15‏/01‏/2013

نظرية الفيلم الايديولوجى والسياسى




لقطة من فيلم اسكندرية ليه
محاضرة:- تونى مكيبن .
ترجمة :- ممدوح شلبى .

غالبا ما تتداخل الايديولوجية والسياسة فى السينما بشكل متعمد، ولكن وفى بعض الاحيان، فان كل منهما يبدو منفصلا عن الآخر، و في الواقع، وبالنسبة للعديد من صانعي الأفلام ذوى الميول السياسية، فان افلامهم تهدف الى إظهار كيف تتشابك الايديولوجية والسياسة فى حياه الناس وكيف تؤثر علي اسلوب حياتهم، لكن صناع افلام اخرين يرفضون هذا الربط  ولا يقبلونه.

ولكى نستطيع ان نفهم دلالة ما هو ايديولوجى وما هو سياسى، فان ثمة فروقا بينهما قد تساعدنا فى التعريف، ويشمل ذلك السينمات التى تظهر فيها الايديولوجية كشئ ضمنى فى مقابل السينمات التى تظهر فيها الايديولوجية بشكل دعائى، ان الذاتية تختلف عن الموضوعية، كما ان الاطار السياسى يختلف عن المحتوى السياسى .

في الاسبوع الاول ، ذكرنا بشكل مقتضب، كيف ان ظهور ثلاجة ممتلأة بالطعام  فى فيلم امريكى، من الممكن ان يراها المشاهد السوفيتى كنوع من الدعاية السياسية، فان  ملء الثلاجة يشير الى الوفرة الرأسمالية فى مقابل سياسة التقشف الشيوعية، ان هذا المثال يوضح ما اعنيه بالايديولوجية المُتضمنة، فهو يعبر عن ملمح سياسى من وجهة نظر معينة، لكن هذه الايديولوجية المُتضمنة تظهر بشكل عفوى ولا يمكن ان ننظر اليها على انها من الامور المتعمدة او انها دعاية سياسية.

فى مجموعة المقالات النقدية التى كتبتها الناقدة جوديث ويليامسون والتى تحمل عنوان "آخر المواعيد عند الفجر" "Deadlines By Dawn"، فانها تتصيد المضامين السياسية  التى تظهر عرضا وبشكل غير متعمد فى السينما، انها تصوغ هذا الامر بطريقة مضحكة، فهى تقول على سبيل المثال "سوف تصبح مجرما لانك تقرأ كثيرا فى دلالات الاشياء، كيف تجرؤ وتظن ان بعض الافلام الشعبية ذات طابع عنصرى، او ان التحف السينمائية التى انتجتها شركة والت ديزى ينتج عنها توجيه مبكر للنشئ ".

كذلك فان القراءة المتعمقة جدا فى فيلم ما يمكن ان ينتج عنها موقفا متشددا حول هذا الفيلم  بعد عام من ظهوره، فعندما عرض ديفيد وارك جريفيث فيلمه "مولد امة" فى عام 1915، فإنه من المعروف ان الكثيرين استقبلوه على انه فيلما عنصريا، لكن ثمة حقيقة اخرى، وهى انه تم عرضه قبل اربعين عاما من الغاء التمييز العنصرى، كما انه ايضا تم عرضه قبل 90 عاما من وصول رئيس من اصول افريقية الى سدة الحكم فى الولايات المتحدة الامريكية.

لقد حقق هذا الفيلم نجاحا كبيرا ليس فقط فى الولايات المتحدة الامريكية، ذلك ان كارل براون فى كتابه "مغامرات مع ديفيد وارك جريفيث" "Adventures with D. W. Griffith" يقر بان فيلم "مولد امة" قد حقق نجاحا ساحقا خارج امريكا.

دعونا نشاهد الفيلم الآن، وخاصة المشاهد التى يسيطر فيها الزنوج على البرلمان، ان الكثير من اللحظات مثيرة للضحك، ان هذا الضحك ينبع من موقفا المعاصر، فنحن نرفض بشكل قاطع الكلاشيهات قيما يتعلق بالزنوج ،اننا نحتاج فقط الى تذكرالافلام القديمة التى يتأسس عنصر الفكاهة فيها على الضحك على الزنوج ، وسيجعلنا هذا نرى ان فيلم "مولد امة" كان فيلما قاسيا لكنه لم يكن استثنائيا .

كذلك فان باميلا روبنسون ويجيك تقول فى "كتاب السينما" "The Cinema Book" ان فيلم "ذهب مع الريح" هو من الكلاسيكيات السينمائية التى تثير حنق المشاهد المعاصر، ليس فقط بسبب دعمه لجماعة  "كو كلوكس كلان" ولكن ايضا بسبب طريقة تقديم شخصيتين من الزنوج هما "مامى وبريسى" وتشير ويجيك هنا الى ان المشاهدين البيض عامة لديهم مشكلة فى طريقة تقديم "بريسى"، لكن الجمهور من الزنوج فى المقابل يميل الى النظر الى الشخصيتين معا كنوع من الكلاشيهات الممجوجة، ان ما يهمنا هنا ويجب ان نضعه نصب أعيننا، ان الانطباعات الشخصية كثيرا ما تتداخل فى  القضايا الايديولوجية.

اذا كان فيلم "مولد امة" قد تسبب فى الاضرار بكثير من الناس لكنه برغم ذلك حقق نجاحا كبيرا، بينما فيلم "ذهب مع الريح" - بصرف النظر عن المشاكل التى تسبب بها - فانه يظل اكثر تفضيلا من فيلم "مولد امة"، إذن فان لدينا شيئان يستحقان التوقف عندهما، اولهما هو المنظور الشخصى والثانى هو المنظور التاريخى.

دعونا نتخيل على سبيل المثال، لو ان فيلما مثل فيلم "قلب شجاع" لميل جيبسون ، والذى يتميز بميله العدائى للانجليز، اصبح اطارا ايديولوجيا لحركة قومية متشددة، وان آلافا من الانجليز قد تعرضوا الى الذبح جراء هذا الفيلم، انه اذن لن يكون مجرد فيلم كلاشيهات تافه يتسبب فى الاساءة الى الجمهور الانجليزى شديد الحساسية او الى الجمهور الواعى ايديولوجيا او النقاد (النظرة الشخصية) لكن العنصرية فى الفيلم  سيتم تضخيمها وسوف تصبح اطارا لحركة قومية (النظرة الجمعية).

ان هذا المثال يقربنا من فهم المشاكل التى نحن بصددها مع فيلم "مولد امة"، حيث تسبب هذا الفيلم فى ميلاد ثانى  لجماعة "كو كلوكس كلان"  فى عام 1915 وهى سنه عرض الفيلم، وهذا يستوجب نقدا خلاقا او ردا موضوعيا لاستخراج مضمونه العنصرى، ان التاريخ يجعل هذا واضحا.

ان فيلم "مولد امة"، مثله مثل فيلم "انتصار الارادة" الذى اخرجته ريني ريفنستال كفيلم دعائى نازى، وكذلك فيلم "المدرعة بوتمكن" لسيرجى اينشتين، فالافلام الثلاثة تشترك فى كونها افلاما ايديولوجية مُعلنة، بينما معظم الافلام الهوليودية والتى تظل الاكثر تفضيلا، يمكن النظر اليها على انها تحمل ايديولوجيا مُتضمنة ، وبناءا عليه فان فيلما مثل "ذهب مع الريح" يمكن اعتباره بين بين، ان هذا الفيلم ساند الجنوب اثناء الحرب الاهلية الامريكية على حساب الشمال الامريكى الذى كان يُطالب بتحرير العبيد، لكنه لم يكن دعاية ايديولوجية مثل الافلام الايديولوجية الاخرى، وانه من المثير ان فيلم "قلب شجاع" كان يحتوى على ايديولوجيا مُعلنة لدرجة ان الحزب القومى الاسكتلندى اعتبره معبرا عن مشاعر القوميين.

ولكن اذا كانت افلام "مولد امة" و"انتصار الارادة" و"المدرعة بوتمكن" و"قلب شجاع" هى افلام ايديولوجية مُعلنة، فان هذه الايديولوجيا المُعلنة لا تحتاج الى تصنيفها فى نفس الدرجة، فثمة شيئين على الاقل يمكن ان يجعلا سينما الايديولوجيا المُعلنة مثيرة للمشاكل نوعا ما، اولهما يكون فى تأثيرها، والثانى فى محتواها التاريخى، الا ان الاثنين قد يتداخلا معا.

واذا عدنا الى ما قالته وليامسون تعليقا على القراءة كثيرا جدا فى مضمون الافلام، فان هذه المقوله قلما تنطبق على فيلم مولد امة وفيلم انتصار الارادة، فكلا الفيلمين كانا دعائيين وقادا الى ردود أفعال وحشية، فالزنوج اُعدموا، واليهود اُبيدوا، انه قد يكون من غير الطبيعى ان يظن احدا اننا نقرأ كثيرا فى مضمون فيلم لا يؤدى لمثل هذه الاحداث، ولكن ومن ناحية اخرى، فان الانسان المعاصر الآن قد تطور بما فيه الكفاية لكى يرى ان تقديم شخصيات معينة فى الافلام كان كلاشيهيا وقاصرا.

ان التطور التاريخى الذى قاد الى المساواة بين البيض والزنوج يجعلنا ننظر الى فيلم "ذهب مع الريح" الآن بنوع من التسامح، وان الاشارة الى هذا الفيلم مرة اخرى قد يقود الناس الى ان يقولوا اننا كنا نقرأ كثيرا في مضمونه، ولكن توجد افلام كثيرة تؤخذ احيانا على انها اعتداء من وجهة النظر الشخصية، ثم تؤخذ على انها اعتداءا ثقافيا بعد ذلك بعدة اعوام.

وقد يقول البعض الكثير فى اهمية كتاب ادوارد سعيد "الاستشراق" "Orientalism" نظرا لحرفيته فى اظهار ثقافة الكلاشيهات وبراعته فى دحض مثل هذه الكلاشيهات، انه عمل متعمق يمكن ان يساعد الانسان المعاصر فى ان ينتقل من حالة الاستياء الشخصى الى حالة الاحتجاج الثقافى. 

وعلى ايه حال، اذا كان فيلم قلب شجاع يبدو مثيرا للخلاف نظرا لوجهة نظره الاحادية، فانه قد يبقى بلا تأثير اجتماعى فيما يتعلق بعداءه لما هو انجليزى، لان الامر يمكن النظر اليه على انه بمثابة صراع بين ثقافة اقلية مع ثقافة الاغلبية لكن ذلك كان فى الماضى وقد تكرر كثيرا، ومن الامورالمتفق عليها ان فيلم "قلب شجاع" هو من افلام الايديولوجيا المُعلنة، لكن الانسان قد يظل يقرأ كثيرا فى طريقة تقديمه لما هو انجليزى، بيد ان لا شئ يمكن ان نستخلصه من هذا التقديم، على عكس فيلم "مولد امة".

وعلى ايه حال، وكما اوضح كولين مكارثر فى "بريجادون، قلب شجاع والاسكتلنديين" ان اكثر الامور مدعاة للقلق فى فيلم "قلب شجاع"، هى انه بمثابة تحريض لانشاء مجموعات فاشية جديدة ...... ان هذا الفيلم يبدو شبيها لفيلم مولد امة وفيلم انتصار الارادة اكثر مما نظن للوهلة الاولى، ومن جانب آخر، وبالطبع، فثمه اسبابا جيدة وواضحة فى اخذ الشأن السياسى على محمل الجد لما له من تأثير قوى على حياه الناس وباعتبار ان الرأى الشخصى قد يصبح ثقافة سياسية، وهذا ما اشرنا اليه فى فيلم انتصار الارادة.

وعلى ايه حال ، فاننا اذا تحدثنا عن الايديولوجية المُعلنة،  فان نماذجا كثيرة للايديولوجية المُتضمنة سوف تبرز لنا، وسوف يدعى البعض بان النقاد يقرأون كثيرا فى دلالات هذه الافلام، ان افضل  مثال هو افلام جيمس بوند، ودعونا نطرح - جانبا ولوهلة - ان العديد من هذه الافلام كان بمثابة ايديولوجية معلنة وخاصة تلك التى ارتبطت بالحرب الباردة، ان افلام جيمس بوند لا تفرق بين العدو سواء كان ذلك القابع فى الكرملين او كان يعيش لاهيا فى منزل منيف فى الباهاما ولا شأن له بالسياسة.

ان ما يهمنا فى هذه الافلام هو ما يدافع عنه جيمس بوند، وان هذا الدفاع يبدو انه موجهاً لاسلوب الحياة المليئة بالرفاهية اكثر من انه يدافع عن قيم العالم الحر، واذا عدنا الى اول مشاهد فيلم "الاصبع الذهبى" فاننا سنلاحظ حجم البذخ حيث يبدأ الفيلم بلقطة تأسيسية من السماء لميامى، عندئذ نرى لقطات قريبة متوسطة لجيمس بوند يتسلم خطابا، فالشئ الذى يتم التأكيد عليه هو مستوى الرفاهية، ولعلنا نعود الى مثال الثلاجة الممتلئة الذى سبق وعرضناه، فالامر مشابه تماما.

وعندما يقرأ جيمس بوند اسم العدو، فانه يقول انه يشبه طلاء اظافر فرنسى، ان جيمس بوند ربما كان افضل جاسوس سينمائى فى حقبة الحرب الباردة، الا ان اسلوبه يجعله اقل من ان يكون بطلا بالنسبة لجيله، ان افلامه تحتوى على فخامة وحياة رغدة وسيارات غالية وملابس جميلة وسفريات فى اركان العالم الاربعة، ان تبشيره بالحرية يأتى بشكل اساسى من خلال استقطابه للمشاهدين الذين ينبهرون بالمتع التى يشاهدونها على الشاشة، وهذا اكثر من المثال الذى سقناه بخصوص الثلاجة المليئة.   

مثال آخر على الايديولوجيا المُتضمنة يمكن ان نجده فى كل الكوميديات الرومانسية البريطانية، فهذه الافلام تخاطب جمهورها على انهم جميعا ينتمون الى الطبقة الوسطى، ابتدءا من فيلم "جاك وسارة" "Jack and Sarah " الى فيلم "نوتنج هيل" "Notting Hill"، ومن فيلم  "حب حقيقى" "Love Actually" الى فيلم "يوميات بريدجيت جونز" "Bridget Jones’ Diary" وكذلك فيلم "عن صبى" "About a Boy".

وهنا فان القضايا الاجتماعية والاقتصادية تبدو كأنها غير موجودة او انها قضايا قد حُلت، ان السيناريست ارفين ويلش يقول، ان الواقع فى انجلترا لا يظهر على حقيقته فى هذه السينما، وان ما نراه هو الكابتشينو الذى يشربه ابطال الفيلم او احتسائهم لخمر معتق تعبيرا عن احزانهم.

ان رئيس الوزراء البريطانى فى هذه الافلام سيتزوج من خادمته كما فى فيلم "حب حقيقى" او ان نجمة سينمائية تقع فى الحب مع صاحب محل كتب، كما فى فيلم "نوتنج هيل" او ان زوجا حزينا يقع فى الحب مع مربية طفله "جاك وسارة".

ان الايديولوجيا فى هذه الافلام تُبرز "اللامشكلة"، انها افلام بهيجة لا يهمها ان تعرض الواقع ومشكلاته، ان القضية الاجتماعية تبدو مختفيه تماما فى هذه الافلام ، فهذه الافلام لا تهتم حتى بالمصداقية، ففى فيلم "نوتنج هيل" سنجد ان لهجة الممثل "هيو جراند" تختلف كلية عن لهجة اخته ومع ذلك لا نجد تبريرا فى الفيلم على هذا الاختلاف، ان هذه الافلام تعبر عن الضحالة الفكرية ولا تعبر عن التعقيدات الاجتماعية.

ان الجمهور الواعى سيتسائل لماذا تبدو شخصيات هذه الافلام كانها قادمة من خلفيات اجتماعية لا تمت بصلة الى الواقع ، والسبب فى هذا لا يتم شرحه عمدا لان المخرج والسينارست لا يريدا ان يعقدا فيلمهما بالاشكالية الاجتماعية.

وثمة مثال آخر على الايديولوجية المُتضمنة سنجده فى فيلم "انثى بيضاء عزباء" "Single White Female" حيث من المفترض ان الشخصية المحورية تناضل لكى تحصل على حقها فى السكن، لكن الشقة التى تسكن فيها تخص شخصاً واسع الثراء وتقع هذه الشقة فى بناية من بنايات مانهاتن العقارية، وهنا نلاحظ ان الفيلم لم يكلف نفسه عناء المصداقية، فالمكان لا يتوافق مع موضوع الفيلم.

لقد ذكرت فى بداية هذه المحاضرة الفرق بين الاطار السياسى والمحتوى السياسى، وتحدثت عن الافلام التى ارادت ان تتصدى باشكال شتى لما انكرته كثير من افلام الايديولوجيا، وهذا الامر يوضح بعضا من القضايا التى نناقشها فيما يتعلق بالبنيوية، مركزين على العديد من الافلام التى تم انتاجها تحت مسمى السينما الثالثة، تلك التى جاءت من امريكا اللاتينية وآسيا وافريقيا فى الستينات والسبعينات وبعد ذلك، وكان ذلك لاننا نحتاج ان نجد اطاراً يكون قادرا على احتواء ما هو سياسى.
 
فيلم زالا لعثمان سمبين
واستشهادا بناقد مثل بول ويليام الذى قال فى "كتاب السينما" هذه لم تكن اول سينما مضادة تظهر كتحد واضح للسينما السائدة، فهى اطار لافلام تلتزم ببرنامج سياسى وجمالى، ان انصار السينما الثالثة كانوا يُعادون فقط السينمات السائدة اسلوبياً وايديولوجياً لكنهم لم يوضحوا الاساليب التى يرفضونها، ويمكن ان نجد امثلة على ذلك فى فيلمى "ذكريات التخلف" "Memories of Underdevelopment " وفيلم "العشاء الاخير" "The Last Supper" للمخرج "جوتيرز أليا" من كوبا، ومن الأرجنتين فيلم "ساعات الأفران" "The Hour of the Furnaces, " ومن البرازيل فيلم "Antonio das Mortes"، وفيلمى "فتاه سوداء" "Black Girl" و"زالا" "Xala" لعثمان سمبين من السنغال، وفيلمى "العصفور" و"اسكندرية ليه ؟" ليوسف شاهين.

ان السياسة فى هذه الافلام لم تكن محض هامش بل كانت سياقا، وان مُنظرأ مثل جيل دولوز استشهد بكافكا للتعريف ببعض المصاعب التى تواجه صانعى الافلام الموصوفين كأقلية، فكافكا فى يومياته يقرر ان الادب فى الاقلية "البلدان الصغيرة" يواجه الادب للاغلبية "البلدان الكبيرة" وان ما هو ذاتى يمكن النظر اليه على انه سياسى، وبناءا عليه، فالرجل البرجوازى فى البلدان الكبيرة يمكن ان تكون له ازمة ويشعر بها بمفرده، ولكن هذه الازمة فى السينما الثالثة يمكن ان تتخذ بعدا قوميا.

هذه هى الحالة مع الشخصية المحورية العاجزة جنسيا فى فيلم "زالا" لعثمان سمبين، ذلك ان ابتعاد الرجل عن ميراثه الثقافى وتعاطيه للسياسة الغربية قد يكون هو المسؤول عن عجزه الجنسى، بينما سخط بطل فيلم  "ذكريات التخلف" يرتبط بالثورة الكوبية كنوع من السخط البرجوازى الذى بقى فى كوبا بعد استيلاء كاسترو على السلطة على الرغم من ان عائلته قد غادرت الى الولايات المتحدة الامريكية، هذه قد تكون امثلة لما طرحته فى بداية هذه المحاضرة، ذلك ان صناع افلام معينون يريدون ان يربطوا بين ما هو سياسى وما هو ذاتى.

ان هذا لم يصدق فقط على البلدان الصغيرة، لكن العديد من صانعى الافلام الغربيين فى الستينات والسبعينات ارادوا ايضا ان يصنعوا افلاما ذات وعى سياسى، وقد يندرج ذلك تحت مقولة "ليس ان تعمل افلاما سياسية ولكن ان تعمل افلاما بطريقة سياسية".

جان لوك جودار
فيلم "العدد اثنين" لجودار قد يكون المثال الاول، فهو يتناول عائلة فرنسية تقليدية ويعرض اضطرابها كنتيجة للرأسمالية، وهو طوال الوقت يعرض طرق تصنيع الفيلم، وكذلك فان الناقد كولين مكابى فى كتابه "جودار" يقول "باستخدام ممثلين غير محترفين وتقنية الفيديو عمل جودار فيلما منزليا وبمقدار ما كان مختلفا تماما عن افلام النجوم وفوق مستوى النقد بقدر ما كان سهلا في انجازه".

ان جودار لا يقدم فقط تحليلا لاضطراب عائلة كوسيلة لانتقاد الرأسمالية، لكنه ايضا يناقش باصرار طرق صنع الفيلم، انه قدم ذلك بتقنية الفيديو وليس بتقنية السينما وكان مُصرا على الاحاطة بهذه الطريقة لصنع الافلام، ونراه فى احد المشاهد مُلقى على الطاولة فى غرفة المونتاج بينما الفيلم الذى يصنعه معروضا على شاشة تليفزيون صغيرة فى ركن الكادر.


ان ما ناقشته هنا هو الطريقة التى تتصدى فيه الافلام او تتنكر فيه لما هو ايديولوجى، الدرجة التى تكون فيها الايديولوجيا شيئا ذاتيا او ردا جماعيا، وكلاهما فى اطار دلالات الصور والشخصيات ضمن السرد، وكذلك حالة الوعى التى يريدها صانعو الافلام وفيما له علاقة بالشكل مع المضمون.

محاضرة:- تونى مكيبن .
ترجمة:- ممدوح شلبى

04‏/01‏/2013

السينما الاوروبية الآن


 
مايكل هانيكه
محاضرة:- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى

اذا اتفقنا على ان معظم السينما الامريكية تستخدم ما اصطلح ديفيد بوردويل على تسميته التكثيف المتواصل، فهل السينما الاوربية وما وراءها تخالف هذه العملية وتستخدم ما اصطلح بيتر وولن على تسميته التباطؤ فى السرد والتطويل فى عرض الصورة؟

اننا لا نقدم جديدا عندما نقر بهذا، وبوردويل نفسه قال فى كتابه ( اشكال مرصودة فى الضوء) كيف ان انتونيونى اثر كثيرا على جيل الستينات من المخرجين الاوربيين باستخدامه للقطة المشهد التى كان طليعيا فى استخدامه لها.

ألم نرى بعض الشرائح الفيلمية فى الاسابيع السابقة وكانت متباطئة مثل فيلم ( ستوكر وجرترود ) وكذلك اعمال هيرتزوج؟ وألم توجد كذلك العديد من الافلام الاوربية الحالية التى لم تهتم بالتباطئ على الاطلاق حتى انها كانت تميل الى الايقاع اللاهث مثل فيلم ( المهتم ) و ( اهربى يا لولا، اهربى ) و ( ايميلى ) وهل هذه الثلاثة افلام  هى كل ما نعرفه عن السينما اللاهثة فى الخمسين سنة الاخيرة او يزيد؟

ان التباطؤ مازال صفة ملازمة لمعظم الافلام فى اوروبا وما وراء اوروبا، وهذا شيئ حقيقى فعلا فى الافلام التى نناقشها اليوم، ان الذى يستحوذ على اهتمامنا، برغم ذلك، ان هذه السينما هى سينما استشرافية ومتأملة وآثمة، وان الواقع مرتبط بافلام سنناقشها لاحقا، لكن دعونا اولا نقول المزيد عن التباطؤ.

انه من الجيد للمخرج السينمائى ان يبطئ من سرعه افلامه، لكى يمسك بلقطة ويعبر بها عن اكثر من استخدامها المباشر كجزء من عملية سرد المعلومات، ولكن الى اى مدى يسمح المخرج لنفسه بهذا التباطؤ؟

ويقترح الكاتب المسرحى والسينارست والمخرج ديفيد مامت فى كتابة ( فى اخراج فيلم ) انه اذا توجب على معاهد السينما ان تُدرس شيئا، فيجب عليهم ان يتناولوا عملية فهم تقنية الصور المنسابة وراء بعضها فى خلق التطور فى القصة فى عقل المشاهدين، ويقصد مامت بهذه الكلمات ان الصورة يجب ان تكون وحدة من وحدات السرد المعلوماتى، ويتم تقديمها بنوع من التبسيط والسرعة وبطريقة مباشرة، لكن كل المخرجين الذين نركز عليهم فى ايامنا هذه يميلون الى العمل على تجزئة السرد التتابعى بالتركيز على استقلالية الصورة.

ففى فيلم ( المخفى ) لمايكل هانيكه على سبيل المثال، توجد لقطة لجورج ( يقوم بتمثيله دانييل اوتيول ) وهو يتجه الى منزله، فالمخرج مايكل هانيكه يقدم لقطة تأسيسية ويُبقى على اللقطة لعدة ثوانى قبل ان يخرج جورج من سيارته ويتخذ طريقه الى منزله، ولا شك ان مامت سيشد شعر رأسه احتجاجا على هذا الاخراج، لكننا اذا  فكرنا ان هانيكه يريد ان يذهب الى ابعد من عملية التشويق، عندئذ فان دوافعه لتطويل لقطته تصير مفهومة، هذا المثال يُعتبر نموذجا للتوتر السينمائى الذى يقودنا الى منطقة الاستشراف.

لقطة من فيلم المخفى لمايكل هانيكه

وعلى النقيض من هذا فان افلام التشويق وكما وصفها هيتشكوك – يجب ان تضع المشاهدين فى موضع العارفين- ، فحين يمارس عاشقان الحب فى الفراش بينما الزوج يصعد السلالم، فالمشاهدون سيتسألون هل سيستطيع العاشق ان يختفى فى الدولاب قبل ان يأتى الزوج الى باب غرفة النوم. التشويق – تحديدا – يأتى من خلال المعرفة: والمشاهدون يستحوزون على مكانة العارفين، وتتوتر اعصابنا بسبب التساؤل عما اذا كان العاشقان سيُفتضح امرهما ام لا.

اما فى سينما الاستشراف فالمشاهدون لا يتمتعوا بمكانة العارفين وما يجعلنا مُستثارين ان الحالة المعروضة ليست عادية وهذا يجعلنا نتساءل ماذا سيحدث فى هذه اللقطة التى تدوم طويلا، واذا تطلع شخص ما الى شارع، فهل يوجد فى اللقطة ما يستوجب التركيز عليه سوى ما اراد المخرج الاشارة اليه من عمومية اللقطة؟.

هيتشكوك يريد مشاهدين عارفين حتى يستطيع ان يتلاعب معهم – فنحن نعرف متغيرات الاحداث فى الفيلم ولا نعرف كيف سيحل هيتشكوك الملابسات – اما هانيكه فهو يريد حس الاستشراف واستثارة الاسئلة فى عقل المشاهدين قبل تقديم  المتغيرات فى الاحداث.

ألفريد هيتشكوك

يحتوى الاستشراف بداخله على بُعد مُجرد ينبغى على المشاهدين ان يتعاملوا معه، اما التشويق فانه يضع المشاهدين فى حالة اندماج مع المشهد، ويمكن لهذا الاستشراف بالطبع ان يقود المشاهدين الى الجنون.

ويمكن لنا ان نميز بين اسلوب التشويق واسلوب الاستشراف بنفس الطريقة التى ميز بها الفيلسوف الدنماركى العظيم سورين كيركيجارد بين الرعب الظاهر والرعب الخفى. ففى الرعب الظاهر نحن نخاف ولكننا نعرف مما نخاف – مثل الحيوان البرى او رجل يحمل بندقية او طائرة تتحطم او سيارة تتجاوز السرعة – لكن الرعب الخفى ليس له موضوع، انه الرعب من الرعب، انه رعب ذاتى يكشف لنا كثيرا عن مشاعر الشخص الذى يشعر به اكثر مما يكشف عن حقيقة الرعب فى الواقع الخارجى، هذا هو الخوف وهذا هو حس الاستشراف الذى نجده فى  فيلم "المخفى" ولهذا السبب استخدم هانيكه اللقطات غير المنسابة التى تترك للمشاهد مجالا كبيرا للتأمل فى الصورة.

هذا التامل شيئا محوريا ايضا فى افلام المخرج الايرانى عباس كياروستامى الذى اراد ان يخلق افلاما بفضاءات تعكس افكار المشاهدين، ففى فيلم "طعم الكريز" نجد المشاهد الاولى تحتوى على احساس غامض بالخطر ونحن نتساءل ما الذى يريده بطل الفيلم بالضبط من الشخصيات التى يقابلها، فالفيلم يجعلنا نستشعر اهمية الموضوع.

لقطة من فيلم طعم الكريز لعباس كياروستامى

عندما نناقش الواقعية سنذكر المخرجين البلجيكيين ( الاخوان داردن ) وعزوفهما عن استخدام المونتاج الموازى لتوليد التوتر، اما الآن فنحن ننوه الى اهتمام هانيكه بالاستشراف، ونفس الحال فى تنويهنا بعباس كياروستامى الذى اكتشف اساليبا للحفاظ على حالة التخمين التى يُصدرها الى جمهوره بطريقة لا ميل فيها الى توجيهه- على عكس هيتشكوك - ولكن بطريقة ينكر علينا فيها ميزة العارفين، فاذا كانت افلام الاخوان داردن تخدم الواقعية، وافلام هانيكه تُعتبر نوعا من التشويق الاجتماعى وتتعاطى مع دراما الحياه اليومية العادية، فان كياروستامى هو المخرج الفيلسوف الهادئ.

ويقول الناقد الامريكى جدفرى شيشاير فى "الاسقاط ال 8" متحدثا عن افلام كياروستامى "تبدو افلامه وعلى غير العادة وكأنها لا تلقى بالا بالقضايا التى تطرحها على الجمهور، لكن هذا الافتقار الواضح الى شد اهتمام الجمهور ربما يخفى احساسا اعمق بالقلق والمسؤولية فى نفس الوقت".

وهذا – بشكل او آخر – نوع من الفهم الأعمق للتأمل اكثر مما نراه فى افلام هانيكه، فهانيكه يبتدع عالما ليس سهلا ويجب علينا ان نحضر فيه، ولا يهم اذا كنا لا نستطيع ان نعرف هذا العالم بدقة، اما افلام كياروستامى فهى تخلق الفضول اكثر من الاستشراف، كما ان الافتقاد الى الدراما فى افلامه تجعل الجمهور لا يرى اى شيئ يحدث على الاطلاق او من المحتمل أن العديد من الاشياء قد تحدث.

وكما يقول الكاتب والوثائقى "فيرجس دالى" فى كتابه "فيلم الغرب" عن كياروستامى، انه اقرب ما يكون الى رأى الكلاسيكيين بخصوص الشخص البصير الواعى الذى لا يصدر احكاما على الاطلاق ولكنه يفهم جوهر ما يحدث فى ظل كامل التناقضات، فعلى سبيل المثال، نرى الشخصية المحورية فى فيلم "طعم الكريز" محصورة بين امرين: فهو يريد الانتحار لكنه يحتاج الى شخص ما يلقى على جثته التراب بعد ان يكون قد مات فعلا، ونجد أن مشكلة الفيلم هى أن معظم الناس الذين يتحدث اليهم بطل الفيلم لا يريدون ان يساعدوه فى انجاز هذا الطلب، وعندما يلتقى مع الشخص الوحيد الذى يوافق على طلبه، فانه يمنحه ببساطة اجمل سبب للابقاء على حياته، وبدلا من ان يقوم كياروستامى بتقديم نقطة تحول فى حبكة الفيلم نراه  يخلق لنا فضاءا تأمليا لنفكر في انفسنا فيما وراء المفارقة التى يقدمها الفيلم، هل هذا افتقاد للاهتمام بالجمهور ام انه عكس ذلك تماما؟

ويُعتبر المخرج التركى الشاب نورى بيلج جيلان متشابها مع كياروستامى فى كثير من الاشياء، فعندما كان فى حوار مع مجلة "توكينج موفيز" وسُئل عن نهاية فيلمه "اوزاك" رد قائلا "انا اعتقد ان لا شيئ سيتغير، كما اننى على المستوى الشخصى لا افكر فى حدوث تغييرات كثيرة فى الحياه" واذا كان هذا الفيلم هوليوودى، فلابد ان يكون رد نورى ان نهاية الفيلم يجب ان تكون مختلفة، ويُضيف نورى "لكننى لا اريد ان اغير حقيقة الاشياء"، ففى فيلم "اوزاك" لدينا مرة اخرى تباطؤ كبير فى السرد كما ان الفيلم يضرب عرض الحائط بالحبكة الدرامية، لكن نورى جيلان مهتما بشكل من اشكال الواقع اكثر دلالة مما يستدعيه استخدام الحبكة الدرامية.

لقطة من فيلم اوزاك للمخرج نورى بيلج سيلان

اننا هنا نستخدم مصطلح "واقع" بمعناه الذى استخدمه المحلل النفسى جاك لاكان والذى يبتعد به عن معنى المعرفة المسبقة، حيث تمنحنا معظم الافلام نسخة سينمائية للواقع الذى يتوافق مع توقعاتنا: واحيانا يركز المخرج على الواقع الذى لا يجعلنا نحس باننا غرباء عليه، ومرة اخرى، ومثل كياروستامى، فالتباطؤ قد يبدو انه نوع من عدم الاهتمام بالجمهور، لكنه ربما يخلق اهتماما اكثر عند الجمهور، والآن دعونا نتساءل، ماذا نستطيع ان نقوله عن مشهد نرى فيه احد الشخصيات يتجول فى حديقة ثلجية؟ عن اى شيئ يدور هذا المشهد؟

وآخر مصطلح نريد ان نستوضحه اليوم هو "السينما الآثمة" وهذا الاصطلاح مرتبط بكل الاصطلاحات التى ناقشناها لتونا – التباطؤ والاستشراف والتأمل والواقع – اما مصطلح "السينما الآثمة" فقد اصبح ملمحا عاما فى السينما الفرنسية المعاصرة بجانب مصطلح "لوضاعة".

ففى افلام مثل "الفرد ضد الكل" و "لا رجعة فيه" و "مشكلة كل يوم" و "فى جلدى" و "الحياة الجديدة" و "الانسانية"، نجد المخرجين يستخدمون الصور المتطرفة ليفرضوا مواجهة مع الجمهور.

واذا امعن جدفرى شيشاير التفكير فى اسلوب كياروستامى الذى لا يهتم بالجمهورعلى حد وصفه، فماذا سيقول عن هؤلاء المخرجون الذين يقفون فى مواجهة متعمدة مع الجمهور بتجربة جمالية يقدمون فيها  صورة تحطم حُرماتهم حيث يبدو هؤلاء المخرجين كانهم لا يولون اهمية للجمهور مثل كياروستامى، هذا المزيج من الصور السريعة المفككة والصادمة التى نراها فى فيلم "من اجل اختى" و "الانسانية" وايضا فى فيلم "المخفى" بصفة خاصة الذى يقدم مشهدا يجعل المشاهدين يصرخون من الرعب، فمن الواضح ان المخرجين ينشدون الوصول الى ما اطلق عليه المخرج المسرحى انتونين ارتو "صدمة الوعى" – ذلك الوعى الذى يظهر كرد فعل غريزى لما يراه الجمهور متجسدا على خشبة المسرحى.

انتونين ارتو

عندما نرى الفتاه العارية فى فيلم الانسانية - ولا شك ان المشهد مواجهة اخلاقية - فهل نخرج من صالة السينما لاحساسنا بالتعدى على ذواتنا؟ وهل نسأل انفسنا اذا ما كان مفتش المباحث هو الذى ارتكب الفظائع؟ وهل نرى الشبه بين تلك الفتاه العارية وبين لوحة "اصل العالم" لكوربيه التى تصور امرأة عارية تماما؟

فى مثل هذه المواجهة مع الجمهور يحق للمرء ان يعتقد انها تستهدف ايقاظنا، وكما يقول ديمو فى "الاسقاط ال12 " "السينما الامريكية سينما ارستقراطية، فهى تتعامل مع الجمهور كما لو انهم حمقى ولا تقدم لهم شيئا ليفعلوه، لكنى اعتقد انه - وكنوع من الضرورة الدبلوماسية - ان نجعل الجمهور يتساوى مع المخرج فى الحكم على ما يحدث فى الفيلم.، فهذا يخلق نوعا من الديمقراطية وهذا ضرورى".

ناقشنا اليوم محاولات تتأسس على غريزة الديمقراطية فى عدد من مظاهرها، واكرر ما قاله ديمو "لسينما تخلق مشاعر تستدعى مزيدا من التأمل".

محاضرة :- تونى مكيبن
ترجمة:- ممدوح شلبى