29‏/12‏/2012

صراع على الشاطئ : مهرجان كان 1968


المخرج الفرنسى لوى مال

مقال : ريتشارد . ت . كيلى .
ترجمة : ممدوح شلبى .

روح الاحتجاج الثورية التى اجتاحت عواصم العالم فى عام 1968 كانت بمثابة اضرام للنار فى مهرجان كان السينمائى ، ولقد تغيرت والى الابد الطريقة التى كان يمارسها رواد المهرجان من المنتجين .

كان مهرجان "كان" يستعد لدورة جديدة ، والآن نحن نعود الى الاحداث الدرامية لشهر مايو من عام 1968 من خلال مطبوعتين ، الاولى كتبها كيرون كورلس وكريس دارك بعنوان ( مهرجان كان .. من داخل اعظم مهرجان للعروض الاولى للافلام ) وهذه من اصدارات ( فابر اند فابر 2007 ) ، والمطبوعة الثانية – وهى الاولى –  ( الثورة .. انفجار عالم السينما فى الستينات ) من تاليف بيتر كوى ( اصدار فابر اند فابر 2004 )

روح الثورة فى شوارع مدينة كان الفرنسية .

مع بدء عام 1968 فقدت السينما الفرنسية دورها الريادى فى السينما الاوربية ، اما مهرجان كان السينمائى – تلك الدرة الفرنسية – فقد ظل يلعب دوره السيادى ، فكل الناس يذهبون الى مهرجان كان ولازالوا يذهبون ، لكن اثناء حقبة الستينات لم يكن هذا المهرجان سوقا سينمائيا مسعورا كما هو الآن .

اننى اتذكر لقاءا صحفيا انعقد بالقرب من مانديلى ، وكان يضم اورسن ويلز الذى كان يدير محاكمة من فوق مقعد قبيح بينما تريفو واخرين موجودين فى صحبته .
كان مدير المهرجان روبرت فافر لوبرت من الاشخاص المتفانين ويبدو كريماً مرة وقاسى مرات ، وعلى الرغم من ان موريس بيسى رئيس التحرير السابق ل ( سين موند ) كان المدير العام للمهرجان ، - بمعنى انه كان رئيس لجنة اختيار الافلام –  فانه وفى الخلفية  فقد كان لفافر لو برت حضورا مؤثرا ، وكان من المتعين ان يظل فافر لوبرت فى رئاسة المهرجان حتى عام 1984

لقد بدأ عام 1968 بخبر اشاع جوا من الارتياح فى تشيكوسلوفاكيا ، فقد اصبح الكسندر دوبسك السكرتير الاول للحزب الشيوعى فى الخامس من يناير خلفا لانتونين نوفوتونى ، ان هذا التغيير سيقود الى ما اصطلح على تسميته ربيع التشيك ، حيث تم تحرير المعتقلين السياسين وتم اعادة الاعتبار لهم ، كما تم توسيع هامش الحرية فى وسائل الاعلام .

لكن لم تكد تمضى خمسة وعشرين يوما حتى سمعنا انه فى هيو وحول سايجون فى الشمال الفيتنامى ان فيت كونج اعلن خطة هجوم تيت الساحق .
ان الصحفى آى . اف . ستون قال فى مؤتمر صحفى حاشد فى واشنطن ان الامبريالية الامريكية هى العدو الحقيقى ، وكان معظم الامريكيين يعترفون بانهم خسروا فى فيتنام ، بينما فل ودانيال بريجان – القسيسان الجيزويتيان فى ميريلاند - فقد اشعلا النار فى كومة من الوثائق امام الناس ، وعندئذ بدأت الاضطرابات تتخذ شكلا جادا داخل الحرم الجامعى .
ان الحركة التى قادها دانيل كوهن بندت واحتل بها جامعة نانتر بمساعدة حشد هائل من الطلبة فى 22 مارس ، ربما كانت الشرارة التى اطلقت احداث مايو 1968 ، كما كانت عملية  طرد هنرى لانجلوس من عمله كرئيس للسينمايك الفرنسى فى  9 فبراير هى التى اثارت حفيظة الانتلجنسيا فى باريس .
لقد كان المسؤول عن هذا القرار هو اندريه مالرو وزير الثقافة الفرنسى ، ولقد اطلق جان كوكتو تسميه على لانجلوس ( التنين الذى يحرس تراثنا ) ، لقد كانت صورة لانجلوس عند السلطات تبدو مثل الخنزير ، اما فى نظر المخرجين والنقاد وهواة السينما ، فقد كان الشخص الاكثر استحوازا على محبتهن .

بيير باربين هو الذى حل محل لانجلوس ، وقد يكون قد حقق نجاحا فى عمله كرئيس للرحلات و مهرجانات السينما ، لكنه لم تكن له ايه فرصة فى عمله الجديد لانه جاء ضد ارادة المجتمع السينمائى ، بالرغم من ان لانجلوس كان يتعامل بطريقة مدرسية مع المحفوظات السينمائية وطريقة تصنيفها .

لقد اندلعت مظاهرة عارمة تأييدا للانجلوس وضمت نجوما مثل كاترين دى نيف وجان بول بولموندو وسيمون سيجنوريه وألن رينيه وجان لوك جودار وفرنسوا تريفو ، لقد حدث هذا امام قصر شيو - وهو يضم احد قاعات السينماتيك ، بينما كانت القاعة الاخرى فى شارع رودام – وكان الجو فى هذه الاثناء مصحوبا برياح ربيعية باردة .

ولقد عبر جيلبرت أدير عن روح المظاهرة فى روايته ( الابرياء المقدسون ) واصفا الممثل جان بيير ليود الذى يبدو بعيونه الواسعة كما لو انه شبح المسيح ، والذى كان يقرأ بصوته الاجش ما جاء فى البيان الذى تم توزيعه على المتظاهرين ، وكانت الشرطة قد احطت بالمتظاهرين وتعاملت معهم ، وقد عانى الكثيرمن السينمائيين من الاصابات مثل تريفو وجودار وبرتراند تافرنير .


كلود ليلوش وجان لوك جودار وفرنسوا تريفو ولوى مال ورومان بولانسكى يحضرون الجبهة الموحدة .

برناردو برتولوتشى : ان جميع حركات الاحتجاج لعام 68 والتى شملت بيركلى ، وشيكاغو وجامعة كولومبيا ، قد بدأت جميعها فى فبراير عندما تم طرد لانجلوس ، فللمرة الاولى هاجمت الشرطة  مجموعة من المتظاهرين السلميين كان كل مطلبهم ان يعود لانجلوس الى عمله فى السينماتيك الفرنسى ، ولقد كان هجوم الشرطة والعنف المصاحب له هو المحرك للاحداث ، ولذلك فالسينما قد اصبحت متورطة منذ البداية .  

ومع حلول الحادى والعشرين من ابريل فقد فقدت الحكومة الفرنسية المعركة ، وعاد لانجلوس الى مقعده فى شارع رودام ، وفى 2 مايو اعاد السينماتيك فتح ابوابه ، وفى ظهيرة نفس اليوم – المعروف باسم الجمعة الحمراء -  فان اولى معارك مايو 1968 قد حدثت فى الحى اللاتينى بين الطلبة والشرطة ، تبعه هجوم عسكرى على مبانى الجامعة ، وفى العاشر والحادى عشر من مايو تزايدت حدة العنف حيث تم احراق السيارات ، كما هاجمت الشرطة حصون المتظاهرين ، , تم الاعلان رسميا عن اصابة 367 شخصا كما تم اعتقال 460 آخرين فى يوم 10 مايو فقط .

بدت الثورة كما لو انها على وشك الحدوث وكان مخرجو السينما الفرنسيين فى طليعة هذه الاحداث ، وكان من المقرر ان مهرجان كان السينمائى والذى يتصادف توقيته مع اضطرابات مايو - فبدا كما لو كان عرضا جانبيا اقليميا للاحداث الاساسية ، ولكن ونظرا الى الظروف فان المهرجان لم ينعقد وكانت هذه هى المرة الثالثة فى تاريخه – او على الاقل – لم ينعقد بشكل كامل – فقد نادت الاصوات بايقافه نظرا لان مجموعة من السينمائيين اصبحوا جزءا من المعمعة السياسية الدائرة .

كان مقررا انعقاده بين 10 الى 24 مليو ، وكانت هذه هى دورته الواحدة والعشرين ، وكانت لجنة تحكيم المهرجان تضم رومان بولانسكى ولوى مال ومونيكا فيتى - ملهمة انطونيونى – وترانس يونج – الذى كان مخرجا لاول افلام جيمس بوند .

وكان من بين الافلام ال 26 المختارة فى المسابقة الرسمية ، فيلم ( احبك .. احبك ) لآلن رينيه ، وقيلم ( كرة رجل المطافئ ) لميلوس فورمان ، وفيلم ( تقرير عن الحفلة والمدعويين ) لجان نيمك ، وفيلم ( بيتوليا ) لريتشارد ليستر ، وفيلم ( نعنان فرابي ) لكارلوس ساورا .
ولكن وعلى الرغم من ان المهرجان يبعد 500 ميلاً عن باريس ، وبالرغم من توقف التليفزيون عن البث مراعاة لدموية الاحداث فى باريس ، فان مهرجان ( كان ) لم يكن بعيدا عمل يحدث فى العاصمة .

ففى 13 مايو اصدرت جمعية النقاد بيانا تدعو فيه الحاضرين الى الانضمام الى مظاهرة لدعم الطلبة ( لنتظاهر ضد العنف الذى تمارسه الشرطة الجائرة والذى يعتبر اعتداءا على ميراث فرنسا فى الحرية الثقافية ، وعلى التقاليد العلمانية فى جامعاتنا ، وعلى مبادئنا الاساسية ) ، لقد طالبوا بتأجيل المهرجان ، لكن فافر لو برت رفض متعللا ان المشاركين الاجانب لا يجب الزج بهم فى  ما يمكن اعتباره شأنا فرنسيا ، لكنه – على ايه حال – اوقف الاحتفالات وحفلات الكوكتيل والعشاء .

وكان فرنسوا تريفو – وعلى اثر نجاح الحملة فى الدفاع عن السينماتيك – اصبح لديه هدف وهو ايقاف المهرجان ، ان الدعوة الى ايقاف المهرجان اتت فى شكل اقتراح تم الاجماع عليه من منظمة تم انشاءها حديثا اثناء الاحداث وسمت نفسها ( الاملاك العامة للسينما الفرنسية )
وكان هذا نوع من الاشارة الى ( الاملاك العامة ) التى تم اعلانها فى الثورة الفرنسية عام 1789 ، والتى حملت فى عام 1968 دلالتين ، ففى احد جوانبها ، وضع المشاركون فى احداث عام 68 انفسهم فى الفصيل الثورى التقدمى التاريخى ، وفى الجانب الآخر ، فان هذه الحركة كانت بمثابة عدم  اعتراف صريح  بالنموذج البرجوازى الذى يمثلوه ، ان ( الاملاك العامة للسينما الفرنسية ) تشكلت من ألف طالب سينمائى واعدادا من اعضاء نقابة المهن  السينمائية وكذلك المخرجين والنقاد والممثلين ، الذين عقدوا اجتماعاتهم العادية لنحو اسبوعين فى موقع معهد السينما الفرنسى فى شارع فوجيرار .

لقد كان هدفهم التغيير الجذرى لمؤسسات السينما الفرنسية ، وظهرت الدعوات التى تطالب باضراب عام لكل العاملين فى السينما وفى الوسائل السمع بصرية ، لقد استجاب الجميع الى الدعوة ، والاكثر من ذلك ، انهم طالبوا بايقاف مهرجان كان ، وكان المسؤول عن ذلك فرنسوا تريفو ورفاقه الشيوعيين فى الريفيرا الذين لم يتهاونوا فى تحقيق هذه الهدف .
فرنسوا تريفو

وفى صباح السبت الموافق 18 مايو ، ذهب تريفو الى المؤتمر الصحفى المنعقد فى صالة جان كوكتو – وكان منظمو هذا المؤتمر هم لجنة الدفاع عن السينيماتك ، وكان جودار موجودا ايضا وكذلك كلود ليلوش الذى حضر فى يخته الخاص الى المهرجان ، وكذلك لوى مال وميلوس فورمان الذى ألقى البيان الذى تسلمه من ( الاملاك العامة للسينما الفرنسية ) ودعى النقاد والمخرجين الى اغلاق مهرجان كان ، كما اعلن ميلوس فورمان وسط تصفيق الحاضرين انه يسحب فيلمه ( كرة رجل المطافئ ) من المسابقة .

وبعد ان ترك فورمان المنصة حل محله رومان بولانسكى الذى تابع المؤتمر واشار الى جودار وقال ( ان كل ما قلته اعادنى الى ذكرياتى عندما كنت فى بولندا اثناء الحقبة الستالينية ) ، وكنوع من الدعابة قيل ان بولانسكى قال ان تريفو وليلوش وجودار ( اطفال صغار يمثلون دور الثوريين ) واضاف ( اننى انسحب كنوع من التضامن مع الطلبة الذين ادعمهم بكل قلبى ، وانا لا اريد مطلقا ان يتم تفسير قرارى بالانسحاب على انه رفض لمهرجان كان ) . 


الفوضى تحيط عرض فيلم ( نعناع فرابى ) لكارلوس ساورا

اليوم التالى ونصف اليوم الذى تلاه اصبحا حلقة مستمرة من النقاس والمواجهات التى تنطلق فى صالة جان كوكتو وتتواصل فى الصالة الكبرى ثم تتكرر مرة اخرى ، وكان هذا النقاش مصحوبا بهتافات فكاهية وشتائم مهينة .
وحتى فى المراحل الاولى ، فقد كان واضحا ان هناك فروقا تكتيكية بين هؤلاء الذين ينادون باغلاق المهرجان ، فالبعض كان يفضل الاغلاق التام ، اما الآخرون فكانوا يطالبون بالتعديل بحيث تستمر عروض الافلام ، وبسبب التباين بين مواقف الراديكاليين والاصلاحيين فقد نتجت مشادات شديدة الحدة ، وفى تلك الاثناء كان لوى مال – عضو لجنة التحكيم – مشغولا جدا وراء الكواليس .
( ان واجبى ان اقنع لجنة التحكيم بالانسحاب ) ، ظنت اللجنة انه اذا استقالت لجنة التحكيم فان المهرجان لا يمكنه ان يستمر ، واثناء مقابلة مع لجنة التحكيم أعلن تيرانس يونج انه تلقى اتصالا تليفونيا من النقابة الفرنسية وانه – بصفته عضوا – فيجب عليه ان يمتثل لرأى النقابة ، ( لقد اقنعت مونيكا فيتى ) ، اما تريفو فقد ذهب ليقابل رومان بولانسكى الذى قال انه يود ان ينسحب لكنه اعتذر بسرعة عن ذلك .

اذن لم يكن الانسحاب بالاجماع ، ومع ذلك فان لجنة التحكيم لم تحرك ساكنا ، ونقل لوى مال الاخبار الى زملاءه الذين هرعوا الى الصالة الكبرى ، عندئذ اصبح الموقف امام كاميرات التصوير وكان الناس يتدفقون فى الممرات .

وبعد اعلان لوى مال ، اعلن فافر لو برت ان المهرجان لن يمنح جوائز لكنه اصر على استمرار المهرجان ، واشار ديفيد روبنسون فى الفيننشال تايمز ان مديرى مهرجان برلين وفينسيا اعلنوا ان جميع افلام المسابقة سوف تشارك فى المهرجانين فى يوليو واغسطس .
كان هذا كسباً لنصف المعركة ، واصبح الموقف اكثر مرارة ، واعلن لوى مال بعد ذلك انه يتحمل المسؤولية عن اغلاق المهرجان وفال ( لقد اصبحت شخصا غير مرغوب فيه فى مهرجان كان )

( المنتجون كانوا غاضبين وترددت الاشاعات التى تشير الى انها كانت غلطتى ... وعنما ذهبت الى المقهى الازرق المقابل لقصر المهرجان ، رفض العاملون خدمتى ) ومع ذلك فقد شارك لوى مال فى مهرجان كان العام التالى بفيلمه التسجيلى الذى صوره فى كالكتا بالهند فى نفس العام ، لكن فيلمه عُرض خارج المسابقة .
ان منتج الافلام الامريكى الشاب ساندى ليبرسون ، وجد نفسه لاول مرة فى ( نيك روج ) وكذلك فان عرض دونالد كاميل ظهر فى مهرجان كان لعام  1968 ولابد انه يتذكر جيدا المردود المادى لعمله .

لقد انتابتهم الصدمة مما حدث – ليس الفرنسيين – ولكن الناس الذين جاءوا الى مهرجان كان والذين ترتبط اعمالهم به ، ( ان هذا عملنا ، لقد جئنا لنرى الافلام ونبيع ونشترى الافلام ونعقد الصفقات ، اننا لسنا جزءا مما يحدث رغم اننا وجدنا انفسنا فيه ، اننى احب هذا ، اننا فى الولايات المتحدة الامريكية لا يمكن ان نكون يساريين ، لقد انتهى هذا العهد .... شيوعية ... انت تُهرج ؟ ، ان كلمة اشتراكية من الكلمات القبيحة بالنسبة لليبراليين ، لذلك فان ما حدث فى مهرجان كان 1968 هو قلة ادب ، ان الفرنسيين عملوها ، كانت عندهم الشجاعة لكى يقفوا ضد الحكومة) .

بعض المنتجين استغرقتهم الحالة  من منطلق انهم غير ثوريين ، وفى يوم الاحد 19 مايو اعتصموا على سلالم قصر المهرجان لكى تستمر العروض السينمائية
وبالنسبة للعروض التجارية فقد وجدت لها مكانا فى الشوارع الخلفية وقد استمرت عدة ايام ،

وعلى الرغم من الاضراب وندرة الوقود فقد قدم مهرجان كان العون للمنتجين والموزعين - الذين يتجمعوا كل عام فى مهرجان كان - لكى يواصلوا عمل صفقاتهم فى روما ، وهى اقرب عاصمة .

وقدمت مجلة فاريتى تقريرا قالت فيه ان اليزابيث تايلور وريتشلرد بيرتون استقلال طائرة خاصة من لندن لكى ينقلوا طاقم شركة يونيفرسال الذين تقطعت بهم الوسائل فى مدينة كان .

ومن اكثر الاشياء التى تميز اللقطات الاخبارية المصورة عن المهرجان تلك التى اظهرت التفاعل على المسرح بين قادة المتظاهرين وخاصة تريفو وجودار ، لقد استطاع تريفو ان يؤدى دوره جيدا فى التواصل وتقديم المعلومات للجمهور عن الاسباب التى تدعو لاغلاق المهرجان بالرغم من انه بدا كما لوكان  يُهدأهم بامكانية استمرار العروض .

اما جودار من الجانب الآخر فقد ظهر بوجه عبوس وكان متعاليا ومحتجا ، وكان واضحا انه كان يفتقد طبيعته التهكمية التى تعودناها منه ، لقد بدا المنظر كما لو ان الاثنين يمثلان على المسرح ارتجاليا دورى شرطى طيب وشرطى شرير ، ففى احد اللحظات كان جودار يوجه التهم الى الذين تجمعوا فى الصالة الكبرى ويتهم السينما بشكل عام كونها فشلت فى تقديم الحالة الثورية ( لا يوجد فيلم واحد اظهر المشاكل التى تعرض لها العمال والطلبة ، ولا فيلم واحد ، سواء لفورمان او لى او لبولانسكى او فرنسوا ، لقد فقدنا القارب )

واصر جودار وسط همهمة الحاضرين ( ان القضية ليست استمرار او عدم استمرار عروض الافلام ، القضية هى ان تُظهر السينما تضامنها مع حركة الطلبة ، والشئ الوحيد العملى لعمل ذلك هو ان تتوقف كل العروض فورا ) وفى لحظة اخرى , فقد جودار اعصابه وانهال بسيل من الشتائم على هاوى سينمائى سئ الحظ تجرأ وابدى ملاحظة مُعارضا جودار .
وقد اهتز جودار من ثورة الغضب وصاح ( انتم تتحدثون عن التضامن مع الطلبة والعمال في الوقت الذى تُناقشون فيه لقطات الترافلينج ( المصاحبة ) ولقطات الكلوس اب ، انكم منفصلون )  لقد كانت لحظة غريبة لمن يُشاهد ، فقد بدأ جودار يتراجع الى الخلف لحدة كلماته وكان تريفو يقف بجواره وملامحه تدل على الألم .

بدا الامر كما لو كان هجوم جودار تراجعا عن القناعات السينمائية التى آمن بها مع تريفو ، ويمكن ان نحلل ما حدث كما لو انها اللحظة التى تبرأ فيها جودار من فلسفته السينمائية بسبب موقف سياسى راديكالى . ان الاعوام التى تلت اظهرت انه تخلى عن اخراج اى فيلم تجارى ، انها ادت ايضا إلى الإنهاء الحاد لعلاقته بتريفو الذى وصف جودار وصفا لا يمكن لهما ان يتصافى بعده ، لقد قال واصفا جودار ( انه اورسولا اندرس المتعصب ) .
جان لوك جودار

ان محاولات اغلاق المهرجان لم تخل من الفكاهة ، فقد كانت هناك لحظة لا تقدر بثمن اثناء احتلال القاعة الكبرى ، حيث تصايح الجمهور للمطالبة بعرض فيلم ( نعناع فرابى ) لكارلوس ساورا ، ومن بطولة جيراليدن شابلن ، وكان هذا بالرغم من ان ساورا سحب الفيلم من المسابقة ، وبعد ان أطفئت الانوار تمهيدا لعرض الفيلم ، صعد الثوار على المنصة ليقوموا بعمل الشئ الوحيد المتاح لهم .

وبمساعدة من مخرج الفيلم وممثلته الاولى ، فقد مسكا الستارة ليمنعا العرض وظلا محافظين على اغلاقها حتى لا يرى المشاهدون الفيلم على الشاشة ، لقد جُرح جودار فى رأسه وفقد نظارته ، وهاجم احد المشاهين تريفو وطرحه ارضا ، ثم اُضيئت الانوار واعلن رئيس المهرجان فافر لو برت بيانه الثانى بالغاء عروض الظهيرة والمساء .

وعندئذ وصلت الامور الى مستواها النهائى من الازمة ، وقال أعضاء من المخابرات لفافر لو برت ( لا نستطيع عمل شئ لصناعة السينما ) فنوى ان يستقيل من مهرجان كان بسبب الفوضى التى حدثت ، وطلب من عمدة مدينة كان ان يستخدم قواته ليُخلى قصر المهرجان من المتظاهرين ، لكن طلبه رُفض ، وادرك فافر لو برت وفريقه ما تنطوى عليه ( ليلة المتاريس ) من اهمية ويتوجب عليهم ان يمنعوا تكرارها فى كروست ، وفى ظهيرة الاحد 18 مايو أعلن فافر لو برت اغلاق مهرجان كان السينمائى .

( لقد كانت لحظة عظيمة ) هكذا قال لوى مال عن عام 1968 , ( لقد توقفت البلد كلها فورا ، وبدأ الناس يفكرون فى حياتهم والمجتمع الذى يعيشون فيه ويفكرون فى كل احتمالات حل الازمة ، ان القليل من هذه الخيارات كان ممكنا ، وعندما انتهى كل شئ فاننى فكرت ( يجب على الواحد ان يجعل المهرجان معهداً ، ان مايو 1968 يجب ان يتكرر كل اربعة سنوات ، ان حالة التطهر كانت اكبر من حالة التطهر فى الاولمبياد الرياضى ) .

مقال : ريتشارد . ت . كيلى .
ترجمة :- ممدوح شلبى .