استخدامه عند هيتشكوك وبولانسكى، وايضا شديد الاختلاف عن اسلوب استخدامه عند الاخوين داردن وكن لوتش، واذا كان هيتشكوك وبولانسكى يستخدمان صوتا محيطيا لساعة منبهة او صوت تنقيط صنبور، فانهما يفعلان كل ما من شأنه ان يضعنا داخل عقلية شخصياتهما المحورية.

وعندما استخدم الاخوان داردن وكن لوتش الاصوات البعيدة فانهما فعلا ذلك للتأكيد على استقلالية الشخصيات عن هذا المحيط، فعندما يسير برونو فى الشارع فى فيلم "الطفل" ومعه عربة طفل فارغة، فالاصوات الصادرة عنه وعن عربة الطفل واضحان ومسموعان اكثر من اصوات عبور السيارات المحيطة به، وفى فيلم "الفيل" وفيلم "اوزاك" وفيلم "الام والابن"، فان الصوت المحيطى يصبح مسموعا عن قرب.

والامر لا يبدو كما لو ان الصوت يغزو الشخصية (كما فى المرضى المصابون بحساسية للضجيج)، ولا يبدو ايضا انه صوت لا تأثير له، انه طبقا لتعبير جيل دولوز، هو اشارة جنينية، اشارة صوتية من الممكن استيعابها عرضا دون التفاعل معها. (انه لا يرهص بفعل، انه ليس اكثر من صوت يتم سماعه..... وبناءا عليه فموقف الصوت انه ليس متنا وليس اشارة)، وبتعبير آخر، فان الصوت يسمح للشخصيات ان يكونوا منتبهين الى ما هو مسموع، ولكن ليس لانهم يريدون ان يكون لهم استجابة له، ولكن لانه يسمح لهم ان يأخذوا الصوت على محمل خاص، واحيانا يكون هذا الامر واضحا من خلال الشخصية كما فى فيلم "اوزاك"، واحيانا يتم فصله عن الشخصية كما فى فيلم "الفيل"، ولكن فى المثالين، وفى فيلم "الام والابن" ايضا، فان الصوت يجعل العالم حميميا ورقيقا ومترابطا.

ربما استخدامنا للصوت البؤرى والصوت المحيطى يشبه المصطلحان اللذان استخدمهما شيون – الصوت الخاص والصوت العام– او كما قال "فى اللقطة المشهد الثابتة، نستطيع ان نُطيل فضاء خارج الشاشة المُتخيل من خلال شريط الصوت" ويُضيف "ان الصوت الخاص  يخص الشخصية ويشمل اى اصوات يسمعها هذا الشخص، وعلى الطرف الآخر فاننا نطلق اصطلاح الصوت العام على المشهد الذى يحدث فى غرفة – على سبيل المثال- نحن لا نسمع الاصوات فى الغرفة فقط – بما فى ذلك اصوات من خارج الكادر – ولكننا نسمع ايضا اصوات من الردهة ونسمع حركة السيارات فى الشارع القريب ونسمع صوت صفارة انذار بعيدة وهلم جرا" واذا كان ديفيد باردويل قد استخدم مصطلح الكثافة المشهدية ليصف التفاصيل المتوفرة فى الميزانسين، عندئذ فهل يمكن لنا ان نستخدم اصطلاح الكثافة الصوتية بالنسبة للافلام التى تخلق شريط صوت مُركب؟.

ومما ناقشناه، فان مسألة الصوت العام او الصوت الخاص من الممكن ان يكونا ذاتيين او موضوعيين، ويمكن لهما ان يقودا الى اكشن ويمكن لهما ان يمنعا هذا الاكشن.

فى سينما الاكشن يعبر الصوت البعيد عن التهديد: ودعونا نتذكر قيلم رعب حيث تتشقق افرع شجرة، او فيلم حرب حيث من الممكن سماع صوت الاقدام، ان الشخصيات تتنبه بمقدار ما يستدعيه الاكشن، ويركز المخرج جهده على الصوت المحيطى لاهميته فى البعد السردى، ولكى نستطيع ان نفهم هذا الاستخدام المتعمد للصوت، دعونا نستعين بمثال من فيلم "طارد الارواح الشريرة" فان السيدة ايلين بارستين تنزل السلالم وتسمع صوت ابنتها تصرخ من خارج الكادر، عندئذ فانها تصعد السلالم عائدة وتفتح باب غرفة النوم وتنظر مذعورة الى سرير ابنتها الذى انقلب رأسا على عقب بفعل قوة غير منظورة.

وعلى الرغم من ان الفيلم يتعاطى مع قوى فيما وراء عالمنا العادى، فان اختيار اللقطة وعلاقتها بما هو خارج الكادر يظل جيدا ضمن مشاهداتنا العادية، فهناك اصوات غير اعتيادية يتم سماعها من خارج الكادر، وتنتبه الام فورا الى هذه الاصوات، هذا مثال لما اسماه شيون "صوت خارج الكادر المؤثر"، فهذا الصوت الذى لا نرى مصدره يثير الاسئلة - ما هذا؟، ماذا يحدث؟ - والذين يُجيبون يكونون خارج الكادر وهذا يُحرض على الذهاب الى هناك لالقاء نظرة – ولكن ماذا يحدث عندما لا تنتبه الشخصية الى الصوت الصادر من خارج الكادر؟ وهناك اسباب عديدة لذلك، احدها ان يكون الصوت شديد التكثيف بحيث لا يستطيع الشخص ان يفهم شيئا.

فى فيلم "مدينة سلفيا" تجلس الشخصية الرئيسية فى مقهى وتستمع الى محادثات متنوعة الامر الذى يتحول الى مجرد ثرثرات وجو من الهرج والمرج الجماعى، ليس هناك صوت مُلح يسترعى انتباهه مثل الصوت الذى يسترعى انتباه بيرستين، وايضا فانه يبدو غير مبال تماما بالصوت، ان هذا الصوت ليس ضوضاء الخلفية المفزع الذى يظهر فى فيلم "الطفل" حيث تبدو الشخصية غير مهمتة به، لكنه تدفق سلس لمحادثة فى المقهى تسمح للشخصية ان تحتمى وراء تصوراتها ورؤاها الخاصة.

ثمة صوت عام فى هذا الفيلم، كذلك فقد اراد المخرج جوسى لويس جورين ان يخلق احساسا بالاحباط من فصل الصيف فى مدينة صغيرة – هذا الفيلم تم تصويره فى مدينة ستراسبرج – ان وظائف الصوت فى هذا الفيلم ليست اساسية وليست قليلة الشأن ايضا، ويتشابه الامر مع فيلم "اوزاك" وفيلم "الفيل" وفيلم "الام والابن"، انه صوت عام محيطى واستخدامه فى هذه الافلام لا يستهدف شيئا محددا، لكنه يعطى الفرصة لعديد من التصورات، كأن نتساءل ما علاقة الصوت بشخصية معينة.

واذا كانت السينما السائدة غالبا ما تخلق صوتا بؤريا استنادا الى اهمية الصوت فى التعبير عن الحدث، او تخلق صوتا محيطيا ليس لأكثر من التعبير عن الاحاطة، فان تقنية عرض الصوت فى دار العرض السينمائى يركز بدلا من ذلك على التكثيف فى الصوت المحيطى.

وقيل ان شيون لم يحتج على التغييرات التكنولوجية فى الصوت الدولبى وانه احس ان الصوت الدولبى يجعل معظم الافلام اكثر اهتماما بتقديم ما وراء اطار اللقطة – دخول شخصية روى باتى فى فيلم  Blade Runner  كان من الممكن تنفيذه بصوت الشخصية نفسها او وقع اقدامها اذا كان الفيلم تم تسجيله  فى الاستوديو، ولكن هذه الشخصية – وكما ظهرت فى الفيلم – فان ظهورها فى اللقطة يتزامن مع سماع صوتها - وهذا يعنى – اننا دائما فى زمن المضارع المستمر، ومن جانب آخر، ففى السينما التقليدية فان الصوت القادم من خارج الكادر يستدعى توافقه مع مركز الصورة ، وبناءا عليه يمكن ان نسميه صوتا فعالا - وكما يقول شيون "ان وصول تقنية الصوت الدولبى اتاحت مستويات عديدة ومسارات كثيرة للصوت، فأمكن تخصيص احد المسارات لنستمع من خلاله الى ضوضاء واضحة متزامنة مع الحوار، ومنذئذ استطاعت اصوات الفوضى ان يكون لها حضور وملامح وليس مجرد ظهور نمطى" وعلى اية حال، فالبعض قد يناقش قناعات شيون فيما يتعلق بتصميم الصوت واستجابة الجمهور له، قد اصبحا اكثر مدعاة للبحث.

قال ليسلى شاتز – مصصم الصوت فى فيلم "الفيل" – فى حوار مع جاب كلينجر من منظمة الفبريسى "الجمهور المعاصر ينظر الى شريط الصوت على انه سريالى، فالامر بالنسبة لهم ان شريط صوت حقيقى معناه ان يكون نظيفا ومصقولا وخاليا من الضوضاء الدخيلة" ويبدو ان معظم الافلام مازالت تختصر الصوت وتوظفه بشكل اساسى للحن الرئيسى والحوار وضرورات السرد، فالافلام تجعل شريط الصوت بؤريا معتمدا على الحوار قدر الامكان.

هدفنا من هذه المحاضرة لم يكن اكثر من ايضاح ما هو الصوت فى السينما مع شرح قليل من المصطلحات التى تساعدنا على فهم علاقتنا بشريط الصوت، اذا كان شاتز محقا فى قوله ان اى شريط صوت لا يرتبط بالحدث الذى يدور على الشاشة يؤدى الى جعل المشاهدين يشعرون بالسريالية، عندئذ فمن المفيد ان نتعرف على مصطلحات يمكن ان تشرح لنا كيف نفهم الاساليب المختلفة لشريط الصوت، وكما يقول مصمم الصوت والمونتير الرائع والتر مورش فى تقديمه لكتاب "الصوت، رؤية" "نحن نبدأ فى السماع قبل ان نُولد بنحو اربعة اشهر ونصف من الحمل" فالسينما  بهذا المعنى يمكن ان تردنا الى الرحم، وان تجعل الصوت اكثر اهمية من الصورة بصرف النظر عن ان معظم الافلام تصر على فعل العكس.